الدرس 5 | نظرية الانتزاع الذهني للمعرفة عند الملا صدرا

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. [النحل: 78] صدق الله العلي العظيم.

وصل الكلام إلى العقد الإيجابي للنظرية الصدرائية، وخلاصة العقد الإيجابي هو أن القوة المتخيلة التي هي إحدى قوى النفس تلتقط المحسوسات وتصوغ منها صورا وتقوم بإيداعها في قوة الحافظة التي هي خزانة الصور، وهذه هي نظرية انتزاع التصورات الأولية من المعلومات الحضورية الحسيّة، ولكن من أجل توضيح وشرح هذه النظرية في العقد الإيجابي لها نتعرض إلى عدة تفاصيل:

أولا: المدخل إلى هذه النظرية.

إن النظريات - أي الأفكار النظرية - مكتسبة من البديهيات، مثلا: عندما نقول «الموت والحياة نقيضان، والنقيضان لا يجتمعان، إذن الموت والحياة لا يجتمعان» فاكتسبنا معلومة نظرية من معلومة بديهية وهي أن النقيضين لا يجتمعان، فيعود الكلام إلى البديهيات من أين جاءت، فإذا كانت النظريات مكتسبة من البديهيات فمن أين جاءت البديهيات؟ فالقضايا ك «النقيضان لا يجتمعان»، و«لكل سبب مسبب»، و«الكل أعظم من الجزء»، من أين جاءت؟

هل هي حاصلة للنفس ابتداء من دون أي منشئ؟ وهذا منفي بالوجدان حيث إن الإنسان يولد خاليا من أية قضية مرتسمة في ذهنه، وهل أن بعضها حاصل في النفس دون الآخر بحيث يكون هو المصدر وهو الأساس كأن يقال إن قضية «النقيضان لا يجتمعان» هي الحاصلة في النفس منذ البداية، وهي مصدر سائر القضايا، فهذا تحكم لا وجه له؛ لأن القضايا الأخرى في عرضها، فكما أن هناك قضية «النقيضان لا يجتمعان» كذلك هناك قضية «لكل معلول علّة» وهناك قضية «الكل أعظم من الجزء»، فقضايا متعددة وهي في عرض واحد، فلماذا هذه القضية هي الحاصلة وجدانا والباقي منتزع منها؟ وإن قيل إن القضايا البديهية قد حصلت عن كسب أيضا، فهي مكتسبة من قضايا قبلها للزم التسلسل والذهاب إلى ما نهاية، إذ كل قضية مكتسبة من قضية قبلها وهكذا إلى ما لا نهاية بحيث لا تقف عند قضية معينة، فما هو الجواب؟

هذا هو مركز السؤال الملح على أي مدرسة فلسفية، النظريات مكتسبة من البديهيات فما هو منشأ البديهيات؟ هل هو النفس والنفس خالية منها بالوجدان، أم أنها مكتسبة من قضايا أخرى فرجع السؤال إلى القضايا أن يلزم التسلسل إلى ما لا نهاية، وهنا تصدت المدرسة الصدرائية كسائر المدارس الفلسفية للإجابة عن هذا السؤال بأن الخيوط الأولية للمعارف التصورية جاءت عبر نظرية الانتزاع، انتزاع التصورات الأولية من المعلومات الحضورية.

ثانيا: كيف حصل هذا الانتزاع؟

الآن نتحدث عن الخطوات التي يُرى بحسب هذه المدرسة أنها خطوات مرّ عليها قانون الانتزاع فوصل إلى النتيجة وهي «انزاع المعلومات الحصولية من المعلومات الحضورية»، والخطوات هي:

الخطوة الأولى: في الفرق بين العلم الحصولي والعلم الحضوري.

والفرق بين العلمين من جهتين:

الجهة الأولى: العلم الحصولي متقوم بالاثنينية بين المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض، فلو تصور الإنسان صورة الشمس فهناك اثنان، ما هو المعلوم بالذات هو الصورة، وأما الشمس في واقعها الخارجي فهي معلوم بالعرض، فحيث إن لدينا اثنين «معلوم بالذات» وهو الصورة، و«معلوم بالعرض» وهو الواقع الخارجي عبّر عن ذلك بأنه علم حصولي، بمعنى أن الإنسان لم يحصل على العلم بالشمس الخارجية إلا عن طريق حصول صورتها.

بينما المعلوم الحضوري متقوم بالعينية مقابل الاثنينية، أي أن المعلوم بالذات هو نفسه المعلوم الآخر، فلا يوجد اثنان، مثلا: علم الإنسان بإرادته، علم الإنسان بمشاعره، فلا يوجد شيئين، فعلمي بمشاعري هو نفس وجود مشاعري عندي فلا وجود لشيء آخر، فلا واسطة بيني وبين مشاعري، حتى صورة الشمس، فعلمي بالشمس علم حصولي، أما علمي بصورة الشمس هو علم حضوري لأن صورة الشمس حاضرة بنفسها لا بواسطة أخرى، فالعلم بالصورة حضوري، والعلم بذي الصورة حصولي، بين العلم وذي الصورة اثنينية، لكن بين العلم والصورة عينية ولا يوجد اثنينية.

الجهة الثانية: وهي تتفرع على الجهة الأولى في الفرق بين العلم الحصولي والعلم الحضوري هو أن العلم الحضوري لا تتدخل فيه قوة ولا آلة، فلا يحتاج إلى شيء وإنما العالم يدرك واقع المعلوم، فلا يحتاج إلى آلة يستخدما حتى يدرك المعلوم، أما في العلم الحصولي فلا بد من قوة من قوى النفس تتدخل، فإذا أردت أن أعلم شيئا محسوسا أستخدم الحواس، إذا أردت أن أعلم بشيء وجداني عن طريق صورته لا عن طريق ذاته فأستخدم القوة المتخيلة وهكذا، فالعلم الحصولي يحتاج إلى تدخل قوة.

الخطوة الثانية: البيان الإجمالي لقانون الانتزاع.

البيان الإجمالي لقانون الانتزاع يعني أن هناك عناصر ثلاثة يمر بها قانون الانتزاع:

العنصر الأول: القوة المدركة التي عملها التصوير.

عندي قوة مدركة وهي الباصرة «العين الباصرة»، عملها أن تقوم كما تقوم الكاميرا بالتقاط صورة عبر شبكية العين إلى أن تصل هذه الصورة إلى الدماغ، فالقوة المدركة التي عملها التصوير ليس لها وجود مستقل عن النفس بأنها قوة من قوى النفس، فبما انه ليس لها استقلال عن وجود النفس لا يمكن لها أن تتصل بأي شيء إلا إذا اتصلت به النفس، الآن القوة الباصرة متصلة بالكتاب بالمباشرة، لا يمكن للقوة المباشرة أن تتصل بالكتاب ما لم يكن اتصال بين النفس وبين الكتاب لأن القوة الباصرة هي قوة من قوى النفس وقد سبق في الجلسة الماضية قلنا «وفعلها في فعله قد انطوى» ففعل القوة الباصرة هو فعل النفس، رؤية القوة الباصرة هي رؤية من قبل النفس، فلا يمكن للقوة الباصرة أن تتصل بالمحسوس البصري ما لم يكن هناك اتصال وجودي بين النفس وبين ذلك المحسوس.

العنصر الثاني: اتصال القوة الباصرة بالكتاب عن طريق صورة التقطتها ونقلتها إلى الدماغ، ولكن اتصال النفس بالكتاب اتصال حضوري، كيف يكون الكتاب حاضرا عند النفس؟ إرادتي ومشاعري وصور ذهني حاضرة عندي فهذا معقول، أما هذه الأشياء الخارجية حاضرة لدى النفس بحيث يكون ميل النفس لها ميلا حضوريا، كيف يكون هذا؟ وهو هذا ما يريد البحث أن يكفل به، وهو أن هناك علما حضوريا وصلة حضورية بين النفس وبين المدركات.

العنصر الثالث: القوة المدركة التي تُسمى بالقوة المتخيلة هي التي تُبدل الاتصال الحضوري باتصال حصولي، فالنفس أدركت الكتاب إدراكا حضوريا، وجاءت القوة المتخيلة وأبدلت هذا الاتصال الحضوري بين النفس وبين الكتاب فحولته إلى اتصال حصولي أي حولته إلى صورة مرتسمة في أفق قوة تسمى بالحافظة، وهذا هو جوهر الفرق بين المدرسة الصدرائية والمدارس الأخرى حيث يقع هنا، فهناك اتصال من النفس بالأشياء اتصالا حضوريا، وعند النفس قوة متخيلة تستخدمها النفس وتحول هذا الاتصال الحضوري إلى اتصال حصولي، يعين تنتقش منه صورة وتنزع منه صورة.

هذا البيان الإجمالي لقانون الانتزاع، ونأتي إلى الخطوة الثالثة وهو البيان التفصيلي لقانون الانتزاع.

الخطوة الثالثة: البيان التفصيلي لقانون الانتزاع.

لقانون الانتزاع عدّة عناصر:

العنصر الأول: حقيقة الذهن.

ليس لدينا مكان أو رف داخل النفس نسميه «الذهن»، الذهن هو نفس الصور وليس شيئا آخر، فقبل وجود الصور لا يوجد شيء اسمه «ذهن»، فالطفل يولد ولا ذهن له لأنه ليس له صور بعد، ولذلك عالم الذهن هو صور الأشياء المرتسمة لدى النفس، فإذا لم يكن لدى النفس صورة فليس لديها ذهن، فالإنسان فاقد للذهن ابتداء، ثم تعدُّ له الصور التدريجية ذهنا فيصبح عنده ذهن.

العنصر الثاني: أحيانا شيء واحد تعلم به علمين - حصولي وحضوري - في نفس الوقت، فعلم الإنسان بذاته وعلم الإنسان بأفكاره وعلم الإنسان بمشاعره هو نوعان من العلم، فهو علم حضوري وكذلك هو علم حصولي فلابد من التمييز بينهما، علم الإنسان بنفسه لا ينفك إذا نظرنا إلى العلم الحضوري، فمنذ أن يكون الإنسان نفسا فهو عنده علم حضوري؛ لان العلم الحضوري هو عبارة عن حضور المعلوم عند العالم والنفس حاضرة عند النفس منذ أن كان الإنسان نفسا، فالعلم الحضوري موجود منذ البداية ولا يحتاج إلى واسطة ولا يحتاج إلى قوة، يولد الطفل ولديه لذة بقرب أمه منه، ولديه ألم إذا غابت أمه عنه وهذا كل علم حضوري، الطفل يبدأ يشعر بشيء اسمه «أم» فتأتي القوة المتخيلة فترسم صورة في ذهنه عن الأم، كذلك نفس الطفل فإنه يدرك نفسه ابتداء بالعلم الحضوري، لكن عندما يقول «من أنا؟» تبدأ القوة المتخيلة تنقش صورة عن نفسه فيكون علمه بنفسه مضافا للعلم الحضوري علما حصوليا أي عن طريق رسم صورة في نفسه.

ولذلك يترتب على هذا البيان أن الشك واليقين والتصور والتصديق والخطأ والصواب والحفظ والنسيان والالتفات والغفلة والتفكير والتعقل والاستدلال كلها شؤون العلم الحصولي، فلو لم تكن هناك صورة في الذهن لما أتت هذه المعاني كلها، كيف أعرف أن عندي شك أو يقين؟ إذا كان عندي صورة في ذهني، هل أنا متيقن بصحتها أو شاك فيها؟ كيف يكون عندي تصور وتصديق؟ هو فرع وجود صورة في ذهني، فإما أن يكون لي موقف منها فيكون تصديقا أو لا موقف فيكون تصورا، كيف يكون عندي حفظ ونسيان؟ كلّه لأن عندي صورة، فتارة تكون حاضرة وتارة تكون غائبة، وكذلك التفكير والتعقل والاستدلال كله أحوال وشؤون متفرعة على العلم الحصولي وإلا العلم الحضوري دائما حاضر ودائما صواب، ودائما يقين، ودائما ساكن، فلا يحتاج إلى هذه الأحوال كلها، بينما نفس الألم ونفس الفرح ونفس الغضب هي من شؤون العلم الحضوري.

العنصر الثالث: قلنا عند عرض البيان الإجمالي لقانون الانتزاع أن ملاك الحضوري الاتصال الوجودي بين النفس وبين المدركات، وهنا يأتي سؤالان أساسيان:

السؤال الأول: ما هو لون هذا الاتصال بين النفس وبين المدركات الأخرى سواء كانت مبصرات أم مسموعات أم ملموسات أم وجدانيات؟

السؤال الثاني: ما هو الشرط الذي لابد من تحققه حتى يُصبح هذا الاتصال بين النفس وبين المدركات علما حضوريا؟

نأتي للإجابة عن هذين السؤالين فنقول:

العلامة السيد الطباطبائي «قدس» والعلامة المطهري «قدس» في كتاب «أصول الفلسفة» «» تعرضا إلى قاعدة وهي: «ما هي ألوان الارتباط بين شيء وشيء؟» فقالوا أن الارتباط على أربعة ألوان:

الارتباط الأول: الارتباط المكاني.

أنا في مكان وأنت في المكان، فنحن كلانا في مكان واحد، فهل الارتباط المكاني يحقق علما حضوريا؟ هل الارتباط يحقق أن يكون أحد الحاضرين حاضرا لدى الآخر بلا واسطة بينهما أم لا؟ فيقول: مستحيل، حتى لو التصق شيئان

أنا أنطونيو وأنطونيو أنا
نحن  روحان حللنا iiبدنا
من  رآنا  لم يفرق iiبيننا

حتى لو كان بينهما تمام الالتصاق وتمام المماسة فمن المستحيل أن يتحول علم أحدهما بالآخر علما حضوريا، فمن المستحيل أن يكون أحدهما حاضرا لدى الآخر بلا واسطة، فمادام كلٌّ منهما مكاني إذن كلٌّ منهما يشغل حيزا من الفضاء، وبما أن كلًّا منهما يشغل حيزا من الفضاء فمن المستحيل أن يجتمع الشيئان ويحتلان معا فضاء واحدا، وهذا خلف كونهما شيئين، فما دمت تقول عنهما شيئين إذن لكل منهما فضاء، فمن المستحيل أن يشغلا فضاء واحدا، هو لهذا وحده وهو لهذا وحده.

إذا كان مستحيلا فحتى الشيء الواحد كالجسد نفترضه شيئا واحدا، فكل جزئ منه يحتل جزءا من الفضاء ولا تجتمع في فضاء واحد بالضرورة، مقتضى الأبعاد والامتدادات أن لكل جزء فضاء.

النتيجة - ولاحظ هذه العبارة الدقيقة - كون الشيء مكانيا هو مناط احتجابه وليس مناط اكتشافه. فكونه في فضاء هو حاجب وليس كاشفا؛ لأنه بمجرد أن يكون في الفضاء صار هذا البعد حاجزا بيني وبينه.

إذن خلصنا إلى أن الارتباط المكاني لا يُفيدنا في تحقيق العلم الحضوري - فنحن نبحث عن السؤال الثاني الذي طرحناه في معرفة الشرط في تحويل الاتصال إلى علم حضوري - ولذا هو لا يصلح أن يكون شرطا.

الارتباط الثاني: الارتباط التفاعلي.

وهو بين القلب والدماغ، فالقلب مضخة دم والدماغ يرسل إشارات وأوامر إلى أعصاب الجسم وخلاياه، فبين القلب والدماغ ارتباط تفاعلي، فكل منهما يحتاج إلى الآخر، وكذا بين الزهرة والنحلة، فالنحلة قد تُلقح الزهرة لكنها تعتمد أيضا على رحيق الزهرة، فنبيهما ارتباط تفاعلي، إلا أن الارتباط التفاعلي لا يقتضي علم أحدهما بالآخر علما حضوريا، فيعني ذلك أنه لا واسطة بينهما، فغايته أن كلًّا منهما يعلم بالآخر في مادة التفاعل، فالزهرة تعلم بالنحلة في مادة التفاعل، والنحلة تعلم بالزهرة في مادة التفاعل لا أكثر من ذلك.

الارتباط الثالث: الارتباط المسببي «المعلولي».

ذكر في الفلسفة هذه القاعدة «المعلول عين الربط بالعلة وليس شيئا له الربط» أي أن هناك فرقا بين علاقة القلب بالدماغ، وعلاقة حرارة النار بالنار، فعلاقة القلب بالدماغ شيء له الارتباط، فالقلب شيء والدماغ شيء وبينهما ارتباط، أما علاقة الحرارة بالنار فالحرارة ليست شيئا له ارتباط بالنار بل هي عين الربط بالنار؛ لأنه لو فقدت النار لم تُوجد حرارة، فشيئية الحرارة متقومة بالنار، فبما أن شيئية الحرارة متقومة بالنار فالحرارة بالنسبة للنار ليس شيئا له الربط بل هو ذات الربط، فالحرارة كامنة في النار، فالنار طاقة حرارية والحرارة كامنة في النار والنار تفرزها، فليس للحرارة وجود وراء ربطها بالنار، وليس للضوء شيئية وراء ارتباطه بالطاقة الكهربائية، وليس لجميع المخلوقات وجميع الممكنات شيئية وراء ارتباطها بالمبدأ الأعلى «جل وعلا»، والمعلول عين الربط بالعلة وليس شيئا له الربط بالعلة.

لذلك هنا سوف يتحقق العلم الحضوري لكن من جانب واحد، فالعلة واجدة للمعلول لأن المعلول حاضر لديها بنفسه، إذ المعلول لا شيئية له إلا بربطه بالعلة، فالمعلول حاضر لدى العلة، فعلم العلة به علم حضوري لكن العلة مستغنية عن المعلول ولا يتوقف وجودها على وجود المعلول، فالمعلول من جهته عين الحضور لدى العلة وليس العكس.

الارتباط الرابع: الارتباط الجمعي الإحاطي.

أضرب له أمثلة حسية وإن كانت ليست مثالا دقيقا لكنها تقريبية:

مثال: «إحاطة ماء البحر بماء البئر»، فشخص يفتح ماء البئر على البحر فيحيط ماء البحر بماء البئر وينفذ بين أجزاء البئر ويستولي عليه ويسيطر عليه، فارتباط ماء البحر بماء البئر ارتباط جمعي إحاطي، فهو جمعه وأحاط به وسيطر عليه.

مثال آخر: «إحاطة النار الكبيرة بالنار الصغيرة»، كيف أن النار تلتهمها وتحولها إلى شيء يفنى فيها ويضمحل ولا يبقى له وجود، فهذا ارتباط جمعي إحاطي.

من هنا نقول أن هذا مدّعى المدرسة الصدرائية من أن النفس البشرية ترتبط بالأشياء المدركة بالارتباط الجمعي الإحاطي، فهي تحيط بالأشياء المدركة وتسيطر عليها، فارتباط النفس بالأشياء المدركة ارتباط جمعي إحاطي.

يقول في كتاب «أصول الفلسفة» «»: ”كل موجود لا يتصف بالأبعاد المكانية والزمانية فهو خالٍ من الامتدادات والفواصل“، فبما أنه لا يتصف بالأبعاد الزمانية ولا مكانية إذن هو خالٍ من الامتدادات والفواصل التي هي مناط التفرق والغيبة، فالفواصل والامتدادات هي التي تفرق بين الأشياء وتجعل شيئا غائبا عن شيء، فأي شيء يتخلى عن الامتدادات والفواصل سوف يتخلى عن الغيبة والتفرق، وسوف يكون متصلا بالأشياء وحاضرا عندها؛ لأنه ليس بينه وبين الأشياء أي فواصل أو امتدادات، ف ”وجوده قطعا ليس مخفيا عن نفسه“، فوجوده ليس له امتدادات فوجوده حاضر عند نفسه، ”وكذا وجود ما هو متصل به من أفعاله كالسمع والبصر واللمس والحب والبغض والإرادة“ فليس بين النفس وبين أفعالها أي تواصل، وأي امتدادات، ولذلك هي محيطة بأفعالها ومسيطرة عليها، أفعالها فانية فيها «وفعلها في فعله قد انطوى»، فاتصال النفس بأفعالها اتصال جمعي إحاطي وهي عبارة عن سيطرة النفس على أفعالها وخواطرها وأفكارها.

وبعبارة أخرى، ملاك العلم الحضوري أن لا تكون حقيقة المعلوم محتجبة عن العالم ولا يتحقق هذا الأمر - عدم الاحتجاب - إلا إذا انعدمت الأبعاد والامتدادات المكانية والزمانية، فليس هناك أي أبعاد وامتدادات بين العالِم والمعلوم، وهناك يكون الاتصال جمعيا إحاطيا، كعلم النفس بذاتها وبما يتعلق بذاتها كأحوالها وآثارها.

هناك بحث في كتاب «فلسفتنا» وفي كتاب «أصول الفلسفة» مفصل وهو بحث «تجرد النفس» إثبات أن النفس وجود مجرد؛ لأن الوجود الذي ليس له فواصل ولا امتدادات ولا أبعاد زمانية ولا مكانية هو الوجود المجرد عن عالم المادة، فلابد أن يفترض أن النفس مجردة عن عالم المادة حتى نفترض أن لا أبعاد لها، فلا زمانية ولا مكانية ولا فواصل ولا امتدادات فلذلك وجودها واتصالها بالأشياء اتصال جمعي إحاطي.

يذكر في كتاب «أصول الفلسفة» «» جملة ترتبط بتجرد النفس - الآن نحن لا نريد أن نقيم البرهان على تجرد النفس فذاك بحث مستقل - وهي: ”النفس تُدرك العالم بأجزائه كلٌّ في مكانه“، فأنا أدرك الشمس وأدرك أمي، أُردك المسجد وأُدرك صديقي، كل شيء في مكانه، وبين هذه الأشياء التي أدركتها فواصل مكانية، وبين بعضهما فواصل زمانية كما أدرك في آن واحد ما حصل قبل سنة وما حصل قبل يوم مع أن بينهما فواصل زمانية، فكيف يتأتى للنفس أن تُدرك شيئين في آن واحد بينهما فواصل مكانية؟ وأن تدرك شيئين في آن واحد بينهما فواصل زمانية؟ فلو كانت النفس وجودا مكانيا - أي مؤطرة بفضاء - لم تُدرك ما كان بين المكانيين فواصل وامتدادات، ولو كان النفس وجودا زمانيا لم تدرك إلا ما كان في زمانها، لم تُدرك شيئين بينهما فواصل زمانية، وهذا أثر من آثار تجرد النفس، وأن النفس ليست مقيدة بقيد زماني ولا بقيد مكاني ولذلك تُدرك ما ليس في الزمان والمكان كالله «تبارك وتعالى»، وتُدرك ما كان بينهما فواصل مكانية وهي واحدة، وتُدرك ما كان بينهما فواصل زمانية.

النتيجة: أن النفس لها ثلاثة ألوان من العلم الحضوري، علم النفس بذاتها، علم النفس بأفعالها، علم النفس بقواها ووسائلها التي تستخدمها، فإن هذه الأشياء حاضرة لديها دون فواصل أو أبعاد أو امتدادات، لذلك علمها بها علم حضوري.

الخطوة الرابعة: ما هي كيفية انتزاع الصورة من المعلومات الحضورية؟ كيفية انتزاع القوة المتخيلة للصور من المعلومات الحضورية؟

قال هنا مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: الفعل.

ذبذبات الصوت تصل إلى الدماغ، وهذا فعل، كذا جزئيات الحرارة فعندما ألمس شيئا حارا فإن جزئيات الحرارة تنفذ وتصل إلى الدماغ وهذا فعل، الصورة التي ترتسم على شبكية العين تصل إلى الدماغ وهذا فعل.

المرحلة الثانية: الانفعال.

القوة التي تملكها النفس تنفعل بهذه الأفعال، فهناك قوة تنفعل بالصوت، وتنفعل بالحرارة، وتنفعل بالصور.

المرحلة الثالثة: فعالية جهاز الإدراك.

جاء جهاز الإدراك بعد المرور بعملية الفعل والانفعال وقام بأعمال متنوعة والتي منها إعداد الصور وحفظها وتذكرها وتجريدها وتعميمها والمقارنة بينها وتركيبها وتحليلها والاستدلال بها والحكم عليها، فكل هذه الألوان والأنشطة التي يقوم بها جهاز الإدراك هو فرع مرور النفس بمرحلة الفعل والانفعال.

لكن ما هو أول نشاط يقوم به جهاز الإدراك؟ أول نشاط هو عبارة عن عمل القوة المتخيلة التي تقوم هذه القوة بإعداد الصور إلى النفس ثم تنقلها إلى الحافظة.

الخلاصة: أننا نعلم بأنفسنا وقوانا وأجهزة إدراكنا وأفعالنا الإرادية علما حضوريا وهذا واضح باعتبار أنه ليس بيننا وبين هذه الأشياء فواصل وامتدادات، وأما المحسوسات - وهذه لابد منها حتى تتم النظرية - موجودة بواقعها في الحواس لا بصورة، أي أن علم الحواس بالمحسوسات هو علم حضوري لا عبر صورة، فوصول الذبذات إلى تلك النقطة من الدماغ هو علم حضوري لا حصولي، فوصول جزئيات الحرارة إلى الجزء المعين من الدماغ هو علم حضوري لا علما حصوليا فهي بنفسها وُجدت عند الجزء المختص بالإمساك بها والإحاطة بها ونيلها.

”وحيث إن العلم الحضوري حضور المعلوم بنفسه لدى العالم فالآثار الحسية حاضرة بنفسها لدى الحواس بدون واسطة بينهما، وحيث إن الحواس حاضرة بنفسها لدى النفس“ فالمحسوسات حاضرة بنفسها لدى الحواس - سواء كانت حواسا خارجية أو داخلية - فالحزن والفرح حاضر بنفسه لدى الوجدانات والمشاعر، ”وحيث إن الآثار حاشرة بنفسها لدة الحواس، والحواس حاضرة بنفسها لدى النفس“ لماذا؟ لأن مقتضى الوجود المجرد أن تكون نسبة النفس لهذه المحسوسات التي حضرت عند الحواس نسبة النفس لهذه المحسوسات نسبة الوجود الجمعي الإحاطي.

ولابد من الالتفات إلى أن العلم الحضوري لا يستطيع بنفسه أن يولد علما حصوليا، فالآن هذا كله علم حضوري، فهي آثار حسية حضرت عند الحواس، والنفس محيطة بالحواس إحاطة جمعية حضورية لكن كيف صار العلم الحصولي؟ فالعلم الحضوري لا يستطيع أن يُولد بنفسه علما حصوليا فلابد أن نمد أيدينا إلى مجال آخر وهو تلك القوة - القوة المتخيلة - التي تسلطت على الظواهر الحسية فأدركت هذه المعلومات الحضورية، فالقوة المتخيلة تُدرك المحسوسات إدراكا حضوريا، وتدرك النسب بينهما لأنها مظهر وقوة من قوى النفس فتقوم بانتزاع صور من هذه المحسوسات وتنقلها إلى الحافظة وبذلك يثبت أن الخيوط الأولية لأول تصورات حصلت في النفس جاءت عن طريق القوة المتخيلة، فالقوة المتخيلة جاءت من معلومات حضورية، فجميع المعلومات الحصولية تعود إلى معلومات حضورية.

إذن خلاصة نظرية هذه المدرسة بأن وظيفة القوى - قوى النفس - هي نيل المدركات نيلا حضوريا، وبما أن النفس محيطة بهذه القوى بل فعلها فعلها لذلك المعلومات الحضورية لدى القوى هي معلومات حضورية لدى النفس، وإنما تنتقش الصور ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا لا تعلمون شيئا بالعلوم الحصولي لا بالعلم الحضوري، بل العلوم الحضوري موجود ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فقامت القوة المتخيلة ورسمت صورا من هذه المعلومات الحضورية.

هذه خلاصة نظرية الانتزاع بحسب شرح العلامة الطباطبائي والشيخ المطهري «قدس سرهما» لكلام الملا صدرا الشيرازي، وفيما يأتي سأعرض بيانا آخر للسيد الشهيد محمد باقر الصدر في تحليل نظرية الانتزاع يزيد عن هذا البيان ببعض التدقيقات والشواهد وإلا لب البيان والجوهر معناه واحد.

والحمد لله رب العالمين