الحوار المفتوح حول محاضرات موسم عاشوراء 1442هـ

1442-01-16

تحرير المحاضرات

المحاور إياد الجشي: إيمانًا منّا بأهمّية العلاقة التفاعلية بين المنبر والمستمع، في تحقيق الأهداف الرسالية للطرح المنبري، وانطلاقًا من أهمية التواصل بين الخطيب وجمهور المستمعين في تطوير الحركة الفكرية والثقافية والارتقاء بفاعلية المنبر، وتعزيزًا لثقافة الحوار والنقد البنّاء، نعقد هذا اللقاء الحواري مع سماحة آية الله العلامة السيد منير الخباز لنناقش الملاحظات والأسئلة والمشاركات التي وردت حول موضوعات هذا الموسم العاشورائي، والتي كانت تحت عنوان ماذا قدّم الإمام علي للمجتمع الإنساني؟ المشاركات والأسئلة التي وردت كثيرًا، ونظرًا لمحدودية الوقت رأينا أن نقتطف من هذه المشاركة الأسئلة التي تكرّر مضمونها عند الكثير من المشاركين والإثارات الأقرب لصلب المحاضرات، فنعتذر من الأعزاء الذين لم تُطْرَح أسئلتهم، وسيكون تقسيم الأسئلة بحسب تسلسل المحاضرات ونبدأ بالليلة الأولى.

الليلة الأولى: حقوق الإنسان بين فلسفة الحداثة والدين

المحاور إياد الجشي: هناك خلل منهجي كثيرًا ما يقع فيه المفكّرون الإسلاميون وخطباء المنبر - ومنهم سماحة السيد - حينما يقارنون بين الفكر الديني وغيره، خصوصًا عند المقارنة مع الأطروحات الغربية، حيث يحاولون التمسّك بكل ثغرة في الفكر المخالف ويحشدون ما يستطيعون من شواهد في تدعيم تلك الثغرات من كلمات أصحاب ذلك الفكر نفسه، من أجل إظهاره بمظهر هش متضعضع، ثم يأتون للفكر الإسلامي ويحاولون إبراز نقاط القوّة فيه، متغافلين عن مواضع الوهن، ويحاولون تحشيد ما يستطيعون من كلمات في تدعيمه، متناسين الكلمات المخالفة تمامًا وكأنها غير موجودة، وهذا المنهج خاطئ من عدة جهات:

أوّلًا: إنَّ المفكّرين الغربيين إنما ينتقدون أطروحاتهم من باب النقد الهادف البنّاء الذي اعتادوا عليه، وليس غرضهم توهين تلك الأطروحات أو الاستخفاف بها.

ثانيًا: من الطبيعي أنّ أيّ فكرة يمكن إيجاد مؤيّدين لها من ناحية ومعارضين من ناحية أخرى، لذلك يمكن بسهولة اختيار الكلمات المؤيدة وإغفال الكلمات الأخرى، من غير أن يعني ذلك قوّة الفكر المطروحة، فليس من الموضوعية تدعيم الأفكار الدينية ببعض الكلمات الغربية والتغافل عن الكلمات المخالفة لها تمامًا.

ثالثًا: عندما يتغافل الخطباء عن مواطن الضعف في الفكر الديني ويحاولون إخفاءها عن الجمهور، فإنهم في المستقبل سيصابون بخيبة أمل وربما ردة فعل شديدة تؤثر سلبًا على ثقتهم بهويتهم الدينية إذا ما وصلتهم تلك النقاط من الإعلام المخالف للدين، وبالتالي أليس الأولى عرض الفكر الديني كما هو بدل محاولة التستّر على الجوانب السلبية؟

سماحة السيد المنير: في البداية أذكر أنَّ المنبر الفكري - بحسب تعبيري - كما أشرت في الليلة الأولى من هذا العام هو مشروع رائد، وكلّ مشروع يقع في بعض الأخطاء أو العثرات، ولكنّه يتطوّر ويتّسع بمرور الوقت، والذي يثلج الصدر أنَّ مشروع المنبر الفكري تبنّته من جهة قامات علمية، أمثال سماحة الشيخ إسماعيل المشاجرة، وسماحة الشيخ حيدر السندي من الأحساء، وسماحة الشيخ عبد الجليل السعد من الأحساء، وغيرهم، وهؤلاء ليسوا مجرد خطباء، بل هم علماء مرموقون في الناحية الحوزوية، ومن جهة أخرى: أيضًا يثلج الصدر تفاعل الآلاف - كما رأينا في العام الماضي وفي هذه السنة - مع الأطروحات، لا أقصد أطروحاتي أنا فقط، بل المنابر الأخرى أيضًا، ويكشف عن ذلك مئات الرسائل التي تصلنا في كل يوم من أيام شهر محرّم حول الموضوعات، من عمان والكويت والعراق وإيران وأوروبا أمريكا، تفاعل يومي جيّد نراه ونلمسه.

ولا يعني ذلك - كما ذكرنا في محاضرات سابقة - انحصار المنبر بهذا المنبر الذي نحن نتبنّاه، بل هذا المشروع الذي نتبنّاه يغطّي حاجة من حاجات المجتمع، حاجة أجيالنا الشابّة للمطارحات الفكرية والإجابة عن الأسئلة المتنوّعة في مجالات العقائد والفقه والتاريخ، ولكن هناك أيضًا حاجة للمنابر الأخرى، كالمنبر الوعظي والمنبر الفقهي والمنبر التاريخي، نحن لا نفرض رؤيتنا على أحد، ولا نقبل أن يفرض أحد رؤيته علينا، مشروعنا يغطّي حاجة ماسّة نحن نشعر بها، الذين يتواصلون مع الجمهور يشعرون بالحاجة، ربما الذي لا يتواصل لا يشعر، لكن لأننا نتواصل يوميًا مع أبنائنا الشباب في الغرب وفي الداخل نشعر بالحاجة الماسّة لهذا المنبر الفكري، ولذلك نحن - والحمد لله - سائرون في ذلك، والمسألة تتطور وتتّسع بمرور الوقت إن شاء الله تعالى.

بالنسبة إلى السؤال المطروح، ما يخصّ منبري هذه السنة منذ الليلة الثانية إلى الليلة التاسعة ثمان محاضرات لم يكن فيها مقارنة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي أصلًا، لأنَّ هناك فرقًا بين القراءة التكاملية والقراءة التصويبية، فتارة نتحدث عمّا هو الأصوب، هل هو الفكر الغربي أم الفكر الديني؟ هذه قراءة تستدعي مقارنة بين فكرَين ومطارحة، وتارة أخرى نتكلم عن جهات التكامل بين الفكرين، الفكر الغربي تحدّث عن القيادة والتربية والإمام علي تحدّث عن القيادة والتربية، فهذه قراءة تكاملية وليست قراءة لتحديد المنهج الأصوب وهذا خطأ وذاك صحيح، لم ندخل في ذلك أصلًا، طوال ثمان محاضرات لم ندخل في قراءة تصويبية إطلاقًا، بل كانت القراءة تكاملية، ما طرحه الفكر الغربي في أيّ مجال، قلنا الإمام علي طرح مثله قبل 1400 سنة وطرح نقاطًا أخرى، وربما بعض النقاط طرحها الفكر الغربي أيضًا، إذن كانت القراءة تكاملية ولم تكن القراءة تصويبية، هذا أولًا.

ثانيًا: عندما نأتي إلى أول ليلة، وهي الليلة الوحيدة التي بحثنا المقارنة في حقوق الإنسان بين لائحتين ومنظومتين، الليلة الأولى هي الليلة الوحيدة التي صار فيها بحث مقارن بين منظومتين، المنظومة الغربية والمنظومة الدينية، في هذه الليلة لم نتكلم عن الفلسفة الغربية بما هي فلسفة، فلسفة ذات تجدّد في أفكارها، ذات ديمومة في أطروحاتها، خلّاقة كلّما مرّ الوقت، لم نتحدّث عن الفلسفة الغربية، بل تحدّثنا عن لائحة قانونية، وهي لائحة حقوق الإنسان الصادرة من الأمم المتحدة، وقارنّا بينها وبين اللائحة الموجودة في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّ ، وفي القرآن الكريم.

ولم ندخل في التفاصيل أبدًا حتى يقال انتقيتم هذه الكلمة وتركتم تلك الكلمة! كان البحث في المقارنة بين اللائحتين في الأسس لا في التفاصيل، يعني ما هي الأسس التي اعتمدتها لائحة حقوق الإنسان وما هي الأسس التي اعتمدتها لائحة حقوق الإنسان في القرآن وفي الكلمات العلوية؟ ناقشنا من حيث الأسس فقط، ذكرنا أنَّ من الأسس هل الأصالة لله أم للإنسان؟ من الطبيعي أنّ الأصالة لله سوف يقول من الحاجات الأساسية النزعة الروحية عند الإنسان، فلا بدّ من إشباعها.

من الأسس: هل الأصالة للفرد أم للمجتمع أم لكليهما؟ من الطبيعي لأن المنظومة الإسلامية تتبنى الأصالة لكليهما لذلك هناك حقوق اجتماعية، حقّ الأرحام كما ذكرنا، وأنَّ تكافل الغني مع الفقير هو شراكة، أي أنّ الفقير شريك مع الغني في ثروته، والأساس الثالث: هل الأساس في الحقوق الحرية أم الكرامة؟ بناءً على المنظومة الإسلامية أنها هي الكرامة ترتّب عليها حقّ الجنين في عدم الإجهاض، وحقّ الإنسان في تجهيزه بعد موته وحفظ كرامته، كلّ هذا كان نقاشًا في الأسس، لأن الأسس بين اللائحتين مختلفة تترتّب اختلافات في الحقوق سعةً وضيقًا بين هاتين اللائحتين.

ثالثًا: عندما يقال بأنَّ الفكر الغربي تطوّرًا ونقدًا داخليًا، والذين ينتقدون من فلاسفة الغرب لا ينتقدون من أجل عدم إيمانهم بالفلسفة الغربية، بل من أجل تطويرها، نقول: حتى الفكر الإسلامي فيه قوانين ثابتة وفيه قوانين متحرّكة، وفي إطار القوانين المتحرّكة هناك أيضًا نقد داخلي، وهناك حالة من التطوّر والتجديد، وقد ذكرنا في نفس الليلة أنّ المفكّرين الإسلاميّين تعاملوا مع ملف حقوق الإنسان باتجاهات أربعة، فكيف يقال ليس عندنا حركة نقدية؟! عندنا حركة نقدية داخلية، وذكرنا اتجاهات أربعة: الاتجاه التقليدي، والاتجاه العلماني، والاتجاه المثالي، والاتجاه الفلسفي، وذكرنا لكلّ اتجاه كتّابًا ومؤلّفين، فهناك حركة نقدية داخلية، وأيضًا بإمكان الإنسان مواكبة المؤتمرات التي تقام كلّ سنة في إيران إمّا في طهران أو في قمّ المقدّسة، تعالج قضايا حقوقية مستجدّة، فهناك حركة نقدية تطويرية داخلية لم تغفلها اللائحة الحقوقية الدينية كما قد يُسْتَشْعَر، وهذه أمور واضحة ومنشورة ولا غبار عليها.

المحاور إياد الجشي: ذكرتم في عند حديثكم عن المسار التاريخي لمفهوم حقوق الإنسان أنَّ بذرة هذا المفهوم ترتكز على ثلاث مفردات، أولاها أنَّ المحورية للإنسان، وثانيها تحوّل المعرفة البشرية من معرفة تأملية قيمية إلى معرفة علمية أداتية تقنية، وثالثها النزعة التاريخانية، وعلاقة المفردة الأولى بحقوق الإنسان واضحة، ولكن ما هي علاقة المفردتين الأخريتين بهذا المفهوم؟

سماحة السيد المنير: في تدعيم فكرة أنَّ المحورية للإنسان ذكرنا المفردتين الأخريين لأنّها تدعم المحورية للإنسان، المفردة الثانية أنّ المعرفة تحوّلت من كيفيّة تأمّلية إلى أداتية تقنية، ومعنى ذلك أنَّ الإنسان اعتبر الكون أداةً له تحت سيطرته، فهذه المفردة الثانية تدعم المفردة الأولى، وهي أنَّ المحورية للإنسان، تجّسدت محورية الإنسان بأن تحوّلت معرفة الإنسان للكون إلى معرفة أداتية، يعني تحوّلت أجزاء الكون وذرّاته إلى أدوات يتعامل معها الإنسان بلغة رياضية، لا بمعرفة تفصله عن هذا الكون الآخر. كذلك النزعة التاريخانية، فإنها تؤكِّد على أنَّ التاريخ كما يخضع لأسباب حتمية يخضع لفواعل إرادية، أي يخضع لحركة الإنسان أيضًا، فرجعنا إلى تأكيد محورية الإنسان نفسه.

المحاور إياد الجشي: هنا مشاركة من إحدى الأخوات، تقول: شرّع الله سبحانه وتعالى العقوبات في الإسلام صونًا للمجتمع من التدهور والفساد، وحمايةً لحقوق الأفراد من التعدّي والتسلّط، ومن العقوبات التي شرّعها الله سبحانه وتعالى مراعاةً لهذا المقصد عقوبة السرقة، وهي عقوبة القصد منها أساسًا حفظ المال، والمال عزيزٌ على بني الإنسان، ولأجل تحقيق هذا المقصد جاء قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38]، في محاولة منّي لفهم الحكمة من هذه العقوبة التي تؤثر على حياة السارق بقطع يده، وهي عقوبة تؤدّي إلى إعاقة دائمة حتى وإن تاب إلى الله سبحانه وتعالى، في حين هناك جرائم قد يكون لها الأثر السلبي أعظم على الضحية وعلى المجتمع، ومنها الاغتصاب على سبيل المثال، حيث تتدهور حياة الضحية - المرأة - نفسيًا وجسديًا واجتماعيًا، لماذا لم تكن العقوبة مثلًا قطع العضو الذكري؟ وفي قانون بعض الدول المسلمة والتي تستند إلى الشرع في صياغة قوانينها نرى أنّه في حالة الاغتصاب للبنت يسمح القانون بزواج المغتصِب لهذه البنت لرفع الحرج عن العائلة والسمعة والشرف، وكأنّ جريمة الاغتصاب أهون من جريمة السرقة، أرجو من سماحتكم تفسير هذه الأحكام وبيان الحكمة منها.

سماحة السيد المنير: أوّلًا: قطع اليد في القرآن الكريم ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة: 38] يتضمّن معنيين: معنى حسّي ومعنى كنائي، فالمعنى الحسّي هو الفصل، والمعنى الكنائي: قطع اليد يعني منع تكرار الجريمة، كما تقول: أقطع رجلك إذا وطأت بيتي، مع أنك لا تقطع رجله حسًّا، وإنما تعبّر تعبيرًا كنائيًا عن منعه عن دخول البيت، فكلمة ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا تتضمّن المعنى الحسّي وهو فصل الأصابع، وتتضمّن المعنى الكنائي وهو منع ارتكاب الجريمة مرة أخرى، ولذلك جملة من فقهائنا يرى أنّه إذا كان هناك بديل عن فصل الأصابع بحيث يؤدّي نفس الهدف ويمنع تكرار الجريمة يصار إلى البديل، الآن في إيران هكذا يصار إلى البديل، بما أنّ المعنى الكنائي للآية - كما فهمه جملة من هؤلاء - من قطع اليد هو منع تكرار الجريمة، ويمكن تحقيق ذلك بلا ارتكاب الفصل الحسّي، إذن ما هو المانع من ذلك؟ هذا رأي فقهي موجود.

ثانيًا: قطع اليد ليس عبارة عن قطع الكفّ، وإنّما فصل الأصابع الأربعة، مع بقاء الإبهام، بحيث لو أمكن وجود طبيب بعد فصلهم يرجعهم فلا مانع من ذلك، إذ ليس الحدّ هو عبارة عن الإبانة بحيث لا ترجع الأصابع، بل الحدّ عبارة عن الفصل، وبالتالي لو فُصِلت الأصابع فأمكن إعادتها كما لو كان الطبيب حاضرًا ويمكن تدارك ذلك فلا بأس، الحدّ أقيم وانتهى الأمر، ويمكن أن تُرْجَع له الأصابع مرة أخرى.

ثالثًا: مسألة حدّ السرقة من باب آخر الدواء الكي، فإذا تعذّرت كلّ الوسائل ولم تنجع في منع هذا الشخص من الجريمة وتكرّر فحينئذ تصل النوبة إلى قطع يده، وليس أمرًا مطلقًا.

رابعًا: مسألة جريمة الاغتصاب، إذا اغتصب رجلٌ امرأة فجملة من فقهائنا يقولون: يُقْتَل، تعزير المغتصب يصل إلى حدّ القتل عند رأي جملة من الفقهاء، لأنّه ليس فقط قام بالاغتصاب بل أخلّ بالأمن الاجتماعي، فهو إخلال بالأمن وليس اعتداءً فقط على شرف امرأة، ولذلك يرى بعض الفقهاء أنّ هذه الجريمة تغزيرها القتل، نعم إذا رضي الطرفان بأن يتزوجا أو يتصالحا فهذه مسألة أخرى، وإلّا فليست هذه الجريمة عادية بنظر الشرع الشريف.

المحاور إياد الجشي: هل يعتقد سماحة السيد أنّه لو طُبِّق القرآن على دولة متقدمة كدول العالم الأول مثلًا كأمريكا سيكون عادلًا لكلّ الأعراق والأديان التي تخالف المعتقد القرآني؟

سماحة السيد المنير: القرآن الكريم عندما دعا للقانون دعا لتأسيس أمّة أوّلًا، فهناك مرحلتان: المرحلة الأولى تأسيس الأمة، والمرحلة الثانية تطبيق القرآن، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمران: 104]، ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110]، ﴿كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة: 143]، إذا تأسّس أمّة مؤمنة بالقرآن جاء دور تطبيق القرآن، بمعنى تطبيق قوانينه التي تتعلق بالسلطة وبالقضاء وبسائر المجالات، إذن هل يمكن تطبيق القرآن في الدول الغربية أم لا؟ الشرط مفقود، موضوع تطبيق القرآن من نواحي القوانين الأخرى - يعني القوانين المعاملاتية - فرع وجود أمّة تؤمن بالقرآن، فإذا لم تكن هذه الأمة موجودة فالشرط منتفٍ والموضوع منتفٍ لهذا التطبيق، هذا أولًا.

ثانيًا: المشكلة في تطبيق القرآن في هذه الدول في موردين: أوّلها الجهاد، كيف ونحن نرى أنّ الجهاد دفاعي وليس مشروعًا هجوميًا، بمعنى أنّ المسلمين إذا اعتدي عليهم بالقتال من حقّهم أن يدافعوا عن أنفسهم، كما قال القرآن الكريم: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا [البقرة: 190]، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39].

المورد الثاني هو موضوع الجزية، وهي مجرّد ضريبة، كما أنّ المسلم يدفع ضريبة الزكاة فغير المسلم يدفع ضريبة نسمّيها الجزية، بل الجزية مقدارها أقلّ من الزكاة، فكما أنّ الدول الغربية عندها نظام الضرائب فالإسلام أيضًا عنده نظام الضرائب، على المسلمين ضريبة مالية وهي الزكاة، وعلى غيرهم إذا كان مواطنًا في الدولة الإسلامية أن يدفع الجزية، لا أكثر من ذلك.

الليلة الثانية: حقوق الإنسان والمشروع العلوي

المحاور إياد الجشي: ورد في هذه المحاضرة بعض ما قد يوصَف بالمغالطات التي يرجى إيضاحها، بالنسبة لحق الجنين فعليه جدل كبير في الغرب، فهل الإجهاض تعدٍّ على حق الجنين في الحياة أم أن المحافظة على الجنين فيه تعدٍّ على حق الأم؟ فالمسألة ليست محسومة أو بسيطة مثلما ذكرتم.

أما بالنسبة لاستشهادكم بتقيد الحرية في منع ما يضر الناس مثل المخدرات أو الترويج للإسلام - من وجهة نظرهم - وغيرها، فهذا نعم يعتبر تقييدًا للحريات ويتعارض مع الفلسفة الغربية للحريات، ولذلك تجد كثير ممّن يؤمنون بالحريات يعارضون مثل هذه الإجراءات باعتبارها تعدّيًا على الحريات وليس من حق الدول فرض مثل هذه القوانين، فهنا نجد أن استشهادكم غير قائم لأنكم استخدمتم مثالًا ترفضه هذه الفلسفة وتعارضه، لكن تم تطبيقه بسبب أن أغلبية فرضته كقانون، والفلسفة هذه لا تؤمن أن من حق الجماعة أو الغالبية أصلًا أن تقيّد أو تسلب حق الآخرين، فالإشكال هنا إشكال على من طبّق أو أقرّ هذا القانون، وليس جوهر الفلسفة نفسها فهي ترفضه في الأصل، مثله مثل من يشكل على الفلسفة الإسلامية عندما يطبق من يؤمن بها ما يخالفها، فهذا التناقض لا ينسب للإسلام بل ينسب لمن قام به.

أما بالنسبة لقضية فيسبوك فهي في النظرة الغربية ملكية خاصة، ويحق لملّاك الموقع منع ما لا يريدون نشره والسماح بما يريدون نشره على موقعهم، أما التبرير الذي قد تصدره الشركة فيدخل ضمن الدعاية والصورة الإعلامية، فهي لا تريد التصريح بأن لها الحق لأنها ملكية خاصة للحفاظ على صورتها، فهنا أيضًا نجد أن استشهادكم غير قائم. نرجو منكم إيضاح هذه الإشكالات لكي يسعنا الاستفادة منكم ومن علمكم.

سماحة السيد المنير: أما بالنسبة لإجهاض الجنين فيكفي في الفرق بين القانون الإسلامي والقانون الغربي أنها مسألة جدلية في القانون الغربي بينما في القانون الإسلامي محسومة، لا يجوز الإجهاض، الإجهاض قتلٌ يقتضي الدية، يكفي في تميّز القانون الإسلامي أنّ هذه المسألة محسومة، ليست موضع جدل ولا خلاف، يأتي أوباما ويقول لا مانع، ويأتي ترامب ويقول هناك مانع! لا، ليست مسألة ذات جدل، بل هي مسألة محسومة في القانون الإسلامي، الإجهاض قتل، هذا كافٍ في تميّز القانون الإسلامي، أنّه راعى حقّ الجنين في بقائه حيًّا وفي نموّه.

بالنسبة إلى منع المساجد أو صوت الأذان في العواصم الغربية أو ترويج المخدّرات، بروفيسور في علم الاجتماع والحقوق «آندرو أنتيس» يمكن سؤاله على موقعه، أنا تحدّثت معه بشكل مباشر، يقول: هذا جزء من الفلسفة، وليس مسألة قانون أمريكي أو قانون بريطاني أو قانون ألماني، بل هو جزء من الفلسفة، لأن من المفردات المؤصّلة في الفلسفة الغربية في الحقوق أنه ليس لدى الإنسان حرّية بحيث يصادر حرّيات الآخرين، ليست حرّيته بحدّ تصادر حرّيات الآخرين، فبناء على هذه المفردة يأتي القانون ويقول: إذا كانت الأغلبية مسيحية فرفع صوت الأذان أو إقامة المساجد يهدم النسيج الاجتماعي وبالتالي يشكّل مصادرة لحرّية الآخرين في أن يتمتّعوا بنسجيهم الاجتماعي التواصلي من دون تعكير لصفوه ومن دون خرق له، هذا يرجع لمفردة من مفردات الفلسفة الغربية، لا أنّ الفلسفة الغربية لا تقرّ ذلك لكن القانون الأمريكي خالف ذلك مثلًا فقيّد، المسألة ليست اختلافًا في القانون، بل هو جزء من الفلسفة.

الأمر الثالث: مسألة فيسبوك، راجع مادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر من الأمم المتحدة، هذا العهد يحظر قانونًا أيّ دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية أو يكون سببًا للتحريض على التمييز أو العداوة أو العنف، ليس من حقّ أيّ موقع إعلامي أن ينشر أي دعوة، لا يحق له أن يقول: هذا ملكي، أنا عندي ملكية خاصة فأنشر أيّ شيء! لا، ليس من حقّه قانونًا أن ينشر أيّ دعوة تحرّض على الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية أو عنف أو غير ذلك، إذن بالنتيجة كما أنّ هناك قيودًا للحرية في إطار الفلسفة الغربية، هناك أيضًا قيود للحرية في إطار الفلسفة الإسلامية، وكلّ ذلك نابعٌ وناظرٌ لرعاية المصلحة العامّة.

المحاور إياد الجشي: طرحتم مسألة هل من حق المرأة أن تنجب أم لا؟ فهل يصح أن يقال إنّ من حق الجنين أن ينمو نموًا طبيعيًا في رحم والدته، بما أنَّ جسم المرأة وجهازها التناسلي قد أُعِدَّ إعدادًا طبيعيًا لاحتضان الجنين وتغذيته؟ فكما أنَّ الرضاعة من ثدي أمه حقٌ طبيعيٌّ له بمقتضى الخلقة والتكوين وما عبّرتم عنه بالعلّة الغائية، فكذلك تكون النشأة الطبيعية في رحم الأم حقًا طبيعيًا له، لا أن يوضَع في الحواضن الصناعية.

سماحة السيد المنير: نعم، يمكن ذلك، يمكن أن يُجْعَل هذا مناطًا لحقّ الجنين في أن ينمو في حاضنة الأم، في رحم الأم، هذا يكون محلّ البحث الحقوقي، يمكن.

الليلة الثالثة: الإمامة في آفاق وثيقة الغدير

المحاور إياد الجشي: في حديثكم حول الإمامة ذكرتم أنَّ الاتجاه المعرفي يعرِّف الإمامة بأنها مصدر التشريع وامتداد للنبوة، فما هو الفرق بين النبوة والإمامة حينئذٍ؟

سماحة السيد المنير: الفرق بين النبوة والإمامة على هذا التعريف بالأصالة والتبعية، فالولاية على التشريع بالأصالة هي للنبي، وبالتبع هي للإمام من بعده، فالفرق بينهما فقط بالأصالة والتبعية بناءً على هذا التعريف، وهذا التعريف يسمّى الاتجاه المدرسي لا الاتجاه المعرفي.

المحاور إياد الجشي: تكرّر عندكم في هذه المحاضرة كلمة القلق عند النبي ، فهلّا استبدلتموها بلفظ آخر؟

سماحة السيد المنير: إن شاء الله!

المحاور إياد الجشي: إذا كان أهل المدينة هم أفضل من تلقّى أقوال النبي وتعاليمه، فلماذا اجتمعوا بعد وفاة النبي لتنصيب سيّدهم؟

سماحة السيد المنير: نحن لا نريد أن ندخل في هذا البحث، إذ فيه ما فيه، ولكن يمكن مراجعة كتاب السقيفة للعلامة الشيخ محمد رضا المظفر، وهو من علمائنا المفكّرين الكبار، وكذلك كتاب الجوهري «السقيفة وفدك» الذي اعتبره ابن أبي الحديد من مصادره في شرح النهج، يوضح صورة أهل المدينة كيف اختلفوا بعد وفاة النبي الأعظم .

المحاور إياد الجشي: هل مقولة الإمام أمير المؤمنين : ”أنا لكم وزير خيرٌ لكم مني أمير“ موجودة في مصادرنا؟

سماحة السيد المنير: نعم، في نفس نهج البلاغة موجودة، بعد مقتل الخليفة الثالث لما انثالت الناس على الإمام عليّ قال: ”دعوني والتمسوا غيري... وأنا لي وزير خيرٌ لكم مني أمير“.

المحاور إياد الجشي: هل قال أيّ إمام من الأئمة الاثني عشر: إنّي لكم إمام، أو قال: أنا وليكم، بمعنى الإمامة بشكل واضح بحيث لا نحتاج إلى من يأتي بشروحات وتأويلات؟ ولماذا لم يقل النبي في غدير خم أو أيّ مكان وقف فيه: عليٌّ إمامكم من بعدي، حتى يهتدي له الناس وينحسم الأمر مباشرة؟

سماحة السيد المنير: لن ينحسم الأمر بهذا الكلام، فهذا القرآن الكريم قال: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة: 124]، قالوا: لا، الإمامة هنا بمعنى النبوة! الإمامة هنا بمعنى القيادة! وتأويلات متعددة. على كل حال، ورد عن الرسول كما في مستدرك الحاكم وفي كنز العمال أنه قال: ”علي إمام البررة“، وروى الهيثمي عن الرسول في حقّ عليّ قال: ”عليٌّ إمام المتّقين“، وكذلك ابن عساكر، وروى في مقتل الخوارزمي وكتاب سليم بن قيس عن سلمان الفارسي أنه دخل على الرسول وكان الحسين جالسًا على فخذه والرسول يقول له: ”أنت إمامٌ ابن إمامٍ أخو إمامٍ أبو أئمة تسعة“.

وثانيًا: لو لم يرد عنوان الإمامة، فعنوان الولاية كافٍ، إذ لا معنى للإمامة إلا الولاية العامة، فإذا قال: ”ما تريدون من علي؟ إنه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعدي“، وقال في حديث الدار: ”هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي“، فأي تصريح أعظم من هذا؟! وقال في يوم غدير: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ”فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار“.

المحاور إياد الجشي: في حديثكم عن حديثكم عن الإمامة، ذكرتم أنَّ الاتجاه الكلامي يعرِّف الإمامة بأنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا، فأي فضل يبقى للإمامة على النبوة؟ إذ النبي أيضًا مصدر للتشريع فهو رئيس في أمور الدين، وله ولاية على إدارة شؤون المؤمنين به فهو رئيس في أمور الدنيا، ومضافًا إلى ذلك يوحى إليه بينما لا يوحى للإمام، فكيف يقال إنّ الإمامة في الفكر الشيعي أرقى من النبوة؟

سماحة السيد المنير: الإمامة هي الولاية العامّة على الأنفس والأعراض والأموال، والنبوة لا تعني الإمامة، ليس كلّ نبي له الولاية، ولذلك أولو العزم تميّزوا أنّ لهم الولاية، إبراهيم أوّلًا أعطي النبوة ثم أعطي الرسالة ثم أعطي الإمامة، يعني أعطي الولاية العامّة، قوله نافذ على كلّ نفس، وتصرّفه في أيّ نفس نافذ، الإمامة بمعنى الولاية العامّة على الأنفس والأعراض والأموال لا إشكال في أنّها موقع أرقى من سائر المواقع، ولذلك أعطي لإبراهيم بعد النبوّة والرسالة والخلّة، والنبي كان إمامًا، النبي كما كان نبيًا يوحى إليه وكما هو مصدرٌ للتشريع أيضًا له مقام الإمامة ألا وهو مقام الولاية، وهذا معنى الرئاسة، الرئاسة في أمور الدنيا لا معنى لها إلّا نفوذ الولاية، سواء كان بقول منه أو بفعل.

المحاور إياد الجشي: استشهدتم في الليلة الثالثة بقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] على ثبوت مبدأ الأخوّة الإسلاميّة، فكيف يصحّ هذا الاستشهاد مع أنَّ هذه الآية تتحدث عن المؤمنين، والإيمان أخصّ من الإسلام؟

سماحة السيد المنير: عندي بحثٌ فقهيٌّ في هذه النقطة، وذكرت فيه أنَّ الأخوّة الإيمانية تختلف عن الأخوّة الشرعيّة، نلاحظ أنَّ القرآن الكريم أطلق كلمة الإيمان في موارد يراد بها كلّ من آمن بالله ورسوله، سواء كان من الإمامية أو من غيرهم، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6]، يا أيها الذين آمنوا يعني يا أيها الناس الذين آمنوا بالله ورسوله سواء كانوا من الشيعة أم من غيرهم، هذه الخطابات القرآنية عامّة، لا يختصّ وجوب الصيام ولا صلاة الجماعة ولا غيرها بالشيعة دون غيرهم، هذه خطابات عامة، وكذلك قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] عامة لا تختصّ بالإمامية، كذلك هنا عندما يقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] المقصود بالمؤمنين ما هو المراد من هذا اللفظ في الآيات الأخرى، وهو كلّ من آمن بالله ورسوله سواء كان من الإمامية أو من غير الإمامية.

هذه الآية هي في نفس سياق الآية الأخرى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9]، من المؤمنين يعني الشيعة؟! جميع المسلمين، يعني المؤمنين بالله ورسوله، ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9]، المؤمنون في هذه الآية ليسوا خصوص الشيعة، وكما أنّ المؤمنين هنا كلّ من آمن بالله ورسوله كذلك المؤمنون في هذه الآية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ كلّ من آمن بالله ورسوله.

وهذا هو ما ذكره الإمام علي في عهده لمالك الأشتر: ”وإنّما الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق“، إذا كان على دينك فهو أخٌ، هذه هي الأخوّة الدينية، إن كان يجمعك وإياه دين فهو أخٌ لك، هذه الأخوّة الإيمانية يترتّب عليها أثر وهو وجوب الإصلاح، يجب الإصلاح بين المختلفين إذا خيف أنّ اختلافهما يؤدّي إلى الفساد، يجب الإصلاح ما داما مسلمين مؤمنين بالله ورسوله.

أمّا الأخوّة الشرعيّة التي وردت الروايات أنّ لها آثار خاصّة - منها حرمة الغيبة - فهذه أخوّة خاصّة، وهذا هو ما نظرت إليه آية الغيبة على بعض التفاسير: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12]، فهناك فرقٌ بين الأخوّة الإيمانية والأخوّة الشرعية التي يترتّب عليها حرمة الغيبة.

الليلة الخامسة: دولة الأمة في الخلافة العلوية

المحاور إياد الجشي: كيف تصحّ المقارنة بين الدولة المدنية الحديثة وما عبّرتم عنه بدولة الأمة مع اختلافهما في المفهوم اختلافًا جذريًا حتى لا يكادان يتّفقان إلّا في مسمّى الدولة؟ فالدولة المدنية الحديثة عبارة عن سلطة محدودة ضمن نطاق جغرافي محدود وعلى مواطنين محدودين، بينما الدولة الإسلامية كانت أشبه بالإمبراطورية التي لا تحدّها الحدود الجغرافية، بل هي في توسّع دائم، ولا يجمع بين أفرادها الاشتراك في الأرض بقدر ما يجمع بينهم الاشتراك في العقيدة، فأين هذه من تلك؟

سماحة السيد المنير: أوّلًا: لم يدّعِ أحدٌ أنَّ دولة الأمّة متّحدة مفهومًا مع الدولة المدنية، لم ندّعِه في المحاضرة ولم يدّعه أحد، هذا الإشكال لو قال أحد: الدولة المدنية هي دولة الأمة! يقال له: أين هذه من تلك؟! لم يقل أحد ذلك، بل ذكرنا في المحاضرة بلفظ صريح أنَّ الدولتين تتحدان في بعض المبادئ وتختلفان في بعض المبادئ الأخرى، فلم يدّعِ أحدٌ أصلًا ولم يطرح أحدٌ أنَّ بين الدولتين اتّحادٌ مفهوميٌّ حتى يقال أين هذه من تلك؟! قلنا بينهما اشتراك في بعض المبادئ، وبينهما افتراق في بعض المبادئ الأخرى، وشرحنا موارد الالتقاء والافتراق.

ثانيًا: بغضّ النظر عن المناقشة، سعة رقعة الدولة أو ضيقها هل هذا يؤثر في اختلاف المبادئ؟! هذه دولة رقعتها واسعة وتلك الدولة رقعتها ضيّقة، كيف يكونان واحدًا؟! سعة رقعة الدولة أو ضيقها لا يعني اختلافًا بينهما في المبادئ، قد تكون الدولتان مشتركتين في تمام المبادئ ولكن الظروف سمحت لدولة بالاتّساع أو لم تسمح لدولة أخرى بالاتّساع، فالاختلاف في السعة والضيق لا يعني اختلافًا في المبادئ.

عندما نأتي لكلمة دولة الأمة فنفس هذا التعبير يقتضي السعة، هذا التعبير يقتضي سعة الرقعة ما توسّعت الأمّة، بما أنها دولة الأمة إذن كلما توسّعت هذه الأمة اتّسعت دائرة الدولة لأنها دولة الأمة، فهي ليست دولة رقعة بل دولة أمّة، فنفس العنوان يقتضي سعة الدولة، لكن هذا لا يعني أنها تختلف في المبادئ مع الدولة الأخرى، إنما لأن معناها دولة الأمة لذلك شملت في عهد الخلفاء الحجازَ والعراق ومصر واليمن وفارس وأمثال ذلك.

ثالثًا: مقتضى المناقشة الموضوعيّة أنَّ الإنسان يركِّز على مبادئ الدولتين، هل أنَّ مبادئ الدولتين متقاربة؟ هل بينهما تقارب كما ذكرنا؟ مثلًا من المبادئ: يأتيك شخص ويقول: أين دولة الأمة من الدولة المدنية؟! الدولة المدنية عندها السيادة على القانون على الجميع، بينما دولة الأمة التي أحدثها النبي قانونٌ على المسلمين! لا، ليس صحيحًا هذا الكلام أبدًا، وقد ذكرته في نفس الليلة، وركّزت عليه، أنَّ دولة الأمة محورها المواطن المسالِم، وليس محورها المسلم، ”إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق“، في عهد النبي نفسه حينما دخل مكّة هل آمن جميع أهل مكّة بالنبي؟ لا، بقي بعضهم على الشرك، النبي قال: من أغلق داره فهو آمن، قبل منهم هذا المقدار، عاش قسمٌ منهم في دولة النبي وهم باقون على معتقدهم السابق، وفي عهد الإمام علي كان هناك المسيحيون، وفي عهد عدّة دول كان هناك أهل الكتاب من يهود ومسيحيين، إذن بالنتيجة مركز المواطنة الإنسان المسالِم لا الإنسان المسلم، ولذلك لا ينبغي أن يقال إنَّ الدولتين تختلفان في هذا المبدأ، هذه قانونها يسري على الجميع بين تلك قانونها يختصّ بالمسلمين أو المواطنة للمسلم! لا، دولة الأمة هي كذلك تقوم على هذا المبدأ.

المحاور إياد الجشي: هل من شأن الدين أساسًا تأسيس الدول حتى نبحث في معالم دولة الأمة في الفكر المحمدي العلوي؟

سماحة السيد المنير: والله أنا لا أدري، أستغرب عندما يقول شخص: الدولة ليست من صلب الدين!! فلنضع النقاط على الحروف، الدولة ليست من صميم الدين ولا علاقة للدين بالدولة! فلنضع النقاط على الحروف، هذا الطرح أو هذه الفكرة لها ثلاثة معانٍ:

المعنى الأوّل: هل المقصود أنَّ وجود دولة - أي: وجود سلطة تحفظ النظام وتفرض الأمن وتدفع عن الحقوق والحرّيات - لم يأتِ بها الدين؟ هذا صحيح، من قبل الدين كلّ المجتمعات العقلائية تنادي بضرورة وجود سلطة، هذه لا علاقة لها بالدين، بل هي فكرة عقلائية عامّة، جميع العقلاء في كلّ الملل والمجتمعات يؤمنون بضرورة وجود سلطة تحفظ النظام وتفرض الأمن وتحمي الحرّيات والحقوق، هذا مبدأ كلّ المجتمعات العقلائية تقول به، ولذلك قلنا: دولة الأمة تؤمن بهذا المبدأ، والدولة المدنية تؤمن بهذا المبدأ، هذا المبدأ لم يأتِ من الدين بل العقل يفرضه، ولذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”لا بدّ للناس من أمير برٍّ أو فاجرٍ“، السلطة لا بدّ منها، فإذا كان هذا المعنى هو المقصود فهو صحيح، ونحن لم نقل في المحاضرة أنَّ الدين اخترع فكرة ضرورة وجود دولة! بل قلنا هذا مبدأ مشترك تؤمن به الدولة المدنية كما تؤمن به دولة الأمّة.

المعنى الثاني: الإسلام لم يضع مواصفات خاصّة للسلطة، لا بدّ من وجود سلطة ولكن الإسلام لم يضع مواصفات خاصّة للسلطة، لم يقل: يجب أن تتمتّع السلطة بمواصفات كذا وكذا وكذا وإلّا فلا، لم يضع مواصفات خاصّة للسلطة، هذا معنى أنَّ السلطة ليست من صميم الدين، لأنَّ الدين لم يضع مواصفات خاصّة للسلطة، قد يقال: هذا هو مقصودنا من هذه الفكرة.

هنا لا بدَّ من أن نفرّق بين زمان الحضور وزمان الغيبة، زمان حضور المعصوم كالرسول والإمام علي وزمان الغيبة، في زمن الحضور لا بدّ أن يستلم السلطة الإمام المعصوم، هذا لا بدّ منه، أنا أستغرب من شخص يقول: لا!! كيف لا؟! معنى الإمامة هو هذا، مع وجود الإمام المعصوم يتعيّن أن تكون السلطة بيده، هذا مذهب الإماميّة، ولذلك نحن نعتبر الإمامة أصلًا من الأصول، معنى الإمامة هو الرئاسة في الدين والدنيا، وقد ذكرنا في تلك الليلة - ليلة الإمامة - المفيد والعلامة والمحقّق الحلّي والمقداد السيوري والمجلسي وكل علماء الإمامية لم نجد إماميًا - فضلًا عن علماء الإمامية - يقول إنَّ السلطة مع وجود المعصوم يمكن أن تكون لغيره!! هذا ليس إماميًا! الإمامية هذه معناها، فعندما نقول إنَّ الدولة من صميم الدين، فمقصودنا أنّه مع حضور المعصوم يتعيّن أن تكون السلطة بيد المعصوم، لأنَّ معنى الإمامة هو هذا، معنى الإمامة هي الولاية على النفس والأعراض والأموال، معنى الإمامة هي الرئاسة في أمور الدين والدنيا، أصلًا لا يمكن أن تؤمن بالإمامة وتقول: لا! الدين لم يأتِ بدولة!! ما هو المقصود بأنّه لم يأتِ بدولة؟! الدين هل قال: السلطة لا يجب أن يكون على رأسها الإمام المعصوم؟! هذا يتنافى مع مذهب الإماميّة تمامًا.

وأمّا إذا كان المقصود في زمان الغيبة، فمحاضراتي موجودة، عندي أكثر من خمس محاضرات ذكرت فيها نظريات الفقهاء في زمان الغيبة بشكل مفصَّل، نظرية الولاية العامّة، نظرية الولاية في الأمور الحسبية التي يراها السيد الخوئي، نظرية ولاية الأمّة، طرحتها على المنبر بنفسي، ولاية الأمّة يعني لا ولاية للفقيه وإنما الولاية للأمّة، وهو ما طرحه المرحوم العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أصلًا لا توجد ولاية للفقيه وإنما الولاية للأمة، وقد طرحت هذه النظرية في ضمن محاضراتي السابقة، وعندنا قول لبعض المراجع - دام ظلّه - يقول: إن لم تسعفنا الظروف لإقامة دولة الإسلام فلندعُ لدولة الإنسان.

إذن بالنتيجة: إن كان الحديث عن زمن الحضور فيقال: الدولة في زمن الحضور ليست من صميم الدين! لا، الدولة في زمن الحضور من صميم الدين، لأنّه يجب أن يتسلّم السلطة الإمام المعصوم، وإلّا لا يكون الشخص إماميًا بدون هذا الاعتقاد، هذا هو الفاصل بين الإماميّة وغيرهم، وإذا كان المقصود زمن الغيبة، ففي زمن الغيبة نظريات مختلفة، من النظريات أنه لا ولاية للفقيه وإنما الولاية للأمّة، ومن النظريات أن ما يمكن إقامته هو دولة الإنسان لا دولة الإسلام، هذه نظريات مختلفة، وقد ذكرت هذا في عدّة محاضرات سابقة، عام 1435، يمكن المراجعة، ذكرت محاضرة مفصّلة في هذه النظريات، فلأجل ذلك عندما يقال بأنّه الدولة ليست من صميم الدين فالمقصود في عصر الغيبة، لأنَّ النظريات مختلفة، هذا أنا أيضًا قلتُه وطرحتُه، ولم أذكر في ليلة الخامس من محرم هذه السنة خلاف ذلك إطلاقًا.

المعنى الثالث: إقصاء القانون الديني، بمعنى أنَّ القانون الديني ليس له فاعلية في إدارة الحياة بتفاصيلها، الحياة الاقتصادية، الحياة السياسية، الحياة الاجتماعية، القانون الديني ليس له ذلك! هذا اتجاه علماني واضح، الاتجاه العلماني هو الذي يفصل الدين عن إدارة الحياة، وأنصح أبنائي الشباب أن يقرؤوا كتاب السيد الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر «الإسلام يقود الحياة»، اقرؤوا هذا الكتاب تعرفوا هذا المفكّر العميق وهذا العبقري العظيم الذي فهم الإسلام بكلّ جذوره ومعانيه ومضامينه كيف قدّم هذه الأطروحة. إذن بالنتيجة: دعوى فصل الدين بمعنى أنَّ القانون الديني ليس له فاعلية بالنسبة إلى إدارة الحياة، هذا اتّجاه علماني واضح.

فالنتيجة: ما ذكرناه في تلك الليلة ألا وهي ليلة الخامس من محرّم ذكرنا أنَّ الرسول أسّس دولة الأمّة، والإمام عليّ طوّر دولة الأمّة، ومقصودنا بدولة الأمّة التي يكون رأس هرمها الإمام المعصوم، وهذا من صميم الدين، وأما في عصر الغيبة فهناك نظريات مختلفة، ولم نكن نتكلم عن عصر الغيبة، بل كنا نتكلم عن عصر الحضور، دولة الإمام علي كيف كانت؟ هل كانت دولة استبدادية أم دولة أمة؟ كانت دولة أمة، كما كانت دولة الرسول .

ولذلك أقول: هناك فرقٌ بين المنهج التنظيري والمنهج التوصيفي، فتارة أنت تريد أن تنظّر، يعني تجلس على المنبر وتقول: أريد أن أنظّر لدولة الأمّة! أقول للناس: أيها الناس أسّسوا دولة الأمّة! وأقوم بالتنظير لدولة الأمّة وبطرح معالمها! وتارة يكون المنهج منهجًا توصيفيًا، يعني نصف دولةً وقعت في زمن معيّن، ما هي معالمها؟ كيف كانت؟ ونحن لم نكن في المنهج التنظيري، بل كنّا في المنهج التوصيفي، أنا لا أتبنّى دولة الأمة وأدعو الناس لإقامة دولة الأمّة! بل نحن كنّا نتحدث في سلسلة عن الإمام عليّ ، فضائله وزهده وشجاعته وقيادته ومنظومته الحقوقية، ومن جملة ما تحدّثنا عنه أنّ دولته التي كان هو رأس هرمها كيف كانت معالمها وصفاتها؟ كانت دولة الأمّة كما كانت دولة الرسول .

المحاور إياد الجشي: إذا كان الفقهاء ينوبون عن الإمام المعصوم في الإفتاء والقضاء والولاية فأيّ معنى للفصل بين السلطات الثلاث في دولة الأمة؟

سماحة السيد المنير: هذا أيضًا واضح الجواب عنه.

أوّلًا: كون الفقيه في زمن الغيبة جامعًا للسلطات - تشريعًا وتنفيذًا وقضاءً - ليس هو كلّ النظريات، فقد ذكرنا أنّ هناك نظريات مختلفة في زمن الغيبة، وهذه إحدى النظريات، فكيف على أساسها نقول: ليس للأمة وجود وليس هناك معنى لدولة الأمة؟! هذه إحدى النظريات وهناك نظريات أخرى.

ثانيًا: سلّمنا بهذه النظرية، فهل هذه تلغي حقّ الأمة في الرقابة؟! اقرأ الفقه، ماذا يقول الفقهاء؟ حكم الحاكم نافذٌ ما لم يُعْلَم خطؤه أو خطأ مستنده، لم يقل أحدٌ من الفقهاء: يلغى حقّ الأمة!! إذا اكتشفت الأمّة خطأ الحاكم، هو فقيه جامع للشرائط، لكن اُكْتُشِف خطؤه في حكمه أو خطأ مستنده فحينئذ لا ينفذ، إنّما ينفذ حكم الحاكم ما لم يُعْلَم خطؤه أو خطأ مستنده، إذن كيف عندما نقول بأنَّ للفقيه السلطات الثلاث نكون قد ألغينا حقّ الأمة؟! لا، ما زال للأمّة حقّ الرقابة والشهادة، فإذا عُلِم الخطأ أو خطأ المستند لم ينفذ حكم الحاكم. مضافًا إلى أنَّ هناك خلافًا بين الفقهاء في أنَّ حكم الحاكم هل ينفذ على حاكم مثله أم لا؟ هذا خلاف بين الفقهاء.

ثالثًا: الفصل بين السلطات حتى لو كان الفقيه جامعًا للسلطات، لنفترض أنّ عندنا فقيهًا هو رأس السلطة، لكن هذا الفقيه صار بينه وبين أحد المواطنين دعوى، اختلف معه في مال أو أرض أو أيّ شيء، فلا بدّ من أن ينتقل الخصمان إلى القاضي، فإذا قضى القاضي على الفقيه - وإن كان رأس الدولة - ينفذ قضاؤه، وهذا هو معنى الفصل بين السلطات، حتى لو كان هذا الفقيه جامعًا بين السلطات، لكن لو قضى فقيهٌ آخر بقضائه عليه في دعوى معيّنة ينفذ حكمه عليه، وهذا هو جوهر الفصل بين السلطات.

المحاور إياد الجشي: في هذه المحاضرة قلتم: نقصد بدولة الأمة هي السلطة تستند إلى المناشئ الثلاثة التي ذكرتموها والمبادئ الثلاثة، مفهوم دولة الأمّة في الإسلام هو أنّ الأمة مصدر السلطات والحاكم فيها لا يحكم بناءً على حقٍّ إلهيّ منصوص عليه من قِبَله عز وجل، وهذا سيأخذنا في التوافق مع الدولة المدنية التي يكون فيها للأقليات الحقّ في تقرير المصير، فكما اختير الخلفاء في إطار الشورى ووافقت عليهم الأمة، كذلك وافقت على عليّ ، فما هو تعليقكم حول هذه النقطة؟

سماحة السيد المنير: شرحنا قبل قليل أنّ دولة الأمة ليس معناها أنّ الأمّة مصدر السلطات، بل دولة الأمّة بمعنى الإمام المعصوم هو رأس السلطة، وللأمة حقّ الرقابة وحقّ الشهادة، كما حصل في زمن الإمام علي ، أنّ الأمة اعترضت على مجموعة من ولاة الإمام علي فعزلهم الإمام ، والإمام قال لهم: ”لكم حقٌّ عليّ: توفير فيئكم والنصيحة لكم، ولي حقٌّ عليكم: المشورة“، فجعل حقّهم عليه أن يكونوا مشيرين عليه في كلّ عمل، فكون رأس السلطة معصومًا لا يعني عصمة السلطة كلّها، لأنَّ السلطة تتكوّن من وزراء وقضاة وعمّال، وهؤلاء قد يخطئون، فللأمّة حقّ الرقابة.

المحاور إياد الجشي: هل نظرية حاكمية الإسلام يجب أن تُدرَس من منظارها الشمولي أم المذهبي فقط؟ فإذا كان من منظارها الشمولي فهل سيقبل الناس الآن نموذج حكومة الإمام عليّ ؟ أمّا إذا كان من منظارها المذهبي، فهل توجد نظرية تأسيس الدولة الإسلامية وفق مذهب السيد منير؟

سماحة السيد المنير: مذهب السيد منير هو مذهب الإمامية! وقلنا أنَّ علماء الإمامية افترقوا على عدّة نظريات في عصر الغيبة، وهذه النظريات موجودة وتُبْحَث في الفقه بحثًا مفصَّلًا.

الليلة السادسة: المذهب الاقتصادي في العهد العلوي

المحاور إياد الجشي: لماذا اعتبرتم «من أحيا أرضًا مواتًا فهي له» من القوانين الثابتة لا المتحركة، مع أنَّكم ذكرتم في نفض المحاضرة أن هذا القانون غير سارٍ في مثل زماننا الذي يمكن لشخص واحد أن يحيي آلاف الكيلو مترات بالأجهزة الحديثة من غير جهد يُذْكَر؟

سماحة السيد المنير: عندنا قانون ثابت وقانون متحرّك، القانون المتحرّك هو الذي وظيفته رفع التزاحم بين القوانين الثابتة، ونحن عندنا قانونان ثابتتان: ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“، وعندنا قانون ثابت آخر: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ [الحشر: 7]، فإذا طبّقنا القانون الأول وقلنا: من أحيا مليون كيلو متر فهي له، فحينئذٍ خالفنا القانون الثابت الثاني، وهو ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ [الحشر: 7]، فمن أجل التوفيق بين قانونين ثابتتين جاء دور القانون المتحرِّك ليرفع التزاحم بينهما، فيقال: للإنسان أن يحيي أرضًا ويتملّكها بالمقدار الذي يفي بحاجته المتعارفة كإنسان، لا أكثر من ذلك، فدخل القانون المتحرِّك لأجل التوفيق بين قانونين ثابتتين.

المحاور إياد الجشي: ذكرتم أنَّ التجارة في الفكر الإسلامي هي عنصر إنتاج، نعم التجارة إذا كانت في المواد الأولية الداخلة في إنتاج السلع النهائية فهي عنصر إنتاج، ولكن إذا كانت التجارة في السلعة النهائية القابلة فقط للاستهلاك، فهل تكون التجارة عنصر إنتاج في هذه الحالة؟ خلاصة ملاحظتنا أنّ التجارة حاملة للوجهين: عنصر تداول وعنصر إنتاج، فما رأيكم؟

سماحة السيد المنير: التجارة تحمل هاتين الميزتين: هي عنصر تداول وهي أيضًا عنصر إنتاج، بخلاف المذهب الاقتصادي الرأسمالي الذي يرى التجارة عنصر تداول، نحن نقول في المقابل: التجارة تحمل كلتا السمتين، ولا يختصّ الإنتاج بالمواد المعدّة للإنتاج، بل حتّى المواد التي جُهِّزَت للاستهلاك، أيضًا التجارة عنصر إنتاج هنا، فقد ذكرنا تلك الليلة عدّة عناصر تجتمع في التاجر، إذ التاجر ليس حمّالًا ينقل المادة من مكان إلى آخر حتى يكون تداول فقط، بل التاجر يمتلك رأس مال ويمتلك خبرة ويمتلك الإعداد، فإذا اجتمعت العناصر الثلاثة في شخصيته صار عنصر إنتاج.

المحاور إياد الجشي: ما رأيكم في القول بأنَّ الأصح في جعل العامل لاستحقاق الثروة في الفكر الإسلامي هي المنفعة عوضًا عن العمل، فالعمل سببٌ للمنفعة، والإجارة إعطاء حقّ الانتفاع من العين المؤجرة، وإقراض المال إعطاء حقّ الانتفاع من العين المقرَضة، نعم ما يجعل الإقراض بفائدة محرّمًا هو اتّحاد الجنس بين العين والفائدة، إضافةً على ذلك قد يُشْكَل على جعل العمل فقط عاملًا لاستحقاق الثروة بأنَّ الإسلام بحسب معرفتنا يحرّم معاملة تبادل الذهب الصافي مع الذهب المشغول، مع إعطاء مقدار أكبر من الذهب الصافي في قبال العمل المباشر في المذهب المشغول، فما هو رأيكم؟

سماحة السيد المنير: لا يمكن أن نجعل العامل في استحقاق الثروة هو المنفعة، لماذا؟ لو أنا أمرت شخصًا بعمل ما لا أنتفع منه أصلًا، قلت له: اغسل ثوبك، لا أنتفع أنا بعمله بل هو الذي ينتفع به، اغسل ثوبك، أو نظّف بيتك، لكن أنا سأعطيك مبلغًا، هنا يستحق الأجرة مع أن هذا العمل أنا لا أنتفع به، فليس مناط الاستحقاق المنفعة، إذ قد تنعدم المنفعة، وإنما مناط الاستحقاق هو العمل، بذل جهدًا، متى بذل عملًا ولا جهدًا لا على سبيل المجّانية - كما يقول الفقهاء - استحقّ في مقابله أجرة، جائزة، جعالة، لا أنَّ المناط هو المنفعة، وأمّا المثال المذكور: وهو أنّ عندنا ذهب قلادة وذهب صافٍ، نزيد مع الذهب الصافي مقدارًا حتى يصبح بإزاء القلادة، هذا منع منه بعض الفقهاء لا جميعهم، وإنّما منعوا منه لشمول دليل حرمة الربا البيعي له، أنَّ بيع الموزون بأزيد منه ربا، وهذا ربا بيعي، لأجل ذلك مُنِع منه، لا لأجل أنَّ المناط في استحقاق الأجرة أو استحقاق الثروة هو المنفعة.

المحاور إياد الجشي: ذكرتم أنَّ المذهب الاقتصادي الإسلامي يحرّم الربا، فهل يعتمد الاقتصاد الإسلامي على العقل أو الحسّ أم يعتمد أيضًا على الوحي أو النقل؟ ما هو التفسير العلمي الاقتصادي الإسلامي لتطوّر الزمن الآن وتحديدًا في مسألة الضرائب؟ هل زيادة الأسعار مع زيادة الفائدة المصرفية تباعًا يعتبر ربا أم لا؟ وهل دفع الخمس سيؤثر في ظلّ هذه التذبذبات في سعر الفائدة أم لا مع ذكر الدليل إذا سلّمنا أنَّ هناك اقتصادًا إسلاميًا كعلم؟

سماحة السيد المنير: هذا حشد كل شيء، كل شيء وضعه في سلّة واحدة! على كلّ حال، دليل حرمة الربا مطلقٌ، سواء ارتفعت الضرائب أم انخفضت، وسواء ارتفع سعر الفائدة أم انخفض، الفائدة الربوية محرّمة، دليل حرمة الربا مطلق، ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة: 279]، هذا دليل مطلق، نعم في فرض أنَّ المصرف غيّر الصيغة، أنت تحتاج مئة ألف ريال، أعطيك ذلك لكن أنت تعطيني بعد سنة ألفين زيادة لا مقابل القرض، بل لأنني بنك وفّرت لك خدمات، مقابل الموظّفين الذين يعملون عندي، والمكان الذي أعمل فيه، أنا آخذ الألفين لا شرطًا في القرض وإنما أجرة مقابل الخدمات التي أقدّمها للمجتمع، هذا ليس من الربا في شيء، لأنّ المبلغ الزائد مقابل خدمات البنك المجموعية العامّة، وليس شرطًا في القرض، هذه مسألة أخرى.​

كما أنّ دليل وجوب الخمس في الفائدة مطلقٌ، سواء حصلت هذه الأمور من زيادة الضرائب ومن زيادة قيمة السلع أم لا، دليل وجوب الخمس مطلق، الخمس في الفائدة، إذا فعلًا يصدق عليه أنّ عنده فائدة يتعلّق فيها الخمس، كما ورد عن الإمام الكاظم : ”الخمس في كلّ ما أفاد الناس من قليل أو كثير“.

المحاور إياد الجشي: قلتم في المحاضرة أننا نفتخر بعهد الإمام علي لمالك الأشتر، ونقلتم ما ذكره الباحث المصري محمد عبده، فما هو وجه المقارنة بين عهد علي لمالك الأشتر وبين من سبق الإمام من الخلفاء في إدارة الاقتصاد في الولايات التابعة لحكم الخلافة الإسلامية، حتى تكون هذه الوثيقة فريدة من نوعها في التاريخ الإسلامي؟

سماحة السيد المنير: ارجع لكتاب شرح نهج البلاغة للإمام محمد عبده، حيث أثنى على عهد الإمام علي لمالك الأشتر، ونحن بمراجعتنا النصوص السابقة على هذا العهد سواء من القرآن أو من أحاديث النبي أو ممّا ورد عن الخلفاء السابقين أو ما ورد بعد الإمام عليّ ، لا توجد إلى الآن وثيقة تتضمّن نظرية اقتصادية متكاملة بمبادئها وفروعها ومسؤوليتها كعهد الإمام علي لمالك الأشتر، ولذلك اعتبرناها وثيقة فريدة.

المحاور إياد الجشي: للأسف لم توفّقوا في طرح مسألة قيمة السلعة، فقد حاولتم تصوير أنَّ قيمة السلعة هي قيمة المادّة الطبيعية وقيمة الإنتاج، ولكن في الواقع القيمة الحقيقية هي القيمة التبادلية فقط، والقيمة التبادلية هي قيمة شخصية غير موضوعية، فتقديرها عائد على الشخص نفسه، فالسلعة أو المنتج لا يكسب قيمته إلّا من القيمة التي سيبذلها الناس في سبيل الحصول عليه، فمهما بذلت من جهد في صناعة منتج واستخدمت أجود أنواع المواد، ما دام الناس لا يرون لهذا المنتج قيمة، وغير مستعدّين لمبادلته بسلع أو خدمات أخرى فهو ليس ذا قيمة، وأيضًا المادة الطبيعية تكسب قيمتها من استعداد الناس للبذل في الحصول عليها، وبذلهم في الغالب محكوم بنظرهم لما يمكن أن يستفيدوا منه، سواء استفادة مباشرة، أو استفادة من مبادلتها أو تحويلها لمنتج أو سلعة يمكن مبادلتها، فمثلًا المواد التي لا يمكن الاستفادة منها في نظر الناس لا قيمة لها، وعلى سبيل التوضيح: الأوراق النقدية لا تكسب قيمتها من المادة المصنوعة منها، ولا من العمل الذي أنتجها، فقيمتها تأتي من رغبة الناس في الحصول عليها لاعتقادهم بإمكانية تبادلها بسلع أخرى، وعلى النقيض القمامة قيمتها سالبة لأن كثيرًا من الناس مستعدون لدفع ثمن للتخلّص منها، وهذا يوضّح أنّ القيمة للمادة الطبيعية والإنتاج ليس الأصل في قيمة السلعة، بل القيمة التبادلية، ومن هذا الباب يدخل مفهوم العرض والطلب، فلو عرضتَ منتجًا أو سلعة أو خدمة لا يوجد لها طلب فهي لا قيمة لها.

سماحة السيد المنير: نحن نستند إلى كلمات المختصّين، لعلّ السائل عنده نظر آخر، ولكن إذا رجعنا إلى ما ذكره الدكتور طالب حسين فارس في مقاله «العلاقة بين القيمة التسامحية والسياحة الدينية في الاقتصاد الإسلامي والوضعي» - الذي نشره مركز كربلاء للدراسات والأبحاث في مجلّة السبط، عدد 2، ص207، السنة الأولى - نجده يذكر أنّ القيمة التبادلية العادلة هي ناتج ندرة المادة الطبيعية وجودة العمل، وقد ذكرنا كلام هذا المختص في مجال الاقتصاد على المنبر.​

ثانيًا: هناك فرقٌ بين القيمة التبادلية الحقيقية والقيمة التبادلية السوقية، فالقيمة التبادلية الحقيقية هي التي ذكرناها، وأما القيمة التبادلية السوقية التي تتأثّر بقانون العرض والطلب هي التي أشار إليها الأخ السائل في كلامه، وأما مسألة النقد من أين يكتسب قيمته فنحن نختلف معه فيما قال، ولكن لا ربط له بمحل كلامنا، فلا ندخل في هذه الجهة.

الليلة السابعة: الشخصية الناجحة في تراث أمير المؤمنين

المحاور إياد الجشي: هل البُعْد من الله يعتبر تخلّفًا، أم التخلّف لا دخل له بالإيمان والتقرّب لله؟ وماذا عن الدول المتقدّمة كاليابان والصين وأمريكا وروسيا وألمانيا؟ دول تطوّرت وخدمت البشرية وتفرّغوا للعلم بدلًا من التعبّد وأبدعوا وأقاموا حضارة متطوّرة، فماذا تقولون؟

سماحة السيد المنير: إذا كان المراد من التقدّم هو التقدّم التكنولوجي والمادّي فهذا لا يتوقّف على التديّن ولا على الإيمان، وأمّا إذا كان المراد بالتقدّم تقدّم الإنسان بكلا عنصريه المادّي والروحي، الإنسان ليس كتلة مادّية متحرّكة على الأرض، بل الإنسان كيان يتضمّن عنصرين: عنصر مادي وعنصر روحي، فلا بدّ من أن يعيش التقدّم والتفوّق في كلا عنصريه، إذن لا يمكن للإنسان أن يعيش التقدّم في كلا عنصريه مع عدم الدين، مع عدم الإيمان، مع عدم وجود رصيد ديني، لذلك كرّرنا في عدّة محاضرات أنّ الحضارة التي يدعو إليها الإسلام هي حضارة مادّية قائمة على أساس إنساني وهو التراحم وعلى أساس روحي ألا وهو الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولذلك ترى انتشار الأمراض النفسية في الغرب المتقدّم تكنولوجيًا كما مثّل هو باليابان، انتشار الأمراض النفسية، انتشار ظاهرة الانتحار، انتشار ظاهرة الاغتصاب لغير البالغات، كلّ ذلك لعدم وجود جوّ دينيّ روحيّ يقف حاجزًا أمام هذه الظواهر السيّئة الفاسدة.

الليلة الثامنة: العروج الملكوتي في عبادة إمام المتّقين

المحاور إياد الجشي: ذكرتم في الحديث عن أمير المؤمنين أنه قال: ”قوم عبدوا الله خوفًا فتلك عبادة العبيد...“، فهل هذا يتنافى مع الآية الكريمة التي تقول: ﴿وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان: 7]؟

سماحة السيد المنير: العبادة المذمومة أن يعبد الله خوفًا فقط، أو يعبد الله رغبةً فقط، أمّا إذا عبد الله خوفًا ورغبةً، يعني عاش توازنًا بين الخوف والرجاء، فهذه عبادة ممدوحة، ولذلك نفس الآية التي ذكرها السائل قالت: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا «7» وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 7 - 9]، نطعمكم لوجه الله، هذا رجاء، وذاك خوف، فالآية جمعت بينهما، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56].

الليلة التاسعة: التربية والتعليم في المدرسة العلوية

المحاور إياد الجشي: هذا السؤال ورد بشكل متكرّر جدًا وبعدّة صيغ، إحداها تقول: تحت مسمّى «إننا خلقنا في زمن غير زمن الآباء والأجداد»، وهو الذي بعد بعدًا كبيرًا عن حكم الشريعة التي أمرنا الله باتباعها، أتمنى من السيّد أن يوضّح ماذا يعني بهذه العبارة، فالبعض قد أخذ منها ما يحبّ ويهوى كأنّ ما ذكره السيد يعني إتاحة المجال للانفلات والتمرّد على الأسرة والبيئة والتقاليد.

سماحة السيد المنير: من الطبيعي أنّ كلام الخطيب لأنه لا يستطيع أن يتكلم بشكل وافٍ يرسل رسائل مختصرة، من الطبيعي هناك من يتوسّع وهناك من يضيّق، يصبح الكلام مطّاطيًا قابلًا للاستغلال. على كل حال، نحن عندما ذكرنا الرواية: ”لا تقسروا أولادكم على آدابكم؛ فإنّهم خُلِقوا لزمان غير زمانكم“، المقصود بالآداب العادات التي ليس لها أصل ديني، وأما إذا كان لها أصل ديني فإنها لا تكون آدابكم بل تكون آداب الدين، والرواية قالت: لا تقسروا أولادكم على آدابكم، يعني عادات ليس لها أصل ديني، وأمّا كلّ عادة لها أصل ديني كاحترام الكبير وطاعة الوالدين وبرّ الأبوين فهذه ليست عادات، بل هذه آداب الدين وليس آدابكم، ولذلك ليس للولد أن يستغل مثل هذا الكلام في التمرّد على الأسرة أو في إيذاء الوالدين، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة: 83]، لا بدّ أن يكون في مقام الإطاعة والبرّ والتواضع، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 24].

كثير من الإخوة كتبوا لي: يعني أنت تؤيّد كلّ قصّة شعر وكلّ لبس؟! أنت عمّمتها كثيرًا!! بالنتيجة، مقصودنا بالنحو المتعارف، أن تكون قصّة الشعر أو اللبس بحيث لا يعدّ تشبّهًا بالأنثى، لا يعدّ تمرّدًا على كلّ العادات الاجتماعية، بحيث يكون الإنسان في موضع هتك حرمته وموضع القيل والقال.

المحاور إياد الجشي: بخصوص المقطع المتداول لكم حول ما أطلقتم عليه ظاهرة في منطقة القطيف وهي الطلاق العاطفي بين الزوجين، حيث ألقيتم بكامل المسؤولية على الرجل في التقصير في الجانب العاطفي للزوجة، ووصفتم أغلب الشباب بالاستهتار والتقصير وعدم تقدير الحياة الزوجية وتضييع الأوقات الطويلة في جلسات اللهو والسمر والتشييش والفكاهة... إلخ، السؤال هنا: هل هذه حقيقة واقع رجالنا في القطيف؟ وأيضًا لو كان هذا هو واقع رجالنا، ومع الأسف أنني أجده مخالفًا لذلك تمامًا، ألم يسمع سماحتكم بأنّ الفتيات هذه الأعوام تجتمع مع بعضها في المنتزهات والمقاهي والأسواق لأوقات متأخرة من الليل؟! لماذا لا يكون الطلاق العاطفي من جانب النساء هنا، خصوصًا أنّ جلّ نساء القطيف وبناتها في هذه الأعوام موظّفات، وكثير منهن يعملن في القطاع الصحّي بأوقات دوام مختلفة، ألا يكون في انصراف النساء هذه الأعوام وانشغالها بزيف الحياة تارة والحياة العملية تارة أخرى سببًا في هذه الظاهرة؟ ولماذا يكون الطرح القاسي على الرجل والأب ووصفه بهذه الأوضاع المهينة لشخصية الرجل والذي يفترض أن يكون نموذجًا يقتدى به من الأبناء في المنزل؟!

سماحة السيد المنير: ماذا أفعل؟! إن تكلمنا عن الرجال قال النساء هذا تحيّز للرجل! وإن تكلمنا عن النساء وقلنا اعتنوا بهن قالوا: أنت لا تعلم عن النساء ومشاكلهن!! على كل حال، عندي مقطع مسجّل ومنتشر أتكلّم فيه عن استقرار الحياة الزوجية وأنها تعتمد على التنازل من الطرفين والعطاء من الطرفين، وهذا مقطع منتشر، تركوا هذا المقطع، وتمسّكوا بالذي قلته ليلة التاسع عن الطلاق العاطفي! على كل حال، كما أنَّ الرجل الذي لا يعيش مع زوجته أجواء عاطفية جيّدة فهو يعيش طلاقًا عاطفيًا، كذلك المرأة التي تشتغل عن زوجها بالجلسات مع الفتيات أو يكون عملها لأوقات متأخرة ثم تأتي من العمل مرهقة ومتعبة ولا مزاج لها وإلى آخر ذلك فهي تعيش الطلاق العاطفي أيضًا، فالطلاق العاطفي ظاهرة مرضية من كلا الطرفين إذا أصرّ كلّ طرف أن يتعامل مع الحياة الزوجية معاملة آلية محضة مجرّدة عن هذا النبع العاطفي الجيّاش.

الليلة العاشرة: الإمام علي يشارك الحسين في صنع الثورة

المحاور إياد الجشي: هل الإمام الحسين خرج ثائرًا ضدّ الظلم، أم خرج حتى لا يُقْتَل أو يُجْبَر على بيعة الظالم؟ فالثورة تعني أنّ هدفه كان تأسيس دولة يحكم فيها الإمام، وعندما وجد من ينصره في الكوفة أراد الذهاب إلى هناك ليحكم ومن ثم يقاتل يزيد، أم أنّ خروجه كان بحثًا عن مكان يأمن فيه على نفسه وعياله؟

سماحة السيد المنير: ذكرنا في الليلة العاشرة أنّ كلّ هذه الأهداف كانت منظورة، الإمام الحسين خرج لتحرير إرادة الأمة بإراقة دمه، وخرج لإعطاء الأمّة حقّها في القيادة الرشيدة، سواء كانت به أو بولده زين العابدين، ليس بالضرورة به، هو يعلم أنّه مقتول، لا يمكن أن يكون هدف الحسين من الخروج أن يصل إلى السلطة، لأنه كان عالمًا بأنّه مقتول، وهذا الهدف لن يتحقّق له، وقد أخبر عن ذلك في المدينة وفي مكّة، والإنسان العاقل يعلم أنّه إذا كان عنده 70 ناصرًا وخرج إلى منطقة ملغومة وهي العراق ويعلم أنّ سفيره - وهو مسلم - قد قُتِل ومع ذلك أصرّ على الذهاب فمعنى ذلك أنّه يعلم أنّه مقتول على كلّ حال، مقتضى العوامل الطبيعية أنّه مقتول، حتى لو لم يكن لديه علم غيبي، ومع ذلك أصرّ على الخروج، إذن هذا يعني أنّه لم يكن هدفه الوصول إلى السلطة، وإنّما هدفه إمّا تحرير إرادة الأمّة بدمه، وإمّا إعطاء الأمّة حقّها في القيادة الرشيدة ولو عبر الحجج من أولاده الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإمّا رفع حالة أخلاقية الهزيمة التي مُنِيَت بها الأمّة آنذاك كما عبّر السيّد الشهيد السيّد الصدر قدّس سرّه.

المحاور إياد الجشي: ذكرتم ليلة عاشوراء أنَّ بعض المقرّبين من البيت العلوي قد اعترضوا على الإمام الحسين في خروجه إلى كربلاء، ومنهم محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر، وكذلك بعض أصحاب أمير المؤمنين كالأحنف بن قيس وعبيد الله بن الحر الجعفي، فأين هي عقيدة العصمة - التي هي الآن من ضروريات المذهب - عن جميع هؤلاء؟! خصوصًا ابن الحنفية الذي هو ابن إمام معصوم وأخٌ لإمامين معصومين وعمٌّ لإمام معصوم، فكيف يجهل عقيدة أساسية كالعصمة؟

سماحة السيد المنير: هذا الذي ذكرته هو الذي ذكره السيّد الصدر قدّس سرّه في كتابه «الأئمة تعدّد أدوار ووحدة هدف»، ومسألة أنّ أولاد الأئمة معارفهم متفاوتة لا إشكال فيها، عبد الله الأفطح هو الولد الأكبر للإمام الصادق ومع ذلك لم يؤمن بإمامة أخيه موسى بن جعفر ، وزيد بن علي بن الحسين لم يأخذ الإذن من الإمام الصادق وهو يعرف موقع الإمام الصادق ، وكذلك بعض أبناء الإمام عليّ ، إذا كان محمد بن الحنفية قد نصح وتفاعل فبعض أبناء الإمام عليّ لم يكن في هذا المنهج وفي هذه الدائرة كعمر بن الإمام علي ، وهو يعيش في بيت الإمامة وفي بيت العصمة ومع ذلك لم يكن في دائرة أخيه الحسين أصلًا، إذن بالنتيجة: تفاوت أولاد الأئمة في معرفتهم بمقام الأئمة أمرٌ واضحٌ بمقتضى التاريخ، الإنسان بمجرد أن يقرأ التاريخ يعرف أنّ أولاد الأئمة كانوا يتفاوتون في معرفتهم بمقام الأئمة وبمستوى عصمتهم المطلقة.

الليلة الحادية عشرة: العقل والقلب في إشراقات علوية

المحاور إياد الجشي: هنا سؤال ورد وتكرّر كثيرًا بعدّة صيغ، قال البعض بأنّ القصة التي ذكرتموها عن أمر الإمام بجلد شخصين ممّن أسؤوا لعائشة غير ثابتة عند الشيعة، وأنّه لا يمكن الاستشهاد بها في هكذا مورد، فماذا تقولون؟

سماحة السيد المنير: أنا أشكر الأخوين العزيزين، الأخ الباحث الأستاذ حسين الفرج من الأحساء، هو الذي في نفس الليلة أو في يوم الحادي عشر كتب لي أنّ القصّة ليس لها مصدر من الإماميّة، ونبّهت في الليلة الثانية عشرة على ذلك، وأنا أعتدّ ببحثه التاريخي، والبحث الآخر للولد العزيز الشيخ عدنان الزاهر من أهل العوامية، كتب لي رسالة مفصّلة حول هذا الموضوع، أقرأ بعض عبارات رسالته التي جاءت عن تحقيق، قال: إنَّ أقدم مصدر لهذه الرواية الطبري، ومن الطبري أخذ من جاء بعده، ولكن بعض الروايات التاريخية يتطلّب أخذها بمعايير أكثر جدّية، لا سيما إن كان لها ثمرات، أوّلًا: الرواية من مرويات سيف بن عمر التميمي الذي لا يخفى حاله، ثانيًا: بطل الرواية هو القعقاع بن عمرو التميمي، وقد أشرتم في محاضرة لكم بعنوان «نزعة التأويل في الفكر الإمامي» يعود تاريخها إلى ليلة الرابع من محرّم عام 1432 هـ  إلى كونه - أي القعقاع - شخصية أسطورية مختلقة لخدمة بعض التوجّهات... ثم ناقش في الرواية من حيث العقوبة، هل العقوبة مستحقّة أم غير مستحقّة؟ على أيّ حال، هذا بحث جيّد، وقد رأيته بحثًا مقنعًا.

الليلة الثانية عشرة: في رحاب نهج البلاغة

المحاور إياد الجشي: ذكرتم أنَّ المقطع الأخير من دعاء الإمام الحسين يوم عرفة لم تثبت نسبته للإمام بنظر بعض الأعلام، بل هو من تأليف بعض الصوفية، ولكن ما هو رأيكم أنتم؟ هل تميلون إلى هذا الرأي أم تخالفونه؟ مع أنكم تستشهدون كثيرًا في المنبر بهذه الفقرات: ”متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتى كانت الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من ودّك نصيبًا“، وهل يمكن أن يدّعى أنَّ الصوفية قد أخذوا هذا النفس من أهل البيت لا العكس؟

سماحة السيد المنير: نعم، محتمل جدًا، أنا طرحته كبحث فيه أخذٌ وردٌّ، ليست فيه نتيجة حاسمة. بعض الناس بمجرد أن تطرح شيئًا يريدون نتيجة حاسمة! هذا بحث قابل للتأمل، تقول: هذا البحث فيه رأيان، يقولون: ما هو الرأي الصحيح؟! أو تقول: هذه الرواية فيها قولان، أو الرواية ليست ثابتة، يقولون: لا، لا بدّ من أن تتكلّم بشكل قاطع!! لا، الناس عندها عقول تفكّر، أعطِ مجالًا للآخرين، هم يتكلّمون ويرجّحون رأيًا على آخر ويرجّحون طريقًا على آخر ويرجّحون مستندًا على مستند آخر، لماذا نقطع بالأمور دائمًا؟! نذكر الأمور كأنّها أمور قطعية لا نقاش فيها ولا كلام؟! يُتْرَك المجال للمستمع أيضًا ليحرّك فكره ولترجيح بعض الآراء.

أنا أحتمل أنَّ الصوفية أخذوا ذلك من دعاء الإمام ، ابن عطا الله الإسكندراني في الحكم العطائية الذي ذكر هذا المقطع من المحتمل أنّه أخذ بعض الفقرات من دعاء الإمام الحسين ، خصوصًا وأنّ زمانه مع زمان ابن طاووس - الذي نقل المقطع - واحدٌ، كلاهما عاشا في فترة واحدة، ابن طاووس الذي نقل الدعاء ونسبه للإمام الحسين ، وابن عطا الله الإسكندراني الذي وُجِد هذا الدعاء في كتابه «الحكم العطائية»، فمن المحتمل أنّه أخذ بعض الفقرات أو أغلبها من دعاء الإمام الحسين .

المحاور إياد الجشي: إنَّ صدور روايات ذمّ المرأة عن أمير المؤمنين على نحو القضية الخارجية لا على نحو القضية الحقيقية مجرّد احتمال يحتاج إلى شواهد تعضده، وإلا فيمكن ادّعاء مثل هذه الدعوى في كثير من النصوص الروائية الأخرى، وبالتالي تقييد مفادها والمنع من إطلاقها وشمولها لمثل زماننا، فما هو المعيار العلمي في القبول بمثل هذا التقييد؟

سماحة السيد المنير: هناك مبنى للسيد السيستاني - دام ظلّه الشريف - مفاده أنَّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب مانعٌ من إحراز الإطلاق، ولذلك إذا صدرت الرواية في سياق معيّن فكونها ناظرة للسياق هذا قدرٌ متيقّنٌ في مقام التخاطب، وهو يمنع من إحراز الإطلاق، لذلك لا يُحرَز إطلاق الرواية لغير ذلك الزمن أو لغير ذلك السياق، لصدورها في ذلك السياق، كما يلاحَظ تاريخيًا، هذا هو المبنى العلمي لما ذكرناه في تلك الليلة.

المحاور إياد الجشي: لماذا لا يقال إنَّ مثل هذه الروايات الناهية عن مشاورة النساء صادرة على نحو القضية المهملة وهي بقوة الجزئية، وبالتالي فهي تتحدث عن طبيعة المرأة بشكل عام، وأنَّ عقلها العملي قد تغلبه أحيانًا العواطف، وليس حازمًا كحزم الرجال، وليس قضية كلية تنطبق على جميع النساء على نحو الاستغراق، وبالتالي يمكن للرجل الذي تكون امرأته راجحة العقل أن يستشيرها بمقتضى إطلاق الروايات الحاثّة على مشاورة ذوي العقول والحكمة؟

سماحة السيد المنير: هذا احتمالٌ موجودٌ لا يُنْكَر، لعلّ هذه الروايات الشريفة ناظرة إلى أنَّ المرأة فيها اقتضاء - تمتلك هذه القابلية وهذا الاقتضاء - أن يغلب عنصرها العاطفي على عقلها العملي، وهذا أنا طرحته في بعض المحاضرات، ويكون ذلك سببًا لعدم نضج رأيها بحيث تكون محلًّا للاستشارة، يمكن حمل هذه الروايات على هذا المعنى، ولكن هذا لا يختصّ بالمرأة، بل كثير من الرجال قد يكونون في معرض ذلك، وعلى كلّ حال هذه توجيهات مختلفة لا بأس بها.

المحاور إياد الجشي: ذكرتم أنَّ الروايات الذامّة للمرأة يوجد في سندها إشكال، وإذا أردنا توجيهها قد يراد بها ما جرى من أحداث في زمن أمير المؤمنين ، ولكن هناك من يستدلّ بآية: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 28] بأنّها مذمّة واضحة للمرأة، فكيف نجيب؟

سماحة السيد المنير: إنَّ كيدكن عظيم يعني لدى المرأة ملكة لو استثمرتها أو استغلّتها أو فعّلتها لكانت قوية في الكيد، عندها قدرة في الكيد، لعل هذا المقصود، والآية على لسان عزيز مصر، والقرآن حكى عنه ولم يرد هذا الكلام، فقد يقال إنَّ هذا الكلام صحيح لأنّ القرآن لم يفنّده.

المحاور إياد الجشي: تحدّثتم عن قضية نادبة الخليفة الثاني، وهنا سؤالان: هل الإمام علي أكّد فعلًا على ندبها وكأنه ينعى الخليفة؟ ومن ناحية أخرى: لماذا لا يُنَقَّح أو يُعَلَّق في الهامش على هذه المقاطع في نهج البلاغة؟ كذلك بالنسبة لمقولاته في النساء التي فنّدها السيّد - عافاه الله - وكانت سببًا للقلق بالنسبة لي كامرأة وقارئة لنهج البلاغة، لماذا لا تُنَقَّح أو يُعَلَّق عليها حتّى يتسنّى لمن لم يسمع لرأي السيد أن يعرفوا أنَّ هذه الروايات ضعيفة أو غير صادرة أساسًا؟

سماحة السيد المنير: نهج البلاغة هو متنٌ له شروحٌ، لا يُعَلَّق على نهج البلاغة في نفس نهج البلاغة، بل هو متن، والمتن يُحْفَظ كما هو، والتعليق يأتي في الشروح، وهناك شروح عديدة عُلِّق في بعضها، ومنها: في ظلال نهج البلاغة للشيخ محمد جواد مغنية، وفي رحاب نهج البلاغة للشيخ المطهّري، وشرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة للميرزا الخوئي، فهناك عدّة شروح، وفي الشروح توجد هذه التعليقات، وأما مسألة تأكيد الإمام علي لندبة بنت أبي حثمة فهذا نقله الطبري، ولم نجده في مصدر آخر.

المحاور إياد الجشي: خلال حديثكم حول كيفيّة إثبات صدور نهج البلاغة عن الإمام عن طريق تحليل النفس الأدبي بمقارنتها بالنصوص الثابتة عنه، ذكرتم مثالًا على ذلك أنَّ الأدباء يلجؤون لمثل هذه المنهجية في تحديد نسبة بعض القصائد والأبيات للشعراء الكبار كالمتنبي وأبي تمّام وغيرهم، وهنا قد يرد إشكال، حيث أنه من الممكن لمن قرأ وتفاعل وتماهى مع أحد الشعراء أو الأدباء وأتقن طريقته أن ينسج نصًّا أدبيًّا على نفس المنوال، سواء بقصد المحاكاة أو تأثّرًا بهذا الأديب أو ذاك، وهذا وارد عند الشعراء، ويمكن أن يسري هذا الإشكال على بعض الخطب المنسوبة للإمام بأنّها صدرت عن أديب أو بليغ تماهى مع كلامه فنسج على منواله كلامًا مشابهًا، أليس الأنسب القول بأنّ غاية ما يفيد هذا المنهج هو بيان احتمالية الصدور أو تقوية هذا الاحتمال وليس إثبات الصدور، فما هو تعليقكم؟

سماحة السيد المنير: تعليقي هو تعليق ابن أبي الحديد، ابن أبي الحديد يقول: الأديب الحاذق يعرف الأصيل من المولَّد، وهذا الإنسان الذي ينصهر بشعر شاعر معيّن بحيث تنعكس عنده الصور والمعاني والألفاظ والخيال المجنّح لذلك الشاعر، مع ذلك يبقى شعره مولَّدًا وليس أصيلًا، والأديب الحاذق يميّز بين الشعر الأصيل والمولَّد، ويستطيع أن يميِّز بين الحاكي والمحكي.

المحاور إياد الجشي: تطرّق السيد إلى عدّة أشياء، السند وسلامة الصدور والردود على الطعون التي وردت عليه، لكنه أغفل الهدف الأصلي من إنشاء الشريف الرضي لنهج البلاغة، وهو أنه يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرِّب عليه طلّابها، فيه حاجة العالم والمتعلّم، وبغية البليغ والزاهد، أي كأنما الشريف الرضي اختار أبلغ ما قاله الإمام ووضعه في هذا الكتاب، ليشرِّع للطلاب والمتعلّمين طريقة يتعلّمون بها البلاغة ويستفيد من مضمونه الزهّاد وغيرهم، وعليه نستنتج من عنوان الكتاب «نهج البلاغة» أنَّ هدف الكتاب أنّه أقرب للباحثين في مجال اللغة العربية والشعر والأدب، وكان من اللازم أن يستحضر السيّد أقوال علماء العربية وأهل البلاغة والأدب والشعر، لا أن يستحضر أقوال الفقهاء والمراجع.

سماحة السيد المنير: أوّلًا: يقولون: العرش ثم النقش! أنت تريد أن تذكر أقوال الأدباء والخطباء في نهج البلاغة، أوّلًا لا بدّ من إثبات أنَّ نهج البلاغة للإمام علي ، ثم نأتي لمرحلة ثانية: ماذا قال الشعراء والأدباء والخطباء في ثنائهم على نهج البلاغة، فنحن عالجنا المرحلة الأولى ولم نصل إلى المرحلة الثانية حتى يقال كذلك.

ثانيًا: لاحظت أنَّ بعض الأسئلة تعتمد على المحاضرة الأولى في سيهات في مسجد الحمزة، وأنا في المحاضرة الثانية أضيف، ولذلك مجلسي هنا - في حسينية السنان - يكون أطول من هناك، لأنني أضيف بعض النقاط إلى ما ذكرته هناك، ولذلك بعضهم قد يطرح أسئلة أو ملاحظات اعتمادًا على استماعه للمحاضرة في مسجد الحمزة. هنا في محاضرة حسينية السنان ذكرت أقوال جورج جرداق في كتابه «صوت العدالة الإنسانية»، ذكرت كلامه وثناءه على نهج البلاغة في موارد أربعة، وذكرت شواهد، وذكرت كلام ابن أبي الحديد - وهو من الأدباء أيضًا - في مدح نهج البلاغة والثناء عليه.

المحاور إياد الجشي: ما مدى صحّة نسبة كتاب ديوان الإمام علي في ظلّ ما يتردّد من أبناء العامة من أنهم ينسبون بعض القصائد لغيره من العلماء كالشافعي وبعض الشعراء كصالح عبد المقصود؟

سماحة السيد المنير: لم يثبت انتساب هذا الديوان بتمامه للإمام علي ، وهناك بيت مشهور:

أتحسب  أنك  جرمٌ iiصغيرٌ   وفيك انطوى العالم الأكبر

هذا يُنْسَب للإمام علي ، والحال أنَّ قائله هو ابن العربي، مثبَّت في ديوان ابن العربي، فهذه الأمور ليست ثابتة، ليس كلّ ما ذُكِر في الديوان ثابت النسبة للإمام علي .

الليلة الثالثة عشرة: المنهج العلوي في إدارة الأزمات

المحاور إياد الجشي: في الليلة الأخيرة عن الغلو، وذكرتم أنه يتكرر بألوان مختلفة في كل زمان، ومن مظاهره الاعتقاد بتفويض الخلق والرزق إلى أهل البيت ، وهذا النحو من الغلو قد يُفْهَم من بعض أبيات الشيخ الأصفهاني في أرجوزته، حيث يقول:

من   منشآت   فضله   المبينِ
لوح   الوجود   كلّه  نقش  يده
لا  بدع  من  تلك اليد الفيّاضة
في    كفّه    تسبّح    الحصاة
وما الكليم ما العصا وما الحجر



 
صحيفة     الإبداعِ    والتكوينِ
وكلّه     مداده    من    iiمدده
إنَّ    يد    الله   يد   iiالإفاضة
فهي     لكلّ    ممكن    iiحياة
فهو    بسبّباته   شقّ   iiالقمر

فنسب الخلق ورسم حدود الوجود إلى النبي ، ولم يقل أن الله تعالى نقش الوجود بالنبي، حتى يفسَّر كلامه بالوساطة في الفيض مثلًا، فهل مثل هذه الأبيات داخلة في الغلو؟

سماحة السيد المنير: لا، لا نستطيع أن نقول ذلك! الشيخ الأصفهاني أستاذ الفقهاء والمجتهدين، أستاذ السيد الخوئي وغيره من العلماء المحقّقين، كلام المحقّق الأصفهاني في أرجوزته إمّا أن يُحْمَل على أنَّ منظوره العلّة الفاعلية غير المستقلّة، فلا يكون غلوًا، أو منظوره إلى الولاية التكوينية، صحيح أنَّ الله هو الذي خلق ورزق لكن هم لهم الولاية التكوينية على كلّ ما خُلِق ورُزِق، فلعلّ هذا هو المقصود.

المحاور إياد الجشي: ذكرتم عن العلّامة المجلسي يقول: إنَّ الاعتقاد بحبّ أهل البيت بدون أداء العبادات هو من الغلو فيهم، فهل هذا يتنافى مع حديث ”حب علي حسنة لا تضرّ معه سيئة“؟

سماحة السيد المنير: ما ذكره الشيخ المجلسي - عليه الرحمة - ذكرت عبارته بالدقّة في المحاضرة، قال: ما هو الغلو دعوى أنَّ مع معرفتهم لا تكليف، يعني الإنسان يصبح غير مكلّف أصلًا، من عرفهم فهو غير مكلّف بتلك المعاصي، هذا يعدّ من الغلو، ولم يقل الشيخ المجلسي أنَّ معرفتهم قد تسقط الذنوب والمعاصي، لم يقل هذا من الغلو، بل قال: أنّ معرفتهم تسقط التكليف من الأساس، فهذا لا يمنع أن يكون حبّ الإمام عليّ والبكاء على الحسين كلّه من الأسباب والمقتضيات للموت على الولاية والطهارة من الذنب، أنَّ الإنسان يموت على الولاية والطهارة من الذنوب، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة.

أسئلة متفرقة

المحاور إياد الجشي: بقي سؤالٌ بخصوص الاقتصاد الإسلامي، قلتم ما يلي: علم الاقتصاد نشأ منذ بداية العصر الرأسمالي، أي قبل أربعة قرون تقريبًا، علم الاقتصاد نشأته وأصوله ترجع إلى الحضارة اليونانية أي 800 عام قبل الميلاد، سؤال: هل اتّفق علماء الاقتصاد على تحديد الزمن الذي ظهر فيه علم الاقتصاد؟ وإذا كان الجواب نعم، فمن أوّل من حدّد هذا الزمن؟ وإذا كان الجواب لا، فمن أين جاء السيّد بهذا التحديد لزمن نشأة علم الاقتصاد؟

سماحة السيد المنير: جاء به السيد من كتاب اقتصادنا للسيد الشهيد الصدر ص6، حيث قال: إنَّ علم الاقتصاد السياسي... طبعًا علم الاقتصاد دخل فيه علم التاريخ ودخل فيه علم السياسة، وشُكِّل من العلمين علم الاقتصاد أو ما يعبَّر عنه بعلم الاقتصاد السياسي، ذكر السيد الصدر أنَّ هذا العلم حديث منذ أربعة قرون بداية العصر الرأسمالي، علم الاقتصاد الذي كان موجودًا ولعلّ ما ذكره السائل - وهو من أصدقائنا من سلطنة عمان المحامي صادق حسن اللواتي - أنَّ علم الاقتصاد كان موجودًا فهذا كان جزءًا من علم الفلسفة، لأنَّ علم الفلسفة عند اليونانيين كان يشمل علم الطبيعيات، كانوا يعتبرونه جزءًا من علم الفلسفة، يعني الكيمياء والأحياء كان جزءًا من علم الفلسفة، ثم صار علمًا مستقلًا، علم الاقتصاد أيضًا كان جزءًا من علم الفلسفة لدى اليونانيين، ثم انفصل وأصبح علمًا مستقلًا.

المحاور إياد الجشي: تحدّث السيّد حفظه الله عن نشأة الكون مع الانفجار العظيم، كيف نجمع بين هذه النظرية وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7]؟ إذا كان مقصود الآية خلق اللبنة الأولى للكون فلماذا تمّ التعبير في هذه الآية بالسماوات والأرض؟ سؤال آخر وهو الأكثر أهمية: تسلسل السيّد في شرح مجيء الإنسان من الأرض، هل هذا يعني أنَّ نظرية التطوّر لدارون صحيحة؟ وكيف نجمع بين هذه النظرية وخلق آدم ؟ وإذا كان المقصود بمجيء الإنسان من الأرض هو الإنسان الأوّل الذي أشارت إليه الملائكة بالإفساد في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة: 30] فما علاقة الإنسان الحالي بالإنسان الأوّل المنقرض؟ وكما نعرف، أنَّ الإنسان الحالي هو من ولد آدم الذي خلقه الله بيده؟

سماحة السيد المنير: أوّلًا: نظرية الانفجار هي نظرية وليست حقيقة، ولكن لأنّها ما زالت أكثر مقبولية في الأروقة العلمية، ما زالت ذات قيمة علمية إلى الآن، لذلك نحن نربطها ببعض الأبحاث لأنها نظرية علمية، حتى تكون أبحاثنا مرتبطة بالأجواء العلمية نربطها بهذه النظرية وإن كانت هي نظرية ولم تصل إلى مستوى الحقيقة، السائل حسب ما هو مكتوب عندي قال أنَّ هناك آية تدلّ على أنَّ الله خلق الأرض قبل الشمس، وبناء على هذه النظرية الأرض انفصلت من الشمس، فكيف نجمع؟! أنا بحثت عن هذه الآية فلم أجدها! لم أجد في القرآن تدلّ على أنَّ الأرض خُلِقَت قبل الشمس حتى تكون ضدّ هذه النظرية، وإنّما الموجود في القرآن هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [البقرة: 29]، يعني وجود الأرض قبل تسوية السماوات سبعًا، لا أنّه قبل خلق الشمس، أيضًا الآية الأخرى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ «9» وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ «10» ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ «11» [فصلت: 9 - 11]، هذه تدلّ على أنَّ الأرض وُجِدت قبل إنفاذ الإرادة، خُلِقَت الأرض قبل أن يطلق تبارك وتعالى إرادته الكونية في إدارة الكون، لا أنّ الأرض خُلِقَت قبل الشمس.

بل يظهر من هذه الآية - كما ذكر السيّد صاحب الميزان عليه الرحمة في الميزان، ج17، ص365 - أنَّ الشمس قبل، ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا «27» رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا «28» وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا «29» وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات: 27 - 30]، قال: لعلّه يستفاد منها أنَّ الشمس قبل الأرض. وأما بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف: 54] فهذا لا يتنافى مع نظرية الانفجار في شيء، لأنّه ليس المراد بالأيام الأيام الأرضية، بل المراد الأيام الخارجة عن دائرة الزمكان، الخارجة عن دائرة الزمان، ونحن نعرف أنّه كلّما كانت الكتلة أكبر كانت الجاذبية أعظم، وكان الزمن أبطأ، إذا كان الزمن عندنا مثلًا يومًا، ربّما هذا اليوم في الشمس ستين يومًا، كلّما كانت الكتلة أكبر فالجاذبية أشد والزمن أبطأ، إذن بالنتيجة ليس للزمن حدٌّ، الآية قالت ستة أيام، لكن ما هو مقدار اليوم؟ فهذا لا يتنافى مع نظرية الانفجار، وإن كنا نقول ما زالت نظرية.

أما مسألة داروين فلا علاقة لنا بنظرية داروين، وإنما ذكرنا أنَّ الإنسان - يعني آدم الذي جئنا منه - خُلِق من خليّة حيّة كانت في الماء والطين، هل تمّ خلق آدم من هذه الخليّة الحيّة بطريقة دفعية أم بطريقة تدريجية؟ هذا لم يوضحه القرآن، وأما قول القرآن: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] فلا يدلّ على أنَّ الله خلقه دفعة واحدة، بل التعبير باليد هو كناية عن القدرة والعناية، نظير ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10]، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]، ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، وعلى أية حال لسنا في مقام الدفاع عن نظرية التطور، وإنما ما ذكرناه أنَّ الإنسان جاء من الخلية الحيّة من الماء والطين المناسب لخلقه، وهو آدم ، ومنه انحدر بنو البشر.

المحاور إياد الجشي: امرأة سألت، قالت: أنت ذكرت على المنبر تجربة الأطفال الذين حُرِموا من الحب فماتوا، فما هو الحب الذي حُرِموا منه حتى ماتوا مع أنَّ الحب أمر غير ملموس؟

سماحة السيد المنير: صحيح أنَّ الحب أمر غير ملموس، لكن لمسات الحب ملموسة، أنا إذا أردت أن أحسّسك بحبّي لك ألمس يدك، أغمزها، أعانقك، أشعرك بأني أحبك من خلال هذه اللمسات المعيّنة، فإذن الحب شيء غير ملموس لكن لمساته ملموسة محسوسة، فإذا حُرِم الطفل، بحيث وُضِع في دور الحضانة، ولم يُعَامَل بلمسة حب، بل عومل بالنهر والردع دائمًا والإسكات متى ما بكى، فمن الطبيعي أنه عندما يفقد لمسات الحب سيفقد الحب، وبالتالي يؤدّي ذلك إلى موته لحرمانه من غذاء ضروري له.

المحاور إياد الجشي: أحسنتم سماحة السيّد، نعتذر على الإطالة، نحن أطلنا بحكم أنَّ نسبة كبيرة من المشاهدين يتابعون من بيوتهم، فليسامحنا الذين هنا في الحسينية! ونعتذر من الإخوة الذين أرسلوا وتفاعلوا مع هذا الحوار ولم يتّسع المجال لتغطية إشكالاتهم وإثاراتهم، ونشكركم على هذا الحضور والتفاعل رغم هذه الظروف، ونسأل الله أن يجمع بيننا وبينكم إن شاء الله تحت ظلال محمد وآل محمد ونحن تحت رعايتهم بلا وباء ولا بلاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

سماحة السيد المنير: نسألكم الدعاء جميعًا، وإن شاء الله يجمعنا الله معكم في السنوات القادمة في صحّة وعافية، ونسأل الله ببركة الحسين وآل الحسين أن نوفّق لخدمتهم في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة، والحمد لله ربّ العالمين.