الدرس 7 | الروح طاقة مجردة أم ظاهرة مادية؟ - ج2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

البحث حول تجرد النفس البشرية ومادتها، فهل أن النفس البشرية طاقة مجردة عن المادة؟ أم أنها ظاهرة مادية؟ وهنا نتعرض إلى محورين[1] :

المحور الأول: في علاقة العلم بالعالم.

ما هي العلاقة بين العلم والعالم؟ أي ما هي العلاقة بين النفس والصور العلمية المرتسمة في أفق النفس؟ الصور العلمية المرتسمة في أفق النفس هي العلم، والنفس هي العالم، فما هي حقيقة هذه العلاقة بين العلم «أي الصور المرتسمة» وبين العالم «النفس»؟

هنا مقدمتان لتحقيق هذه العلاقة:

المقدمة الأولى: في أدلة تجرد العلم.

ما هي الأدلة والبراهين على أن العلم وجودٌ مجرد عن المادة؟

ذكر أعلام الفلسفة ومنهم السيد الطباطبائي «قدس سره» في كتابه «نهاية الحكمة» [2]  الأدلة على أن العلم وجودٌ مجرد وليس ظاهرة مادية، وقد ذكر أدلة أربعة، ومرجع هذه الأدلة إلى نقطة واحدة وهي أن النفس تتصف بصفات تعزلها عن المادة:

الدليل الأول: الفعلية التامة. «الثبات».

كل ماديٍّ يعيش الحركة، فلا يوجد جزيء في عالم المادة إلا ويخضع للحركة، والحركة عبارة عن الخروج من القوة إلى الفعل، فكل موجود يحمل في طياته الاستعداد لأنْ يتحول إلى صورة أخرى، فالبذرة تحملُ في نفسها الاستعداد لأنْ تتحول إلى شجرة، وهذا معناه أن البذرة تعيش الحركة «الخروج من القوة إلى الفعل»، أي الخروج من الاستعداد الكامن فيها لأنْ تتحول شجرة بالفعل. النطفة كذلك تعيش الحركة، أي الاستعداد لأن تخرج من كونها نطفة إلى كونها جنينا متكاملا، فكل موجود في عالم المادة يعيش قانون الحركة، أي يعيش الاستعداد لأنْ يتحول من صورة إلى صورة أخرى، ومن كيفية إلى كيفية أخرى، وهذا معنى أن المادة مزاوجة للقوة، فالمادية تعني أن هناك قوة واستعداد لشيء آخر، فالمادية تساوي القوة، وتساوي الاستعداد للتحول، والاستعداد للحركة المعبر عنها بالخروج من القوة إلى الفعل.

هذا قانون عالم المادة، فعندما نطبقه على الصور المرتسمة في أذهاننا - مثلا صورة «لكل معلول علة» او «الكل أكبر من الجزء» - فهل هذه الصورة تحمل الاستعداد لأن تتحول إلى شيء آخر؟ فالصور ثابتة، الصور تعني الفعلية التامة، ”الصورة لا تقوى على صورة أخرى“ [3]  أي لا تحمل القوة، فكل صورة تعني فعلية تامة، وكل صورة تعني الانعزال عن الصورة الأخرى، فكل صورة تعني الفعلية التامة، فليس فيها أي استعداد لأن تتحول إلى صورة أخرى أو كيفية أخرى أو موجود آخر، وهذه هي الصورة وليس شيئا آخر.

إذن الصورة كما يقول السيد الطباطبائي: ”إن الصورة العلمية من حيث كونها علما“ أي نظرنا لها بما هي مرآة لما تحكي عنه فكل صورة تحمل شيئا، فالصورة إذا نظرنا إليها بما هي مرآة تحكي عن شيء آخر تُسمى علما، بينما الصورة إذا نظرنا إليها أنها شيء موجود في النفس بغض النظر عمّا تحكي عنه فهي وجود كسائر الوجودات الخارجية.

إذن الصورة تارة تُلحظ على نحو ما به يُنظر، وتارة تُلحظ ما فيه يُنظر، فإذا لوحظت على نحو «ما به يُنظر» يعني لوحظت مرآة للأشياء، حاكية عن الأشياء فتسمى علم، والصورة إذا لوحظت على نحو «ما فيه يُنظر» - أي ننظر لها كما ننظر لأي وجود من الموجودات - فتعتبر الصورة وجودا خارجيا كسائر الموجودات، ونحن نتحدث عن الصورة من حيث أنها علم وحاكية ومرآة.

”الصورة من حيث هي علم كيفما فُرضت:“

  • صورة حسيّة: كما في ذهني الآن صورة «أخي».
  • صورة خيالية: كما أتصور جبلا من ذهب.
  • صورة عقلية: أتصور أن النقيضين لا يجتمعان.

”الصور كلّها وكيفما فرضت مجردة عن المادة عارية من القوة - أي لا تعيش حركة من القوة إلى الفعل بل هي فعل - وذلك لوضوح أنها بما هي معلومة فعلية لا قوة فيها لشيء البتة.“

الدليل الثاني: إباء الصورة عن التغير.

هناك فرق بين العلم بالمتغير والعلم المتغير، فلا يوجد علم متغير لكن يوجد علم بالمتغير، أنا مثلا أنظر إلى حركة الماء، فالماء كان بصورة جارية، ثم تحول إلى صورة غليان حينما وُضع على النار، ثم تحول إلى صورة بخار، ثم رجع وأصبح قطرات مائية، فأنا الآن علمت بالمتغير، لكن هل علمي بالمتغير متغير، هذا علم بالمتغير وليس علما متغيرا.

لماذا لا يكون علما متغيرا؟ العلم صور ثابتة، فهنا صورة للماء حينما كان جاريا وبقيت كما هي، وأعقبتها صورة أخرى للماء وهي كونه يغلي، وأعقبتها صورة ثالثة للماء وهي كونه بخارا، وأعقبتها صورة رابعة للماء وهي كونه قطرات مائية، فصور أربع لا أن الصورة تغيرت، فالصورة المرتسمة في الذهن تأبى التغير والذي يتغير هو الخارج المتصوِّر بالصورة، أما الصورة تأبى التغير، ولو عرض أيٌّ تغير فهو عبارة عن صورة جديدة لا أن الصورة الأولى قد تغيرت، والدليل على أن الصورة لا تتغير هو اجتماع الصورة كلها في آن واحد، ففي آن واحد يحضر في الذهن صورة الماء وهو جاري، وصورة الماء وهو بخار، وصورة الماء قطرات مائية، فاجتمعت الصور الأربعة في الذهن وقام بالمحاجمة والمقارنة بي نهذه الصورة، فقلت أن الصورة تعني الخطوة الأولى، والصورة الثانية تعني الخطوة الثانية، فقيام الذهن بالمقارنة والمحاكمة بين الصورة فرع وجود الصور إذ لا يمكن للذهن أن يحكم ويقارن لولا اجتماع جميع الأطراف لدي، فلولا أن جميع الصور حاضرة لدى الذهن لما استطاع الذهن أن يقارن بينها وأن يحكم أن هذه خطوة وأولى وهذه ثانية وهذه رابعة.

فهذا دليل على أن الصورة لا تقبل التغير، والصورة تأبى التغير، أما الذي يغير وأي تغيرات هي عبارة عن صورة جديدة تُضم إلى الصورة الأولى.

الدليل الثالث: عدم الانقسام.

فالصورة تأبى الانقسام، ولا تنقسم الصورة الذهنية من حيث كونها صورة ذهنية إلى نصفين أو ثلاثة أثلاث أو أربعة أرباع، فالصورة الذهنية من حيث أنها علم لا تقبل الانقسام، فلا إلى التنصيف ولا إلى الأثلاث ولا إلى الأرباع، ولو كانت منطبعة في المادة لانقسمت بانقسامها، فلو كانت الصورة عرضا من أعراض المادة لانقسمت بانقسام عالم المادة، فالآن مثلا إذا أتينا إلى الجسم فإن الجسم له عدّة أعراض كالقيام والقعود، فالقيام لا يقبل الانقسام لكنه يقبل الانقسام بانقسام الجسم نفسه، فالقيام بما هو كيفية لا يقبل الانقسام، وهناك مقولة في الفلسفة «الكيفيات لا تقبل الانقسام» والذي يقبل الانقسام هو الكميات وليس الكيفيات، وما كان من مقولة «الكم» يقبل الانقسام لأنه مقدار من المقادير، أما ما كان من مقولة «الكيف» لا يقبل الانقسام، لكن يُمكن أن يقبل الانقسام بتقسيم محله ومكانه، فالقيام كيف من كيفيات الجسم، ونفس القيام لا يقبل الانقسام لكن يمكن تقسيمه بتقسيم الجسم نفسه، فهو لا يقبل الانقسام بالذات أي بما هو قيام، لكن يقبل الانقسام بالعرض أي بتقسيم محله وهو الجسم.

هل الصور تقبل الانقسام ولو بتقسيم محلها ومعروضها كما في سائر الكيفيات المادية التي تقبل الانقسام بتقسيم معروضها ومحلها؟

نقول: لا، الصور لا تقبل الانقسام، فإن هناك فرقا بين الانقسام الفكي وبين الانقسام الوهمي، نحن لا نتكلم عن الانقسام الوهمي فإن الانقسام الوهمي حتى في المجردات، فأنا أستطيع أن أتصور المَلَك - وهو مجرد من المجردات - وأقسّمه، لكن هذا تقسيم وهمي، يعني أن الوهم هو الذي يخترع القسمة، فأنا أستطيع تصور أي شيء وأقوم بتقسيمه لكن هذا تقسيم مقترح تفرضه النفس، والتقسيم الوهمي يعرض على الماديات ويعرض على المجردات، ولكن كلامنا في التقسيم الفكي، الانقسام الحقيقي، الانقسام المادي، أي بأنْ تنقسم الصورة حقيقة وواقعا إلى نصفين أو ثلاثة أثلاث أو أربعة أرباع، وهذا التقسيم يكون تقسيما ماديا حقيقيا لا تقسيما يفرضه الوهم من باب التخيل والتفنن، والصور لا تقبل ذلك، حتى صور المقادير، فمثلا أتصور في ذهني صورة لجسم معين، صورة لخمسة كيلو من الرز ويقوم ذهني بتقسيمها، فإن هذا تقسيم وهمي، لكن هذه الصورة - صورة خمسة كيلو من الرز - من حيث هي صورة لا تقبل الانقسام المادي، لا بحد ذاتها ولا بلحاظ محلها.

دليلنا على ذلك: أننا لو فرضنا تقسيما، كتصورنا خمسة كيلو من الرز في الذهن، ثم قام الذهن وقسمه إلى نصفين وفرزهما، فهل أن الصورة الأولى ذهبت؟ لا، بل التقسيم صار صورة جديدة، فالذهن اخترع صورتين جديدتين احدهما 2.5 كيلو من الرز والأخرى 2.5 كيلو من الرز، لكن بقيت الصورة كما هي، ولذلك يحكم الذهن بالمساواة، فيقول الصورة الأولى تعني مجموع الصورتين الأخريين، فاجتماع الصورتين المنقسمتين مع الصورة الأولى في الذهن في آن واحد هو بنفسه دليل على أن الصورة من حيث هي صورة ومن حيث هي علم لا تقبل الانقسام.

الدليل الرابع: التحرر من الزمكان.

كل مادي خاضع للزمان وللمكان، فمستحيل أن يوجد مادي لا يخضع لهذين القيدين وهذين الإطارين - إطار الزمان وإطار المكان - ولذا فإن كل مادي يخضع للزمكان، بينما نحن نرى أن الصورة متحررة من الزمان والمكان، فالعدالة مثلا شيء جميل، والظلم قبيح، فهذه صور، فإذا تصورت في ذهنك جمال العدالة فهل أن هذه الصورة - صورة جمال العدالة - في مكان أو زمان؟ أم ترى أن هذه الصورة لا يحدها زمان ولا مكان فهي متحررة من إطار الزمان والمكان، مع أن كل مادي لا يمكن أن يتحرر ويتجرد من هذين القيدين ألا وهما الزمان والمكان.

الشاهد على ذلك: يقول السيد الطباطبائي: ”ومن الدليل على ذلك أنّا كثيرا ما ندرك شيئا من المعلومات ونخزنه عندنا ثم نذكره بعينه بعد انقضاء سنين متمادية من غير أي تغيير، ولو كان مقيدا بالزمان والمكان لتغير بتغيرهما“ [4] ، فأنت الآن تُدرك شيئا مكانيا زمانيا، أنا أدرك مثلا أول محاضرة للسيد منير في حسينية السنان قبل عشرين سنة، أنا حضرتها في حسينية السنان قبل عشرين سنة، فكانت المحاضرة ضمن مكان وزمان، وبقيت صورة هذه المحاضرة إلى ما بعد عشرين سنة، فلو كانت الصورة مؤطرة بالمكان والزمان لتغيرت بتغير المكان والزمان، فإذا كانت صورة متقومة بمكان ومتقومة بزمان إذن إذا ابتعدت إلى مكان آخر أصبحت صورة أخرى، وإذا ابتعدت إلى زمان آخر أصبحت صورة أخرى، فلو كانت الصور العلمية من حيث كونها علما متقيدة بالزمكان لتغيرت بتغير الزمكان، ونحن نرى أن الصورة كما هي ولم تتغير بتغير الزمان والمكان مما يكشف عن تحررها من عالم المادة.

بعد أن ذكرنا الأدلة الأربعة على تجرد الصورة العلمية، وأن الصور من حيث كونها علما مجردة عن المادة وليست أمورا مادية فإن هنا ثلاثة أسئلة نطرحها، وهذه الأسئلة تمر على ذهن أيِّ إنسان يسمع بهذه الأدلة:

السؤال الأول:
هل يُتصور الانقسام؟ فقد يُقال عدم انقسام الصورة العلمية بما هي علم لا ينافي انطباعها في جزء من الدماغ وانقسامها بعرض محلها، فإن من الممكن أن هذه الصورة ظاهرة في جزء من الدماغ تماما، كما الصورة التي تظهر على شاشة التلفزيون، فإن هذه الصورة أيضا مرتسمة في جزء من الدماغ وذلك الجزء بمثابة الشاشة التي ترتسم فيها الصور، فإن هذا محتمل، وبالتالي فهي تنقسم بانقسام ذلك الجزء، فلو جاء المشرح وشرح دماغ الإنسان، فقسم ذلك الجزء من الدماغ لانقسمت الصورة تبعا لانقسام ذلك الجزء من الدماغ، مثلها مثل أي صورة ترتسم على مرآة أو شاشة فيمكن أن تنقسم بانقسام المحل، فلماذا لا يجوز أن تكون الصورة العلمية مادية منطبعة في محل ومنقسمة بانقسام محلها؟!

أيضا أحد الأخوة[5]  قال يمكن من ناحية طبية أن يُقسم الدماغ، فإذا انقسم يصبح الإنسان شخصيتين في إنسان واحد، ولكل شخصية فكر وإيدلوجية، ومشاعر وصورة مختلفة عن الثاني، فشخصيتان في إنسان واحد، ولكل شخصية فكرها ومشاعرها وخواطرها، فلماذا تقولون لا يقبل الانقسام؟

الجواب: الجواب بأحد وجهين:

الوجه الأول: إن ما ذكر من احتمال لا يهدم البرهان؛ لأن هذا الانقسام هو انقسام بالعرض وليس انقساما بالذات، والمادي ينقسم بالذات لا بالعرض، وأنت فرضت انقساما بالعرض لا بالذات، فأنت الآن تُسلّم أن الصورة من حيث هي صورة لا تنقسم وإنما انقسمت بعرض انقسام محلها، ففي الواقع أن المنقسم هو المحل وليس الصورة، فهذا لا يهدم البرهان، فإن البرهان يقول أن الصورة بما هي صورة لا تنقسم، أما أنت تقول الصورة انقسمت بانقسام محلها فإن ذاك وصف للمحل وليس للصورة.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الطباطبائي «رحمه الله» قال: "أما انقسامها بعرض انقسام المحل - جزء الدماغ مثلا - فلا شك في بطلانه، فإنا نحس ونتخيل صورا أعظم بكثير مما فُرض لها من محل في الدماغ، فنحن نتصور أرضا أو حديقة - كما يقول السيد الصدر «قدس» أني دخلت هايدبارك سبعة كيلومترا - فإن هذا المكان بسعة أرجائه وبتفاصيل أشجاره ووروده وزهوره ونهره أتصوره، فهل يعقل انطباق هذا المكان بسعته وتفاصيله في المحل الصغير؟ لا يعقل انطباع الكبير في الصغير، فكل صورة تعرض على المحل فهي بإزاء ذلك المحل، وحيث لا يُعقل انطباع الكبير في الصغير حتى لو كان عرضا له، فلأجل ذلك لا يُعقل أن تكون الصورة حالة في جزء من الدماغ كي يقال أنها تنقسم بانقسامه.

وأما هذا السؤال - سؤال الدماغ نقسمه ويصبح الإنسان شخصيتين - فإنه لا يثبت شيئا، فإن هاهنا صورا وهاهنا صور أخرى، فأين انقسام الصورة؟ فإنه لا يوجد انقسام للصورة، فمجرد أن ينقسم الدماغ فيتحول الإنسان إلى شخصيتين، أصبح لكل شخصية صورا مستقلة لا أن هناك صورة واحدة انقسمت إلى نصفين حتى يكون هذا دليلا أو شاهدا على بطلان الاستدلال بعدم الانقسام على عدم المادية.

السؤال الثاني:
في قابلية هل يُتصور التحيز في المكان أو التحيز في الزمكان؟ فقد يقال الإشارة دليل على التحيز، فأنا أتصور صورة في ذهني وأشير وأقول هذه الصورة صورة قاعة المحاضرة، ثم أشير بذهني إلى أن هذا الطرف من الصورة يعني يمين القاعة، وهذا الطرف يعني يسار القاعة، وهذا سقف القاعة وهكذا، إذن الصورة قبلت الإشارة، والإشارة إنما هي للمكان، إذن الصورة قد قبلت التحيز في المكان بدليل إقحام الإشارة إلى تفاصيل الصورة بنسبة هذه التفاصيل إلى أمكنة معينة.

الجواب: السيد الطباطبائي يجيب عن ذلك فيقول: ”الإشارة الذهنية إلى بعض أجزاء الصورة وفصلها عن الأجزاء الأخرى - بالقول هذا يمين وهذا يسار وهذا فوق وهذا تحت - كالإشارة إلى بعض أجزاء زيد المحسوس أو المتخيل وليس من التقسيم في شيء، وإنما هو إيجاد لصورتين“، يعني بمجرد أن تقول هذا يمين فأنت أوجدت صورة جديدة، وتقول هذا يسار فأنت أوجدت صورة أخرى، وهكذا، وهذا من باب تكثير الصورة لا من باب تقسيم الصورة الواحدة.

السؤال الثالث: ما هو الدليل على أن الصورة لم تتغير واقعا وأنها عين تلك الصورة السابقة؟

قد يقال: لعل الصورة تتغير ونحن لا نشعر، فأنتم تقولون أن صورة المحاضرة - مثلا - قبل عشرين سنة التي حضرتها في حسينية السنان لا زالت في ذهني، وأقول أن الصورة لم تتغير وأقول أن هذه الصورة هي عين تلك الصورة تماما، كأني ما زلت قبل عشرين سنة واقفا في حسينية السنان وأشاهد المحاضرة هي هي لم تتغير، فأشعر بوجداني بالعينية بين الصورة الفعلية والصورة التي شاهدتها قبل عشرين سنة، وأشعر بوجداني عدم التغير بين الصورة هذه وما شهدته، فقد يُقال أن هذا مجرد شعور، فما هو الدليل على أن الصورة لم تتغير واقعا وأنها عين تلك الصورة؟ فقد يكون هذا مجرد شعور، والشعور لا يعني أنه دليل على ذلك.

الجواب: المفروض أن علم النفس هو علم حضوري، يعني ليس بينهما أي واسطة، فعلم النفس بالصور هو علم حضوري، والعلم الحضوري هو حضور المعلوم بنفسه لدى العالم، فهل يعقل خفاء العلم الحضوري، فلا أميز ولا أشعر، فإن هذا لا يُعقل وهو خلاف كونه علما حضوريا، فما أن علم النفس بالصور هو علم حضوري - يعني حضر المعلوم بنفسه بلا واسطة فلا يتصور بالجهل وأن أعتقد شيئا عن جهل، وأن أعتقد شيئا خلاف الواقع، فإذا هذا يُتصور فيه خلاف الواقع فلا يبقى شيء يمكن إثبات أنه واقع، حتى لو وضعت يدك على النار سيكون هذا شعور وما يدريك أن هذه حرارة فلا يبقى شيء على شيء، لأنك ستقول ما هو الدليل على أن ما تضع يدك عليه هو حرارة فلعله شعور؟! أو ما هو دليلك على أن ما تشربه هو ماء فلعله ليس بماء؟! نقول هذا يُتصور فيما لو كان بين النفس والشيء الآخر واسطة، أما إذا لم يكن بينهما واسطة وحضر بنفسه بحيث أصبح العلم به علما حضوريا فلا يُتصور خفاء أو اشتباه، فالعلم الحضوري لا يخطئ.

النتيجة: بما أن العلم الحضوري لا يُخطئ فلأجل ذلك ما تشهد النفس بالوجدان من أن الصورة لا تنقسم، لا بلحاظ ذاتها ولا بلحاظ محلها، فهذه الشهادة الوجدانية دليل على تحرر الصورة من قابلية الانقسام، وعدم عروض هذه الطوارئ المادية.

المقدمة الثانية: في كون تجرد العلم مساويا لتجرد العالم.

نحن أثبتنا في المقدمة الأولى أن العلم مجرد، وهنا هل أن تجرد العلم - الصور - يعني تجرد العالم - النفس -؟ نعم، تجرد العلم يساوي تجرد العالم، لماذا؟ هنا عناصر ثلاثة:

العنصر الأول: أن التجرد يعني الحضور.

وهذا سبق أن أثبتناه في محاضرة سابقة، وقلنا إذا كان الشيء ماديا فهو محفوف بالفواصل والامتدادات، فإن كل مادي تحفّه فواصل وامتدادات والشيء المحفوف بالفواصل والامتدادات لا يمكن أن يحضر لديه شيء، إنما يُسمى اتصال مكاني، فمثلا علاقتي بالكتاب علاقة اتصال مكاني، أنا في مكان والكتاب في ذلك المكان، لكن الكتاب لم يحضر عندي.

كل مادي بالنسبة للمادي الآخر لا يمكن أن يكون أحدهما حاضرا للآخر، بل مجرد اتصال مكاني لا أكثر، ونحن قسّمنا في محاضرة سابقة الاتصال إلى أربعة أقسام: «مكاني، تفاعلي، معلولي، جمعي إحاطي»، إذن بما أن الصور العلمية مجردة عن المادة وليست أمرا ماديا إذن لا توجد فواصل، ولا توجد امتدادات، فبما أنه لا توجد فواصل ولا امتدادات إذن تجرد الصورة يعني حضورها لدى النفس، لا أنها متصل بالنفس.

العنصر الثاني: الحضور يعني الفعلية التامة.

لماذا الحضور يعني الفعلية التامة؟ لأننا ذكرنا قبل قليل بأن كل مادي مزاوج للقوة، فمن المستحيل أن يأتي يوم ويصبح المادي فعلية تامة، بل دائما هو في حال حركة، فبما أن المادية مزاوجة للقوة إذن حضور المجرد مساوق للفعلية التامة، فالصورة العلمية حاضرة حضورا على نحو الفعلية التامة التي ليس فيها استعداد لأي شيء أو قوة لأي شيء.

العنصر الثالث:

يقول السيد الطباطبائي «رحمه الله» في كتابه «نهاية الحكمة [6] » [7] : مقتضى حضور العلم للعالم أي مقتضى حضور الصورة - التي هي فعلية تامة - للنفس أن يكون العالم ذا فعلية تامة، لا يحضر الفعلي التام إلا لدى الفعلي التام، فحضور الصورة التي هي فعلية تامة تعني أن النفس التي حضرت لها الصورة هي فعلية تامة؛ إذ لو كان العالم - النفس - ماديا لكانت النفس قابلة للتغير، لأن كل مادي قابل للتغير، فكل مادي قابل للقوة، قابل للتغير، قابل للانقسام، مؤطر بالزمكان، فلو كانت النفس مادية لكانت مكانا للتغير، والقوة، والاستعداد، فإذا كانت النفس متغيرة ومتحركة بما هي عالم كان العلم أيضا متغيرا متحركا، إذ لا يُعقل التفكيك بين العالم والعلم، فإذا قلتم الصورة علم والنفس عالم فإن العالم مادي متحرك متغير لكن العلم مجرد لا يجتمعان، فمن حيث أن الصورة علم والنفس عالم يستحيل انفكاكهما، فما دامت الصورة فعلية تامة من حيث هي علم فالنفس من حيث هي عالم فعلية تامة، وإلا لو كانت النفس من حيث هي عالم متحركة مادية للزم انعكاس ذلك على العلم نفسه.

من باب التمثيل والتقريب الذهني: نأتي إلى الإنسان وحركته، الإنسان قائم، الإنسان قاعد، الإنسان متكلم، الإنسان صامت، هل يمكن أن يكون الجسم قائما أو قاعدا من دون أن يتغير القيام والقعود؟ مستحيل، فلا يعقل أن يكون الجسم متحركا والقيام ثابتا، يكون الجسم متغيرا والقيام غير متغير، فالجسم من حيث هو قائم لا ينفك عن القيام، فكل صفة تعرض على الجسم من حيث هو قائم تعرض على القيام نفسه، أيضا كل صفة تعرض على النفس من حيث هي عالم تعرض على العلم، فلا يعقل أن يكون العلم فعلية تامة بينما العالم متحرك ومتغير من دون أن يسري ذلك إلى العلم نفسه، فإن ذاك تفكيك بين المتضايفين، وهناك قاعدة «المتضايفان متكافئان»، فأي صفة لهذا تنعكس للآخر في جميع المراحل، فعندما تقول «فوق وتحت» فمن المستحيل أن يكون السقف فوق والأرض تحت بينما الأرض متحركة والسقف ثابت فلا يكونان متضايفين، فلا يكون السقف فوقا لهذه الأرض إلا إذا اشتركا في الصفات، أو إذا الأرض متحركة لم يصبح السقف فوقا لهذه الأرض بل صار فوقا لأرض أخرى.

فالمتضايفان متكافئان في الصفات، فالعلم والعالم متكافئان، فتحصّل من ذلك كله أن العلم حصول أمر مجرد من المادة وهو الصورة، لأمر مجرد منها وهو النفس، أي حضور شيء لشيء سواء كان الحضور حضورَ فعلٍ كما يقول المشاؤون من أن النفس تصنع الصور، أو حضور قبول أي ستتقبل كما يقول الإشراقيون من أن وظيفة النفس الإدراك لا صنع الصور، وربما نشير إلى هذا في محاضرة من المحاضرات.

والحمد لله رب العالمين

[1]  الظاهر أن المحور الثاني لم يتسع الوقت إلى ذكره.
[2]  نهاية الحكمة ص264.
[3]  بحسب تعبير السيد الطباطبائي «قدس سره».
[4]  المصدر نفسه ص266.
[5]  دكتور من عمان يتابع هذه المحاضرات كتب لنا.
[6]  كتاب «نهاية الحكمة» للسيد الطباطبائي مختصر كتاب الأسفار، صحيح أن السيد الطباطبائي أضاف بعض الوجوه وبعض الأدلة، ولكن عند المقايسة كتاب علمي مختصر لكتاب الأسفار الأربعة للملا صدرا الشيرازي.
[7]  ص267.