الدرس 42 | خطأ الحواس لا يلغي قيمة العلم

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في قيمة المعلومة وأن المعلومة هل هي نسبية أم مطلقة، وهل يمكن الاعتماد على المعلومة أي الصورة المرتسمة في الذهن في البناء العلمي أم لا، ولذلك من المحاور الأساسية في نظرية المعرفة هي معالجة خطأ الحواس، فإن هذه مأزق ومشكلة تعترض أي مدرسة تتحدث عن نظرية المعرفة وهي مشكلة أخطاء الحواس، وحتى نبين ذلك نذكر أن أخطاء الحواس أمر واقعي ومتعدد وكثير، ولكن الكلام في معالجة هذه المشكلة مع الحفاظ على قيمة المعلومات.

إن هناك أخطاءً كثيرة فيما يُدرك بالحواس، كما في:

  1. احتساب السراب ماء، فالحاسة تُدرك السراب ويعتبر الذهن أنه ماء وهو ليس بماء، قطرات المطر تنزل من السماء والبصر يعتبرها خطاً واحداً بينما هي قطرات متفرقة كل قطرة بعد قطرة.
  2. إذا أخذ الإنسان الجمرة وأدارها يراها الإنسان الآخر أنها دائرية وهي ليست كذلك، فإن الخطأ من الحاسة.
  3. القلم تنظر إليه في الهواء تراه مستقيماً وتضعه في الماء تراه منكسراً ومائلاً.
  4. أنت تقف في وسط خطين متوازيين وتنظر يميناً وشمالاً فتجدهما متمايلين بينما هما متوازيان.

فأخطاء الحواس كثيرة التي إذا دقق الإنسان رأى أنها واقع لا كلام فيه، فهناك كثير من المعلومات والصور التي تَرِدُ عن طريق الحواس هي معلومات خاطئة نتيجة خطأ الحواس.

ما هو الأثر العلمي والعملي المترتب على خطأ الحواس حيث أن الكل يعترف أن هناك خطأ وهو كثير، وأن كثيراً من المعلومات التي تصل الإنسان عن طريق الحواس هي معلومات خاطئة؟ 

الجواب:

هنا ثلاثة اتجاهات في تحديد الأثر العملي والعلمي المترتب على الاعتراف بخطأ الحواس:

الاتجاه الأول: الاتجاه السفسطائي.

محصل هذا الاتجاه أن هناك فرقاً بين العلم الحضوري والعلم الحصولي، فالعلم الحضوري هو حضور المعلوم بنفسه لدى العالم من دون واسطة بين العلم والمعلوم، وهذا من قبيل علمي بنفس وأفكاري وإحساساتي، فكل ما هو منطوٍ داخل نفسي فأنا أعلم به بلا واسطة أي علماً حضورياً.

بالنسبة للعلم الحضوري فإن السفسطائيين يقولون أنه لا مشكلة، فنحن لا ننكر العلم مطلقاً بل ننكر قسماً من العلم فنحن لا ننكر العلم الحضوري، فالإنسان لديه علم بنفسه وبأفكاره وبأحاسيسه فإن كل ما ينطوي تحت هذه الخيمة فلديه علم به ويقين به لأن المعلومَ حاضر بنفسه لدى العالم، والكلام هو في العلم الحصولي، وهو حضور صورة الشيء وليس حضور الشيء، فالشيء لم يحضر وإنما حضرت صورته، فأنت لم تحضر في داخل نفسي وإنما حضرت صورتك، فالصوت والحرارة واللون وجميع ما هو خارج عن نفسي لم يحضر بنفسه وإنما حضرت صورته، وهذا الذي نُسميه بالعلم الحصولي، فلا كلام عندنا في العلم الحضوري لأنه بالنسبة للعلم الحضوري يُمكن اليقين بالمعلومة، كاليقين بالنفس وأفكارها وأحاسيسها، ولكن الكلام بالنسبة للعلم الحصولي، فالشيء لم يأتِ عندي وإنما جاءت صورته، فلا يمكن اليقين بالصورة المدركة، فلا يقين أن وراءها واقع تُطابقه، حيث إن المصدر المُمَون - وهو الإحساس - للعلم الحصولي هو الإحساس، وبما أنه قد ثبت خطؤه حيث أن هناك أخطاء كثيرة للحس، أو كذبه فأحيانا أشعر أنه حر وهو وهم، أشعر أن الجو بارد وهو وهم، فليس هناك وراء هذا الإحساس واقع، ولذا لا يمكن التعويل على ما يُدركه الإنسان بالحس، فأنت عندما تُخبرني 100 معلومة ومن ثم أكتشف 20 معلومة منها خاطئة بعدها لا يحصل عندي يقين، فاكتشاف أن كثيراً من المعلومات التي ترد عن طريق الحواس خائطة أو كاذبة فإن هذا الاكتشاف منع حصول اليقين بالمعلومات الحصولية.

النتيجة: أنه لا دليل على وجود واقع وراء الحس، فما دام الواقع يخطئ ويكذب، فكيف لي أن أضمن أن هناك واقعاً وراء الحس، كي يُبنى على ذلك وجود العلم الحصولي - أي أن هناك علوماً حصولية - وأن وراء هذه العلوم الحصولية قيمة، فبعد اكتشاف الأخطاء لم يثبت وجود واقعٍ وراء هذه المعلومات الحصولية، إذن أصل وجود العلم محل تأمل ولعله جهل مركب، وإذا احتملنا أنها جهل مركب ليس وراءه واقع فَقَدَتْ المعلومات الحصولية قيمتها العلمية والعملية.

الاتجاه الثاني: الاتجاه الواقعي الفلسفي «الفلسفة الشرقية، الصدرائية».

وهذا الذي يقول أن هناك علماً حصولياً وعلماً حضوريا، وأن العلم الحصولي له قيمة كما أن العلم الحضوري ذو قيمة. هذا الاتجاه يبرر خطأ الحواس ويحافظ على قيمة العلم مع أنه يعترف بحقيقة خطأ الحواس من خلال بيان أمور:

الأمر الأول: في حقيقة العلم.

وهنا لا بُد من إدراك ما هو العلم حتى نرى خطأ الحواس يضر بالعلم أم لا، فحقيقة العلم تتألف من عنصرين:

العنصر الأول: المعلوم بالعرض.

إن منشأ الآثار العلمية هو المعلوم بالعرض وهو الموجود خارجاً - كالنار والورد - دون المعلوم بالذات وهو الصورة، فالآثار إنما تترتب على النار التي في الخارج لا على الصورة التي في ذهني، فإن صورة النار في ذهني لا تُحرق والذي يُحرق ويفيض الحرارة هي النار الخارجية، وهذا كما يعبرون في الفلسفة «المعلوم بالعرض لا المعلوم بالذات»، فالمعلوم بالذات هو الصورة، والنار الخارجية معلوم بالعرض، والمعلوم بالذات لا يترتب عليه أثر، والذي يترتب عليه أثر هو المعلوم بالعرض - كالورد - فأحدهم يتصور صورة الورد ويرتاح ويقول كيف أن رائحتها طيبة، فهذه مجرد صورة، والذي يترتب عليه الأثر - وهو الرائحة الطيبة العطرة - هو الورد الخارجي لا صورة الورد، فالمعلوم بالذات لا يترتب عليه الأثر وإنما يترتب الأثر على المعلوم بالعرض.

يترتب على ذلك عندما تقولون بأن الأثر يترتب على الواقع الخارجي ولا يترتب على الصورة ما يفضي إلى أن الصورة ليست علماً - أي أن الصورة مجرد شبح -، كيف أن الإنسان إذا رأى شبحاً من بعيد، فأنا أرى شبحاً من بعيد، ولكن لا أدري أهو إنسان أم حيوان أم خيال؟! فهل هذا علم؟! وإن كان في هذا الشبح إشارة، يعني هذا الشبح أثار عندي احتمال أنه إنسان وأثار احتمال أنه حيوان، فهو شبح مشير، لكن رؤية الشبح المشير ليست بعلم، فهل الصور المرتسمة في الذهن من قبيل الشبح المشير؟! لأن الحاضر داخل النفس هي الصورة والصورة مجرد شبح مشير، فهل هذا الذي تريدون الوصول إليه؟

يقول: ”لكن ذلك لا يعني أن الصورة مجرد شبح مشير لما هو الواقع وليست علما بل هي الصورة في الواقع“، فصورة الواقع يعني - كما يُشير المظفر في منطقه - أن العلم حصول صورة الشيء لا صورة غير الشيء، أي أن ماهية الموجود الخارجي تمثلت بهذه الصورة كما تتمثل بالوجود الخارجي، فهنا يأتي الفلاسفة ويقولون انتزاع، أي أنني لما آتي وأتأمل في الوجود الخارجي - كتأمل وجود الإنسان - فأرى زيداً وبكراً و10 مليار على الأرض من بني الإنسان، فأنا لما ألاحظ هذا الوجود فإن هذا الوجود محدود قطعاً، وبما أنه وجود محدود فأنا أذهب إلى الحد، فهذا الوجود له حد، ذلك الحد ينتزعُ ذهني من الحد شيئاً يُسمى بالماهية، فالماهية صورة أو مفهوم منتزعٌ من حدِّ الوجود؛ لأنه في النتيجة وجودٌ محدود، والوجود المحدود يُنْتَزَعُ من حدّه المفهوم، والمفهوم المنتزع من الحد هو الماهية.

إذن ماهية الوجود هي التي جاءت في ذهني، فماهية الوجود هي التي جاءت في ذهني، فكأن هناك عنصراً مشتركاً بين الوجود الخارجي وبين الوجود الذهني، وهذا العنصر المشترك هو الماهية، فكما أن الماهية تمثلت في الوجود الخارجي من خلال حدّه فكذلك الماهية تمثلت في الوجود الذهني من خلال انتزاع الذهن هذا المفهوم من حد الوجود الخارجي، فهناك عنصر مشترك بينهما، ولذلك يقول الملا هادي السبزواري - رحمه الله -:

للشيءِ غَيْرُ الْكَوْنِ فِي الأَعْيانِ   كَوْنٌ   بِنَفْسِهِ   لَدَى   iiالأَذْهانِ

فنفس الشيء له كونان، كون في الخارج وكون في الذهن، فهو شيء واحد وماهية واحدة تتمثل في كونين، فماهية الوجود الخارجي تتمثل بالوجود الذهني كما تتمثل بالوجود الخارجي ولكلِّ وجودٍ آثارُه، فاختلاف الآثار ليس عن الماهية بل عن صِقْعِ الوجود، فهذا الوجود الخارجي للنار هو سبب الحرارة، والوجود الذهني للنار هو سبب العلم لكل منهما أثر، فالوجود الخارجي للنار له أثر وهو إفاضة الحرارة الحارقة، والوجود الذهني للنار - صورة النار - لها أثر وهي حصول اليقين والإذعان بحقيقة النار في عالم الواقع، فلكل من الوجودين أثر.

العنصر الثاني: الكشف عن الواقع.

إن الصورة - فأنا تصورت صورة قبر الحسين - - في كربلاء - متقومة بالكشف عن الواقع بنظر حامل الصور، فأنا الذي ارتسمت الصور في ذهني أرى الصورة مثل النظارة، أرى الصورة كاشفةً وحاكيةً عن قبر الحسين - - في الواقع، فالصورة متقومة بالكشف عن الواقع بنظر حامل الصورة.

ما معنى الكشف عن الواقع؟ فهل أن الكشف شيء والصورة شيء آخر؟

لا، فالكشف ذاتي للصورة، فلا تكون الصورة صورة حتى تكون كاشفة وحاكية، فلا يكون الوجود الذهني وجوداً حتى يكون كاشفاً وحاكياً، فالكاشفية والحكائية عنصر ذاتي للصورة، إنما إذا الصورة كاشفة إذن لا بُد من أن هناك منكشفاً، وإلا لكان خلفاً، فمتى ما قلنا إن من الخصائص الذاتية للصورة الكشف فلازم ذلك أن هناك واقعاً منكشفاً، وهذا يُسمى ب اللازم البين بالمعنى الأخص، وهو بمجرد أن تتصور الملزوم تتصور اللازم، فمتى ما تصورت الكشف حالاً تتصور وجود منكشف، واللازم البين لذلك الكشف وجود واقع منكشف بالصورة، كما أن الناطقية ذاتية للإنسان، فكون الإنسان حياةً ناطقة فالنطاقية عنصر ذاتي للإنسان، فأنا أتصور الإنسان أتصور الناطقية، فمجرد أن أتصور الناطقية فلازم الناطقية وجود اللغة [1] ، أي هناك مبرز للمعنى ولو كان إشارةً.

إذن فالعلم الصورة الكاشفة عن الواقع التي تعني وجود واقعٍ منكشف بها بحسب اللازم البين بالمعنى الأخص، ولكن هذا لا يعني أن العلم تترب عليه آثار الوجود الخارجي لأن لكل وجودٍ آثاره الخاصة به.

الأمر الثاني: الدليل على وجود العلم.

يأتي أحدٌ سفسطائي يقول: أعطني دليلاً على وجود العلم، فالعلم الحضوري آمنا به، فأنا أعلم بنفسي لأن المعلوم حاضرٌ بنفسه لدى العالم، أما العلم الحصولي فأعطني دليلاً على وجوده وأن هناك علماً حصولياً، فلعل العالم كله يعيش الوهم أو في جهل مركب، فما هو الدليل على أن هناك علماً؟

نقول: لا دليل على وجود العلم، فلا نستطيع أن نقيم دليلاً على العلم الحصولي، فلا دليل على وجود العلم بمعنى مطابقة الصورة للواقع، فلا دليل، كيف؟ لأن وجود العلم من القضايا الأولية، والقضايا الأولية يستحيل الاستدلال عليها، فلا تستطيع أن تستدل على القضايا الأولية، يقول ملا هادي السبزواري - رحمه الله -:

ذَاتِيُّ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّلا   وَكانَ  مَا  يَسْبِقُه  iiتَعَقُلا

أي أنك تتعقله ابتداءً حتى تتعقل غيره، وهذا نضرب له مثالاً الأشياء التي لا تستطيع أن تستدل عليها لأنها من القضايا الأولية كمبدأ عدم التناقض، فالنقيضان لا يجتمعان، وليس هناك قضية أوضح منها حتى أستدل بها عليها - على أن النقيضين لا يجتمعان - فالدليل لا بُد أن يكون أوضح من المستدل عليه إلا أنه ليس هناك شيء أوضح من امتناع التناقض حتى يُستدل به عليه، فلا يمكن الاستدلال على مبدأ عدم التناقض، فكلُّ من تصور الموضوع وتصور المحمول أذعن بهما، وإذا لم يُذعن فإن هذه مشكلته هو؛ لأن هذه القضية من القضايا الأولية ومعنى ذلك أن الإنسان الطبيعي الذي ليس له مرض وليس لديه مشاكل فمجرد أن يتصور الموضوع والمحول يُذعن، وهذا معنى القضية الأولية، ولا يُمكن الاستدلال عليها؛ لأنه لا يوجد في موردها ما هو أوضح منها كي يُستدل به عليها، فهي السابقة في التعقل لكل شيء آخر. فكما أن مبدأ عدم التناقض مما لا دليل عليه وأن تصوره كافٍ للإذعان به حيث لا يمكن للإنسان أن يحكم بشيء - أي شيء كان - لو لم تؤمن باستحالة التناقض، فإذن لا بُد أن تؤمن باستحالة التناقض حتى تستطيع أن تحكم.

”وكذلك تصور المقارنة بين العلم والواقع موجب للإذعان بالعلم، حيث لا يمكن للإنسان...“، فالآن هذا الطفل خرج من بطن أمه، ولا يوجد - فرضاً - لديه علماً حصولياً [2] ، فهذا الطفل يعلم بنفسه إلا أنه ليس لديه أي معلومات حصولية ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ[3]  فمن خلال الحواس بدأتم تلتقطوا العلم الحصولي، فأول علم حصولي حصل لدى هذا الطفل هو العلم بحلمة ثدي أمه - مثلاً - أو العلم بوجود شيء إلى جانبه، فالإنسان بمجرد أن يُقارن بين الصورة وبين الواقع يقول أن لدي صورة، وهذه الصورة مرآة تحكي شيئاً خلفها، فمجرد أن تقارن بين الحاكي والمحكي أذعن بأن وراء الصورة شيئاً، فلعل الصورة مخطئة إلا أن هناك شيئاً وراءها حتماً، ففرق بين الإذعان بأصل الوجود وبين الإذعان بمطابقة الموجود للصورة، فنحن نتكلم عن أصل العلم أي الإذعان بأصل الوجود، فمجرد أن أقارن بين الصورة وبين شيء أحكم بأن وراء الصورة شيء ولعل الصورة لا تطابقه تماماً إلا أن هناك شيئاً، فالإذعان بأن هناك شيئاً وراء الصورة هو من القضايا الأولية التي تخطر في ذهن الإنسان بمجرد أن يتصورها، وهذا الذي عبرنا عنه في حقيقة العلم أن كاشفية الصورة عنصر ذاتي للصورة، كذلك تصور المقارنة بين العلم - أي الصورة والواقع - موجب للإذعان للعلم.

ما هو المنبه على وجود العلم؟

نحن قلنا أنه لا يصح الاستدلال وإنما نطرح منبهاً. الإنسان لا يُمكنه أن يتعامل مع كل مناحي الحياة من دون وجود علمٍ حصولي، فحتى لو أراد أن يتعامل مع يده لا يستطيع لأن العلم باليد بالنتيجة علم حصولي وليس علماً حضورياً، فحتى اليد هي خارج أفق النفس، فحتى اللسان هو خارج أفق النفس، فكل ذلك هو من الخارج، وكل ذلك العلم به هو علم حصولي، فإذا كان العلم بالمضغ علماً حصولياً حينئذ لا تستطيع أن تتعامل به، فلا يمكن للإنسان أن يتعامل مع لسانه فضلاً عن الأشياء الأخرى ما لم يؤمن بوجود علم حصولي، أي ما لم يؤمن بمطابقة الصورة للواقع، وهذا منبه على واقعية العلم الحصولي.

الأمر الثالث: مع السفسطائيين حول قيمة وجود العلم وقيمته.

نرجع إلى ما ذكره السفسطائيون الذين قالوا: ”لا وجود لدليل على وجود علم فضلاً أن له قيمة“، فإن دليل الاتجاه السابق الذي يقول لا حقيقة للعلم الحصولي يعتمد على وجهين:

الوجه الأول: الوجه الحسي.

وهو التشبث بأخطاء الحس؛ ولكن هذا الوجه ممنوع نقضاً وحلّاً:

أما النقض: كيف عرفتم أن الحس مخطئ؟! أنت لا تملك علماً ولا تؤمن بالعلم ولا تؤمن بوجوده فكيف عرفت أن العلم مخطئ؟! كيف عرفت أن هذه الصورة مخطئة؟! فإذن لا بُد أن تؤمن بوجود واقع ولذا الصورة أخطأت الواقع ولذلك أدركت أن الحس مخطئ، فأنت أنكرت العلم بناءً على العلم، فأنت سلمت بالعلم ثم أنكرته، وهذا نفسه الذي ذكرناه في التناقض، وقلنا أن من يُنكر التناقض يقر بالتناقض، ولولا إقراره بالتناقض لما أنكر التناقض، وهنا كذلك، فالذي يُريد أن ينكر العلم الحصولي لا يُمكن أن ينكره إلا إذا آمن بالعلم الحصولي وإلا كيف اكتشف أن الحس أخطأ أو كذب لو لم يؤمن بوجودِ واقع تُطابقه الصورة ولا تطابقه؟! أي لو لم يؤمن بجود علمٍ وجهل، فَفرْعُ الإيمان بوجود واقع مساوق للإيمان بوجود علم.

أما الحل: إذا كنا نُريد أن نحلل الخطأ، فهنا كلام كثير في تبرير خطأ الحواس:

”فلا خطأ في الحواس“ [4]  وإنما الخطأ في الحكم، وبيان ذلك بذكر نقطتين:

النقطة الأولى: أن هناك ثلاث قوى بينها ترتب وطولية.

أي أن كل قوة مترتبة على القوة التي قبلها وهي الحس والمتخيلة والعقل، فأنا - مثلا - أمسكت بالنار ونتيجة هذا الاتصال بيني وبين الجسم الخارجي - جسم النار - ارتسمت صورة للنار في ذهني، أو نظرت إلى الشمس فانعكست صورة الشمس على قرنية العين، وهذا الانعكاس أدركته النفس فرأت صورة على قرنية العين، فالحس هو عبارة عن ارتسام صورة من خلال حاسة، ثم تأتي القوة المتخيلة وتأخذ الصورة الحسية وتجعلها في الذاكرة وتختزنها فيها، ثم تأتي القوة العاقلة التي تتحكم في الصورة، فتجردها أو تجعلها كلية، أو تجمع صورتين، تحكم بمفهوم على مفهوم أو تسلب، فهذه كلها شؤون القوة العاقلة، إذن ثلاث قوى ونبين أدوارها:

القوة الحاسة:

دور «الحاسة» إدراك الجزئي الخاضع للتشخص والتغير، فأنت بالحواس لا تُدرك الكليات بل تُدرك الجزئيات، والجزئيات لها خاصيتان - تشخص وتغير - فالشجرة جزئي ولهذا هي متشخصة ومتغيرة، الحرارة أيضاً التي تلمسها جزئية لأنها متشخصة ومتغيرة فالحرارة لها درجات ومراتب، فكلًّ جزئي يخضع لهذين الخاصيتين، إذن الصورة المرتسمة نتيجة اتصال الحواس بالخارج هي صورة جزئية متشخصة متغيرة.

القوة المتخيلة:

ودور «المتخيلة» رسم الصورة المتشخصة لكن بدون تغير، فهي تأخذ نفس الصورة المتشخصة وتحافظ على المشخصات لكن بعد أن تأخذها وتضعها في الذاكرة تُصبح صورة ثابتة وليست متغيرة.

القوة العاقلة:

ودور «العقل» يأتي إلى الصورة الموجودة في الذهن - مثلا حيوان غريب - ويرى الصورة ويقوم بتحليلها ويحكم عليها بأنها حيوان، أو يقوم بتجريدها من المشخصات ويقول هذا حيوان الكنغر، وهذا الكنغر وهو كلي ينطبق على هذا وغيره، فإن هذا كله من شؤون القوة العاقلة.

وإنما قلنا بالترتب والطولية بين القوى الثلاث إذ لولا ذلك لكانت الصورة الكلية ليست صورة، فإذا كانت الصورة الكلية لا ترتبط بالصورة المتخيلة والصورة المتخيلة لا ترتبط بالصورة المحسوسة فإذا لم يكن بين القوى ارتباط نأتي إلى الصورة الكلية - والتي هي في القوة العاقلة - ونقول هذه الصورة إن لم تكن مرتبطة بالصورة الموجودة في المتخيلة فهي إما مطابقة لكلِّ شيء أو ليست مطابقة لشيء، وكلاهما خلاف الوجدان، فأن تقول أن الصورة الكلية - الصورة الثالثة - مطابقة لكل شيء فهي قطعاً ليست مطابقة لكل شيء، فأنا الصورة التي في ذهني هي صورة كنغر وصورة الكنغر لا تنطبق على صورة المسجل، وهذا بالوجدان، إذن هي ليست مطابقة لكل شيء، وأيضاً ليست الثاني - ليست مطابقة لشيء - حيث أني أرى أن هذه الصورة تنطبق على صورة معينة موجودة في القوة المتخيلة، إذن بما أن الاحتمالين الأولين باطلان تعين أن تكون مطابقة للصورة المتخيلة، وهذا دليل على أنها مترتبة عليها، ولذلك لا أرى بالوجدان إلا أنها تنطبق عليها لا على غيرها، وكذلك الأمر بالنسبة للصورة المتخيلة، فلما أقارن بين الصورة المتخيلة والصورة المحسوس أقول لو لم يكن بينهما ترتب لكانت الصورة الموجودة في المتخيلة إما مطابقة لكل شيء أو ليست مطابقة لشيء، وحيث أن كليهما خلاف الوجدان تعين أن تكون مطابقة للصورة المحسوسة، وهذا دليل على الترتب بين الصور الثلاث وأدوار القوى الثلاث مما يشهد بالترتب بينهما.

النقطة الثانية: إدراك الواقع إما خطأ أو صواب، ولا يعقل أن يكون خطأً وصواباً.

إلا أن تحققهما يعتمد على ثلاثة أسس، وبدون هذه الأسس الثلاثة لا ينقسم الإدراك إلى خطأ وصواب، حيث أن هذا الانقسام يتوقف على الأسس الثلاثة، وهنا نأتي إلى الأساسات:

الأساس الأول: النسبة والقياس.

إذا أنا الآن تصورت صورة في ذهني، وهذه الصورة التي في ذهني هي صورة للعنقاء[5] ، وهذه الصورة أعلم أنه لا واقع لها، وهذه الصورة لا أنسبها لشيء ولا أقيسها إلى شيء، بل هي صورة مرتسمة في ذهني أتأمل فيها من دون نسبة ولا قياس، فهل هي خطأ أو صواب؟! فهي لا خطأ ولا صواب، فأنت تتأمل في صورة وهذا لا خطأ ولا صواب لأنك لم تنسب الصورة لشيء وراء الصورة ولم تقسها على شيء وراءها، فإذن هنا لخطأ ولا صواب.

الأساس الثاني: الوحدة بين المقيس والمقيس عليه.

لا بُد أن يكون بينهما وحدة، وإذا لم يكن بينهما وحدة كما لو أني تصورت صورة قبر الحسين - - في كربلاء، فهذه صورة أقوم بقياسها على شيء آخر، فأقيس هذه الصورة على صورة شجرة في الصين، فما علاقة هذا بهذا، فقياس هذه الصورة على تلك الصورة ليس خطأ ولا صواباً لعدم وجودِ وحدة - أي عنصر مشترك - بين المقيس والمقيس عليه، فلا بُد من وجود وحدة وعنصر مشترك بينهما حتى يكون خطأً أو صواب، فإذا لم يكن بينهما عنصر مشترك فهو لا خطأ ولا صواب.

الأساس الثالث: الحكم بأن هذا هو ذاك.

فلا بُد من حكم، أما لو لم يكن هناك حكم فإني لو تصورت صورة قبر الحسين - - في كربلاء، وتصورت واقع كربلاء، فهنا عندي صورتين، فافترض مثلا أن أشاهد فلماً أو قناة كربلاء، فقناة كربلاء عرضت صورة الضريح الشريف، فهذه الصورة انعكست في رأسي، وقمت أنا بتَصوّر القبر الذي رأيته قبل عشر سنوات، وقلت «هل هذا هو ذاك أم ليس بهو؟» فهنا بعدُ لم أحكم بل مجرد شك، فما دمت في حالة شك وتردد، فإن هذا لا خطأ ولا صواب.

إذن حتى يكون عندي خطأ وصواب لا بُد أن تجتمع عندي العناصر الثلاثة وهي القياس ووجود وحدة وحكم، فإذا حكمت فهذا الحكم إما خطأ أو صواب.

وبذلك - أي بشرح هذه النقطتين - تبين أنْ لا خطأ في الحواس نتيجة اتصال الإنسان بالجسم الخارجي، فاتصلت بالجسم الخارجي واتصلت بالنار واتصلت بالورد فهذا الاتصال نُسميه إحساس، وهذا الإحساس انعكست منه صورة، فإن انعكاس صورة المبصرات - كصورة النار والورد - على قرنية العين وإدراك النفس لهذه الصورة الجزئية المنعكس فإن كل هذا ليس فيه خطأ، فالحواس لا تُخْطئ، فحتى السراب فإن الصورة التي انعكست للسراب في الرأس ليست صورة خاطئة بل هي مطابقة للواقع، والخطأ جاء من الحكم على أنه ماء، وإلا نفس الصورة ليست صورة خاطئة، فالحاسة مثل الكاميرا تماماً تلتقط ما هو في الخارج، وانعكاس أشعة الشمس على هذا الموقع رسم صورة تشبه صورة الماء فالتقطتها الحاسة والعين مثل التقاط الكاميرا، فالتقاط العين لصورة السراب لا يوجد فيه أي خطأ، خطأ في التفسير وخطأ في الحكم، وإلا الحاسة ليس فيها أي خطأ، فليس فيه خطأ ولا صواب؛ وذاك لانتفاء الأساس الأول فضلا عمّا بعده من الأسس، فلا قياس هنا، فالإحساس ليس وظيفته أن يقيس أو لا يقيس فإن الذي يقيس ولا يقيس هو القوة العاقلة، وأما الإحساس مجرد كاميرا يلتقط صور فقط، فبما أنه يُعتبر في انقسام الإدراك إلى خطأ وصواب وجود أسس ثلاثة أولها أن تقيس الصورة إلى شيء والإحساس ليس فيه قياس وإنما مجرد التقاط، إذن لا يوجد فيما يلتقطه الحس لا خطأ ولا صواب وذاك لانتفاء الأساس الأول فضلاً عمّا بعده من الأسس.

جاءت المتخيلة وأخذت هذه الصورة التي التقطتها كاميرا العين وخزنتها في الذاكرة، فخرجت عن كونها متغيرة إلى كونها ثابتة كما لا خطأ في المخيلة، فإنها وإن حققت الأساس الأول - حققته في النسبة والقياس بين أجزاء الصورة - فالمتخيلة تتحكم لا تلتقط، فهي تأخذ الصورة وترى النسبة بين أجزاء الصورة فتقول - مثلاً - هذا الجزء أكبر من هذا أو هذا الجزء أقرب أو أبعد، فكل هذه أحكام وقياسات تقوم بها القوة المتخيلة، فإنها وإن حققت الأساس الأول هو القياس بين أجزاء الصورة نفسها من حيث الكبر والصغر والحركة والسكون والقرب والبعد فهذه كلها أشياء تحكم بها القوة المتخيلة على الصورة التي التقطتها القوة الحاسة، ولكنها لم تتوفر على الأساس الثالث وهو الحكم بأن هذه الصورة المحسوسة مطابقة للخارج أو غير مطابقة، فهي ساكتة، فإن عمل القوة المتخيلة القياس بين أجزاء الصورة لا القياس بين الصورة وبين الواقع الخارجي، إذن لا خطأ في القوة المتخيلة لأنها لم تتوفر على الأساس الثالث.

وهنا وصلنا إلى ما يُريد قوله صاحب الميزان، ”كما لا خطأ في دور القوة الثالثة“، حتى القوة العاقلة التي حكمت لا خطأ، فإنها وإن قامت بالحكم - أي حكمت على السراب بأنه ماء فهي التي جاءت بالتفسير ونطقت بالحكم - بعد المقارنة بين الصورة المختزنة في الذاكرة التي اختزنتها المتخيلة وما في الخارج والحكم باتحادهما، فهي قالت «هذه الصورة ماءٌ» إلا أن الحكم فعل إيجادي من أفعال النفس، والفعل بما هو فعل لا خطأ ولا صواب، فأنا حركت يدي فهل هو خطأ أو صواب؟! فهو فعل من أفعالي لا خطأ ولا صواب، والحكم فعل من أفعال القوة العاقلة ودور من أدوارها فتقول هذه الصورة المختزنة في الذاكرة ماء، وهذا الحكم هي عملية إيجادية والفعل الإيجادي لا خطأ ولا صواب، وإنما الخطأ في عدم تطابق ما نتج عن القوة الثالثة مع ما نتج عن القوة الثانية والأولى، فالأولى التقطت صورة والمتخيلة اختزنتها والقوة الثالثة قالت هذا ماء، والخطأ هو في عدم التطابق، لأن القوة الثالثة إذا قالت أن هذا ماء فهي عندها صورة الماء مختزنة وقارنت بين هذه الصورة والصورة التي احتفظت بها المتخيلة وقالت «هذا هو ذاك» فهذا هو ماء، فما قامت به القوة العاقلة لم يتطابق مع الصورة المختزنة للماء في الذاكرة، فنتيجة عدم التطابق بين دور القوة الثالثة ودور القوة الثانية - القوة المتخيلة - حصل خطأ.

فلا الخطأ في دور القوة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة بل الخطأ نتج عن عدم التطابق بين الصورة الموجودة في القوة العاقلة والصورة الموجودة في القوة المتخيلة.

”عدم تطابق ما نتج عن القوة الثالثة مع ما نتج عن القوة الثانية والأولى لا في دور أي قوة من القوى الثلاث، وبالتالي لا يصح القول بأن خطأ الحواس مانع من ولادة العلم الحصولي“، فالحواس لا تخطئ فكيف تعيق العلم الحصولي؟! وإنما الخطأ أمر قهري حصل عن عدم تطابق هذا مع هذا، فكيف تقولون بأن خطأ الحواس منع من وجود العلم الحصولي ومنع من قيمته والحال أنه لا خطأ في البين.

ولكن هذا التحليل لا يدفع الإشكال السفسطائي فإنه بغض النظر عن تحديد منطقة الخطأ سواء كان في الحاسة أو في المتخيلة أو في العاقلة أو في أمر قهري حصل فإن النتيجة واحدة وهي عدم اليقين بما يرد عن طريق الحس؛ لأن هذه الصور ستبتلي في نهاية المطاف بالخطأ، فالصحيح الإقرار بوجود الخطأ، لكن الإقرار بوجود الخطأ لا يعني إلغاء العلم الحصولي.

وهنا كلمة السيد محمد باقر الصدر - قدس سره - يقول هذا الكتاب - الأسس المنطقية - ألفته حتى أثبت أن وجود الخطأ لا يعني إلغاء قيمة العلم الحصولي، فإنه يُمكن للإنسان أن يحصل على اليقين بمطابقة المعلومات للواقع عن طريق جمع الاحتمالات «حساب الاحتمالات».

والحمد لله رب العالمين

[1]  وليس المراد باللغة هي اللغة اللفظية بل بالمعنى الأعم أي المبرز، لأن اللغة قد تكون إشارة وقد تكون إيحاءً وقد تكون لفظاً.
[2]  كما فسر سيد الميزان - قدس سره - الآية بأنها تقصد العلم الحصولي ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل: 7]، أي العلم الحصولي ليس موجوداً أما العلم الحضوري فموجود.
[3]  [النحل: 78].
[4]  هذا الذي يقوله السيد الطباطبائي - قدس سره - في المتن، وفي الحاشية يقول الشيخ المطهري - قدس سره -: الجواب ما ذُكر في المتن.
[5]  وهذا حيوان مفترض لا وجود له.