1442-02-28

هل ختم النبوة ألغى دور الدين في الحياة؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40]

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث حول» ختم النبوة»، وهنا سؤالان:

السؤال الأول: ماهو الفرق بين ختم الدين وختم النبوة؟

السؤال الثاني: هل أن ختم النبوة يعني نقصاً في المجتمع البشري أو كمالاً في المجتمع البشري؟

عندما نأتي إلى السؤال الأول نقول:

الذي يتصف بالفتح والختم هو النبوة، أما الدين فلا يتصف بالفتح والختم؛ لأن الدين منذ الأزل كامل، ولم يمر على الدين فترة نقص ثم أُكْمِل أو فترة افتتاح ثم خُتِم، الدين منذ أن خلق الله المجتمع البشري شَرَعَ ديناً متكاملاً للمجتمع البشر؛ ولكنه جعله على مراحل، ففي مجال التبليغ لم يبلغ دفع واحدة وإنما على مراحل حسب اختلاف الأنبياء واختلاف الرسل واختلاف الظروف ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13]، ولذلك فإن قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] لا يُقصد به أن الدين كان ناقصاً وأنني اليوم أكملته وإنما المقصود هو مجال التبليغ، اليوم أكملت تبليغ الدين بَأن عينت لكم المصدر المضمون الذي ترجعون إليه في معرفة الدين، «ألا فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والي من والاه وعادي من عاداه»، فالنبوة هي التي تتصف بالفتح والختم، فُتحت وَخُتمت، فماذا يعني ختم النبوة؟

عندما نأتي إلى السؤال الثاني نقول:

هل أن انقطاع النبوة بعد النبي’ يعني نقصا في المجتمع البشري؟ بمعنى أن المجتمع البشري قد انحط مستواه إلى حد لا يستحق نبيا؟ أو أن المجتمع البشري قد تضاءل مستواه إلى حد أنه لا يقدر إلى انجاب نبي وظهور نبي أم لا؟ أم أن ختم النبوة كمال يعني كمال، بمعنى أن المجتمع البشري قد استغنى عن الأنبياء والرسل، ولذلك انتهت النبوة بنبوة النبي’؟ أم أن ختم النبوة لا يعني هذا ولا هذا بل يعني شيئا آخر وراء ذلك؟

هذا ما سنتحدث عنه خلال المحورين الآتين.

تتنوع الاتجاهات في تفسير ختم النبوة، وهل أن اختتام النبوة يعني إلغاء الدين وعدم الحاجة إليه أم لا، ولتوضيح الجواب قسمناه إلى عدة محاور:

المحور الأول: ما معنى ختم النبوة؟ وما معنى ﴿ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40]؟

هنا ثلاث نظريات:

النظرية الأولى: ختم النبوة بمعنى ختم الوحي، بمعنى انقطاع الوحي برحيل النبي ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى: 51] ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]، فانقطع الوحي وانقضى بوفاة النبي .

النظرية الثانية: معنى ختم النبوة هو ختم الشريعة، مضت على المجتمع البشري عدّة شرائع كما قال الله تعالى ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48]، إذن مرت على البشرية عدة شرائع وآخر شريعة هي شريعة النبي محمد ولا شريعة بعدها.

النظرية الثالثة: وهي التي نسلط الضوء عليها، ختم النبوة معناه عدم حاجة البشرية إلى الأنبياء، وهذه النظرية طرحها محمد إقبال اللاهوري المفكر الهندي في كتابه ”تجديد الفكر الديني“، وقال معنى ختم النبوة بمعنى أن لا حاجة إلى أنبياء ولا حاجة إلى دين بعد نبوة النبي ومن أجل توضيح هذه النظرية نذكر عدة عناصر:

العنصر الأول: المفكر الفرنسي هنري بيركسون لديه نظريه وهي أن الحياة طبيعة خلاقة، ومعنى أن الحياة طبيعة خلاقة هو أن الحياة بطريقة ديناميكية تنقل المجتمع البشري من مرحلة إلى مرحلة، ولذلك يلاحظ الانسان أن المجتمع البشري في كل مئة سنة أو مئتي سنة يتغير إلى نمط آخر في حياته، وهذه النظرية استفاد منها إقبال اللاهوري وقال أن المجتمع البشري مر بمرحلتين، مرحلة الغريزة ومرحلة العقل الاستقرائي، وأن المجتمع البشري من يوم آدم إلى يوم النبي كان مجتمع غريزي  يعني مجتمع منطلقاته غريزية وقضاياه ما ورائية ظهرت فيه التمايزات بالألوان والأعراق وبالطبقات الاجتماعية أحرار وعبيد، ذكور وإناث، قبائل شريفة وقبائل وضيعة  وكل هذه التقسيمات ظهرت في مجتمع غريزي ينطلق في أحكامه وقراراته من خلال عواطفه ومن خلال غرائزه ولذلك يقدس الأعراف والعادات ويقدس التمايزات الطبيقية واللونية، يثق بالقضايا الماورائية وهي القضايا التي ليس لها تفسير ومنطق علمي، يقبلها ويصدق بها مثل السحر والشعوذة، ثم انتقل المجتمع البشري من مرحلة الغريزة إلى مرحلة العقل الاستقرائي ومعناها أن المجتمع أصبح لا يؤمن بقضية إلا إذا خضع لمنطق التجربة، ومن خلال استقراء الظواهر التاريخية حتى يستلهم منها التجربة ويبني حياته عليها.

متى آمن المجتمع بالأنبياء؟

يقول اللاهوري أن المجتمع آمن بالأنبياء عندما كان مجتمعا غريزيا، يثق بالأنبياء ويصدق بمعاجزهم وكراماتهم ويعتمد على أنباءهم الماروائية على تفسيراتهم للقضايا والظواهر، ولكن عندما تحول إلى مجتمع يعتمد على المنطق الاستقرائي أصبح لا يؤمن بالأنبياء ولا يثق بمعاجزهم وكراماتهم؛ لأنها لا تخضع لمنطق التجربة ولا لمنطق علمي، لذلك انقرضت ظاهرة النبوة بانقراض العصر الغريزي، وانتهت مع مجيء العصر العقلاني الذي يعتمد على العقل الاستقرائي.

العنصر الثاني: يقول إذا أردنا أن ندرس أي ظاهرة لابد أن ندرسها من خلال أسبابها فإن كل ظاهرة إنما تعرف حقيقتها من خلال أسبابها، وإذا عرفت حقيقتها استطعنا أن نعرف هل هذه الظاهرة تقبل الاستمرار أو لا تقبل، مثال عليه: المجتمع الذي يعشق الأدب تنمو فيه الظواهر الأدبية وتنجح، والمجتمع الذي يعشق البطولة والفروسية تنمو فيه الظواهر الفروسية وتنجح وتبرز لأن المجتمع ينميها، فالظروف الاجتماعية دخيله جداً في معرفة الظاهرة التي تحدث منسجمة مع أسبابها الاجتماعية، ولذلك عندما نأتي للنبوة نرى أن النبوة ظاهرة نشأت في أحضان مجتمعات غريزية لذلك نجحت وصدقوا بها لأنها تعتمد على منطق ماورائي ومنطق غريزي، ومنطق أن النبي يقول هكذا رأيت وهكذا انكشف لي وهكذا وصلني ولا يُطَالب بالدليل والبرهان؛ لأن منطقه منطق غريزي ومنطق ماورائي فهو ينسجم مع المجتمع الذي يعيش فيه، ولكن عندما تبدّل المجتمع فمن الطبيعي أن تنقطع ظاهرة النبوة ولا تقبل الاستمرار.

العنصر الثالث: الفيلسوف الألماني شبنغيلر لديه كتاب ”انحطاط الغرب“ ويقول في هذا الكتاب أن فكرة المنقذ المنتظر هي فكرة مجوسية، فالدين المجوسي يؤمن بإلهين إله الخير وإله الشر، ويؤمن بأن إله الشر سيبقى مسيطراً على العالم لآلاف السنين، ثم يتغلب عليه إله الخير وينتصر، لذلك المجتمع المجوسي ينتظر ذلك اليوم - يوم انتصار إله الخير على إله الشر - وهذه الفكرة سرت إلى الأديان الأخرى كالدين اليهودي والدين المسيحي والدين الإسلامي بانتظار المهدي «عج»، وأن هذه الفكرة نشأت من أحضان المجوسية، وعليها إقبال اللاهوري يقول آن للمسلمين أن يتحرروا من فكرة الانتظار وأن يعتمدوا على العقل الاستقرائي في بناء حضارتهم وفي قيادة حياتهم لأن النبوة انتهت وانقرضت.

العنصر الرابع: أن النبي محمد عاش نهاية عصر وبداية عصر، نهاية العصر الغريزي وبداية العصر العقلاني، لذلك أدرك النبي أن عصره انتهى لأن العصر الذي يؤمن به هو العصر الغريزي وقد شارف على الانتهاء، فلما أدرك النبي ذلك هو بنفسه ألغى نبوته ونسخها، وهو بنفسه أبان أن ظاهرة النبوة هو آخرها وسوف تنتهي، وكان قرار إلغاء النبوة لإدراكه أن المجتمع البشري بعده لن يؤمن بهذه الظاهرة فقال للإمام علي «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ونزلت هذه الأية ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40].

المحور الثاني: وهو مناقشة نظرية اللاهوري من خلال الإجابة عن هذا السؤال: هل أن اختتام النبوة يعني إلغاء الدين وعدم الحاجة إليه وأن الحضارة تقوم على منطق العقل الاستقرائي فقط بلا حاجة إلى الدين والنبوة والرسالة؟

وهنا نذكر عدة ملاحظات على النظرية:

الملاحظة الأولى: هناك خلل منهجي في هذه النظرية من زاويتين:

الزاوية الأولى:

أن هذه النظرية تقول بأن الظاهرة تُدرس من خلال أسبابها، وإذا عرفت أسبابها فقد عرفت حقيقتها، وإذا عرفت حقيقتها أمكنك أن تحكم عليها بالاستمرار أو الانقراض. والجواب عليه هو أن كل ظاهرة يمكن دراستها من خلال أسبابها ويمكن دراستها من خلال أهدافها وغاياتها، فإذا أردت أن تقرأ علم الاجتماع لابد أن تقرأه من الزاويتين، مثال: اليوم في المجتمعات الإنسانية كلها تطرح فكرة العلمنة وأن الحل الوحيد للمجتمعات هو النظام العلماني والنظام الليبرالي، وهذه الفكرة بدأت تنمو فأصبحت ظاهرة وهذه الظاهرة لها أسباب وأهداف، وإذا جئت تدرسها من خلال أسبابها ترى أن أهم أسبابها هو ضعف الإعلام الديني، فالمسلمون لا يملكون إعلاماً والعالم يحتاج إلى إعلام يخاطب العالم بلغة العالم وبثقافة العالم، ومازال المسلمون متخلفون في الإعلام الديني الذي يطرح الدين وهوية الدين بلغة عالمية يفهمها العالم ويتقبلها، وهذا الضعف ساهم في انتشار فكرة العلمنة، التي هدفها هو عزل الدين عن الحياة حتى يتقوقع الدين في المحراب وفي الطقوس، ولايبقى له حيوية وفاعليه في حياة المجتمع، ولكي يعزل الدين عن الحياة تُنشر هذه الفكرة وتبلور وتروج.

إذن لا نستطيع أن نعرف حقيقة أي ظاهرة إلا من خلال أهدافها وغاياتها، أما أسبابها فهي مجرد عوامل وظروف ساهمت في وجودها وفي ولادتها، وأما حقيقتها فهي منوطة بمعرفة أهدافها وغاياتها، ولذلك من خلال غاياتها وأهدافها تستطيع ان تحكم عليها بالاستمرار والبقاء.

ومن هنا نأتي لظاهرة النبوة فالنبوة ظاهرة من يوم آدم إلى يوم النبي ، فإذا اعتبرنا النبوة ظاهرة إلهيه سماوية، وأن النبوة فعل إلهي فالله موحِي والنبي موحَى إليه والنظام الموحى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52] وبما أنها فعل إلهي والفعل الإلهي  في إطار الحكمة لا يوجد فعل إلهي ليس له هدف أو حكمة  يقول تبارك وتعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] فالهدف من النبوة هو إقامة الحضارة العادلة وإقامة الأمة الأخوية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وأن النبوة حقيقتها بأهدافها وأهدافها قابلة للاستمرار والبقاء لإقامة الحضارة العادلة وإقامة الحضارة المتعاونة ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] وإذا اعتبرنا أن النبوة ظاهرة اجتماعية بالنتيجة هي ظاهرة إبداعية وتكشف عن نبوغ وعبقرية يحملها صاحب هذه الراية المعبر عنها بالنبوة.

الزاوية الثاني للخلل المنهجي في هذه النظرية نراها في السؤالين:

السؤال الأول: هل أن ظاهرة النبوة قابلة للاستمرار أم لا؟

السؤال الثاني: لماذا انقطعت النبوة بالنبي محمد ؟

1. عندما ننظر إلى السؤال الأول ينبغي أن ينصب البحث على حقيقة النبوة وأهدافها، وأن حقيقة انقطاع النبوة بالنبي في بحث ما طرحه صاحب النظرية أن المجتمع غريزي وأن النبي كان في نهاية العصر الغريزي وبداية العصر العقلاني فهذا جواب على السؤال الثاني وليس جواباً على السؤال الأول ولذلك يبرز الخلل المنهجي في النظرية من خلال هذه الزاوية فالملاحظة الأولى منهجية.

2. الملاحظة الثانية عندما يقال أن المجتمع البشري من يوم آدم إلى يوم النبي هو مجتمع غريزي فهذا إلغاء للحضارات البشرية وجناية على المجتمع البشري، فالمجتمع البشري عاش حضارة يونانية وحضارة فارسية وحضارة رومانية وغيرها من الحضارات التي بقيت بصماتها الفكرية إلى يومنا هذا ولم تكن حضارات أحجار وبنيان، بل كانت حضارات فكرية مثل الحضارة اليونانية التي خلفت فكراً وأعطت المجتمع البشري إبداعاً وإلى الأن تعتمد الفلسفة الغربية والشرقية وتدين للفلسفة اليونانية التي كانت قبل ثلاثة آلاف سنة، أيضاً أدب وشعر الحضارة الفارسية من قبل ميلاد المسيح تجدها حضارة مملوءة بالفكر وبالإبداع ومملوءة بالعمق.

إذن تجاهل الحضارات واختصار المجتمع البشري في أنه كان مجتمعا غريزيا ولذلك آمن بالأنبياء والرسل يعتبر تجني على المجتمعات البشرية، والنبي لم يبعث لمجموعة من البداة يعيشون تحت الخيام وبين الجمال والغنم، حتى يقال أن المجتمع غريزي وأتى إليهم انسان غريزي لا بل النبي بعث إلى المجتمع البشري بأسره ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] وأن المجتمع الذي بعث إليه النبي يمتلك فكر وإبداع ولو لم يجد في رسالة النبي مصدراً عقلانياً لما آمن بالنبي محمد ،

3. الملاحظة الثالثة: ما هو منطق القرآن الكريم هل منطقه غريزي، وهل أن القرآن الكريم قصيده غزلية تخاطب الغريزة والوجدان، أو مجموعة من القصص التي ترقق النفس البشرية وتؤنسها؟ الجواب أكثر من ثلث آيات القرآن هي منطق استدلالي ومنطق عقلي ويركز على مخاطبة العقل ويطرح أدلة على معتقداته ومفاهيمه انطلاقا من العقل، فالقرآن الكريم عندما يأتي لفكرة الخالق يستدل بالعقل ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] وعندما يتحدث عن الإبداع الإلهي في الكون يركز على دليل حساب الاحتمالات وهو دليل رياضي لجمع الظواهر واستقرائها من أجل تحصيل اليقين حتى يتجلى من خلالها الإبداع الإلهي ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ «58» أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ «59» [الواقعة: 58 - 59] ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ «63» أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ «64» [الواقعة: 63 - 64] ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ «68» أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ «69» [الواقعة: 68 - 69] ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ «71» أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ «72» [الواقعة: 71 - 72] فحشد الظواهر أمام الإنسان ليتجلى له الإبداع في كل ما حوله من ظواهر ليؤمن بالقدرة الإلهية ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] وهذا الدليل الذي يعبر عنه بدليل حساب الاحتمالات عندما يأتي ليتحدث عن التوحيد يستخدم دليل ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] عوندما يتحدث عن المعاد يستخدم دليل ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «78» قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «79» [يس: 78 - 79] ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس: 81] وهكذا، فالقرآن ركام من الاستدلالات والبرهنة والتي تكشف على أن المجتمع عقلاني وإلاكيف تخاطب مجتمع غريزي بمئات الآيات التي تتحدث مع العقل وتقيم البراهين بمنطق عقلاني، ولو لم يكن منطق الوحي منطقاً عقلانياً برهانياً لما آمن ذلك المجتمع به ولما أيقن به.

4. الملاحظة الرابعة: عندما نقرأ آيتين من القرآن ونتأمل فيهما، ماذا نستلهم منهما؟

الأية الأولى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]ما معنى الحفظ؟

الأية الثانية التي هي بمنزلة الشرح للآية الأولى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]

الذي نفهمه بالمعنى الأولي أن الله حينما أنزل القرآن صانه من التحريف، وأن القرآن يتميز عن الكتب السماوية التي قبله بأنه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، كتاب صانه الله من التحريف والتغيير، ولكن هناك معنى أبعد من هذا المعنى أيضاً وأن المراد بالحفظ هو الحفظ الفكري، كما نلاحظ أن المسلمين يحفظون القرآن بالتلاوة والقراءة وبالتعاهد عليه، وهذا كله حفظ لفظي والحفظ المطلوب والذي أراده الله هو الحفظ الفكري ومعنى الحفظ الفكري تفعيل القرآن على الأرض وتحويل القرآن إلى نظام متحرك وحيوي يقود الحياة، وتحويل القرآن الكريم إلى نظام يعيشه الناس في حياتهم، وتفعيل القرآن هو عبارة عن حفظ القرآن والشهادة ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] شهادة الأمة على الأمم بتفعيل القرآن على الأرض وبتجسيده وبتطبيقه، لذلك مهمة الأمة ومهمة المجتمع البشري بعد النبي هو تفعيل هذا القرآن وتحويله إلى نظام يقود الحياة، ومن هنا نفهم السبب في خاتمية النبوة ليس لأن البشرية لا تحتاج إلى الدين بل لأنها وصلت إلى مرحلة قادرة على أن تحمل رسالة الدين بنفسها وتحول القرآن من حفظ لفظي إلى حفظ فكري ووصلت إلى مستوى قادرة على أن تحقق رسالة الشهادة، بما معنى أن النبي محمد قدم بضاعة جاهزة للأمة وللمجتمعات البشرية، وهذه الرسالة تحمل قوانين ثابتة وقوانين متحركة تنسجم مع الحضارات البشرية المختلفة فرسالتكم حفظها والشهادة بها وتفعيلها وتحويلها إلى نظام حيوي.

5. الملاحظة الخامسة: عندما يقرأ البعض هذه النظرية المسماة بنظرية الجبر التاريخي التي تعني أن حركة التاريخ تخضع لعوامل قسرية وليست باختيار الانسان، ومن جملة سنن التاريخ وعوامل التاريخ أن الحاجات البشرية تتغير بين فترة وأخرى وأن طبيعة البشر وحاجاتهم تتغير بتغير نمط المعيشة، وكلما تغير أنماط الحياة البشرية تغيرت الحاجات البشرية وإذا تغيرت الحاجات إذن نحتاج إلى دين جديد ينسجم مع الحاجات المتغيرة المستجدة، الجواب عليها الانسان يعيش نوعين من الحاجات حاجات ثابتة وحاجات متغيرة، الحاجات الثابتة قد تكون حاجات جسمية مثل حاجة الجسم إلى الغذاء والهواء، وقد تكون حاجات نفسية مثل حاجة الانسان إلى الحب وحاجة الانسان إلى الجنس والانتماء، هذه حاجات ثابتة لا تتغير بتغير الزمان، وهناك أيضا حاجات اجتماعية أيضا ثابتة مثل حاجة الانسان إلى العلم وحاجة الانسان إلى النظام وإلى المكافئة والتقدير الاجتماعي، وحاجة الانسان إلى الاستخدام بأن يَسْتَخْدِم ويُسْتَخْدَم لبناء الحضارة، وهناك حاجاة متغيرة نتيجة لاختلاف أسلوب الحضارة التي يتضح لنا من خلال ما يقوله القرآن الكريم قبل 14 قرن ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ [الأنفال: 60] فالقوة في ذلك الوقت كانت في الخيل والسيف والرماح، الآن احتاجت البشرية إلى قوة أخرى فتغيرت الحاجات نتيجة تغير أنماط الحياة.

فمنذ أن بني الدين وجاءت رسالة النبي ونزول وحي القرآن نزل متشكلا من صنفين من القوانين، قوانين ثابتة وقوانين متحركة، القوانين الثابتة تعالج الحاجات الثابتة والقوانين المتحركة تعالج الحاجات المتغيرة بتغير الحضارات، فالدين بصنفيه من القانون عالج الحاجات الثابتة وعالج الحاجات المتغيرة، ووظيفة الفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر هو المزاوجة بين الثابت والمتغير وهذه المزاوجة بين القانون الثابت والقانون المتحرك هي رسالة القرآن التي طرحها لنا النبي المصطفى .

خلاصة القول من الملاحظات على نظرية إقبال اللاهوري أن السبب في ختم النبوة ليس نقص البشرية فلا تستحق نبيا وليس استغناء البشرية عن الدين وعطاء النبوة وإنما السبب في ختم النبوة أن البشرية وصل إليها دين مكون من قوانين ثابتة تعالج حاجات ثابتة وقوانين متحركة تعالج حاجات متغيرة وآن للمجتمع البشري أن يتحمل الرسالة بعد الأنبياء والمعصومين ليقوم بتفعيلها على الأرض ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] والنظام الإسلامي نظام حياة إذا دعاكم لما يحييكم ليقوم الناس بالقسط وليبلوكم أيكم أحسن عملاً ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105] ختمت النبوة به وبقيت الرسالة مسؤولية وأمانة في أعناق المجتمع البشري، وختمت النبوة برحيل النبي، وانقطع الوحي وغاب طيب النبوة وعبق الرسالة وما أصيب المسلمون كمصيبتهم بفقد رسول الله .