الدرس 8 | لغز الهوية = من أنا

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

حديثنا حول «لغز الهوية الإنسانية» والمعبر عنه ب «من أنا؟» بين الفلسفة الغربية والفلسفة الشرقية.

في موقع «سبوتنيك - Sputnik» مقال بعنوان «معضلة الهوية والبحث عن الذات» حيثُ ذكر المقال أنَّ ”كلمة «أنا» شغلت الفلاسفة وعلماء النفس عن ما هي الهوية، فمنذ الحكمة اليونانية المنحوتة على معبد «أبولو» والتي رُسمت بعنوان «اعرف نفسك»“.

ما زال البحث حول «أنا»، فهل أنا من يحدد ذاتي في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل؟ ومتى يبدأ تحديد هوية «أنا»؟ وهل «أنا» والجسم أم الفكر؟ أم المشاعر؟ حيث يُدرك الجميع أن وراء الفكر والمشاعر والجسم ذات ثابتة منحفظة يُعبر عنها بكلمة «أنا»، ويشار إليها بكلمة «أنا»، ويُضرب لذلك مثلا «سفينة ثيسيوس - Ship of Theseus»، ثيسيوس هو مؤسس أثينا، قتل الوحش في مينيتور في جزيرة كرايت، ورجع إلى بلاده على سفينة، وتخليدا لذكراه حافظ الأثينيون على السفينة لمدة ألف سنة، وكلما تَلف جزءٌ منها عُوض عنه بجزء آخر، حتى انقرضت جميع أجزائها الأصلية، ولكن ما زال الجميع يقول هذه سفينة ثيسيوس، وهي التي عاد بها عندما عاد منتصرا.

كيف بقيت السفينة مع تغير سائر قطعها وأجزائها؟ هل هذه التي عاد عليها مؤسس أثنيا أم أن هذه غيرها؟ أم هناك هوية مشتركة تجمع الصورتين وتجمع الحالتين؟

من هنا جاء السؤال عن هوية الإنسان، فالهوية المعبّر عنها بكلمة «أنا» هي مثل هذه السفينة التي طرأت عليها كل التغيرات ومع ذلك يقال أنها هي السفينة الفلانية مع طروء سائر التغيرات عليها. من هنا نتجه إلى المحاور في بحثنا حول هذا الموضوع ألا وهو «لغز الهوية بين الفلسفتين الشرقية والغربية»:

المحور الأول: في لغز الهوية بين الفلسفتين الغربية والشرقية.

في موسوعة «ستانفورد للفلسفة» مقال بترجمة إيمان رؤوف عنوانه «الهوية الشخصية»، في هذا المقال يستعرض الكاتب عدّة أمور يعيشها كل إنسان، وعدة أسئلة تتبادر لذهن كل إنسان عندما يمر حول حقيقة «أنا» ولغز الهوية، فهنا عدّة نقاط في هذا المقال:

النقطة الأولى: ليس البحث في الهوية عن الهوية اللغوية - عربي أو غير عربي - وليس البحث عن الهوية القومية - من أي جنس ومن أي قومية - وليس البحث عن الهوية الإنسانية العامة - الإنسان مقابل الحيوان والنبات والجماد - إنما البحث عن الهوية الشخصية التي يُشار إليها بكلمة «أنا»، وهي التي تُنسب إليها سائرُ الأفعال فتقول: ”أنا أتحرك، أنا أتكلم، أنا أفعل، أنا تخصصي كذا، أنا زوجتي كذا“، فالبحث عن الهوية الشخصية لا عن الهوية الإنسانية بصفة عامة.

النقطة الثانية: هنا سؤالان حول الهوية:

السؤال الأول: في أي مرحلة من مراحل البويضة الملقحة بدأت الشخصية وقيل أصبح شخصا، وحقيق أن يُعبر عنه بكلمة «أنا»؟ ما هي أدق الصفات والمميزات التي تميزه عن غيره من أخوته ومن والديه بل من التوأم الذي معه في رحم واحد بحيث تُعد هذه المميزات هي المقوم لكلمة «أنا»؟ هل قوام الهوية هي الملامح الفكرية؟ هناك إنسان عقله رياضي، وهناك إنسان عقله إداري، وهناك إنسان عقله فني، هناك إنسان عقله فلسفي، فتختلف الملامح الفكري من إنسان لآخر، أم الهوية بالملامح النفسية؟ إنسان مرح، إنسان غضوب، إنسان متفائل، إنسان متشائم، أم الهوية بالكائن الحي البايولوجي؟ هذه الكتلة التي تخضع للنمو هي الهوية الإنسانية؟

مما يؤكد على أن الهوية الإنسانية التي يُعبر عنها بكلمة «أنا» ليست هذه الكتلة البيولوجية التي تنمو وتتلاشى وتضعف وتهرم؛ لأنه لو سُئل كم عدد البشر على الأرض؟ كم عدد الهويات الشخصية على الأرض؟ قد يُقال 7مليار و700 مليون كائن حي على الأرض، ولكن ماذا لو قُسم دماغ الإنسان وأصبح في هذه الكتلة شخصيتان، وكل شخصية تنتمي إلى نصف من الدماغ، هل اختلف عدد البشر على الأرض؟ فمجرد أن لكل بشر كتلة مادية تتحرك على الأرض فهذا لا يعني أن الهوية هي هذه الكتلة، فلو قُسم الدماغ فهناك شخصيتان مع أنهما يعيشان في كتلة مادية واحدة. لو نُقل دماغك إلى دماغي، فمن المسؤول عن أفعالي أنا أم أنت؟ ومن الذي يتحرك في مشاعري وخواطري، أنا أم أنت؟ كل هذه الأسئلة تزيد من لغز الهوية وضبابية الهوية المعبر عنها بكلمة «أنا».

النقطة الثالثة: عنصر الاستمرارية.

مِن قوام الهوية الاستمرارية، فالهوية لا تُقطع لحظة واحدة، فالهوية من قوامها أنها مستمرة بحسب الزمن، فهي مشتركة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فإنَّ مِن قوام الهوية الاستمرارية الزمنية، فأنت لك صورة وأنت طفل في المدرسة، والآن أنت في عمر الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين، وترجو أن تعيش عشر سنوات أخرى مثلا، فما الذي يثبت أنك أنت أنت صاحب تلك الصورة التي كانت صورة طفل في المدرسة؟ وأنت الذي تأمل وترجو أن تكون موجودا على الأرض بعد عشر سنوات؟ ما الذي يثبت الخيط المشترك بين هذه الأزمنة الثلاثة كي تقول بأن ذلك الخيط المشترك هو هويتي؟ لأن من قوام الهوية الاستمرارية وذلك الخيط المشترك هو المعبر عنه بالاستمرارية بين الأزمنة الثلاثة، ومن الذي يثبت أنك بعد رحيلك عن الأرض أنه ليس لك مثال باقي على هذه الأرض؟ لعلك تُوجد في نفس أخرى وفي مكان آخر؟

النقطة الرابعة: أبرز الاتجاهات الفلسفية في لغز الهوية هي ثلاثة:

الاتجاه الأول: التفكير.

”جون لوك“ يرى أن هوية الإنسان بالتفكير، فالإنسان كائن مفكر، فعندما أقول «أنا» فإن كلمة «أنا» تُشير إلى تلك النقطة الموجودة عندي والتي هي عبارة عن القدرة على التفكير، فكل إنسان هو ذات إذا امتلك القدرة على التفكير، وقد نُوقش ”جون لوك“ في هذا الاتجاه بما رأيه في الأجنة؟ فهل الجنين يملك القدرة على التفكير؟ وإذا كان لا يملك القدرة على التفكير أليست له هوية؟ ماذا يقول في الإنسان حال الغيبوبة؟ هل فقد الهوية لأنه فقد القدرة على التفكير؟ أم لهذا الإنسان حتى في حال الغيبوبة هوية؟

الاتجاه الثاني: الذاكرة.

سبق أن قلنا أن قوام الهوية بالاستمرارية بين الأزمنة الثلاثة، وقوام الاستمرارية بالذاكرة، فإذا بقيت الذاكرة فأنا ذاك الإنسان الذي كنت طفلا في المدرسة، وأنا ذلك الإنسان الذي تعرضت للحادث المعين، وهكذا، فالذي يربط كل هذه الصور والأزمة هو الذاكرة، إذن معيار الهوية الشخصية الذاكرة؛ لأن الذاكرة هي الخيط الذي يربط الأزمنة الثلاثة ويحقق الاستمرارية التي هي قوام الهوية الشخصية، ولكن ”بركلي“ ناقش أيضا في هذا الاتجاه وقال: إذا كانت الهوية بالذاكرة فماذا يُقال في حال انعدام الذاكرة، فلو أن رجلا انمحت ذاكرته ولا يتذكر شيئا، أو أن الإنسان أراد محو ذاكرته فقام بعمل يُدخله في غيبوبة تامة بحيث لا يبقى له بصيص ذاكرة، فهل أعدم هويته فلم تبقَ له هوية؟ وماذا لو كان الإنسان في حال نوم عميق فلا أحلام ولا ذكريات، فهل فقد هويته في هذه الفترة التي عاش فيها في نوم عميق؟ إذن هذا الاتجاه غير ناهض الذي ربط الهوية بالذاكرة.

الاتجاه الثالث: التبعية السببية.

الدماغ له ثلاثة أجزاء:

  • المخ: وهو المسؤول عن التذكر والتفكير والشعور.
  • المخيخ: وهو المسؤول عن التنسيق والتوازن.
  • جذع الدماغ: وهو المسؤول عن الوظائف الذاتية غير الإرادية كالتنفس والهضم والنبض.

في بعض النظريات الحديثة التي تبنتها المدرسة الاستبطانية في علم النفس ينقسم المخ إلى نصفين يعملان بشكل مستقل، النصف الأيمن عاطفي بصري تفكيري، والنصف الأيسر تحليلي لغوي منطقي، فإذا كان المعيار في الهوية هو التبعية السببية، فما معنى التبعية السببية؟ معناها جميع المحصلات النفسية من المشاعر والأفكار والذكريات والمهارات والهوايات، فإن مجمع كل هذه العلائق هو الهوية، وعاء كل هذه الأمور هو الهوية، فالهوية الشخصية التي يُعبر عنها بالتبعية السببية هي مجمع يتبعه الذاكرة، الأفكار، المشاعر، الانفعالات، فهذا المجمع هو هوية الإنسان. هل يُمكن أن يحتفظ الإنسان بهذه الهوية في استمراريته؟ لأننا قلنا أن قوام الهوية الاستمرارية فلابد من البحث عن نقطة تبقى وتستمر مع الإنسان ولا تضمحل بأي تغير، فهل هذه التبعية السببية مستمرة مع الإنسان بحيث تكون هي هويته؟

ناقشوا بنظرية الانشطار[1] ، فلو فرضنا أن شخص «أ» له مخ واحد يجمع كل هذه الأجزاء، أُخِذَ النصفُ الأيمن من مخ «أ» وزُرع في «ب»، والنصف الأيسر من «أ» زرع في «ج»، الآن النصف الأيمن ل «أ» عند شخص، والنصف الأيسر ل «أ» عند شخص آخر، فالآن أيهم هو «أ»؟ فهل «ب» هو «أ» ولكن «ج» ليس «أ»؟ أو «ج» هو «أ» و«ب» ليس «أ»؟! فهذا تحكم وهو - كما يقول الفلاسفة - ترجيح بلا مرجح، فإن هذا أخذ نصفه وهذا أخذ نصفه، أم أن «ج» و«ب» كلاهما «أ»؟ فإن هذا جمع بين النقائض؛ لأن «ب» له شخصية و«ج» له شخصية، وكذلك «أ» له شخصية ثالثة، أما «ب» و«ج» ليسا هما «أ» وهذا خلف الفرض من أن مجمع الأفكار والمشاعر والخواطر هو الهوية والحال أن هذا المجمع انقسم إلى نصف أيمن وإلى نصف أيسر، والأيمن ذهب إلى «ب» والأيسر إلى «ج»، لذلك قالوا أن هذه الفرضية تُوجب لنا عدم الإذعان بأن الهوية الشخصية للإنسان هي التبعية السببية التي عبرنا عنها بهذا المجمع لأن هذا المجمع لو قُسم ووزع فأين هوية «أ»؟ وأين هوية «ب»؟ وأين هوية «ج»؟

أو نأتي لمحاولة أخرى، فلو فُرض استئصال نصف الكرة المخية، وكما يقولون هناك طفل أقيمت له عملية واستؤصل الجانب الأيسر من دماغه ولم يفقد قدرته العقلية، بل كانت له قدرات لغوية، فلو فرضنا أن نصف الكرة المخية استؤصل من «أ» إلى «ب»، فهل اتحدا في هوية واحدة أم لكل منهما هوية؟ ولو جئنا إلى الجسم الثفني - ذكرنا في الأسبوع الماضي هذه النقطة - وهو الجذع الذي يجمع النصف الأيمن والنصف الأيسر، فلو تعطل أو أزيل فانفصل النصف الأيمن عن الأيسر، يقولون من الحالات التي تترتب على استئصال الجسم الثفني أو تعطيله متلازمة اليد الغريبة، ومعنى متلازمة اليد الغريبة هي حالة عصبية تتسبب بجعل يد واحدة تتصرف بإرادتها الحرة، أنا إنسان ويدي لها هوية مستقلة تتصرف بإرادتها الحرة دون أن ترجع إلى دماغي، فهي تتصرف مستقلة عني ولا تخضع لسيطرة العقل وتتصرف كما لو أن لها عقلا خاصا، إذن لو أُخذ الجسم الثفني وفصل النصفان فهل أن للإنسان هويتين نتيجة انفصام النصفين، كل هذا البحث يؤكد النقطة التي بدأنا فيها وهي أن الهوية لغز، وأن الحيرة ما زالت قائمة لدى الفلاسفة وعلماء النفس في تحديد «من أنا»، وما هو المشار إليه بالهوية الشخصية لدى الإنسان.

المحور الثاني: هوية الذات وذات الهوية لدى الفلسفة الشرقية.

الفلسفة الشرقية عندها كلمة حاسمة وهي أن الهوية واضحة، هوية الذات وذات الهوية واضحة، فهوية الذات وذات الهوية هي ما جمع عناصر ثلاثة، وقد ذكرها الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب الإشارات[2]  وقد شرحها المحقق نصير الدين الطوسي في شرحه على كتاب الإشارات، وهذه العناصر الثلاثة هي قوام الهوية الشخصية وهي المشار إليها بكلمة «أنا»، والعناصر هي:

العنصر الأول: الالتفات.

ويعبرون عنه ”غير المغفول عنه غير المغول عنه“، فهم يقولون أن الإنسان يغفل عن كل شيء لكنه لا يغفل عن ذاته أبدا، فهناك شيء لا يغفل عنه الإنسان، فهو يغفل عن كل شيء حوله ولا يغفل عن شيء اسمه «أنا»، فهو لا يغفل عن ذاته، فحتى لو فقد الحواس الظاهرة كالنائم، فحتى النائم لا يغفل عن ذاته، لأن النائم يرى أحلاما ويعبر في تلك الأحلام عن ذاته، وحتى لو فقد الحواس الظاهرية والباطنية - كالسكران - فإنه لا يغفل عن ذاته، فالسكران يلتفت أن له ذاتا وإن كان لا يعي شيئا آخر لكنه يعي ذلك، فلا يغفل الإنسان عن ذاته إطلاقا، إذن ذلك الشيء الذي لا يغفل عنه ويكون الالتفات إليه حاضرا دائما هو العنصر الأول من عناصر هويته وذاته.

العنصر الثاني: الثبات.

الإنسان يرى نفسه «هي هي»، كنت طفلا، صرت شابا، صرت كهلا، صرت شيخا، ف «هو هو» أنا، هذا الجسم عرضت عليه تغيرات لكن أنا ما زلت أنا، أنا كنت جاهلا وأصبحت عالما، لم يكن لي وجود، صار لي تخصص، صارت لي مهارات، صارت لي مواهب مختلفة، مع كل هذه التغيرات لكن هناك نقطة ثابتة تجمع كل هذه التغيرات اسمها «أنا»، يعبر عنها هؤلاء الفلاسفة بقوله «غير المتغير غير المتغير»، المتغير هو الجسم والحالات والأفكار ولكن هناك غير لهذا المتغير وهو الثابت وهو المعبر عنه بكلمة «أنا».

العنصر الثالث: القدرة على التفكير اللغوي.

منذ الفلسفة اليونانية إلى يومنا هذا يُعبر عن الإنسان بأنه «حيوان ناطق»، ناطق يعني يمتلك القدرة اللغوية، فهو قادر على التفكير والتعبير، فحتى الأخرس يُعبر عن تفكيره بالإشارة فلا نقصد الكلام بل القدرة على التعبير ولو بالإشارة، فبأي إشارة من الإشارات، أما ما ذكر في النقاش مع «لوك» ومع «التبعية السببية» فكان خلطا بين الفعلية والقابلية، فالإنسان قد يفقد فعلية التفكير لكنه لا يفقد القدرة على التفكير، حتى لو أصابه عطش وشلل ودخل في غيبوبة فإن القدرة على التفكير ما زالت موجودة، ولذلك بمجرد أن تنتهي مرحلة الغيبوبة يرجع ويستذكر معارفه السابقة كما كانت، فالقدرة بمعنى القابلية على التفكير لا تغيب، وإن غابت فعلية التفكير، والعنصر الثالث من عناصر الهوية القدرة على التفكير وليست فعلية التفكير، فالقدرة على الاستذكار وليست فعلية الذاكرة كي يُقال بأن الذاكرة غابت.

المحور الثالث: في أدلة تجرد النفس.

النفس «أنا» الهوية، هل هي وجود ماديٌ أم أنها وجود مجرد؟ فما هي الأدلة على تجرد النفس؟

ذكر الملا صدرا الشيرازي في كتابه الأسفار أن للنفس نوعين من التجرد:

  • النوع الأول: التجرد المثالي.
  • النوع الثاني: التجرد العقلي.

النفس تُدرك صورة الأشياء المادية، النفس التي تُدرك صور الأشياء المادية ويُعبر عنها بالنفس المثالية، وهي متجردة تجردا مثاليا، والنفس إذا أدركت الكليات غير المادية مثل «”لكل معلول علة“، ”اجتماع النقيضين محال“» تُعتبر النفس التي تدرك الكليات مجردة تجردا عقليا، وقد أقام الملا صدرا[3]  أربعة أدلة على تجرد النفس تجردا مثاليا، وكذلك أقام أحد عشر دليلا على تجرد النفس تجردا عقليا[4] ، وكذلك ذكر الشيخ الرئيس في كتاب الشفاء[5]  ثمانية براهين على تجرد النفس، ونحن نكتفي بأربعة أدلة[6]  من هذه الأدلة.

الدليل الأول: الفارق الجوهري بين الحس والعقل.

ومن أجل بيان هذا الدليل نذكر أمورا ثلاثة:

الأمر الأول: المراد بالنفس - التي نبحث فيها - هي النفس التي تعقل الكليات، وهي المعبر عنها بالنفس العاقلة، والمراد بتجردها أي أنها ليست جسما ولا حالّة في جسم من الأجسام، فأما أن النفس تُدرك الكليات فهذا واضح، فكل إنسان بالوجدان يرى أنه يُدرك القضايا الكلية، كما أن كل إنسان يُدرك أن النفس مُحرّك غير الحركة التلقائية - بأن يحصل حادث أو زلال فأرى نفسي متحرك تلقائيا - وغير الحركة القسرية - بأن يأتي شخص يحرك جسمي - ونحن نتكلم في الحركة الاختيارية الإرادية، ومصدر الحركة الاختيارية الإرادية هي النفس، فالنفس من سماتها إدراك الكليات، والنفس من سماتها التحريك الاختياري، والنفس التي تملك هاتين السمتين - إدراك الكليات والحركة الاختيارية - هي النفس العاقلة التي نبحث عنها مجردة أم مادية.

الأمر الثاني: هناك فرق بين الجسم التعليمي والجسم الطبيعي، فالجسم التعليمي هو الامتداد في الأبعاد الثلاثة - طول وعرض وعمق - فهو مجرد هيكلة هندسية لا أكثر، أما الجسم الطبيعي - والذي نتكلم عنه - متقوم بالفعل والانفعال الخاص، فكل جسم له طبيعة خاصة في الفعل والانفعال، فكما أن جسم النبات له طبيعة خاصة غير جسم الحيوان، وجسم الحيوان غير جسم الإنسان، حتى الإنسان نفسه فإن لكل إنسان طبيعة خاصة في الفعل والانفعال. كذلك كيفيات الأجسام، فلماذا جسم الإنسان قادر على القيام والقعود دون غيره من الأجسام؟ إذن أيضا الكيفيات تحتاج إلى طبائع خاصة تقتضيها كما أن لكل جسم طبيعة خاصة في الفعل والانفعال فإن الكيفيات التي تحل في الأجسام أيضا لا تحل في أي جسم، بل في جسم معين ينسجم مع تلك الكيفيات بحسب طبيعته.

الأمر الثالث: لكل قوة حسّا، السمع قوة لها حس، البصر قوة لها حس، اللمس قوة لها حس، كل القوى الخمس لها حواس تُعد بمثابة الآلات لهذه القوى، ولا تشترك الحاسة الواحدة في قوته، فالبصر لا يغذي السمع، واللمس لا يغذي البصر، والبصر لا يغذي الشم، فكل حاسة تؤدي فعلا لقوة معينة ولا تؤدي أثرا لقوة أخرى.

بعد هذه الأمور الثلاثة نأتي إلى النتيجة ونقول: النفس العاقلة - التي نبحث عنها هل هي مجردة أما مادية - هي هذا العقل، فنحن نتكلم عن العقل، فالعقل الذي يُدرك الكليات ويحرك الجسم نحو ما يريد هل فيه خواص الحس؟ هل فيه خواص الجسم؟ هل فيه خواص كيفيات الأجسام؟ لا، فالعقل ليس حسا؛ لأن لكل حس أثرا خاصا بينما العقل يدرك جميع المدركات، فما تدركه الحواس وما لا تُدركه الحواس يُدركه العقل، فالشم والذوق واللمس والبصر كلها يُدركها العقل، بينما كل حاسة لا تُدرك أثر الحاسة الثانية، بل ويدرك ما لا تُدركه الحواس كالأمور الوجدانية من الخوف والغضب والفرح والحب والكراهة، فهذا دليل على أن العقل ليس حسا؛ لأنه يدرك ما تُدركه كل الحواس وما لا تُدركه الحواس، وكذلك العقل ليس كيفية حالّة في جسم معين إذ لو كان العقل كيفية حالة في جسم معين لم يدرك غير هذا الجسم الذي حل فيه، بينما نرى العقل يُدرك سائر الأجسام لا خصوص جسم معين، وهو ليس من الأجسام وإلا لما أدرك ما ليس من عالم الأجسام كالأمور المعنوية والجردة عن المادة.

إذن ثبت بذلك أن العقل ليس حسا وليس جسما وليس كيفية حالة في جسم، فما هو إذن؟ لا معنى لذلك إلا معنى أنه مجرد، فتأمل.

الدليل الثاني: النفس تعلم بذاتها

ذكره الملا هادي السبزواري[7]  وملخصه أن علم النفس بذاتها - النفس تعلم بذاتها فلا يوجد أحد لا يعلم بنفسه - يقود إلى أن النفس مجردة وليست مادية وذلك عبر مقدمات ثلاث:

المقدمة الأولى: أن المعقول ليس له مقدار.

أنا عندما أتصول نفسي فإن هذا المعقول الذي أسميه «نفسي» وأسميه «أنا»، فإن هذا المعقول ليس له مقدار، يعني ليس له طول وعرض وعمق ونصف وثلث فهو ليس له مقدار، فالمعقول عندما أتصول نفسي معقول لا يتقدر بمقدار.

المقدمة الثانية: كل ما لا يتقدر بمقدار فهو مجرد؛ لأن كل مادي فهو ذو مقادير، إذن المعقول مجرد.

المقدمة الثالثة: بما أنني عقلت نفسي، والمعقول - وهو نفسي - مجرد عن المادة، إذن العاقل - وهو نفسي - مجرد عن المادة أيضا؛ لأن بين المعقول والعاقل إما حلول، إما علية، إما اتحاد، يعني إما أن النفس محل والمعقولات تحل فيه، وإما أن النفس علّة والمعقولات معلول لها، وإما أن النفس تتحد مع المعقولات، وعلى جميع الأنحاء الثلاثة لا يُعقل أن يكون المعقول مجردا والعاقل ماديا، فإن كانت العلاقة بينهما علاقة حلول فلا يُعقل أن يحل المجرد في المادي، فالمجرد لا مقدار له والمادي له مقدار، فكيف يحل ما لا مقدار له في ما له مقدار، وإن كانت العلاقة بينهما علية فلا يُعقل أن تكون العلة مادية بينما المعلول مجرد عن المادة يعني المعلول أعظم من العلة، وإن كانت العلاقة اتحادا وهو هوية فكيف يُعقل الاتحاد بين المجرد والمادي؟!

إذن بما أن النفس إذا عقلت ذاتها فالمعقول مجرد فلا محال يكون العاقل مجردا.

الدليل الثالث:

كَذَا الغِنا فِعْلاً كَدَرْكِ الذاتِ   وَدَرْكِ  دَرْكِ الذاتِ iiوالآلات

هذا ما ذكره الملا هادي السبزواري في المنظومة، وهذا الاستدلال يقول أن الفعل متأخر عن الفاعل، فلابد من أن يُوجد الفاعل أولا ثم يوجد الفعل، فالفعل متأخر وجودا ورتبة عن الفاعل، فلو كان الفاعل محتاجا في ذاته إلى المادة لاحتاج في فعله إليها بالأولية لأن الإيجاد فرع الوجود، وتوضيح هذه النقطة:

نحن نرى أن النفس تقوم بأفعال متعددة كأن تُدرك ذاتها، وتُدرك قواها، وتُدرك أفعال قواها، فهي تُدرك ذاتها وقوها من سامعة وباصرة ولامسة وتُدرك أفعال قواها أيضا، وهذه الإدراكات التي تقوم بها النفس هي فعل من أفعالها، وبالوجدان أن النفس تقوم بهذه الأفعال بلا واسطة مادية، فهي عند إدراكها لذاتها لا تحتاج لواسطة مادية، وعند إدراكها لقواها لا تحتاج إلى واسطة مادية، وعند إدراكها لأفعال قواها لا تحتاج إلى واسطة مادية، فهي تُدرك هذه الأمور بشكل مباشر.

إذا كانت النفس تقوم بهذه الأفعال بلا واسطة مادية فإن هذا هو معنى أن النفس نفسها ليست مادية؛ لأن الفعل متأخر وجودا عن الفاعل، فلو احتاج الفاعل في فعله إلى المادية لكان محتاجا في ذاته إلى المادة، وإذا لم يحتج في فعله إلى المادة كشف ذلك أنه في ذاته لا يحتاج إلى المادة، فإذا كان غنيا عن المادة في فعل كان غنيا عن المادة في ذاته، فلو احتاج الفاعل في ذاته إلى المادة، لاحتاج في فعله إليها بالأولية لأن الإيجاد فرع الوجود والحال أن النفس تقوم بفعلها بدرك ذاتها ودرك قواها وأفعال قوها ودرك الدرك، فهي تُدرك أيضا أنها تُدرك، وكل ذلك بدون واسطة مادية فهي غنية عن المادة في الفعل وهذا يكشف عن أنها غنية عن المادة بحسب الذات، وهذا هو الدليل الثالث على تجرد النفس.

والحمد لله رب العالمين

[1]  نظرية الانشطار نظرية ما زالت محل بحث علمي في أنها ممكنة أم لا، وإنما هي فرضية مطروحة.
[2]  كتاب الإشارات، الفصل الأول من النمط الثالث من الإشارات.
[3]  الأسفار ج4 ص64.
[4]  الأسفار ج4 ص83.
[5]  الشفاء ص288.
[6]  لم يتسع الوقت إلا لذكر ثلاثة أدلة فقط.
[7]  المنظومة في الفلسفة ج5 ص127.