الدرس 18 | المذهب العقلي ونظرية المعرفة

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

السؤال الذي يرد على ذهن الإنسان «ما هو مفتاح القضايا التصديقية الحقّة؟»، هناك قضايا يُذعن بها الإنسان، بعض هذه القضايا جزئية مثل «الشمس طالعة» و«الجو حار»، وهناك أيضا القضايا الكلية كقولنا «الكل أعظم من الجزء، الواحد نصف الاثنين، محيط الدائرة أكبر من قطرها»، وغير هذه من القضايا التي يُذعن بها الإنسان سواء كانت قضايا فلسفية نحو «النقيضان لا يجتمعان» أو قضايا طبيعية نحو «الحرارة تُولد الغليان» أو قضايا رياضية نحو «الواحد نصف الاثنين»، فهذه القضايا التي نُذعن بصدقها، من أن أتت؟ وما هي الخيوط الأولية التي نُسجت منها جميع هذه القضايا؟ والبحث في ذلك في محاور ثلاثة:

المحور الأول: في العلاقة بين الكثرة الإدراكية للذهن والقوة المفكرة.

وهذا يتمثل في عدّة خطوط متسلسلة، وبعض هذه الخيوط دخيل بالبعض الآخر، وهنا نرجع إلى كتاب «أصول الفلسفة [1] » لمعرفة هذه الخطوط الأولية التي توضح لنا العلاقة بين الكثرة الإدراكية للذهن والقوة المفكرة.

الخط الأول:

الذهن لأنه قوة خلّاقة مبدعة لذلك له كثرات من الإدراكات، أي ليس الذهن مثل المرآة ترتسم فيها الصور فقط، بل الذهن يقوم باختراع الصور فالذهن يلتقط الصورة الواحدة ويحولها إلى عدّة صور بمعنى أنه له قدرة التفنن وقدرة تحويل المعنى الواحد إلى معاني وصور متعددة وهذا ما يُعبر عنه بالكثرة الإدراكية.

الكثرة الإدراكية تتجلى في عملين ذهنيين وهما التحليل والتركيب، فإن التحليل والتركيب على قسمين «عملي وذهني»، أما التركيب العملي فهو التركيب الخارجي الذي يُمارسه الكيميائي وعالم الأحياء، فهو يمارس عملية تركيب وعملية تحليل، فالماء يعود إلى عناصره الأولية من الأكسجين والهيدروجين فإن هذا تحليل، وجمع هذه العناصر بنحوٍ يُصبح ماءً فإن هذا تركيب، وهذا التحليل والتركيب العملي، وهناك تحليل وتركيب ذهني وهو ما نريده في هذا المقام، فالتحليل والتركيب الذهني كأن يتأمل الإنسان في حقيقة الإنسان وما هي حقيقة الإنسان، فإذا قم بتحليل هذه الحقيقية المسماة بالإنسان وحللها إلى جزأين «حياة ونطق» والمعبر عنه في كلماته ب «الحيوان الناطق»، فالإنسان حقيقته عبارة عن عنصر الحياة وعنصر القدرة على الإبراز والقدرة على التفهيم والنطق، فإن هذا تحليل، أما عندما يقوم الإنسان بجمع هذين العنصرين ويُسمي مجموع هذين العنصرين بكلمة «إنسان» فإن هذا تركيب، فالتحليل والتركيب الذهنيان من الفعاليات للكثرة الإدراكية لدى الذهن.

الخط الثاني: الكثرة الإدراكية للذهن هي من إبداعات القوة المتصرفة.

كما سبق أن النفس لها عدّة قوى، فمن قوى النفس المشاعر والغرائز والقوة المتصرفة، والقوة المتصرفة تعني ثلاثة مجالات، القوة الحسية والقوة المتخيلة والقوة المفكرة، نعم هي قوة واحدة ولكن باختلاف المجال تختلف تسميتها، وهذه القوة المتصرفة والتي هي عبارة عن العاقل لدى النفس، والقوة المتصرفة هي التي تُبدع في الحسيّات والخياليات والعقليات.

المجال الأول: القوة الحسية.

إذا كان إبداع القوة المتصرفة في الحسيات كما لو أن الذهن يرى شيئاً في الخارج فينتقل منه إلى صورة أخرى يعرفها، فمثلا لو فرضنا أنه يرى القمر وبمجرد أن يراه ينتقل من صورته إلى صورة عالم من العلماء، فهو يرى نحو شبه بين صورة القمر وصورة العالم، فالانتقال من هذه الصورة إلى تلك الصورة هي عملية تصرف وهذه تُسمى القوة المتصرفة الحسيّة.

المجال الثاني: القوة المتخيلة.

أحيانا الصورة ليست موجودة في الخارج أبداً إلا أن الذهن يقوم باختراعها، فالذهن يتصور جبلاً من ذهب لأنه يجمع بين صورة الذهب وصورة الجبل ويركب منهما صورة ويسميها جبلاً من ذهب، فالجبل من الذهب هو تركيب ذهني والقدرة التي تقوم به هي القوة المتخيلة. أبو العلاء المعري كان مكفوف البصر إلا أنه كان يتصور الليل ويتصور السماء والنجوم وكان يقول:

ليلتي هذه عُروسٌ من الزّنْـ   ـجِ  عليها قلائِدٌ مِن iiجُمانِ

فهو يتصور السماء كأنها عروس من الزنج والنجوم هي قلائد معلّقة عليها، وهذا من القوة المتخيلة.

المجال الثالث: القوة المفكرة.

القوة العاقلة إذا تصرفت في مجال العقليات بالتحليل والتركيب فإنها تُسمى بالقوة المفكرة، وفي القوة المفكرة نلاحظ أنه عندما يقوم الذهن بتحليل شيء وتركيبه بأن يقول الذهن «العالَمُ متغيرٍ» و«كلُّ مُتغيرٍ حَادِث» إذن «العالمُ حادثٌ»، فإن هذه عملية خضعت لتحليل وتركيب - كما سيأتي بيانه - وهذه العملية التي تُسمى بعملية الاستدلال التي خضعت لتحليل وتركيب تُسمى بالقوة المفكرة.

إذن القوة المتصرفة لها مجالات ثلاثة، ويهمنا المجال الثالث ألا وهو التحليل والتركيب الذهني في مجال العقليات.

الخط الثالث: القوة المفكرة وفاعليتها في عالمي التعريف والاستدلال.

القوة المفكرة تعمل في عالمين ألا وهما عالم التعريف وعالم الاستدلال، والفرق بين العالمين قد سبق في أول بحوث نظرية المعرفة أنْ قسمنا الإدراك الذهني إلى تصور وتصديق، فهذه القوة المفكرة تعمل في عالم التصور وتعمل في عالم التصديق، وفي عملها وإبداعها في عالم التصور نرى أن أظهر مثال لعمل هذه القوة فيه هو عالم التعريف، فجزء من علم المنطق هو المُعرِّف والمُعرّف، وهذا المُعرّف والمُعرّف والانتقال من المُعرّف للمعرّف أو الانتقال من المُعرَّف للمُعرِّف فإنه من عمل القوة المفكرة في عالم التصور.

مثال: يذكر الشهيد المطهري «رحمه الله» في أصول الفلسفة [2]  فيقول: ”عندما نُريد أن نُعرف الخط، فما هو الخط؟ هو كمٌّ مُتصلٌ ذو بعدٍ واحد“، وقلنا كماً لأن الخط ليس من مقولة الكيف وإنما هو من مقولة الكم، وقلنا متصلاً لأن الكم قد يكون منفصلاً وقد يكون متصلاً فالعدد كم لكنه كم منفصل فالواحد غير الاثنين والاثنين غير الثلاثة، لكن هناك كم متصل بمعنى أن كل جزء منه هو الأول وهو الثالث أي أن هذا الخط فإن أي نقطة تضع يدك عليها فإنك تجدها أن لها أولاً ووسطاً ومُنتهى وهو كمٌ متصل، ولكن هذا الكم المتصل ذو بعدٍ واحد بخلاف السطح فإن السطح له بعدان «طول وعرض» بخلاف الجسم الذي له أبعاد ثلاثة «طول، عرض، عمق»، فالخط كمٌّ متصل ذو بعدٍ واحد. هنا نحن مارسنا عملية تحليل وتركيب، فقد جئنا إلى الخط وتصورناه وقمنا بتحليل ماهية الخط إلى أجزاء ثلاثة وهي «كم» «متصل» «ذو بعد واحد»، وبعد هذا انطلقنا من هذا التحليل للرجوع إلى الخط مرة أخرى وقلنا أن هذه الأجزاء الثلاثة إذا اجتمعت فهي الخط فإن هذه عملية تركيب، فتحليل وتركيب في عالم التعريف، أي تعريف الأشياء بلحاظ تحليلها إلى أجزائها.

وأما التحليل والتركيب في عالم الاستدلال، ونحن قد أشرنا إلى أن فاعلية القوة المفكرة هي بالتحليل والتركيب في عالمين، عالم التصور وعالم التصديق، ومثال فاعليتها في عالم التصور بالمعرِّف والمُعرَّف، ومثال فاعليتها في عالم التصديق بعملية الاستدلال.

عملية الاستدلال.

أنا لا أدري أن العالم حادث أو أن العالم قديم، فكيف أصل إلى النتيجة؟ كيف أصل إلى أن العالم حادث أم أن العالم قديم؟ لابد من أن أقوم بعملية تحليل وتركيب، فآتي إلى قضية حقيقية، وأقول «هل التغير يعني الحدوث؟ وهل هناك ملازمة بين التغير والحدوث؟» فإن هذه عملية تحليل، فأقوم بتحليل وأقول هناك تغير وهناك حدوث، فهل بين هاتين الصفتين ملازمة أم لا؟ فإذا قمت بتحليل ما هو موجود في عالم الطبيعة إلى صفتين «تغير وحدوث» ورأيت بين الصفتين ملازمة، وبنتيجة هذه الملازمة كونت مركباً ألا وهو «كل متغير حادث»، وبعد أن كونت هذا المركب طبقته على المثال ألا وهو العالم الذي لا أدري أهو متغير أم حادث وقلت بما إن «كل متغير حادث» و«العالم متغير» إذن «العالم حادث»، فإن ذات عملية الاستدلال متضمنة لتحليل وتركيب، وهذه فعالية من فعاليات القوة المفكرة لكن في عالم التصديقات وهو عالم الاستدلال.

الخط الرابع: ما هو الفارق بين القوة المتخيلة والقوة المفكرة؟

نحن قد قسمنا القوة المتصرفة إلى ثلاثة مجالات، قوة حسية وقوة متخيلة قوة مفكرة، والفرق بين القوتين الأوليين والقوة الثالثة - كما يذكر الشيخ المطهري «رحمه الله» في تحليل ذلك - أن القوة المتخيلة حرّة، فأنت تتخيل جبلاً من ذهب أو من نحاس أو إنسانا له عشرين رأسا فإن الخيال تحت تصرفك فتتصور ما تشاء بتحليل وبتركيب، أما عندما نأتي إلى القوة المفكرة فإن الأمر ليس بتصرفك وليست باختيار الإنسان؛ لأن القوة المفكرة هي التي تقصد الوصول إلى الحقيقية، فالقوة المفكرة مجالها العقليات والعقليات دائماً في إطار الوصول إلى الحقيقة، فبما أن القوة المفكرة تنشد الوصول إلى الحقيقة فإن الوصول الحقيقة لا يمكن إلا عبر قانون، فما لم تجرِ القوة المفكرة على ذلك القانون فلن تصل إلى الحقيقة، فالقوة المفكرة ليس عملها بالاختيار بل عملها مجبول على إتباع القانون [3]  الذي يُفضي اتباعه إلى الوصول إلى الحقيقة والأمر ليس باختيارها.

لذلك القوة المتخيلة ليس لها أي قيمة عملية فعندما يقول القرآن الكريم ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ «224» أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ «225» وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ «226»[4]  فإن الشعراء لا يقبلون، فإن هنا إشارة إلى أن الشعر له قيمة أدبية وليس له قيمة علمية وفرق بين القيمتين، فالشعر يُحرك المشاعر والعواطف لكن ليس قيمة علمية فهو لا يمتلك برهانا ولا دليلا على حقيقة من الحقائق، ولذلك فرق بين فعالية القوة المتخيلة التي ليس لها قيمة علمية وبين فعالية القوة المفكرة التي لها قيمة علمية لأن القوة المفكرة عبارة عن ميزان تتبعه القوّة المتصرفة لكي تصل إلى الحقيقة.

المحور الثاني: في بيان الفارق بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي في تحديد ميزان الوصول إلى الحقيقة. [5] 

هناك فرق بين المنطق العقلي والمنطق التجريبي، وهذا الفرق يتعلق بميزان الوصول إلى الحقيقة، فما هو ميزان الوصول إلى الحقيقة؟ ما هو الميزان الذي إذا اتبعته القوة المفكرة وصلت إلى الحقيقة، وهنا اختلف المنطقان - المنطق العقلي والمنطق التجريبي - في ميزان الوصول إلى الحقيقة، أما المنطق العقلي يرى أن القيمة المنطقية والعلمية تكمن في استدلال العقل لا في التجربة، فما لم يكن هناك استدلال عقلي فإنه لا توجد أي قيمة علمية ولا يكون الطريق موصلاً إلى الحقيقة، بينما المنطق التجريبي يسلب القيمة عن أي شيء سوى الاستقراء والتجربة، وبعبارة أخرى نرجع إلى التحليل والتركيب العملي فإن المنطق العقلي يرى أن الوصول إلى الحقيقة عبر التحليل والتركيب الذهني، بينما المنطق التجريبي يرى أن الوصول إلى الحقيقة عبر التحليل والتركيب العملي الخارجي المعبر عنه بالتجربة.

مع ذلك لا المنطق العقلي يُنكر التأثير للتجربة، فعندما نتبنى المذهب العقلي لا يعني ذلك أننا نُكر أهمية التجربة في الدراسات العملية، ولا المنطق التجريبي يُنكر فائدة التعقل والتفكير فإنه من دون تعقل وتفكير لا يمكن الوصول إلى شيء حتى عبر التجربة، لكن محل الاختلاف بين المذهبين والمنطقين هو في الميزان، فالتجريبيون يزعمون أن الميزان الأصيل في الوصول إلى الحقيقة هو التجربة، والتعقليون يؤمنون بوجود مبادئ عقلية مستقلة عن التجربة وهي الميزان الأصيل، والتجربة وإن كانت مقياساً لكنه مقياس بدرجة ثانية.

إشارة: سبق في التصورات أننا قلنا أن هناك مدرسة عقلية ومدرسة حسيّة ومدرسة صدرائية، ونحن في المذهب العقلي يختلف عن المدرسة العقلية السابقة، فالمذهب العقلي هو الذي يعبر عن الرؤية الدينية لجميع الأديان، فالرؤية الدينية بجميع الأديان تؤمن بأن طريق الاستدلال والوصول إلى الحقيقة لا يكون إلا عبر المبادئ العقلية، لذلك ليس عندنا الآن إلا مذهبان وهما المذهب العقلي والمذهب التجريبي.

معالم المذهب العقلي

المذهب العقلي الذي تتبناه الرؤية الفلسفية الدينية له عدّة معالم:

المعلم الأول: انقسام القضية إلى بديهية ونظرية.

كل القضايا هي إما بديهية وإما نظرية، والفرق بين البديهي والنظري هو أن البديهي هو الحكم الذي يصدره الذهن بلا حاجة إلى واسطة، أي بلا حاجة إلى دليل، فإن كل حكم يُصدره الذهن بلا حاجة إلى دليل فهو حكم بديهي، وما يعبره عنه علماء المنطق يقولون «إذا تصورت الموضوع وتصورت المحمول وحكمت بها هي قضية بديهية»، فأنا أتصور الكل وأتصور الجزء وبمجرد أن أتصورهما أقول «الكل أعظم من الجزء»، كذلك أتصور النقيضان وأتصور اجتماعهما فأقول لا يجتمعان، فإن كل قضية يجزم الإنسان بها بمجرد أن يتصور طرفيها فهي قضية بديهية، وكل قضية تحتاج إلى دليل فهو بعد أن تصور الموضوع والمحول لا يحكم بها فإن هذه القضية تُعتبر قضية نظرية.

إذن القضية تنقسم إلى بديهية ونظرية من حيث الحاجة إلى الواسطة - أي الدليل - سواء كانت الواسطة ذهنية أو كانت الواسطة خارجية، فإن الواسطة قد تكون خارجية فأنا ما يدريني أن «كل ماء إذا بلغت درجة حرارته 100° فإنه يغلي» فأنا عرفت هذا بواسطة خارجية، فالدليل قد يكون ذهنيا وقد يكون خارجياً.

المعلم الثاني: انقسام البديهي إلى أولي وثانوي نتيجة الحاجة للتجربة وعدمها.

البديهي أيضا ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: بديهي أولي.

وهو الذي لا يحتاج إلى شيء حتى تجربة، «النقيضان لا يجتمعان، الواحد نصف الاثنين، الكل أعظم من الجزء»، فإن هذه قضايا يُذعن بها الإنسان وإن لم يقم بأي عملية حسيّة.

القسم الثاني: بديهي ثانوي.

هي قضايا بديهية أيضا لكنها تحتاج إلى تجربة، فمثلا «النار حارة» فهل تستطيع أن تُذعن أن النار حارة بدون تجربة؟! نقول «الرياضة توجب حركة الدم» فإن هذا من دون تجربة لا يمكن الوصول إليه، نعم هي قضية بديهية لكنها لم تنلها إلا عبر التجربة، وهذه تُسمى بديهي ثانوي.

المعلم الثالث[6] : تضمن الذهن - الفكر البشري - لعملية الاستدلال.

السيد «قدس» يقول أن هذه النفس العاقلة والتي نُعبر عنها بالعقل الفاعل خُلق وهو ينطوي على عملية الاستدلال من أصغر شيء إلى أكبر شيء، فأنت في كل وقت تُمارس عملية استدلال من حيث لا تشعر، حتى إذا جئت لتشرب الماء، فأنت تأتي وتقول «هذا ماء، الماء يُشرب هذا يُشرب» [7] ، فدائما تمر بعملية استدلال وأنت لا تشعر بها، فأنت دائما تمر بعملية استدلال وأنت لا تشعر بها، فالعقل الفاعل متقوم بعملية الاستدلال فهو دائماً عبر عملية استدلال من أصغر شيء إلى أعظم شيء.

يقول السيد الصدر «قدس» ”تضمن الفكر البشري لعملية الاستدلال والتمثيل له بإثبات حدوث المادة“، السيد الصدر مثل بهذا المثال هو كيف إثبات حدوث المادة، فنحن قلنا أن «العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث»، فكيف نُثبت أن المادة حادثة، هل المادة حادثة أم قديمة فنقوم بعملية التحليل ونقول هنا صفتان، المادة والحدوث، هل هاتين الصفتين يُوجد ملازمة حتى نستطيع أن نقول «كل مادة حادثة» أم لا؟ يقول حيث أن هذه القضية ليست من القضايا البديهية إذن نحتاج إلى عملية استدلال، وعملية الاستدلال لا تأتِي إلا بواسطة فهناك واسطة نستعملها في عملية الاستدلال، فما هي تلك الواسطة التي باليد حتى نستعملها في عملية الاستدلال؟ يقول السيد أن الواسطة هي الحركة الجوهرية والتي تقرر أن كل مادة فهي حركة مستقرة، فلا يُتصور وجود في عالم المادة إلا وهو وجودٌ يعيش الحركة، ”وبما أنه كذلك“ أي أن كل مادة فهي متقومة بالحركة، إذن كل مادة حادثة؛ لأن الحركة هي عبارة عن الانتقال من القوة إلى الفعل، فالفعل لم يكن ثم كان، وبما أن كل مادة فهي في كل آن في حركة، والحركة انتقال من القوة إلى الفعل، فالحركة مساوقة للحدوث، إذن المادة تساوي الحدوث.

هذه العملية - عملية الاستدلال - تحتاج إلى تشريح، نحن قلنا أن الذهن دائماً في تحليل وتركيب، فكيف نحلل عملية الاستدلال؟! وهذا في المعلم الرابع.

المعلم الرابع: تقوم عملية الاستدلال بالسببية الإثباتية.

السببية على قسمين:

القسم الأول: سببية ثبوتية.

والسببية الثبوتية هي سواء علمت أو لم أعلم بأنه سبب فهو سبب، فالنار سبب للحرارة سواء علمت أم لا فإن علمك بها لا دخل له.

القسم الثانية: سببية إثباتية.

وهذه السببية مركزها الذهن، ومعناها أن بعض المعلومات تُولد معلومات، أي أن بين المعلومات يوجد سببية، فبعض المعلومات توجب لك التصديق بمعلومات أخرى، وبعض المعلومات توجب لك الانتقال إلى معلومات أخرى، فهناك سببية إثباتية ذهنية ولولاها لما تحققت عملية الاستدلال، فعملية الاستدلال متقومة بقاعدة وقانون السببية الإثباتية، لذلك لاحظنا في المثال السابق أنه لأن الذهن عنده أن المادة تعني الحركة فإن هذه معلومة وقد ولدت له معلومة أخرى وهي «إذن المادة حادثة».

المعلم الخامس: ”انقسام المبدأ العقلي لكل المعارف إلى عام «وهو امتناع التناقض» وخاص «نحو بديهيات الرياضيات»“،

يقول أنكم قلتم بأن الذهن البشري متقوم بعملية الاستدلال، وقلتم أن عملية الاستدلال تقوم على قانون السببية، وفسرتم السببية بأنها انتقال من معلومات إلى معلومات، فما هي المعلومات الأصيلة التي تكون منطلق لكل المعارف وتُعتبر سبب لكل المعارف؟ يقول: ”المبدأ العقلي“ أي المنطلق لكل المعارف وسبب لكل المعلومات ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: العام.

فليس عندنا إلا امتناع النقيضين، فأول مبدأ عقلي وهو الأساس لكل المعارف ولكل القضايا التصديقية الحقة هو امتناع التناقض ف «النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان»، فهذه الحجر الأساس لكل المعارف، أنت ذهنك يختزن من المعلومات ما يختزن وكل هذه المعلومات ترجع إلى قضية واحدة وهي «النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان»، فهي الحجر لكل خزانة المعلومات، ولو أراد إنسان أن يتنصل ويتهرب من هذه القضية لقيل له ما تعتقد؟ النقيضان لا يجتمعان فبماذا تؤمن؟! فإنه لا ثبات للمعرفة، فما دام يُنكر امتناع التناقض فإنه لا يكون هناك ثبات للمعرفة، وهذه «لا ثبات للمعرفة» صادقة أم كاذبة؟ فهذه القضية - لا ثبات للمعرفة - يجوز فيها التناقض أم لا؟! فإذا قلتم يجوز فيها التناقض إذن لا تستطيع أن تبني عليها، فإنها كما هي صادقة هي كاذبة، وإذا قلت أن هذه المقولة - لا ثبات للمعرفة - قضية لا يجوز فيها التناقض، إذن اعترفت من حيث لا تُريد بمبدأ امتناع التناقض.

القسم الثاني: الخاص.

كل علم له بديهيات خاصة به، ففي الرياضيات هناك بديهيات من قبيل «زوايا المثلث تساوي قائمتين»، «الواحد نصف الاثنين»، فهذه قضايا بديهية لكنها خاصة بهذا العلم، وفي عالم الأحياء توجد بديهيات وفي عالم الفلك توجد بديهيات، وهذه البديهيات نُسميها مبدأ خاص.

المحور الثالث: في نتائج البحث.

وهذه النتائج نعرضها بشكل مختصر سريع:

النتيجة الأولى[8] : عقم التجربة بدون الاستناد إلى المبادئ العقلية.

فالتجربة عقيمة إذا لم تستند إلى المبدأ العقلي، وخير مثال أن نقول: «أن التجربة أثبتت لنا أن كل ماء تبلغ درجة حرارته 100° فهو يغلي» فهذه قضية استندنا فيها إلى التجربة لكن هل التجربة هي التي أنتجتها؟ لا؛ لأن التجربة مهما بلغت ما استوعبت كل أنواع الماه في كل زمن وفي كل مكان، فالتجربة استوعبت مليار ماء، والدنيا لم تنحصر بمليار ماء، إذن كيف عممت وقلت «كل»؟! فإن هنا توجد حاجة لمبدأ عقلي وهو «حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد» فإذا لم تؤمن بهذا المبدأ العقلي من أن حكم المبدأ العقلي فيما يجوز ما لا يجوز واحد فإنك لا تستطيع أن تستنج من التجربة حكما كلياً، وهذه القضية - حكم الأمثال - سوف نحللها ونُرجعها إلى تحليل وتركب وهذا سوف يأتي في المستقبل، لكن هنا نُريد أن نقول أنه لا بُد من استناد التجربة إلى مبدأ عقلي وإلا لم تُنتج.

النتيجة الثانية: منطلق التفكير دائما من العام إلى الخاص.

وهذا تماماً مقابل المنطق التجريبي، فالمنطق التجريبي يقول دائما لا بُد من أن تنتقل من الخاص إلى العام، فلابد أن تجمع المياه وتُلاحظها ثم تصل إلى النتيجة وهي «كل ماء بلغت حرارته 100° يغلي» فإن هناك انتقال من الخاص إلى العام، أما المنطق العقلي يقول أن هذه القضية انتقلت فيها من العام إلى الخاص وليس من الخاص إلى العام؛ لأنه لو لم تُوسط قضية «الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد» وقضية «النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان» وقضية «لكل معلول علة» لما وصلت إلى النتيجة، فدائما الانتقال من العام إلى الخاص.

النتيجة الثالثة: شمولية المعرفة.

وهذا كما ذكر السيد الشهيد [9]  هذه العبارة وقال: ”إن المقياس الأول للتفكير البشري بصورة عام المعارف العقلية الضرورية، فهي الركيزة التي لا يُستغنى عنها في كل مجال، ويجب أن تُقاس صحة كل فكرة على ضوئها، ويصبح بموجب ذلك ميدان المعرفة أوسع من حدود الحس والتجربة؛ لأنه سوف يجهز الفكر البشري بطاقات تتناول ما وراء المادة من حقائق وقضايا ويحقق للميتافيزيقا والفلسفة العالية إمكان المعرفة“ يعني أننا إذا سوف نجمد على المنطق التجريبي فإننا سوف لن نتجاوز عالم المادة لأن عالم ما وراء المادة لا يخضع للتجربة، بينما إذا سرنا وراء المذهب العقلي الذي يقول أن الاستدلال يعتمد على مبادئ عقلية وليس بالضرورة التجربة فإن المبادئ العقلية لا فرق فيها بين عالم المادة وعالم ما وراء المادة، فالمذهب العقلي يُوسع المعرفة لما يشمل ما وراء المادة كما عبر عنها سيد «قدس».

والحمد لله رب العالمين

[1]  أصول الفلسفة ج2 ص119.
[2]  أصول الفلسفة ج2 ص121.
[3]  نحن عبرنا بالقانون، والشيخ «رحمه الله» قد عبّر بالميزان، ولا ضير، فإنه لا يمكن للقوة المفكرة أن تصل إلى الحقيقة إلا عبر ميزان وإلا الأمر ليس باختيارها.
[4]  [الشعراء: 224 - 226].
[5]  أصول الفلسفة ج2 ص123، 124.
[6]  وهذا نرجع فيه إلى كتاب السيد الصدر «قدس» فلسفتنا.
[7]  «32: 09» - - هنا ذكر سماحة السيد - دامت بركاته - استدلالا وهو «هذا ماء، الماء يُشرب، أنا أشرب» ولعل مراد السيد «هذا ماء، الماءُ يُشرب، هذا يُشرب».
[8]  تعرض لها السيد الصدر «قدس» في ص71 من كتاب فلسفتنا.
[9]  فلسفتنا ص70.