الدرس 1 | هل تحتاج ثقافتنا للفلسفة؟

الدرس 1

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

في حديثنا في أول بحث من بحوث «الفلسفة» المتعلقة بنظرية المعرفة نتناول الفلسفة من حيث تعريفها وخصائصها والفرق بينها وبين العلم وتحديد المصطلحات المتعلقة بهذا المجال، فهنا محاور ثلاثة:

المحور الأول: في تعريف الفلسفة بصفة عامة.

الفلسفة كلمة يراد بها ما جَمع عناصر ثلاثة:

  • الكيفية.
  • العلية.
  • العموم.

فكل دراسة تُعنى بدراسة هذه العناصر الثلاثة فهي فلسفة، سواء كانت دينية، وضعية، أو في أي مجال من المجالات، فإن كل دراسة تحتوي العناصر الثلاثة فهي فلسفة، فعندما نريد أن ندرس العقل مثلا، أو نريد أن ندرس المجتمع، فإننا نسلك العناصر الثلاثة:

العنصر الأول: الكيفية.

ما هو الفرق بين الظواهر والجوهر؟ العقل له مظهر وله جوهر، المجتمع له أعراض ومظاهر وله جوهر، فالعنصر الأول هو «الكيفية» أي التفريق بين المظهر والجوهر، التفريق بين العرض والجوهر.

العنصر الثاني: العليّة.

ما هي العلة وراء العقل؟ من أين اكتسب العقل هذه الصفات؟ أو من أين اكتسب المجتمع هذه الصفات، العلة التي غرست هذه الصفات وميّزته عن ظاهرة حياتية أخرى ما هي تلك العلة؟

العنصر الثالث: العموم.

بعد أن يعرف جوهره، صفاته الأساسية المقومة لحقيقته ونعرف علته، نصل إلى العنصر الثالث وهو التعميم، هل أن هذه الصفات وهذه العلّة مشتركة بينه وبين غيره؟ أم هي خاصّة به؟ فعندما نكتشف أن هذه السمات وهذه السبيبة لا تختص به بل تشمل غيره ننطلق إلى العنصر الثالث وهو عنصر التعميم.

فكل دراسة تشتمل على العناصر الثلاثة فهي فلسفة، بغض النظر عن كونها تعلقت بظاهرة اجتماعية، بظاهرة طبيعية، بظاهرة دينية، بأي بحث بأي مجال من المجالات.

المحور الثاني: في بيان «ما هو علم الفلسفة؟».

تارة نتكلم عن الفلسفة وأخرى نتكلم عن علم الفلسفة، فالفلسفة كمصطلح بيناه ماذا تعني كلمة فلسفة، أما إذا كنا نبحث عن الفلسفة كعلم من العلوم يُعبر عنه بعلم الفلسفة فإن هذا العلم لكي نسلط الضوء عليه نبحثه في خصائص أربعة، ومن خلالها يتبين لنا «ما هو علم الفلسفة؟» كعلم يقابل الرياضيات أو يقابل التاريخ أو يقابل علم الاجتماع، فكعلم ما هي خصائصه؟

الخصوصية الأولى: مجال هذا العلم.

أين مجال علم الفلسفة؟ موضوع علم الفلسفة؟ موضوع علم الفلسفة الإجابة على الأسئلة الفطرية التي يطرحها الإنسان بطبعه، فكل إنسان بطبعه تدور في ذهنه هذه الأسئلة الفطرية. العلم الذي يتصدى للإجابة عن هذه الأسئلة الفطرية هو علم الفلسفة سواء كانت أجوبته صحيحة أم خطأ، المهم أنه تصدى للإجابة عن هذه الأسئلة.

ما هو المبدأ وما هي الغاية؟ ما هو مبدأ هذا الوجود وما هي غاية هذا الوجود؟ فكل إنسان يطرح هذا السؤال، هل هذا العالم حادث أم قديم؟ هل هذا العالم أزلي ليس له مبدأ - منذ الأزل موجود - أو لم يكن ثم كان؟ هل هذا العالم واحد أم كثير؟ نحن نراه كثيرا، إنسان وحيوان ونبات ومجموعات شمسية، هل العالم هكذا أم هذه مجرد مظاهر وأعراض والعالم شيء واحد له عدّة مظاهر وأعراض؟ فهل ما نراه من الكثرة هي الحقيقة أم أن هذه الكثرة صفتية وعرضية وإلا فحقيقة العالم شيء واحد؟ هل أن هذا العالم متناهٍ سينتهي يوماً من الأيام، سيتبخر يوماً من الأيام أم هو باق وممتد «التناهي وعدم التناهي»؟ ما هي العلاقة بين الموجودات بأسرها؟ هل هي علاقة سببية؟ مثلا نحن نرى هناك علاقة بين الشمس والحرارة، فهل العلاقة بين الشمس والحرارة علاقة سبيبة أي أن هناك سببا ومسببا؟ أم هذه علاقة اقتران، فهناك موجود اسمه شمس وموجود اسمه حرارة وهذان الموجودان اقترانا في الزمن فليس بينهما سببية ومُسببيّة، فهل أن في العالم توجد علاقة سببية ومُسببيّة بين موجوداته أم لا؟ هل أن هناك في العالم موجودا لم يوجده شيء وهو ما نعبر عنه بالواجب في مقابل الممكن؟ هل يمكن أن نقسم العالم إلى واجب وممكن أي أن هناك موجودا لم يوجده شيء فنسميه الوجود الواجب، وهناك موجودات أوجدها شيء نسميها موجوداً ممكناً، فهل التقسيم إلى الواجب والممكن تقسيم صحيح أم لا؟

كل هذه الأسئلة الفطرية التي يطرحها الإنسان بطبعه فإن العلم الذي يتكفل الإجابة عنها يسمى «علم الفلسفة».

الخصوصية الثانية: الحاجة إلى علم الفلسفة.

هل هناك حاجة للفلسفة؟ فقد يقول قائل ليس هناك داعٍ، لم نجب عن الأسئلة الفطرية ما الذي يحدث؟ فكل إنسان مستمر في حياته ويمارس عمله ووظيفته وإن لم يجب على الأسئلة الفطرية، فما هي الحاجة إلى «علم الفلسفة»؟ هنا تأتي الخاصية الثانية «الحاجة إلى علم الفلسفة» وتكمن في زاويتين:

الزاوية الأولى: إداراك الحقائق والتمييز بينها وبين غيرها.

المدركات - أي الصور التي في عقولنا وتأتي إلى أذهاننا - على أقسام أربعة:

  • حقائق
  • اعتباريات
  • انتزاعيات
  • وهميات

الحقائق: هي كل صورة تعبّر عن وجود، فإذا الصورة الموجودة في العقل تُعبّر عن وجود في الخارج، أي أن خارج العقل يوجد بإزاء هذه الصورة وجود تمثل فإن هذه تُسمى حقيقة، فالصورة التي تعبر عن وجود خارجي تُسمى حقيقة.

الاعتباريات: هو ما اخترعه المجتمع البشري من أجل المصلحة العامة، فهو ليس له وجود لكن المجتمع البشري اضطرّ أن يخترعه من أجل المصلحة العامة، كالزوجية والملكية، إنسان اشترى فيقال: «مَلَك»، هذه الملكية مفردة قانونية اخترعها المجتمع البشري لأجل المصحلة العامة، إذا اقترن ذكر بأنثى بأي سبب بينهما زوجية، هذا أب، هذا ولد فإن هذه مخترعات بشرية، اخترعها المجتمع البشري من أجل المصلحة العامة لمسيرة المجتمع.

الانتزاعيات: وهي من الأمور الغامضة في الفلسفة وإلى يومنا هذا، وهي الصور التي جُبل - أي ليس باختياره - على اشتقاقها قهرا عليه عندما يجد لها منشأ معينا.

أضرب لك مثالا: أي إنسان يدخل القاعة وينظر للسقف وينظر إلى الأرض ليس باختياره يقول مباشرة هذا «فوق» وهذا «تحت»، ولا يوجد شيء اسمه «فوق» و«تحت» ففي الخارج لا يوجد إلا سقف وأرض، وليس وراء السقف شيء اسمه «فوقية» وليس وراء الأرض شيء اسمه «تحتية»، الذهن البشري هكذا خُلق فهو قد خُلق بطريقة إذا رأى السقف والأرض انتزع شيئا يسميه فوقية وتحتية.

كذلك «قبل» و«بعد» فالذهن البشري اخترع هذا المفهوم قهراً عليه، جبل على هذا الاختراع، بمجرد أن ينظر إلى شهر رمضان وينظر إلى شهر محرم قال: ”ذاك قبل وهذا بعد“، من أين؟ ليس وراء شهر رمضان صفة اسمها «قبل» وليس وراءَه شيء اسمه «بعد» إنما الذهن جُبل على اشتقاق هذه الصفة للمقارنة بين شيئين.

فهذه الأوصاف التي يشتقها الذهن حينما يقارن بين الأشياء تسمى أمور انتزاعية وإلا هي ليس لها وجود إلا عمل الذهن فقط.

الوهميات: صور متخيلة لم يخترعها المجتمع البشري، ولا الذهن مضطر لاختراعها وإنما هي خيالات، افترض مثلا أن إنسانا يتخيل أنه أصبح مثلا «كابتن طيارة» أو أنه صعد على المريخ، وهميات.

إذن بما أن المدركات في العقل على أقسام أربعة «حقائق، اعتباريات، انتزاعيات، وهميات» هنا تكمن الحاجة إلى الفلسفة في الفرز بين الأقسام الأربعة وتمييز الحقائق عن الاعتباريات والانتزاعيات والوهميات.

الزاوية الثانية: إثبات الوجود لموضوعات العلوم.

هناك عبارة ترد عند الفلاسفة وهي «كل علم له موضوع»، كل علم يبحث عن مسائل متعلقة بموضوع معين بينها رابطة حقيقة بذلك الموضوع ولأجل هدف معين، فكل علم هكذا.

الفرق بين الفلسفة وسائر العلوم؟

الفلسفة أيضا علم إذن له موضوع، وموضوعها الوجود بما هو وجود وليس موضوعها المجتمع ولا العقل ولا الروح ولا الإنسان، فموضوعها أعم موضوع وهو «الوجود»، وهذا أكبر عنوان يعبر عن أوسع موضوع وهو موضوع الفلسفة، الوجود حقيقته علته عوارضه أقسامه، فالوجود بصفة عامة هو موضوع الفلسفة.

بينما العلوم الأخرى تبحث عن عوارض لأمر فُرض وجوده، مثلا: عندما نأتي إلى الرياضيات ونقول: «”كيف نحدد محيط الدائرة؟“» نقول: محيط الدائرة عبارة عن: «قطر الدائرة» × 3.14 = محيط الدائرة، أنت عندما تتكلم عن مسألة رياضية وتقول أن محيط الدائرة يتحقق بهذه المعادلة، هل الدائرة شيء موجود؟ علم الرياضيات ليس له دخل بأن يقول: «الدائرة موجود أم لا» علم الرياضيات يقول: المثلث كذا، الدائرة كذا، المعادلة تنتج كذا، أما الدائرة شيء موجود يعني هل هذا الشكل الذي نُسميه بالدائرة موجود في الخارج أم لا؟ أو هذا الشكل الذي نسميه مثلث موجود في الخارج أم لا؟ علم الرياضيات ليس له دخل، بل شغله أن يبحث أن زوايا المثلث تساوي قائمتين، أما أن المثلث له وجود أو لا فليس له دخل.

ما هو العلم الذي يتكفل إثبات الوجود؟

الفلسفة، فعلم الرياضيات يقول الدائرة حكمها كذا، أما أن الدائرة موجودة أم لا نرجع إلى علم الفلسفة لأنه يضع صفاتٍ للوجود، فما ملك هذه الصفات فهو موجود وإلا فليس بموجود.

أو عندما نأتي مثلا إلى أي ظاهرة من الظواهر الأخرى التي ندرسها، يأتي مثلا علم النفس فيقول: هناك مدرسة سلوكية، مدرسة وصفية، هذه المدارس تتعلق بدارسة كذا وكذا، أساسا النفس موجودة أم لا حتى تبحث هذه الأمور أم لا؟ العلم الذي يتكفل إثبات الوجود هو «علم الفلسفة».

إذن سائر العلوم عندما يراد إثبات وجود موضوعاتها تحتاج إلى الفلسفة لإثبات وجود موضوعاتها.

قبل الانتقال إلى الخاصية الثالثة حتى نفرق بين أن موضوع الفلسفة هو أعم الأشياء بخلاف العلوم الأخرى، كل علم ينفي ويثبت ما هو في دائرته إلا أنه لا يستطيع أن ينفي ويثبت ما هو في دائرة الوجود العام.

مثلا: عندما نأتي إلى علم النفس نأتي إلى المدرسة التحليلية في علم النفس ونقول: أن الإدراك موجود للدماغ، فالدماغ له إدراك، هل يستطيع علم النفس أن ينفي الإدراك المجرد؟ الدماغ شيء مادي فله إدراك مادي، فمثلما نعبر عن الحواس «العين تبصر» فهذا إدراك مادي، «الأذن تسمع» إدراك مادي، فعلم النفس يقول: «الدماغ يدرك» إذن الإدراك شيء مادي، هل يستطيع علم النفس بمدرسته التحليلية أن يقول: ”الإدراك المجرد عن المادة موجود أو غير موجود“؟ ليس من اختصاصه، فلا يرتبط بموضوعه ومجاله فلا يستطيع أن يُثبت أو ينفي، الإدراك المجرد عن المادة من الأصل إدراك ليس مادياً، فهل هذا موجود أم ليس بموجود، علم النفس يقف هنا، ليس من اختصاصي بل من اختصاص علم الفلسفة لأن موضوع علم الفلسفة الوجود بصفة عامة، فهو العلم الوحيد الذي يستطيع أن يثبت أو ينفي ما يرتبط بالوجود بصفة عامة.

الخصوصية الثالثة:

ما هو الفرق بين «العلم» و«الفلسفة»؟ الآن أقرأ ما ذكره السيد محمد باقر الصدر «قدس» في كتابه «فلسفتنا» في بحثه المادية والكيان الفلسفي، نقرأ هذه المقطوعة من كلامه ثم نربطها بما نحن فيه، قال: "كانت الفلسفة في بدايتها - في عصر اليونان مثلا - تستوعب أغلب المعارف البشرية المنظمة كالرياضيات والطبيعيات، فكلها داخل سابقا في علم الفلسفة، وتتكفل عن الحقائق العامة في كل مجالات الوجود؛ ولكن بأداة القياس العقلي وهو الانتقال من العام إلى الخاص، وعندما ظهرت النزعة التجريبية في القرن السادس عشر انفصلت الفلسفة عن العلم، فصارت الفلسفة شيء والعلم شيء آخر، لاختلاف الأداة - فأداة الفلسفة غير أداة العلم - حيث إن الأداة للعلم هي الانتقال من الخاص إلى العام، كما أن العلم يتناول الوجود الخاص الذي يمكن إخضاعه للملاحظة والتجربة، بينما الفلسفة تتناول الوجود بصورة عامة.

فالعالم الطبيعي مثلا يبحث عن قانون تمدد الفلز بالحرارة، يبحث عن شيء معين مشخصن والرياضي يبحث عن النسبة بين قطر الدائرة ومحيطها، بينما الفيلسوف يدرس مبدأ الوجود بصفة عامة، وجوهر علاقة العلية، وهل الكيان الإنساني مادي أم مزيج من عنصر مادي وعنصر روحي؟ وحيث تصدت المدرسة التجريبية لنسف الفلسفة وخصوصا في القرن الثامن عشر بدأت النزعة التجريبية تنسف الفلسفة بلحاظ أن كل معرفة لا تستند إلى التجربة ليست معرفة مضمونة، فكل ما يقوله الفلاسفة ليست مضمونة، فإن ما يقوله الفلاسفة لا يستند إلى الحس والتجربة.

”أصبحت شرعية الكيان الفلسفي - يتكلم بتعبيرات سياسية كأنه يتحدث عن شيء سياسي السيد الصدر - منوطة بنظرية المعرفة“، يعني الآن لما هبّت رياح النزعة التجريبية ووجهت سهامها للفلسفة وقالت بأن هذا ليس بعلم لأن جميع معارفه لا تستند إلى الحس والتجربة لذلك معارفه غير مضمونة، كيف يثبت الآن الكيان الفلسفي شرعيته؟ احتيج حينئذ للبحث عن نظرية المعرفة، نظرية المعرفة هي عبارة عن «متى تكتسب المعلومة قيمة علمية يُعتمد عليها ومتى لا تكتسب؟ هل أن قيمة المعلومات فقط بالحس والتجربة أم هناك طرقاً لتقويم المعلومات غير الحس والتجربة؟» هذا ما يعبر عنه بنظرية المعرفة وهذا الذي سنبحثه فيما يأتي من حلقات - إن شاء الله -.

”أصبحت شرعية الكيان الفلسفي منوطة بنظرية المعرفة، وعلى هذا الأساس رفضت الفلسفة الوضعية «أوقست كونت» هذا الفيلسوف الفرنسي - هو رائد الفلسفة الوضعية في القرن السادس عشر - رفض كل الفلسفة اليونانية على جهة واعتبرها مجرد كلمات فارغة، نعم اعترف بفلسفة العلوم“ نرجع إلى كلمة «الفلسفة» وليس «علم الفلسفة» الذي شرحناه في المحور الأول.

"اعترف بفلسفة العلوم؛ لأن فلسفة العلوم هي دراسة ترتكز على محصول العلوم وتجاربها وتبحث في العلاقات والروابط بين العلوم من أجل الوصول إلى نظريات شاملة لكل علم، بل إن لكل علم فلسفته الخاصة التي تبحث عن هويته وأساليبه وهدفه ومجاله، فكل علم له فلسفة، علم الاجتماع له فلسفة، علم التاريخ له فلسفة، علم السياسة له فلسفة، فلسفته هي الدراسة التي تبحث عن هويته وهدفه ومجاله وأساليبه، فهذه تسمى فلسفه العلوم، فهذا مقبول، أما «علم الفلسفة» الذي بدأ على اليونان فهو بنظر الفلسفة الوضعية مجرد كلمات فارغة زائفة لا معنى لها.

نحن الآن بعد أن عرضنا كلام السيد الصدر، ما هو الفرق بين الفلسفة والعلم بعد أن انفصلا؟ صارت الفلسفة مستقلة وصار العلم شيئاً مستقلاً، فما هو الفرق بينهما؟

الفوارق بين الفلسفة والعلم عديدة:

الفارق الأول: تبين مما مضى وهو اختلاف المجال، فكل علم يبحث عن مجال خاص بينما الفلسفة تبحث عمّا يشمل هذه المجالات كلها وهو الوجود بما هو وجود، لا خصوص موجود معين ولا خصوص ظاهرة معينة.

الفارق الثاني: أن الفلسفة لا تستخدم التجربة أبدا، بل تستخدم البرهان العقلي المحض وهو المعبر عنه بالقياس المنطقي، بينما العلوم الأخرى تسند إلى أداة التجربة حتى العلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع.

الفارق الثالث: أن كل علم لا يهتم بالجوهر فليس له علاقة، تأتي إلى علم الفيزياء فليس له علاقة بجوهر الأشياء بل له علاقة بمظاهر الأشياء وبعوارضها، كذلك علم الفلك وعلم الأحياء تركز على الظواهر التي ينالها الحس، ليس له اهتمام بالجوهر وما هو الشيء الباطني وراء هذه الظواهر، بينما الفلسفة شغلها الشاغل أن تنفذ إلى باطن الوجود لتكتشف الجوهر المحتوى الذي هو وراء تنظيم هذه الظواهر وتنظيم هذه الأعراض.

الخصوصية الرابعة: العلاقة التبادلية بين الفلسفة والعلم.

بعد أن فرقنا بين الفلسفة والعلم، ما هي العلاقة التبادلية بين العلم والفلسفة؟ هل يستفيد كل منهما من الآخر أم لا؟ العلاقة التبادلية البين الفلسفة والعلم.

أما ما يستفيده العلوم من الفلسفة اتضح وشرحناه وقلنا كل علم يبحث عن موضوع معين، أما هذا الموضوع موجود أو غير موجود فإن إثبات وجود موضوع كل علم بيد الفلسفة فهي تتكفل بإثبات وجود الموضوع، من هنا تستفيد العلوم من الفلسفة، أما ماذا تستفيد الفلسفة من العلوم، هنا ذكر العلامة المطهري «قدس» في كتاب «أصول الفلسفة» ماذا تستفيد الفلسفة من العلوم الأخرى؟، قال: ”من أجل فهم ذلك لابد أن نلاحظ الفرق بين الاستنتاج والانتزاع، الاستنتاج هو الانتقال من العام إلى الخاص، الانتزاع هو الانتقال من الخاص إلى العام“ هناك أسلوبان يمارسهما الإنسان من حيث لا يشعر، تارة ينتقل من العام إلى الخاص وتارة من الخاص إلى العام، الانتقال من العام إلى الخاص استنتاج، والانتقال من الخاص إلى العام انتزاع، وهنا أضرب أمثلة:

مثال على الانتقال من العام إلى الخاص «استنتاج»:

عندما نأتي ونقول الإنسان متغير من جنين إلى رضيع إلى طفل إلى شاب إلى كهل إلى شيخ، من فقير إلى غني، من جاهل إلى عالم وما أشبه ذلك من التغير، فالإنسان متغير، هذا خاص، نريد أن نصل إلى نتيجة، «وكل متغير حادث» هذه قاعدة فلسفية، إذن الإنسان حادث.

كيف أثبتنا هذا الخاص «الإنسان حادث؟» أثبتناه بالاستناد إلى قاعدة عامة «كل متغير حادث»، الإنسان متغير و«كل متغير حادث» إذن «الإنسان حادث» فانتقلنا من العام وهي كلمة «كل متغير حادث» إلى الخاص «الإنسان حادث» هذا الانتقال من العام إلى الخاص يُسمى استنتاجاً، وهذا أسلوب.

مثال على الانتقال من الخاص إلى العام «انتزاع»:

عندما نأتي ونحلل شيئاً خاصاً، نحلل نفترض حقيقية النبات «ما هي حقيقة النبات؟ ما هي الخصائص الكيميائية التي يتكون منها النبات؟ ما هي المشتركات بين النبات وغيره؟» عندما ننتقل من هذا الخاص إلى قاعدة عامة وهي «كل موجود ينمو» هذا النمو أخذناه من الخاص «كل موجود ينمو فهو حي» «كل موجود - مثلا - يخضع للهواء والماء فهو مادي» هذه قواعد انتزعناها من دراسة النبات، لما وجدنا النبات ينمو ومع ذلك هو حي عرفنا أن النمو دليل الحياة، لما وجدنا أن النبات يخضع لأمور مادية كالهواء والماء عرفنا أن المادي يخضع لذلك، فانتزعنا من الخاص قواعد عامة، انتزاع العام من الخاص هو المسمى بأسلوب الانتزاع، وهنا تستفيد الفلسفة من العلوم، لأن الفيلسوف لا يركز على الخاص أبدا، دائما يحاول العام، كما ذكرنا في المحور الأول أن الفلسفة من عناصرها التعميم، فالعلوم تقدم للفلاسفة ظواهر خاصة، علم الفيزياء يقدم للفلسفة ظاهرة، علم الكيمياء يقدم للفلسفة ظاهرة، علم الأحياء يقدم للفلسفة ظاهرة، يأتي الفيلسوف يدرس هذه الظواهر، ينتزع منها قواعد عامة.

فالفلسفة تستفيد من العلوم الأخرى في أسلوب الانتزاع، اشتقاق العام من الخاص، هذه علاقات التبادل بين الفلسفة والعلم، أي علم آخر.

المحور الثالث: شرح مجموعة من المصطلحات المرتبطة بعلم الفلسفة.

المصطلح الأول: «الميتافيزيقا».

الميتافيزيقا عند كثير من الناس هو العلم الذي يبحث عمّا وراء الطبيعة، يعني يبحث عن الله عن الروح عن الملك، لأنه علم يبحث عما وراء الطبيعة، وكل علم يبحث عما وراء الطبيعية فهو ميتافيزيقي، هذا التصور غير صحيح، لماذا؟

نشرح المصطلح بدقة، «أرسطو» لما كتب كتابه في الفلسفة بحث ثلاثة أبواب:

  • الباب الأول: العلوم النظرية.
  • الباب الثاني: العلوم العملية «الأخلاق، السياسة، الإدارة» كل هذه العلوم موجودة من السابق لكن ضمن الفلسفة.
  • الباب الثالث: العلوم الإبداعية «الشعر، الخطابة، الجدل».

الرياضيات لم يبحثها أرسطو مع أن أستاذه «أفلاطون» بَحث الرياضيات وهو لم يبحثها بل بحث هذه الأبواب الثلاثة.

نأتي إلى الباب الأول وهو العلوم النظرية، قسمه إلى قسمين: طبيعيات، فهو بدأ بالطبيعيات على طبق المنظومة القديمة، دراسة الفلك وخصائصه وخصائص عالم النبات وعالم الحيوان وعالم الإنسان كلها يدخلونها ضمن الطبيعيات.

بعد أن بحث الطبيعيات بحث أحكام الوجود، متى يكون الشيء موجودا؟ ما هي أقسام الوجود؟ ما هي عوارض الوجود؟ هذه كلها بحثها بعد الطبيعيات.

كلمة «ميتا» تعني بعد، «فيزك» تعني طبيعة، «ميتا فيزقا» تعني ما بعد الطبيعة، لأن أرسطو بحث أحكام الوجود بعد أن بحث الطبيعيات، عبّروا عن أحكام الوجود بأنها علم الميتافيزيقا، فالمراد بعلم الميتافيزيقا هو العلم الذي يبحث عن أحكام الوجود، لا العلم الذي يبحث عمّا وراء عالم المادة وهو الله والروح والإنسان، بل هذا جزء من البحث الميتافيزيقي؛ ولأن أرسطو جعله بعد أن بحث عن الطبيعيات سمي بالميتافيزيقي، ومشى الإطلاق على العلم الذي يبحث عن أحكام الوجود لأن أرسطو بحثه بعد أن بحث عن الطبيعيات.

هنا بعض المفكرين الغربيين قال: «الميتافيزيقا» لا تعني علم الدين، كل علم يبحث في أحكام الوجود سواء دين أو غير دين هو ميتافيزيقا، وبعبارة دقيقة: «الميتافيزيقا» هي التي تجيب عن أسئلة ثلاثة:

 ما هي الخصائص العامة لعالم الوجود؟

لماذا وُجد هذا العالم بهذه الصفات المعينة؟

ما هو موقعنا نحن الإنسان من هذا العالم وكيف نتكيف معه؟

هذه الأسئلة الثلاثة العلم الذي يجيب عنها هو علم الميتافيزيقا، ثم ذكر هنا وقال: إجابتان:

الإجابة الأولى: الميتافيزيقا الديني.

السؤال الأول: ما هي خصائص العالم؟ العالم مجرد ومادي، العالم محدود ومتناهٍ.

السؤال الثاني: لماذا وُجد هذا العالم بهذه الصفات؟ لأن لهذا العالم علّة أزلية هادفة صاحبة إرادة وقدرة نافذة في كل شيء، فلما كان العالم منتجاً لعلة أزلية هادفة صاحبة إرادة وقدرة أصبح العالم هادفا، أي أن هذا العالم وُجد بهذه الصفات لأجل هدف وهو وصوله لكماله.

السؤال الثالث: ما هو موقعنا نحن من هذا العالم؟ موقعنا أن نصل إلى الكمال العقلي والروحي حيث إن العالم يسير نحو الكمال ونحن جزء منه، إذن هدفنا أن نصل إلى الكمال الروحي والعقلي الذي هو الطريق إلى الكمال المادي أيضا.

فنلاحظ أن الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة بالدين وهو جواب الدين، فعلم الميتافيزيقا الديني أجاب عن الأسئلة الثلاثة بهذا الجواب الذي عرضناه.

الإجابة الثانية: علم ميتافيزيقا غير الديني.

عنده أجوبة عن هذه الأسئلة الثلاثة غير أجوبة الدين.

السؤال الأول: ما هي خصائص العالم؟ العالم مادة في إطار الحركة يخضع لقوانين الفيزياء الصارمة، والمادة موجود أزلي ليس له مبدأ، فإن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، هذا هو العالم.

السؤال الثاني: لماذا وجد العالم بهذه الصفات؟ الفلسفة الغربية المادية تقول: السؤال غلط، لأنه يُسأل «لماذا» عن الشيء الذي له بداية يُسأل لماذا انتقل «من» «إلى»، أما إذا ليس له بداية «أزلي» فإنه ليس له معنى أن يقال «لماذا»، كما يقولون في علم النحو «أيٌ كذا خلقت» لماذا «أيٌ» تأتي مضمومة؟ هي هكذا، فإذا سألت عالم النحو لماذا «أي» مضمومة؟ هي أي هكذا عند العرب، هنا أيضا تسأل «لماذا العالم وُجد بهذه الصفات؟» يقول لك العالم أزلي فإذا كان كذلك لم ينتقل من حالة إلى حالة حتى يُسأل «لماذا»، فالسؤال ب «لماذا» سؤال غلط لا نحتاج جوابه.

السؤال الثالث: ما موقعنا من هذا العالم؟ يقول لك بما أن العالم أزلي فهو مركبات معقدة تبرز بين فين وآخر، والبشر هو جزء من هذه المركبات المعقدة فلا هدف لها، مثلما أن العالم مادة، مادة عمياء صماء لا هدف لها، الإنسان كذلك جزء من هذا العالم، إذن لا هدف له وينتهي بموته الجسدي لأنه لا روح له.

إجابتان متضادتان لكن كلتاهما يمثل الميتافيزيقا، هذه إجابة وهذه إجابة لأن كلاً منهما يتصدى للإجابة عن الأسئلة الفطرية الطبيعية لدى الإنسان.

ومقابل هاتين الإجابتين الفلسفة الهندوسية والبوذية التي تقول: لا يوجد عالم، أنت ترى عالم لكنه ليس كذلك، ترى إنساناً وحيواناً ونباتاً ومجموعات شمسية، ولكن هذه كلها صور لحقيقة واحدة أنت تلمسها بوجدانك لكن لا تصل لمحتواها، أنت كل يوم تتعامل مع تلك الحقيقة الواحدة وتَتَلَمَسُها بوجدانك لكن لا تصل لمحتواها وحقيقتها وجوهرها، هذه الحقيقة الواحدة التي أنت تَتَلَمَسُها بوجدانك فترى منها إنسان ومنها نبات، هذه كلها صور وربما تكون زائفة ولا واقعية لها، هذا مقابل تلك الإجابتين.

ومقابل هذه الإجابات الثلاث تأتيك الفلسفة الوضعية «أوقست كونت» الذي قلنا عنه أنه رائد الفلسفة الوضعية الفيلسوف الفرنسي يقول: أن كل هذا العلم - علم الميتافيزيقا - ديني أو غير ديني بفلسفة غربية أو شرقية كله كلمات فارغة ليس لها معنى، لأنه يطرح أسئلة لا معنى لها حتى تُطرح هذه الأسئلة، فليس وراءها معنى ومحتوى حتى تُطرح، لذلك كلها كلمات فارغة من المحتوى - نحن سنأتي في الحلقات الآتية التعرض إلى الفلسفة الوضعية -.

المصطلح الثاني: الديالكتيكية.

هناك في الفلسفة الغربية المنطق المادي والمنطق الديالكتيكي، ما هو الفرق بينهما؟ الديالكتيك هي أيضا كلمة يونانية، «ديالكو» عبارة عن المباحثة والمناظرة، ثم اشتق منها منطق وهذا المنطق تبناه «هيجل» ثم «ماركس» و«إنجلز» تبنوا هذا المنطق وسموه منطق الديالكتيك، وهو عبارة عن أصل الحركة، أن تدرس الأشياء وهي متحركة لا أن تدرس الأشياء وهي ساكنة، أنت مثلا تدرس ظاهرة الكسوف، تأخذ صورة بالكاميرا عن ظاهرة الكسوف هذا معناه أنك تدرس الشيء كأنه ساكن، تأخذ صورة للكسوف وتدرسها، أنت تدرس الشيء كأنه ساكن ليس له حركة، عليك أن تدرس الأشياء في إطار الحركة لأن الأصل هو الحركة، الكسوف حركة تدريجية لها أسبابها ولها نتائجها، فعندما تدرس الأشياء بما هي في إطار الحركة هذا يسمى بالمنطق الديالكتيكي.

شرحنا الفلسفة، خصائص علم الفلسفة، الفرق بين الفلسفة والعلوم الأخرى، العلاقة التبادلية والعلوم الأخرى، شرح بعض المصطلحات.

في الأدبيات الغربية تُقسم الفلسفة إلى ثلاثة أقسام:

أنطولوجيا: وهو علم الوجود، ويسمى بحسب مصطلحنا في الفلسفة الإسلامية «علم الإلهيات» بالمعنى الأعم، لأن عندنا علم الإلهيات بالمعنى الأخص، وهو الذي يبحث عن الله وصفاته وأفعاله، وعندنا إلهيات بالمعنى الأعم، وهو الذي يبحث عن الوجود بصفة عامة لا خصوص وجود الله تبارك وتعالى، أو ما يسمى بالعلم الكلي، هذا في الفلسفة الغربية يُسمى الآن أنطولوجيا «علم الوجود».

بيستمولوجيا: وهو علم «نظرية المعرفة» ونحن سننطلق في الحلقات الآتية من علم الوجود إلى علم نظرية المعرفة.

إيثكس: وهو علم الأخلاق.

رزقنا الله وإياكم الأخلاق وجعلنا من المتخلقين بخلق آل بيت النبي ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.