الدرس 33 | تكامل الحقيقة واقع أم خيال؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

منطق الديالكتيك يعتمد على عنصرين:

  • العنصر الأول: أن الفكر يخضع للحركة، فكما أن واقع العالم الخارجي يخضع للحركة كذلك الوجود الفكري يخضع للحركة.
  • العنصر الثاني: أن الحركة سواء كانت في عالم الوجود الخارجي أو في عالم الفكر فهي متقومة بصراع النقائض، أي لا يمكن أن تتحقق حركة لو لم يكن هناك صراع بين النقائض.

لأجل ذلك فالبحث حول المنطق الديالكتيكي في محورين:

المحور الأول: دليل خضوع الفكر للحركة هو تاريخ العلوم الإنسانية. [1] 

أنَّ البرهان والدليل على أن الفكر يخضع للحركة هو تاريخ العلوم الإنسانية والطبيعية، أي أننا إذا ألقينا نظرة على تاريخ العلوم منذ زمن أفلاطون إلى يومنا هذا - سواء كانت علوماً طبيعية أو علوماً إنسانيةً - وجدنا أن العلوم متحركة، أي أنّ العلوم تعيش حركة تكاملية، فليست هناك في تاريخ العلوم فكرة ثابتة وليست هناك في تاريخ العلوم فكرة جامدة، بل تاريخ العلوم يعطينا حقيقة واضحة وهي أن الفكر لا يقف بل هو في إطار النمو والتكامل.

”إن تاريخ العلوم الطبيعية والإنسانية في حركة نمو وتكامل، وهذا شاهد على خضوع كل فكر للحركة الصاعدة“ [2] ، وقد نقل السيد الصدر عن كيدروف[3]  هذه المقالة حيث قال: ”الحقيقة المطلقة الناتجة من حقائق نسبية هي حركة التطور - أي أن الحقيقة المطلقة الحقيقة الوحيدة هي أن الفكر يتطور وهي حقيقة ثابتة لا شك فيها - التاريخية وهي حركة المعرفة، ولهذا السبب يتناول المنطق الديالكتيكي عملية الفكر من حيث هي عملية نمو“ يعني دائما ينظر للفكر كأنه عملية نمو وتكامل، ”وما يطرحه المنطق الديالكتيكي يطابق التاريخ العام للمعرفة ويطابق تاريخ العلوم، إن الديالكتيك يستمد استنتاجه من التاريخ“ تاريخ الفكر حيث إن تاريخ العلوم كله حركة نمو وتكامل.

ماذا يريدون من هذا الكلام؟ ولماذا يصرون على أن الفكر يعيش حركة نمو وتكامل؟ ولماذا يقولون ليست عندنا حقيقة مطلقة إلا هذه الحقيقة وهي أن الفكر يتكامل؟ يصرون على هذه النقطة لأجل أن يثبتوا أمرين ويتفرع على ذلك أمران:

الأمر الأول: نفي الحقيقة المطلقة، أي ليس هناك شيء اسمه حقيقة مطلقة، فتقولون مثلا «وجود الله حقيقة مطلقة، وحدانية الله حقيقة مطلقة، الإمامة حقيقة مطلقة، النبوة حقيقة مطلقة»، يقولون لا وجود لشيء اسمه حقيقة مطلقة، فالحقيقة المطلقة الواحدة هي أن الفكر يتطور، فالقصد من هذا المسلك هو نفي الحقيقة المطلقة لعدم الثبات، أي لا يوجد لدينا فكرة ثابتة بل كل فكرة هي في إطار دينامي وهو النمو والتطور.

الأمر الثاني: نفي الخطأ المطلق، فلا وجود لخطئ مطلق بل هو نسبي، فالخطأ نسبي، وكلما تجددت فكرة فالفكرة السابقة لا تعني أنها خطأ 100%، بل هي خطأ بلحاظ الفكرة الجديدة وإلا هي في نفسها تملك نسبة من الصحة، والفكرة الجديدة أيضاً صحيحة بالنسبة للفكرة السابقة لكنها تكون خطأ بالنسبة للفكرة الآتية وهكذا، فلا يوجد صحٌ مطلق وإنما هناك صحة نسبية وخطأ نسبي.

السيد الشهيد قدس سره سجل مناقشتين على هذا المدعى - وهو أن الفكر في حركة تكاملية، حركة نمو تكاملية ولا يقف عند حد - وهنا مناقشتان:

المناقشة الأولى[4] : هناك فرقٌ بين التكامل الذاتي للفكرة والتكامل العَرْضي والطولي للعلم.

وهنا لا بُد من شرح التكامل الذاتي والتكامل الطولي والعرضي حتى نعرف أين وقع الخلط:

التكامل الذاتي: يعني أن نفس الفكرة هي تنمو وتتكامل، فأنا عندي فكرة، مثلاً «أن الإنسان موجود ناطق»، فهل هذه فكرة بما هي فكرة تتكامل؟ فإذا كانت تتكامل فهذا نسميه «تكامل ذاتي»، يعني أن الفكرة في حد ذاتها تتكامل، أنا عندي فكرة أن «الله واحد» فكرة أن «النبي محمد ، فكرة أن «الإمامة أصل من الأصول»، فهل هذه الفكرة بما هي هي - بغض النظر عن الأفكار الأخرى - تتكامل في حد ذاتها تنمو في حد ذاتها وتنمو؟! إذا كان كذلك فإن هذا ما نُسميه التكامل الذاتي. وهذا التكامل نحن - كفلسفة تقليدية - نَرفضه ونقول أن الفكرة لا تتكامل في حد ذاتها، والتكامل الموجود هو إما تكامل عرْضي أو تكامل طولي.

التكامل العرضي: هو عبارة عن ازدياد كمية الحقائق، فأنت قبل أن تدرس فلسفة كانت عندك مثلا فكرتين من الفلسفة، لكن بالدراسة ازدادت كمية الحقائق الفلسفية التي حصلت عليها فصار عندك تكامل، لكن هذا التكامل هو تكامل عرضي، أي ازدياد في المعلومات وازدياد في الحقائق التي تعلم بها فالتكامل العرضي هو عبارة عن ازدياد كمية الحقائق لكن كل حقيقة في حد ذاتها لا تتكامل وإنما تضاف إليها حقائقُ أخرى وذلك عن طريق المرور بمراحل، وهذه المراحل هي مراحل التقنين فأي شخص يُريد أن يقنن يمر بهذه المراحل وهي مرحلة الفرضية ومرحلة النظرية ومرحلة القانون العملي، فلا بد أن يمر بهذه المراحل فإذا مر بهذه المراحل جاءت حقيقة أخرى تُضاف للحقائق السابقة. السيد الصدر قدس سره يُمثل لذلك فيقول: ”مثلا قانون الجاذبية، ففي البداية أدرك نُيوتن مشهدَ سقوط تفاحة على الأرض فجعله يتساءل «لماذا لا تكون القوة التي جعلت التفاحة تسقط على الأرض هي بعينها القوة التي تحفظ للقمر توازنه وحركته في مدار معين؟» وهذه الآن مجرد فرضية فرضها نيوتن، ثم أيدت التجارب والمشاهدات العِلْمية تلك الفرضية، فبعد أن أيدتها تحولت الفرضية إلى نظرية نتيجة تأييد المشاهدات وتأييد التجارب لتلك الفرضية؛ ولكن الفكرة هي الفكرة فنفس الفكرة هي الفكرة ولم تتغير من حيث كونها فكرة هي هي والذي تغير هو داخلُ الإنسان، فهو كان يفترضها فرضاً بل أصبح الآن يؤمن بها 80% ومن ثم يؤمن بها 100%، أما نفس الفكر بما هي فهي كما هي ولم يحصل لها تكامل ذاتي غير أنها نجحت في الإمتحان العلمي وانكشف أنها حقيقة بعد أن كان مشكوكا فيها، ثم إن هذه النظرية بعد أن تحتل موضعها من القوانين العلمية تأخذ مجالها في التطبيق وتكتسب صفتها كمرجع علمي لتفسير ظواهر الطبيعة“ فأصبحت قانوناً عملياً، ونأتي مثلا إلى النظرية الذرية يقول كذلك أنها كانت فرضية ومن ثم كملت النظرية بمفهوم علمي جديد عن النواة والكهارب التي تتركب منها الذرة فلم تنمو تلك الحقيقة الأولى وإنما زادت كمية الحقائق العلمية.

إذن بموجب ما مضى نقول أن ما ذكره الديالكتيك من أن الحقيقة تنمو وتتحرك لصراعٍ بين النقائض في داخلها هذا لم يُثبته تاريخ العلوم، فالذي أثبته تاريخ العلوم هو التوسع التدريجي ما سميناه بالتكامل العَرْضي.

التكامل الطولي: هو انكشاف خطأ نظرية وحلول نظرية أخرى محلها، فهذا نُسميه تكامل طولي، فليس هناك ازديادٌ في كمية الحقائق وإنما كشف لنا خطأ نظرية وصحة نظرية أخرى، فهذا نُسميه بالتكامل الطولي، وقد مثل له السيد الشهيد «قدس سره» بقوله: "من هذا القبيل أنَّ التفسير الميكانيكي الخاص للعالَم في نظريات نيوتن انكشف خطؤه، فإن هذا التفسير قد لُوحظ عدم انسجامه مع عدّة من الظواهر الكهربائية المغناطيسية وعدم صلاحيته لتفسير كيفية صدور النور وانتشاره، إلى غير ذلك مما قام دليلا عند جملة من الفيزيائيين على خطأ التفسير النيوتني للعالم وعلى هذا الأساس وضع أينشتاين نظريته النسبية التي صاغها في تفسير رياضي للعالم يختلف كل الاختلاف عن تفسير نيوتن، فهل يمكن أن نقول أن نظرية نيوتن تكاملت؟ أم انكشف خطؤها وصحّت النظرية الأخرى وهذا ما نسميه بالتكامل الطولي، فالحقيقة لم تنمُ وإنما انكشف نقص الأولى وصحت الثانية.

النتيجة: ”ليست الفكرة بما هي فكرة تنمو وتتكامل ذاتياً لاحتوائها على التناقض والتكامل، وبذلك يتضح من الخلط وجود الحقيقة المطلقة؛ لأنه ما دام الحقيقة الأولى لا تتغير وإنما تُضاف إليها حقائق إذن الحقيقة الأُولى مطلقة وثابتة، فما دام تصح نظرية ويتبين خطأ نظرية أخرى إذن النظرية الثانية إذا وصلت إلى مرحلة الحقيقة أصبحت حقيقة مطلقة، وبذلك يتضح وجود الحقيقة المطلقة والخطأ المطلق“، الآن أنتم تقولون أن تفسير نيوتن للعالم خطأ مطلق، التفسير الميكانيكي في نظرية نيوتن للعالم انكشف أنه خطأ مطلق لا أنه خطأ نسبي بل خطأ مطلق، فتبين وجود الحقيقة المطلقة والخطأ المطلق.

المناقشة الثانية: ”هناك خَلف“.

أي أننا سنسلم معكم جدلا أن كل فكرة تنمو وتتكامل تكاملاً ذاتياً، هل هذا يستلزم عقلاً نفي الحقيقة المطلقة؟ أبداً؛ لأن هناك خلطاً بين الحقيقة المطلق بمعنى الفكرة المطلقة والحقيقة المطلقة بمعنى الواقع مطلق، فعدنا فكرة وعدنا واقع وكلاهما نستطيع أن نعبر عنه بالحقيقة، فالفكرة حقيقة والواقع الخارجي حقيقة، فلو افترضنا أن لا وجود لفكرة مطلقة وكل الأفكار تتغير وتتكامل لكن هل هذا يعني أن الواقع ليس فيه حقيقة مطلقة؟! الواقع فيه جاذبية فهل الجاذبية حقيقة نسبية لو حقيقة مطلقة؟! فهو حقيقة مطلقة، الواقع أن الكون يبتني على قوى أربع وهذه ليست حقيقة نسبية بل هي حقيقة مطلقة، فحتى لو سلم جدلاً أن الفكر غير ثابت إلا أن الواقع فيه قضايا ثابتة، وأنتم أيها الديالكتيكيون تؤمنون بوجود واقع فأنتم لستم مثاليين[5] ، فبما أنكم تؤمنون بوجود الواقع فإذن في الواقع حقائق مطلقة وأكثر هذه الحقائق إطلاقاً هي الخالق تبارك وتعالى.

لذلك قلنا في المناقشة الثانية: ”إن هناك خلطاً بين الحقيقة بمعنى الفكرة، والحقيقة بمعنى الواقع، فحتى لو فرض أن الأول ليست بثابت فلا ينفي ذلك وجود حقيقة مطلقة بالمعنى الثاني - الواقع - فإنه إذا تم الإذعان بوجود واقع - كما هم يذعنون - فمن الضروري الإذعان بوجود واقع مطلق ثابتٍ وهو الإله“، لأننا ما دمنا نُسلم بوجود واقع خارجي نُسلم بوجود علة لهذا الواقع الخارجي.

المحور الثاني:

إن قوام الحركة في كل موجود من الموجودات - من أصغر وجود إلى أعظم وجود - بالصراع بين النقائض في صميم ذلك الوجود، وبيان ذلك:

هؤلاء فكروا منذ البداية وقالوا أننا بين خيارين:

الخيار الأول: أن نقول بامتناع التناقض، أي التناقض مستحيل كما يقول به المنطق الشكلي أو المنطق الصوري فيلزم من ذلك عدم انطلاق الحركة من صراع النقيضين، إذن بالتالي الحركة لم تتولد من صراعٍ بين النقيضين، فإذا لم تتولد الحركة من صراع بين النقيضين فما هو السبب لوجود الحركة في الكون؟! فلا بُد للحركة من سبب، فالحركة أمر حادث ولا بُد له من سبب، فإذا نحن قلنا أن التناقض مُستحيل إذن ليست الحركة وليدة صراع بين النقيضين إذن هناك سبب آخر للحركة فما هو السبب؟ فنحن مضطرون أن نُصبح مؤمنين - مثلما يقول التقليديون - أي أن هناك سبباً خارجاً عن الحركة هو الذي ولّد الحركة، فهو سبب أعلى خارج عن إطار العالم المتحرك وهو مصدر الحركة، وهذا ما يقول به الأديان والفلسفة التقليدية.

الخيار الثاني: أننا إذا آمنا بوجود مبدأ صارت فيها دين وصار فيها لوازم وعبادة وآخرة وقيود وجمود، إذن نُباعد هذه الفكرة ونبني فلسفة جديدة لا نحتاج فيها في تفسير الحركة إلى أن نؤمن بالمبدأ تعالى، وهي اقصاء فكرة المبدأ الأول، فإذا أقصينا فكرة المبدأ الأول فإننا مضطرون أن نوجد سبباً للحركة، لأن الحركة لا بُد لها من سبب وسببها ليس المبدأ الأول، إذن ما هو سببها؟ اقصاءُ فكرة المبدأ الأول الذي يؤدي - يعني الإقصاء - للبحث عن سبب للحركة في عالم المادة، ولا رصيد ولا ممون ولا سبب لهذه الحركة إلا بأن تنشأ من داخل المادة، فإذا لم يكن هناك سببٌ من الخارج إذن السبب من الداخل ولا يُمكن لنا نحدد السبب من الداخل إلا إذا قُلنا بأن السبب هو الصراع بين النقيضين.

فهم إنما لجؤوا لهذا التفسير الثاني لأنهم أقصوا فكرة المبدأ الأول، فهم مضطرون لأن يقولوا بذلك، فإذا أقصي المبدأ الأول فإنه لا بُد من سبب للحركة وحيث لا سبب خارجي إذن السبب داخلي، ولا تفسير للسبب الداخلي إلا نُشأ الحركة من صراع بين النقيضين، نقل عن «ماو تسي تونغ» [6]  أنه قال: ”إن قانون التناقض في الأشياء هو قانون وحدة الأضداد وهو القانون الأساس في الديالكتيك المادي“.

المناقشة:

المناقشة الأولى: الخلط في المصطلحات.

وقع الخلط في كلماتهم بين مصطلحات ثلاثة وهي «التناقض، التضاد، التفاوت»، كلها جمعوها بمعنى واحد والحال بأن هذه المصطلحات تختلف في معانيها، وهنا نبين الفرق بين هذه المصطلحات:

المصطلح الأول: التناقض.

دَرْ تَناقُض هشتِ وَحْدَت شَرْطِ دانْ   وَحْدَتُ   مَوْضُوعُ  ومَحْمُولُ  iiزَمانْ

أي التناقض يُشترط فيه ثمان وحدات، فالتناقض هو عبارة عن اجتماع النفي والإثبات مع الاتحاد في الموضوع والشروط، فهل التناقض هو فإن ليس كل نفي وإثبات فهما متناقضان، «زَيْدٌ عالم وبَكْرٌ ليس بعالم» ليسا متناقضين، «زيدٌ ليس بعالم في طفولته وعالم في كبره» ليسا متناقضين، «زيد ليس بعالم بالقوة عالم بالفعل» ليس متناقضين، إذن التناقض ليس عبارة عن اجتماع النفي والإثبات بل اجتماع النفي والإثبات بشرط الاتحاد في الموضوع وفي الشروط، والشروط هي وحدة الزمان ووحدة المكان فعندما نقول: «زيدٌ عالم» يكون نقيضاً له عندما تقول «زيدٌ عالم في يوم كذا وفي مكان كذا وفي موضوع كذا وليس بعالم في نفس الشروط» هنا يحصل تناقض، فالتناقض عبارة عن اجتماع النفي والإثبات مع الاتحاد في الموضوع والشروط كاستقامة الخط وعدمها، فخط مستقيم وليس بمستقيم في آن واحد غير متصور وهو مستحيل.

المصطلح الثاني: التضاد.

التضاد هو تنافر وجودين بالذات يقتضي تعاقبهما على الموضوع الواحد كاستقامة الخط وانحنائه، نأتي الآن للقيام والقعود في الجسم، فالقيام والقعود وجودان كل واحد وجود ولكنهما موجودان متنافران تمام التنافر، ولأجل تنافرهما لا يجتمعان في موضوع واحد بل يتعاقبان عليه، فهو قائم زمناً قاعد زمناً آخر، فالتضاد تنافر وجودين بالذات ويقتضي هذا التنافر تعاقبهما على الموضوع الواحد كاستقامة الخط وانحنائه، فالاستقامة والانحناء غير الاستقامة وعدم الاستقامة، الاستقامة وعدم الاستقامة تناقض، الاستقامة والانحناء تضاد وليس تناقض لأن ذاك نفيٌ وإثبات وهذا وجودان.

المصطلح الثالث: التفاوت والاشتداد.

التفاوت والاشتداد يعني وجود واحد له درجات، مثل النور

مراتباً  قوى وضعفاً iiتختلف   كالنور حيثما تقوى وضعف

فالنور له مراحل وله مراتب، الفرق بين مراتب النور يُسمى تفاوت واشتداد كالبيضة ثم تتحول إلى فرخ، والفرخ يتحول لدجاجة، هذا يُسمى تفاوت لا تناقض ولا تضاد.

نأتي إلى الديالكتيك، يقول: ”بأن الحركة وليدة الصراع بين النقيضين“ ماذا يعني نقيضين؟ قال يعني «سالب وموجب» نقول هذان ضدان لا نقيضان، فيصبح هنا خلط بين التناقض وبين التضاد، فالسالب والموجب وجودان متنافران لا أنهما نقيضان، فالنقيضان وجود الشي ونفيه، ثبات الشي وعدمه، لا أن النقيضين هما الوجودان، ثم يمثلون - عندما يأتون بأمثلة - فيقولون: كيف تحركت البيضة وتحولت إلى فرخ؟ قالوا لصراع في داخلها بين البيضة والفرخ، كيف يصبح صراع بين البيضة والفرخ؟ البيضة مرتبة والفرخ مرتبة أخرى، فالفرخ مرتبة والدجاجة مرتبة أخرى، وهذا لا تناقض ولا تضاد بل هو تفاوت بين المراتب.

المناقشة الثانية: أنكروا التناقض إيمانا منهم بالتناقض.

أي يعني من حيث لا يشعرون قالوا لا التناقض ليس بمستحيل وهم في نفس الوقت آمنوا بالتناقض، فالان هم عندما يقولون بأن الحركة وليدة التناقض فلذلك التناقض ليس بمستحيل، لماذا ينكرون امتناع التناقض؟ هم يقولون الحركة وليد التناقض لكن يُنكرون استحالة التناقض لأنه نقيض كلامهم، فلو آمنوا به لآمنوا بالنقيضين ولأنهم في داخل أنفسهم يرفضون التناقض لذلك قالوا فكرتنا هي الصحيحة والفكرة الأخرى وهي امتناع التناقض ليست بصحيحة، فهم أنكروا استحالة التناقض إيماناً منهم بامتناع التناقض ولولا إيمانهم بامتناع التناقض لما منعوا استحالة التناقض، لكن لأن استحالة التناقض نقيض لولادة الحركة من التناقض لذلك إيمانا منهم باستحالة التناقض أنكروا استحالة التناقض. [7] 

قال السيد الصدر - قدس سره -: ”وهم في هذا الإنكار يُطبقون مبدأ عدم التناقض بصورة لا شعورية، فإن الجدلي حينما يؤمن بالتناقضات الجدلية وبالتفسير الديالكتيكي للطبيعة يجد نفسه مضطراً إلى رفض مبدأ عدم التناقض - لأنه نقيض كلامه فلا بُد أن يرفضه - والتفسير الميتافيزيقي لها، ومن الواضح أن هذا ليس إلا لأجل أن الفطرة البشرية لا يُمكن أن توفّق بين السلب والإيجاب معاً - من آمن بفكرة لا بُد أن يرفض الفكرة النقيضة لها هذي الفطرة البشرية هكذا، فلا يستطيع أن يؤمن بفكرة ويؤمن بنقيضها لأنهم آمنوا بإمكان التناقض فلا بُد أن يرفضوا استحالة التناقض انطلاقاً من شعورهم الفطري باستحالة التناقض - بل تشعر ذاتياً بالتعارض المطلق بينهما“ [8] .

ورب قائل يقول: تبين الآن من هذا البيان كله أنهم في جهة وأنتم تتكلموا في جهة ومصطلحات مختلفة، فأنتم عندكم اصطلاح التناقض واصطلاح التفاوت، وهم يتكلمون بمصطلحات أخرى فما هي المشكلة في كلامهم؟ هل لأنهم لم يُسمّوا على طبق مصطلحاتكم؟ فهم يقولون حركة الكون ناشئة عن صراع بين السالب والموجب وكلامهم صحيح، فما هي المشكلة في كلماتهم حيث أن غاية الأمر أنهم لم يندرجوا تحت مصطلحات الفلسفة التقليدية فما هي المشكلة؟

نقول ليست هذه المشكلة، بل المشكلة هي أنهم رتبوا على كلامهم نفي الحقيقة المطلقة ونفي الخطأ المطلق، وقالوا بالحقيقة النسبية وأدى كلامهم إلى نفي المبدأ الأول، فلو لا هذه النتائج فلا فرق فبالنتيجة دعهم يقولوا أن حركة الكون قائمة على السالب والموجب فما الذي يضرنا؟! المشكلة أنهم رتبوا هذا الفكر نفي الحقيقة المطلقة ونفي الخطأ المطلق ونفي المبدأ الأول، إذن نحن نقول هذه المتفرعات لا تترتب على ما ذهبوا إليه، ويأتي الكلام في البقية.

والحمد لله رب العالمين

[1]  وهذا ركز عليه كثير من علماء الديالكتيك.
[2]  وهذا ما ذكره كيدروف في كتابه المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي.
[3]  الفيلسوف السوفييتي، بونيفاتي ميخايلوفيتش كيدروف صاحب كتاب «المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي».
[4]  العبارة في المناقشة هي عبارة سماحة السيد المنير والمقصود هو بيان مقصود السيد «قدس سره».
[5]  المثاليون ينكرون وجود واقع ويقولون أنه لا وجود إلا الذهن.
[6]  1893 - 1976م، ثوري شيوعي صيني ومؤسس جمهورية الصين الشعبية.
[7]  وهذا ما أفاده السيد الصدر قدس سره.
[8]  ص235.