الدرس 6 | الروح طاقة مجردة أم ظاهرة مادية؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

إن إثبات النظرية الصدرائية التي ترى أن مبدأ التصورات الأولية هو الحس عن طريق العلم الحضوري لا الحصولي متوقف على إثبات تجرد النفس، حيث إن النفس البشرية إذا كانت وجودا مجردا عن المادة تنمحي أمامها الفواصل والامتدادات، وإذا انمحت الفواصل والامتدادات أمامها هيمنت النفس البشرية على حواسها وعلى آثار حواسها وأفعال حواسها، فكما أن علم الحواس بآثارها علم حضوري فإن النفس بإحاطتها الجامعية بالحواس يكون علمها بآثار الحواس أيضا علما حضوريا، لذلك فصحّة هذه النظرية تتوقف على إثبات تجرد النفس، وبما أن إثبات تجرد النفس يتوقف على إثبات تجرد الإدراك بمعنى أن المدركات والصور التي ترتسم في ذهن الإنسان هي وجودات مجردة، وبما أن الصور وجودات مجردة وهي فعل من أفعال النفس فلابد أن تكون النفس وجودا مجردا، لذلك يرتكز بحث هذه الليلة على إثبات تجرد النفس من خلال إثبات تجرد المدركات والصور التي ترتسم في نفس الإنسان.

نقل الشيخ المطهري في أصول الفلسفة [1]  عن «فلسن شاليه» في قسم من كتابه المسمى ب «ما وراء الطبيعة» عن أحد علماء وظائف الأعضاء المادية قال: ”إنني لن أؤمن بوجود الروح إلا إذا اكتشفتها تحت مشرطة التشريح“، فكلامنا فعلا في المُدخل لهذا البحث وفي محاور هذا البحث.

مدخل البحث:

وهذا نستفيده من كتاب «فلسفتنا» [2]  للشهيد محمد باقر الصدر «قدس سره» فقد ذكر هناك أن المسألة الفلسفية الكبرى هي في الإدراك، وهي محاولة صياغته في مفهوم فلسفي يكشف عن حقيقته، ويوضّح ما إذا كان الإدراك ظاهرة مادية توجد في المادة عندما تبلغ مرحلة خاصة من التطور أم أن الإدراك طاقة مجردة عن المادة، فنقل عن كتاب «المادية الديالكتيكية والتاريخية» لماركس: ”لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة، فإن المادة هي جوهر كل التغيرات“ [3]  يعني يعتبر الفكر والإدراك حالة مادية، ونقل عن «إنجلز»: ”إن شعورنا وفكرنا مهما ظهر لنا متعالين ليسا سوى نتاج عضو مادي جسدي هو الدماغ“.

السيد الصدر يقول: ”إن هناك عدّة مدارس علمية عالجت كلُّ واحدة منها الادراك بمنظارها الخاص، فهناك بحوث الفيزياء والكيمياء تدرس جانبا من جوانب الإدراك، وهناك الفيسيلوجيا تأخذ حضها من الدراسة، وهناك السيكولوجيا بمختلف مدارسها من المدرسة الاستبطانية، والسلوكية، والوظيفية، وغيرها من مدارس علم النفس، تتوفر جميعا على درس جوانب عديدة من الادراك. ويجيء بعد ذلك كله دور علم النفس الفلسفي، ليتناول الادراك من ناحيته الخاصة، ويبحث عما إذا كان الادراك في حقيقته، حالة مادية قائمة بالجهاز العصبي، أو حالة روحية مجردة؟ فمثلا على مستوى الفيزياء تعالج بحوث الفيزياء والأحياء الأحداث الفيزيائية والكيميائية التي تواكب عملية الإدراك في كثير من الأحيان كانعكاس الأشعة الضوئية من المرئيات وتأثر العين بتلك الاهتزازات الكهربائية المغناطيسية، والتغيرات الكيميائية التي تحدث بسبب ذلك، وانعكاس الموجات الصوتية من المسموعات، والذرات الكيميائية الصادرة عن الأشياء“ هذا كلّه مدروس ومعلوم ومقرر لكن هذا شيء والبحث عن حقيقة الادراك وكنه الادراك «هل أنه مادي أم مجرد؟» بحث آخر.

فما زال البحث قائما بين الفيزياء وعلماء الأحياء مثل - ريشارد دوكينز - في «كيف تتحرك جسيمات الذرات في الدماغ؟» فالفيزياء ترى أن الوعي خارج التفاعلات الكيمياء ومربوط بالحركة الذرية التي لا يستطيع أن يسيطر عليها الإنسان بخلاف ما يقرر علماء الأحياء، وقد استطاعت الفسيولوجيا بكشوفها أن تحدد الوظائف الحيوية للجهاز العصبي، فالمخ مثلا ينقسم إلى أربعة فصوص، الفص «الجبهي، الجداري، الصدغي، المؤخري» ولكل فص وظائفه، فالمراكز الحركية في الفص الجبهي، والمراكز الحسية التي تتلقى الرسائل من الجسم في الفص الجداري، وحواس اللمس والضغط، أما مراكز الذوق والشم والسمع فتقوم في الفص الصدغي، في حين تقوم المراكز البصرية في الفص المؤخري إلى غير ذلك من التفاصيل، ولكن من الواضح جدا أن الفيزياء والأحياء والفسيولوجيا لا تستطيع بوسائلها العلمية وأساليبها التجريبية إلا أن تكشف لنا خصائص الجهاز العصبي فقط، هذا الجهاز العصبي الموجود في الدماغ، فهذه العلوم تتحدث عنه وعن محتواه من عمليات وتغيّرات، أما تفسير حقيقة الإدراك وكنهه فلسفيا فليس من شأن تلك العلوم، في أن العمليات الفيزيائية والكيميائية ذات صلة بالإدراك وبالحياة السيكلوجية للإنسان، فهي تلعب دورا فعالا في هذا المضمار إلا أن هذا لا يعني صحة الزعم المادي - كما نقلنا عن ماركس وإنجلز - القائل بمادية الإدراك، فإن هناك فرقا واضحا بين كون الإدراك شيئا تسبقه عمليات مادية وبين كون الإدراك ظاهرة مادية ونتاجا للمادة.

أما بالنسبة إلى المحاور:

المحور الأول: في التوافق بين النظرية المادية والصدرائية حول حقيقة الإبصار. «الإدراك عن طريق البصر»

هنا يوجد توافق بين النظرية المادية والصدرائية في حقيقة الإبصار أي الإدراك عن طريق البصر، وهنا أنقل ما تقرره النظرية المادية تبعا للأبحاث العلمية: "تُبصر العين الضوء، والضوء عبارة عن أشعة كهرومغناطيسية، ولهذه الأشعة طول موجي تتنبه العين به، ينحصر في المجال «457 نانومتر» ويسمى بالطيف المرئي؛ لأن العين البشرية تستطيع مشاهدته، أما الأمواج الكهرومغناطيسية ذات الطول الذي يتجاوز «750 نانومتر» فتسمى الأشعة تحت الحمراء، وتلك ذات الطول الأقل من «400 نانومتر» تُسمى الأشعة فوق البنفسجية، وكلاهما لا تبصرهما العين.

في المحاضر الماضية بينّا أن إدراك العين للمبصرات هو علم حضوري، فالعين تُدرك الضوء الذي ينعكس على أي جسم مرئي أمام الإنسان، وهذه الأبعاد للجسم التي يكشفها الضوء ويحكيها الضوء هذه الأبعاد المسمات بالجسم التعليمي، هذه الأبعاد التي يكشف الضوء تتلقاها عدسة العين تلقيا حضوريا لا حصوليا.

رحلة الضوء داخل العين:

”يعبر الضوء بادئ ذي بدء القرنية فيحدث له ما يُسمى «انكسار الضوء»، وهو تغير مسار الضوء نتيجة انتقاله بين وسطين مختلفين وهما الهواء والقرنية، بعد ذلك يمر الضوء عبر الحدقة التي يتغير قطرها وفقا لشدة الضوء، ومن ثَمَّ عبر الخلط عبر الخلط المائي ومنه إلى عدسة العين، وبعدها إلى الخلط الزجاجي ويحدث انكسار للضوء في كل وسط يمر به، وأهمية هذا الانكسار هو إسقاط الضوء على الشبكية التي تتولى بدورها تحويل الصورة التي شكلها الضوء - وهذا كله عملية مادية، فضوء شكل صورة، وهذه الصورة متطابقة مع الأبعاد التي للجسم المرئي، هذه الصورة التي شكلها الضوء مادية كمادية ذبذبات الصوت التي تعبر إلى الدماغ تماما، فصورة مادية تعبر إلى الدماغ تماما، فمثلها مثل ذبذبات الصوت التي تعبر إلى الدماغ - فالصورة التي تراها العين على الشبكية تتولى بدورها تحويل هذه الصورة إلى إشارات عصبية يفهمها الدماغ وبذلك نبصر الأشياء. وفي كل الأوساط التي يمر الضوء من خلالها في طريقه إلى الشبكية تؤدي إلى انكساره لكن الأمر ليس بهذه البساطة فكما أن المصوّر يُعدّل عدسة الكاميرا لكي يحصل على الصورة الأوضح فإن العين أيضا لها عدستها الخاصة كما ذكرنا، إذ أن قطر هذه العدسة ليس ثابتا بل يمكن تغييره بآلية انعكاسية عن طريق مجموعة من الأربطة التي تثبت هذه العدسة في مكانها، وتتغير قوة شد الأربطة عن طريق عضلات ملساء، وبناء على ذلك بإمكان العين الحصول على الرؤية الفضلى وبتعبير تقني إلى حد ما بإمكانها إسقاط الضوء القادم على الشبكية بطريقة مثالية“، وهذا ما تقرره النظرية المادية من أن الصورة المبصرة هي هذه وليست شيئا آخر.

النظرية الصدرائية كما ذكر الملا صدرا في الأسفار قال: ”بناء على اتحاد العاقل والمعقول“ «النفس عاقل، والصور معقول، وبينهما اتحاد شرحناه في إحدى المحاضرات عندما تعرضنا لقول الملا هادي السبزواري:

النفس في وحدته كل القوى   وفعلها  في فعله قد iiانطوى

فالحواس مجرد توفر مادة خام حضورية للنفس تدركها النفس وتعلم بها النفس علما حضوريا.

قال صدر المتألهين: ”كل ذلك هو لون من النشاط الإبداعي للنفس“، يعني كل هذه المقدمات التي تحصل تهيؤ النفس وتعدها لأن تقوم بنشاط إبداعي وهي رسم الصور وتركيبها وتجزئتها والمقارنة بينها.

المحور الثاني: أدلة تجرد الإدراك.

قلنا أن الإدراك مجرد؛ ولأنه الإدراك مجرد لابد أن تكون النفس مجردة، فما هي أدلة وجود الإدراك؟ تعرض الشيخ المطهري «طاب ثراه» في كتاب «أصول الفلسفة» [4]  فذكر هناك:

الدليل الأول: عدم انقسام الصور.

الآن في ذهني صورة، وهي مثلا: «الله موجود»، «الملك موجود»، «النقيضان لا يجتمعان»، «لكل معلول علة»، صور موجودة في الذهن، وهذه الصور والتي منها الصور المادية - ك «هذا الرجل» وأنا أعني رجلا رأيته قبل 10 سنين، هذا شكله دائري وهكذا - لا تقبل الانقسام، ولو كانت ظاهرة مادية حالة في الدماغ لانقسمت بانقسام الدماغ، فصورة النقيضان لا يجتمعان تستطيع أن تقسمها يمينا ويسارا وتجعل لها أبعادا من طول وعرض وعمق وهكذا، فلا تقبل الصورة من حيث كونها صورة مرتسمة في أفق النفس الانقسام ولا تقبل التجزئة، فلا تتصور إلا على نحو وحدة اتصالية لا تقبل الانقسام والتجزئة، ولذلك فلا يمكن نسبتها إلى الأشعة والأمواج غير المرئية وما ذكرناه في المحور السابق، فكل تلك أمور مادية تقبل التقسيم، أما الصور من حيث هي صور فبوجدان الإنسان لا يُرى لها قبول للقسمة مع أن قبول القسمة من الخصائص الجوهرية للأمور المادية.

الدليل الثاني: إدراك الكَمّ المتصل.

عندنا كَمّ متصل وكَمّ منفصل، أما المتصل هو الواحد الذي له امتداد كالخط - مستقيما أم منحنيا - والدائرة والسطح، فهذا نسميه «كم متصل» إذ لا يوجد فواصل بين أجزائه، فأجزائه مندمجة بعضها بالبعض الآخر، بحيث لا توجد فواصل بين أجزائه، فنسميه «كم متصل»، بينما إذا أخذنا الجهاز نسميه «كم منفصل» لأن أجزاءه متمايزة وبينها فواصل معلومة.

ما هو منشأ تصور الكم المتصل؟

الآن أنا أتصور هذا الكتاب وأقول: «هذا خط»، أتصور فوق الكتاب وأسميه «سطح»، وأتصور دائرة أمام وأقول «هذه دائرة» وهكذا، هذه كلها تُسمى أبعادا تعليمية للأجسام، فكل جسم يندرج تحت أبعاد تعليمية معينة من شكل ومن صورة ومن خط وسطح وعرض وأشباه ذلك، فهذا الذي نُسميه بالكم المتصل من أين جاء؟

اختلفت المدرستان العقلية والحسية في منشأ إدراك الكم المتصل، وبيان مذهبهما هو:

المدرسة العقلية: قالت النقطة شيءٌ بدون بُعد، والخط شيء ذو بعد واحد، والسطح شيءٌ ذو بعدين، إذن لا وجود لها في الخارج؛ لأن كل ما في الخارج جسم، وكل جسم له أبعاد أربعة «طول، عرض، عمق، زمن»، فكل شيء في الخارج جسم، وكل جسم ذو أبعاد أربعة، بينما نحن نرى الخط بعدا واحدا، والسطح بعدين، والنقطة ليس بعد، فهذا يعني أن الخط والنقطة والسطح لم يأتيا من الخارج، ولم يدركهما الحس وإنما العقل هو الذي اخترع هذه الأبعاد.

المدرسة الحسية: تصور النقطة والسطح والدائرة حصل للذهن نتيجة رؤية الأشياء في الطبيعة، يعني أن الذهن رأى الأشياء بنماذج واستخلص من تلك النماذج هذه الأبعاد التي عبرنا عنها، فمثلا: عندما نرى ثقب الإبرة، فثقب الإبرة نقطة يعبر منها الخيط فقط، نقول هذه نقطة، لكن في الخارج ليس هناك نقطة، فليس في الخارج إلا نقطة الإبرة، لكن الذهن انتزع صورة النقطة من هذا الموجود الخارجي وهو ثقب الإبرة، كذلك عندما نشاهد خيطا دقيقا ننتزع الخط، عندما نشاهد شعلة نار مستديرة ننتزع عنوان الدائرة، وهكذا، فكل هذه منتزعة من أشكال حسية.

لكن كيف انتزع الذهن هذه منها؟ فعلى أي أساس صار ثقب الإبرة صار نقطة؟ الخيط الرقيق صار خطا؟ الشعلة المستديرة صارت دائرة؟ فمجرد الكلام لا يمكن، فعل أي أساس تم انتزاع هذه الصور منها؟ وهذا سؤال حائر بالنسبة للمدرسة الحسيّة.

تعليقنا على ذلك:

سواء قلنا إن المنشأ الأصلي لتصور الخط والسطح والدائرة هو العقل كما تراه المدرسة العقلية، أو الحس كما تراه المدرسة الحسية، فلا شك أن هذه الأمور بخواصها ليس لها وجود في عالم الطبيعة، فهذا مسلّم ولذلك حتى المدرسة الحسية قالت هي منتزعة، فهي بخواصها ليست موجودة في الخارج، فإذا لم تكن موجودة في الخارج لأن الموجودات في عالم الطبيعة لها أجزاء ومفاصل بينما الخط والسطح والدائرة والمثلث ليست أجزاء ذات مفاصل فليست هي من عالم الطبيعة، ونحن نرسم في أذهاننا[5]  خطوطا وأشكالا للموضوعات الهندسية ونصدر عليها أحكاما فنقول «قطر الدائرة يساوي كذا» و«محيط الدائر يساوي كذا» فنضع أحكاما على هذه الأبعاد مع أنه لا وجود لها في الخارج، لكننا نضع عليها أحكاما قطعية يقينية، ولذلك يعتبر «علم الرياضيات» من أكثر العلوم يقينية.

النتيجة: أن إدراكاتنا للكم المتصل لا تتطابق مع الخواص المعينة للمادة، إذن هذه الإدراكات غير مادية، فما دمتم قررتم أن هذا الكم المتصل بأبعاده مما لا وجود له في الخارج، إذن بالنتيجة هذه المدركات - أي أبعاد الكم المتصل - ليست إدراكات مادية.

سنأتي لاحقا فعندنا ملاحظة على هذا الاستدلال.

الدليل الثالث: ثبات الصور والمعلومات.

لا شك أن الإنسان إذا التقى بصديقه يوما في مكان معينا، وكان اللقاء جميلا ودّيا فإن خاطرة تترسب في ذهنه من هذا اللقاء والحديث، ويبقى يستحضر الصور والكلمات التي في ذهنه كما المرأة تستذكر ليلة زفافها بكل تفاصيلها، فهل هذه الصور متوهمة؟ قطعا لا، هل هي من اختراع الذهن؟ قطعا لا؛ لأن الذهن أدركها ولم يخترعها، هل هي إحساسات جديدة؟ لا، فالإحساسات كانت ليلة الزفاف، وانتهى دور الإحساس وتحولت الأحاسيس إلى الصور وبقيت إلى أن بلغ العمر التسعين مثلا، إذن هذه الصور ثبتت ولم تتغير مع أن هذه المرأة تغيرت وشابت وتغير كل أجهزتها وإدراكاتها إلا هذه الصور بقيت ثابته ولم تتغير.

وجه الاستدلال بذلك من زاويتين:

الزاوية الأولى: إن من خواص الحافظة التقييم، والتقييم معناه التذكر على أساس أنه بنفسه ذلك الإدراك الأول وليس إدراكا جديدا، فكلما تتذكر تقول هذا هو نفسه وليس شيئا آخر وهذا معنى التقييم، فمن خواص قوة الحافظة لدى النفس أنها تقول أن هذه الصورة هي هي التي كانت ذلك اليوم وليس شيئا آخر، أما المدرسة المادية تقول أن هذا مثل ”الفيديو“ الموجود في الفلاش ففيه أفلام ومسلسلات وتجعله عبر الشاشة وتظهر من جديد، فليست الصور شيئا أكثر من ذلك، فكما أن هذه الأفلام المودعة في هذا الفلاش مادية وليست مجردة عن المادة، كذلك هذه الصورة المرتسمة في ذهن الإنسان إلى أن يبلغ الثمانين أو التسعين هي أمور مادية، والمادية قد تبقى وثبت دون أن تتغير، فلعل هذا الفلاش يبقى سنوات ولا تتغير الملفات الموجودة في داخله، فكيف نستدل على أنها إدراكات مجردة.

يقول: ”الفرق بين هذه الأجهزة وبين ما تدركه النفس أننا لا نستطيع أن نقبل كون الحافظة مادية لأننا ندرك أن القوة الحافظة تتصف بالعينية، أي أن ما نتذكره عين ما أدركناه سابقا“، يعني هذه الملفات الموجودة في هذه الفلاش ليس عين السابق بل هو عمل جديد يقوم به الجهاز، نعم هو مماثل للسابق ولكنه عمل جديد ليس هو السابق، بينما ما ندركه من الصور أن هذه الصور عين ما أدركناه، فليس فلما جديدا ولا شريطا جديدا ولا تكرار بل هو هو وليس غيره، فما تتمتع به الحافظة هو العينية «هو هو»، بينما هذه الملفات الموجودة ضمن الفلاش تحتاج إلى خاصة معينة تثيرها فتكرر الشريط، فهذا تكرار وليس عين السابق، ولعلك لا تقبل هذا الكلام.

الزاوية الثانية: يقول [6] : يتغير المخ بكل محتوياته وهو دائم في معرض التحول والتبديل، والمادة المخيّة تتغير عدّة مرات في عمر الإنسان، والفترة التي يعيشها الإنسان مثلا لمدة 70 عاما تتغير مواد وتنسحب مواد وتحيى مواد، وتبقى الخواطر النفسية ثابتة بدون تغير، سواء كانت تصورات ك «صورة صديقي» أو «صورة طفولتي» أو تصديقات كالمعلومات التي ذكرناها «النقيضان لا يجتمعان» «الكل أعظم من الجزء»، كلها نراها ثابتة لا تتغير مع أن الدماغ يتغير، فلو كانت هذه الصور ماديّة حالة في الدماغ لتغير بتغير خلايا الدماغ ونحن نراها لا تتغير.

هل الكلام الذي يذكر العلمان الشيخ المطهري «طاب ثراه» والسيد الصدر «قدس سره» هو كلام دقيق أم لا؟ أذكر لك الآن بعض العبارات:

”علميا هناك 68 مليار خلية عصبية و100 ترليون توصيلة، فعند الولادة يكون حكم دماغ الوليد ربع حجم دماغ البالغ، وعندما يصل إلى 3 سنوات فإن 80% من خلايا الدماغ قد تم بناؤها، وفي سن الخامسة فإن 90% تم بناؤها، وما بقي يتوزع على حياة الإنسان إلى أن يبلغ 21 أو 25 من عمره“، نأتي إلى هذه المجلة الإلكترونية وهي «Scientific American» النسخة العربية، المقال منشور مارس 2018م، يقول: ”يُعد اكتشاف أن أدمغة البشر تنتج خلايا عصبية جديدة طوال عمر الإنسان يُعد أحد أكبر الاكتشافات في مجال علم الأعصاب في العشرين عاما الماضية، وقد حظيت الفكرة باهتمام شعبي وعلمي وخصوصا لأنها تُعطي بريقا من الأمل في إمكان استخدام تلك القدرة التجديدية للدماغ في تعزيز الإدراك أو معالجة الإصابات أو الأمراض، وفي الحيوانات أيضا، فربط العلماء بين الإنتاج المتواصل للخلايا العصبية وتحسن عمليات التعلم والذاكرة وربما حتى ضبط الحالة المزاجية“ إلى هنا كأن الكلام كما يقول الشيخ المطهري أنه في العشرين عاما الماضية أن العمر كلما تقدم أن الخلايا تتغير، ”بيد أن اكتشافات توصلت إليها دراسة جديدة أجريت على البشر كبحت جماح هذه الفكرة، ففي تحدٍ مباشر لدراسات سابقة قال الباحثون أن الأشخاص البالغين لا ينتجون خلايا عصبية جديدة في منطقة الحصين التي هي أحد المراكز الرئيسية لمعالجة الذكريات - التي تحتفظ بالصور - فتمثل هذه الدراسة أحدث حلقة في الجدل المثار حول ما إذا كانت أدمغة البشر البالغين تنتج خلايا جديدة أم لا“، بالنتيجة هذا المقال إذا راجعتموه يقول أن المسألة غير محسومة، فلا دليل على أن خلايا الدماغ تتغير، فإنه ليس من المعلوم فيمكن أن خلايا الدماغ ثابتة فلا يدل ثبات الصور على أنها مجردة وليست مادية، كما أن إدراكنا بالوجدان أن الصورة المرتسمة في أذهاننا هي عين ما حدث فإن هذه العينية هي عينية شعورية، ولا دليل على أنها واقعية وأنه فعلا ما نراه أنه عينه هو عينه ولم تتغير، لعلها كلما أردنا تذكرها أحدث الذهن بفاعليته نسخة متطابقة تماما مع النسخة السابقة.

وبهذا أيضا ترد المناقشة في الدليل السابق وهو أن إدراك الأبعاد إدراك غير مادي لأن الأبعاد غير مادية، لكن الأبعاد غير موجودة في الخارج لا أن إدراكها غير مادي، وفرق بين العبارتين، فغاية ما ثبت نتيجة البحث بين المدرسة العقلية والمدرسة الحسيّة أن الأبعاد التعليمية للأجسام ليست خارجية، أما أن إدراكها مادي أم غير مادي فهي مسألة أخرى ولا وجود للتلازم، فهي ليست من الخارج والذهن اخترعها، فأنت أولا أثبت أن الذهن غير مادي حتى تصبح مخترعاته غير مادية، فمجرد أن هذه الأبعاد لم تأتنا من الخارج لا يعني أن هذه الصور التي تضمنت هذه الأبعاد صور غير مادية، فلعلها صور مادية، لأن الذهن من خلّاقياته أن يرسم صورا وأن ينتزع صورا ولعلها صور مادية تماما، كما قلنا في خاصية الإبصار وقلنا أن البصر يدرك الأشعة، فالبصر لا يدرك شيئا آخر، فالبصر لا يدرك هذه الأجساد، فهذا الجسم الموجود أمامي لا يدركه، البصر ينال من الجسم مقدار انعكاس الضوء عليه، ومقدار انعكاس الضوء عليه شيء مادي، وهذا المقدار الذي ينعكس به الضوء على الجسم المرئي أيضا يناله الحس بمقدار عدسة العين لا أكثر، فما تناله العين شيء مادي، ولذلك ذكرنا فيما سبق أن إدراك العسين للمبصرات إدراك حضوري، وإدراك النفس لهذه الآثار إدراك حضوري.

إذن بالنتيجة، الدليل الثاني والدليل الثالث على تجرد الإدراك محل تأمل ونظر.

في كتاب «فلسفتنا» [7]  قال السيد الشهيد «قدس سره»: ”ولكي يتضح الدليل على ذلك بكل جلاء، يجب ان نعلم أنّا بين ثلاثة فروض: مبدأها أن إدراكنا لهذه الحديقة، أو لذلك النجم، صورة مادية قائمة بجهازنا العصبي“ فهذه فرضية يقول فندناها بالأدلة السابقة، لا أقل الدليل الأول، ”وثانيها أن إدراكاتنا ليست صورا مادية، بل هي صور مجردة عن المادة، لكنها وموجودة بصورة مستقلة عن وجودنا“ فهي موجودة في مكان آخر وإن كانت غير مادية، فلعلها موجودة بمكان آخر، فما هي صلتنا بها؟!. ”وهذا افتراض غير معقول أيضا، لأنها إذا كانت موجودة بصورة مستقلة عنا، فما هي صلتنا بها؟ وكيف أصبحت ادراكات لنا؟ وإذا نفضنا أيدينا من هذا لم يبق لها وجود، وهذا معناه أنها مرتسمة في أنفسنا وأذهاننا، لم يبق لدينا الا التفسير الثالث للموقف، وهو أن تلك الإدراكات والصور العقلية، ليست مستقلة في وجودها عن الانسان كما أنها ليست حالة منعكسة في عضو مادي، وإنما هي ظواهر مجردة عن المادة، تقوم بالجانب اللامادي من الانسان ألا وهو «الروح»“، فاستدل بتجرد الإدراك على تجرد الروح.

والحمد لله رب العالمين

[1]  أصول الفلسفة ج1 ص120.
[2]  فلسفتنا ص343 ط. الخامسة - دار الفكر.
[3]  المادية الديالكتيكية والتاريخية ص19.
[4]  أصول الفلسفة ج1 ص124.
[5]  وهذه عبارة دقيقة من كتاب أصول الفلسفة ج1 ص128 لابد من ملاحظتها
[6]  هذا الكلام الموجود عند الشيخ المطهري في أصول الفلسفة ج1 ص137، ذكره أيضا السيد الصدر في فلسفتنا بنفس المحتوى.
[7]  فلسفتنا ص358.