وحي السماء هو الضمان لبناء الإنسان

1443-09-02

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في حقيقة الوحي وتفسير ما هية الوحي الذي هو علاقة اتصال بين المحدود واللامحدود، بين المخلوق والخالق، وذكرنا في الليلة السابقة التفسير النفسي لحقيقة الوحي، وما هي الملاحظات عليه ونتعرض هذه الليلة إلى التفسير الغربي لحقيقة الوحي ألا وهو تفسير حقيقة الوحي بالتجربة الروحية، وكلامنا في هذا المضمون في عدة محاور:

  • تحليل معنى التجربة الروحية.
  • المبررات التي بنى عليها بعض فلاسفة الغرب لتفسير الوحي بالتجربة الروحية.
  • النتائج المترتبة على تفسير الوحي بالتجربة الروحية.
  • وجه النقد والملاحظة على هذا التفسير.
المحور الأول: تحليل معنى التجربة الروحية.

عندما نراجع كتاب الإلهيات الليبرالية وليام هوردن تحدث في هذا الكتاب عن هذه النظرة وهي تفسير الوحي بتجربة روحية، وتبنى بعض المفكرين الإسلاميين هذه النظرية نظير محمد إقبال اللاهوري في كتابه «إحياء الفكر الديني»، فماذا يقصدون من التجربة الروحية؟

القصد من التجربة الروحية هو الإدراك الحضوري بلا واسطة، مثل الأم عندما تقوم بالعناية بوليدها ورعايته فإن الأم تشعر بلذة الأمومة، فالأمومة لذة وإن كان فيها معاناة وهموم إلا أنها لذة روحية خاصة، هذه اللذة التي تعيشها الأم وهي تمارس مهمات الأمومة تسمى تجربة روحية، خصوصاً إذا كانت حديثة عهد بالأمومة، لذة الأمومة هي شعور باطني حاضر بنفسه تشعر به الأم وتخوض معانيه ومراحله وصوره وألوانه، لذة الأمومة وروح الأمومة هي تجربة روحية، ومثل هذه التجربة يراد نقلها للأنبياء، أن النبي يعيش شعوراً باطنياً معيناً يرى في هذا الشعور أنه يسمو بنفسه وأنه يرتقي بذاته، ويشعر بلذة خاصة في هذا السمو والرقي، ومن خلال هذا الشعور يقتنص بعض المعاني وبعض الكمالات وبعض الحكم والكلمات، ثم يبلّغها إلى الآخرين.

التجربة الروحية تتقوم بثلاثة عناصر:

العنصر الأول: إدراك باطني وجوده عين العلم به، ويعبر عنه بالعلم الحضوري؛ أي شعور الإنسان به هو عين وجوده وليس شيء آخر.

العنصر الثاني: الاستقلال عن الحس والعقل؛ يعني شعور بلا واسطة، شعور الأم بالأمومة هو شعور بلا واسطة؛ أي لا تحتاج الأم إلى أن تدرس عن الأمومة حتى تشعر بذلك، ولا تحتاج إلى توسيط مفاهيم ولا تحتاج إلى توسيط استدلالات عقلية حتى تصل إلى هذا الشعور، ولا تحتاج إلى أدوات حسية حتى يتولد لديها هذا الشعور، هذه الأم بمجرد أن ينزل الجنين من رحمها تمتلك هذا الشعور بلا واسطة وبلا حاجة إلى مفاهيم عقلية أو استدلالات منطقية أو أدوات حسية تمارسها حتى تمتلك هذا الشعور وحتى تصل إليه، النبوة والوحي شعور يصل إليه بارتقاء وسمو النفس بلا واسطة، لا بواسطة استدلالات عقلية ولا مفاهيم منطقية ولا أدوات حسية.

العنصر الثالث: عدم القابلية للنقل، يمكن للأم أن تعبر عن شعورها وعن لذة الأمومة في داخلها لكن لا يمكنها نقل هذا الشعور إلى غيرها، كذلك النبي لا يمكنه أن ينقل هذه التجربة الروحية التي يعيشها إلى غيره، وإنما يعبر عنها ويفصح عما يشعر به لا أنه يقوم بنقله.

المحور الثاني: المبررات التي بنى عليها بعض فلاسفة الغرب لتفسير الوحي بالتجربة الروحية.

لماذا بنى لفيف من فلاسفة الغرب على أن النبوة والوحي هي تجربة إنسانية روحية لا أكثر من ذلك؟ وما هي المبررات التي دعتهم إلى تبني هذا التفسير وهذا التحليل؟

هنا عدة مبررات نتعرض لها:

المبرر الأول: فشل الإلهيات العقلية، لم يصمد الفكر المسيحي أمام الإشكالات العقلية، لم يصمد أمام الإشكالات الموجهة نحو الدين وجدوى الدين وأصل الدين، بعبارة أخرى عِلْم الكلام المسيحي لم يصمد أمام الإشكالات وأمام الاعتراضات، أمام فلسفة هيوم، وأمام فلسفة كانت، فانهارت المفاهيم الإلهية من هذا الفكر، لذلك حصر كانت الدين في مجال الأخلاق، فقال الدين مجموعة من القيم الإنسانية والأخلاقية لا أكثر من ذلك، الدين ليس نظام وليس رسالة تقود الحياة، الدين مجموعة من القيم والأخلاق، لأن جعل الدين أكبر من ذلك يعني رجوع تلك الإشكالات العقلية على جدوى الدين.

جاء دور المستشرق الألماني رودلف أوتو الذي ذهب إلى أنه الدين ليس مجرد قيم أخلاقية بل هو نزعة عرفانية، والمقصود بالنزعة العرفانية ذكره في كتابه «مفهوم الأمر المقدس» إن جوهر الدين يكمن في الشعور والإحساس والناحية غير العقلية.

المبرر الثاني: تقدم العلوم التجريبية، كل علم يثبت نفسه من خلال التجارب والدين ما أثبت نفسه من خلال التجارب، إذن بالنتيجة تقدم العلوم التجريبية وتقدم الإنسان تكنولوجياً جعل له أسئلة وإشكالات حائرة أمام الفكرة الديني وبالذات الفكر المسيحي، ومما جعله يفسر الدين نفسه بالتجربة هو حصول العلوم التجريبية على درجة عالية من الاعتبار بحيث أخذ العلماء يقيسون كل العلوم على العلوم التجريبية، وأدى ذلك إلى ظهور الفلسفة الوضعية التي قضت على ما يسمى بالمفاهيم الميتافزيقية، كل شيء لابد أن يخضع للحس والتجربة وإلا فلا قيمة له.

المبرر الثالث: الذي حدى بتفسير الوحي والنبوة بالتجربة الروحية التوفيق بين الثابت والمتغير، هم يشعرون أن الدين شيء ثابت جاء من يوم نوح إلى يومنا هذا وثبت بينما حاجات الإنسان وظروف الإنسان وحياة الإنسان وظروفه تتغير بين حالة وأخرى، فكيف نوفق بين الدين الذي نؤمن به كرصيد إنساني ثابت وبين الحاجات المتغيرة حسب تغير العصور وحسب تغير الثقافات، لا يمكن التوفيق بين المتغير والثابت إلا أن نقول أن الدين هو تجربة روحية، وهذه التجربة الروحية تبقى ببقاء الإنسان ما دام الإنسان يعيش روحاً وقيماً وكمالات إنسانية، وأما الحياة بمشاكلها المعقدة وظروفها المختلفة فلا يمكن أن يكون الدين قائداً ومديراً لها، الدين يبقى تجربة روحية حتى يبقى أمراً ثابتاً وحاجات الإنسان تتغير لأنها تحتاج إلى نظام آخر غير نظام الدين.

هذه هي المبررات التي أدت بتفسير الوحي بتجربة روحية وتبناها من المسلمين الشيعة السيد عبد الكريم سروش المفكر الإيراني الذي تبنى تفسير الوحي بتجربة روحية يعيشها النبي ويحصل من خلالها على بعض المفاهيم ويبلغها إلى الخلق، هو يشعر كأنه اقتنص شيء من عالم الغيب وهو لا يكذب بل يشعر بأنه اقتنص أشياء من عالم الملكوت ويؤديها إلى الخلق ولكن هذه الأشياء في الواقع وفي مقام التحليل هي من نتاج ذاته ونتاج تجربته وليست موفدة أو مرسلة إليه من العالم الآخر.

بل ذهب السيد سروش إلى إمكان بسطها وتوسيع رقعتها إلى غير النبي ولا تنحصر به، بل هي في النبي خاضعة للقبض والبسط بحسب اختلاف حالاته ومزاجه وظروفه، وهي ليست أمراً ثابتاً، لذلك ذكر في كتابه «بسط التجربة النبوية» إن قوام شخصية الأنبياء وعماد ما عندهم هو الوحي وهو تجربة دينية، فالنبي إنسان وعليه تكون تجربته تجربة إنسانية.

المحور الثالث: النتائج المترتبة على تفسير الوحي بالتجربة الروحية.

ويترتب على ذلك عدة آثار:

الأثر الأول: عدم عصمة الوحي من الخطأ، فما دام هو تجربة إنسانية إذن هو خاضع للنقص والخطأ، وبالنتيجة إبراهيم ونوح وموسى وعيسى ومحمد متفاوتون في قدراتهم الذهنية والروحية والنفسية فسيتفاوتون أيضاً في عمق التجربة وقوتها وآثارها، لأجل ذلك يمكن نوح يحصل 30% من النتائج، ويمكن موسى يحصل 50%، ويمكن النبي يحصل 70%؛ لأنه مثلاً أكثر ذكاء ونبوغاً وصبراً وقدرة، إذن يتفاوتون في قدراتهم العقلية والروحية ويتبع ذلك التفاوت في النتائج فلا تكون المعطيات كاملة بل هي معطيات خاضعة للخطأ والنقص.

ذكر السيد عبد الكريم سروش في حوار له حول القرآن الكريم قال: القرآن ليس معصوماً، ومعنى أن القرآن ليس معصوماً عدم تناغمه مع العلوم المعاصرة، واستشهد لذلك ببعض الشواهد منها أن القرآن يتحدث عن سبع سماوات والعلم المعاصر لم يذكر أن الفضاء يشتمل على سبع سماوات وكذا من الأمثلة التي نجم عنها من القرآن ومعلومات وصل إليها النبي عبر تجربته الروحية ربما تتطابق مع المنطق العلمي وربما لا تتطابق.

الأثر الثاني: أنسنة الوحي، يبقى الوحي مجرد رصيد إنساني كالشِّعر، كما ذكرت الجاهلية نفس هذا المنطق «بل هو قول شاعر» «شاعر نتربص به ريب المنون» أي أنه يخوض تجربة أدبية، وهذه التجربة الأدبية لها نتاج ونتاجها ما يسمى بالقرآن الكريم، ويوم من الأيام سوف تنتهي هذه التجربة وآثارها، ولأجل ذلك تعتبر هي تجربة إنسانية بمعنى الكلمة.

ولذلك يقول السيد عبد الكريم سروش: لقد كان النبي إنساناً وهكذا كانت تجربته تجربة إنسانية، لقد كان للنبي تجربتان فكان للإسلام ثمر تلك التجربتين وهما التجربة الخارجية والتجربة الداخلية، والتجربة الخارجية أي أنه أقام مجتمع ودولة، والتجربة الداخلية هي التجربة الروحية التي عاشها بينه وبين نفسه.

الأثر الثالث: عدم سماوية الألفاظ القرآنية، فإذا كانت التجربة كلها إنسانية إذن هذه الألفاظ التي وردت في القرآن هي تعبير من النبي عما يعيشه من سمو وكمال ومفاهيم ومفردات فكرية وأخلاقية معينة، كلها تعبير النبي ، ولأجل ذلك هذه الألفاظ ليس لها قداسة معينة، وأن النبي يتوهم أن ما يقوله نزل عليه من الله عزوجل، أما هو في الواقع مجرد ألفاظ يصوغها بلغته التي جُبل عليها، فإذا قال القرآن: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] أو يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] أو يقول: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] كل هذا لأن النبي يعتقد أنه سما وارتقى ووصل إلى الملكوت الأعلى واقتنص هذه المفاهيم بألفاظها من ذلك الملكوت الأعلى.

المحور الرابع: وجه النقد والملاحظة على هذا التفسير.

في مقام المناقشة لهذه النظرية وهي أن الوحي تجربة روحية إنسانية نحن نريد أن نقول أن العقل يفرض ضرورة الوحي من السماء، فلو رجعنا إلى العقل لرأينا العقل يحكم بضرورة أن يرسل الله رسالة من السماء، وبضرورة أن يحصل وحي السماء لصفوة من البشر ألا وهم الأنبياء والرسل.

هنا عندنا منطق فلسفي ومنطق عرفاني ومنطق كلامي أي بحسب اختلاف العلوم في صياغة هذه الضرورة العقلية، كل علم يصوغ هذه الضرورة العقلية بحسب مفرداته ومفاهيميه.

في المنطق الفلسفي: كيف يثبت الفلاسفة ضرورة الوحي وضرورة أن يرسل الله رسالة عبر بشر إلى المجتمع الإنساني؟

الفلاسفة يذكرون عدة مقدمات تعرض لها السيد الطباطبائي رحمه الله في كتابه «الميزان» وفي كتبه الأخرى أيضاً:

المقدمة الأولى: أن الكون كله خُلق لكي يصل إلى الكمال، كل شيء في هذا الكون خُلق وأُبدع من أجل غاية وهدف، أي أن الكون تحكمه لغة الهدفية ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [الأنبياء: 16] ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 17] وقال: ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 39]

كل الكون بما فيه الإنسان خاضع لهدف ولو لم يكن هناك هدف من وجود الكون وهو وصول الكون إلى كماله لكان خلق الوجود عبثاً والعبث قبيح على المقنن والمصمم الحكيم، إذن الكون كله يسير نحو هدف ألا وهو الوصول إلى الكمال.

المقدمة الثانية: الإنسان أناني بطبعه، أول ما يتجه إليه الإنسان هو نفسه، بمجرد أن يخرج من بطن أمه يبحث عن غذائه وراحته، فالإنسان أناني بطبعه وفكره الأول في الوصول إلى مصلحته الشخصية، يقول القرآن الكريم: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى [العلق: 6] فكلما أتيح له الطريق لإشباع بطنه وتحصيل مصالحه يطغى ولا يفكر في الآخرين.

المقدمة الثالثة: لا يمكن للإنسان أن يصل إلى أهدافة بدون مجتمع يعينه على الوصول إلى أهدافه، من هنا قيل أن الإنسان اجتماعي، أي مفتقر إلى وجود مجتمع يعينه في الوصول إلى أهدافه الشخصية وإلى وصوله إلى كماله.

المقدمة الرابعة: هنا يحصل التزاحم بين مصالحه الشخصية والمصالح الاجتماعية، هو ينطلق من أنانيته للوصول إلى أهدافه، والمجتمع يريد أن يصل إلى أهدافه، فهنا يحصل التنازع والتنافس والتزاحم بين سعي الإنسان إلى أهدافه وسعي المجتمع للوصول إلى أهدافه ومصالحه العامة.

إذن لما وصلنا إلى هذه المقدمة أدركنا أننا نحتاج إلى نظام يوفق بين الحاجات الخاصة والحاجات العامة، بين المصالح الشخصية والمصالح العامة، بين أن يُشبع أنانية الإنسان في نفس الوقت الذي يكون فيه الإنسان أداة لخدمة مجتمعه، فما هو هذا القانون الذي يؤلف ويوفق بين المصلحتين؟ هل الإنسان وحده يستطيع أن يصل إلى هذا القانون؟

لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذا القانون وحده؛ لأن الإنسان محدود بزمانه ومستوى بيئته وثقافته، لا يستطيع أن يخترق الزمن فثقافته من ثقافة زمانه، ورؤيته من رؤية زمانه، لا يستطيع أن تخترع نظاماً يخترق الأزمنة كلها ويصل إلى نظام ورسالة مؤبدة صالحة لإنقاذ الإنسان من التزاحم بين المصالح الفردية والمصالح العامة، الإنسان محدود، ابن بيئته وزمانه لذلك لا يقدر على الوصول إلى القانون الذي ضمن التوفيق بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية، بل هو عاجز عن أن يوجد نظاماً يوفق بين العالمين عالم الدنيا وعالم الآخرة، ليس المهم فقط نظام يوفق بين المصلحتين بل لما كان الإنسان يعيش عالمين عالم قصير وعالم طويل الأمد التوفيق بين هذين العالمين بنظام لو اتبعه لاستطاع أن ينسجم ويتناغم مع العالمين، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى هذا النظام، إذن ما دام الإنسان محتاج إلى النظام ولا يستطيع أن يصل إليه في حد ذاته فلا محال تصل النوبة إلى النتيجة، لابد من نزول نظام من مدبر الكون، وهل يعجز من دبر الكون بأسره أن يدبر الإنسان!

﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] صاغ الوجود صياغة محكمة متقنة كلٌ يسير نحو هدفه بدون خلل وارتباك، فمن دبر الكون يعجز عن تدبير الإنسان وإيجاد نظام يصلح الإنسان ويوفق بين حاجاته الخاصة وحاجاته العامة وخطه القصير الدنيوي وخطه الطويل الأخروي!

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] وهناك فرق بين القسط والعدل، العدل يقابله الظلم والقسط يقابله الجور، العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، والظلم سلب ذي حق حقه، أما القسط فهو وضع الأشياء في مواضعها، والجور حرف الأشياء عن مواضعها، ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليعيش الناس نظاماً كاملاً يضع الأشياء في مواضعها.

إذن لابد من الحاجة إلى الوحي ولابد من الحاجة إلى رسالة السماء هذا ما ذكره المنطق الفلسفي لبيان الحاجة إلى الوحي ورسالة السماء.

في المنطق العرفاني:

علماء الأخلاق أيضاً لهم صياغة صاغوا بها ضرورة الوحي وضرورة رسالة السماء فقال علماء العرفان والأخلاق: الهدف الأساس للإنسان هو الوصول إلى الله تبارك وتعالى.

السيد حيدر الآملي من مشاهير علماء العرفان في القرن الهجري الثامن يعبر بهذا التعبير: اعلم أن النبوة هي الإخبار عن الحقائق الإلهية؛ أي معرفة ذات الحق ومعرفة الوصول إليه.

مراحل السير العرفاني: [1] 

السفر الأول: السفر من الخلق إلى الحق، وذلك بإزاحة الحجب الظلمانية المهيمنة على النفس للوصول إلى الله، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى الحق حتى يجيب عن الأسئلة الثلاثة: من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟

كل إنسان بفطرته يطرح هذه الأسئلة الثلاثة على نفسه، هذه الأسئلة الثلاثة هي الهدف من وجود الإنسان، الهدف من وجودك أن تجيب عن هذه الأسئلة الثلاثة وتسير في الطريق نحو الإجابة عليها، فالهدف من وجودك هو الوصول إلى الله، والوصول إلى الله يعني أن تعرف من أين أتيتك وفي أين تمشي وإلى أين تتجه ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6]، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم: 42] وليس المقصود المنتهى يكون في الآخرة لا بل ملاقيه في الدنيا، والهدف من وجودك أن تكدح إليه حتى تصل إليه.

السفر الثاني: السفر من الحق إلى الحق بالحق؛ وهو سفر في أسماء الله وصفاته، عندما تعيش حالة التأمل في أسماء الله وصفاته وأفعاله وكماله الجلالي وكماله الجمالي، كل رحلة التفكير هذه في الله تبارك وتعالى هي عبارة عن السفر من الحق إلى الحق بالحق، يقول القرآن الكريم: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] عظمة آية الكرسي أنها تعبير عن السفر الثاني وهو السفر في الحق بالحق، الرحلة إلى الله منه وإليه.

السفر الثالث: السفر من الحق إلى الخلق، بعد أن شاهد الإنسان عالم الجبروت وهو عالم العقول الكلية  محمد عقل كلي، وعلي عقل كلي  بعد أن شاهدت عالم الجبروت وهو عالم العقول الكلية وشاهدت عالم الملكوت من خلال رحلتك ألا وهو عالم حقائق الأشياء، في العالم التكنلوجي تُكتشف حقائق الأشياء من الزاوية المادية، كل شيء يخضع إلى الاختبار وتعرف عناصره وجزيئاته وهذا يسمى معرفة الأشياء من الزاوية المادية، أما السائر نحو الله فهو يتعرف على الأشياء من الناحية الملكوتية، ومعنى أنه يتعرف على الأشياء من الناحية الملكوتية أنه يتعرف على كل شيء من زاوية صلته بالله لا من زاوية ذاته، يتعرف على الأشياء لا من زاوية ذواتها بل من زاوية مرآتيتها لخالقها، من زاوية صلتها بخالقها بوجهها الغيري وهو مرآتيتها لله لا بوجهها النفسي، وهو ما عبرت عنه الآية المباركة: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 83] كل الأشياء حقيقتها بيده، فعندما تتعرف على الأشياء من خلال ملكوتها تكون قد تعرفت عليها من خلال صلتها بالله عزوجل.

فإذا رجع الإنسان من رحلته الثانية، رجع وقد تعرف على عالم الجبروت وهو عالم العقول الكلية، وعلى عالم الملكوت وهو عالم حقائق الأشياء، رجع إلى عالم الناسوت وهو عالم الطبيعة والخلق ليديره إدارة إلهية وهذا ما ينقلنا إلى السفر الرابع.

السفر الرابع: السفر بالحق في الخلق؛ وهو عبارة عن مقام الشهادة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] أن تكون شهيداً على مجتمعك ورقيباً عليه، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 104] كل هذه المراحل لا تستطيع أن تسير فيها وحدك، وإلا أصابك الضلال والتيه، لا يمكن للإنسان أن يعبر هذه المراحل وهذه الأسفار معتمداً على عقله المجرد، إذن الطريق لعبور هذه المراحل كي يصل إلى الهدف من وجوده وهو كماله الروحي الذي هو عبارة عن وصوله إلى ربه يحتاج إلى الوحي، ويحتاج إلى النبوة، ويحتاج إلى الإرشاد ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم [الشورى: 52].

من هنا المنطق العرفاني يفترض أن لا طريق للإنسان لتحقيق هدفه بالوصول إلى الله إلا من خلال الوحي.

في المنطق الكلامي:

علماء الكلام يشتركون مع بعض المقدمات التي ذكرها الفلاسفة، وهنا لدينا عدة مقدمات:

المقدمة الأولى:

الفاعل الناقص غايته كماله، والفاعل الكامل غايته إبراز كماله، فرق بين الفاعل الناقص والفاعل الكامل، فعندما أمارس الرياضة غرضي أن أحصل على كمال جسدي، وعندما أدرس هدفي من هذا العمل كمال عقلي وكمال معلوماتي، فالفاعل الناقص غايته كماله أي أن يصل إلى الكمال في أي فعل كان، أما الفاعل الكامل غايته إبراز كماله، البشر يختلفون في طبائعهم هناك شخص طبعه كريم جواد معطاء لا يفكر في نفسه دائماً يفكر في الآخرين فهو يعيش كماله، هذا فاعل كامل تجاوز الأنا والذات، وكرمه هو إبراز لكمال يعيشه في داخل روحه، فالفاعل الكامل غايته بروز كماله.

الله تبارك وتعالى فاعل كامل لا يحتاج إلى خلقه إذن هدفه وغايته بروز كماله لخلقه لكي يسيروا في إطار كماله تبارك وتعالى، لذلك الله تبارك وتعالى خلق الإنسان لكي يصل إلى حصة من الكمال الإلهي، لكي يصل الإنسان إلى نفحة من الجمال الإلهي، قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] العبادة طريق إلى الكمال.

وقال تبارك وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ «2» [الملك: 1 - 2] الهدف من وجود الإنسان أن يتجلى له كمال الله فيكتسب نصيباً من هذا الكمال.

المقدمة الثانية:

الإنسان كائن مختار عنده طاقة اسمها الإرادة وهي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فبما أن الإنسان كائن مختار ذو إرادة لا يمكنه أن يصل إلى الكمال إلا إذا كان كمالاً اختيارياً، فلم يجعله الله تبارك وتعالى كالمَلَك، المَلَك ليس بيده الكمال، الملك خلق هكذا مثل الآلة تماماً، الإنسان متقوم بالإنسانية والإنسانية تعني الإرادة، فلا يمكن أن يصل إلى كمالٍ إلا إذا كان كمالاً اختياراً عبر إرادته واختياره ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70]

المقدمة الثالثة:

الإنسان محتاج إلى معرفة المسار نحو الوصول إلى الكمال، ولمعرفة المسار الذي يوصله إلى الكمال من هنا جئنا إلى الخطوة الدخيلة في الحاجة إلى الوحي والحاجة إلى النبوة.

إن لدى الإنسان أدوات معرفية حسية عقلية وجدانية تكنلوجية، الإنسان له أدوات يصل من خلالها إلى المعرفة إلا أن هذه الأدوات وحدها لا تكفي لوصوله إلى الكمال، والشاهد على ذلك أن الإنسان في العصر الحديث وصل إلى قمة التقدم التكنلوجي ولكنه انحدر من الناحية الخلقية والإنسانية، نظرة خاطفة على الغرب تجد انتشار الأمراض النفسية بشكل فظيع، تجاوزٍ للقيم والخطوط الخلقية، وتجاوز للأطر الإنسانية في كثير من المجتمعات مع وصولها إلى أوج التقدم التكنلوجي، وكل ذلك شاهد على أن الإنسان لو اعتمد على نفسه من دون نور الوحي، ومن دون نور النبوة لن يصل إلى الكمال اللائق به الذي خُلق من أجل الوصول إليه، من هنا جاءت الحاجة بحسب المنطق الكلامي إلى الوحي.

بعد أن أقمنا براهين ثلاثة: فلسفي، عرفاني، كلامي على ضرورة وجود وحي، وضرورة وجود رسالة من السماء ولا يمكن أن يعتمد الإنسان على نفسه، إذن ما دام المجتمع البشري في حاجة ضرورية إلى نزول الوحي وإلى وصول الرسالة السماوية وإلا لم يمكنه الوصول إلى أهدافه التي خلقها الله من أجل الوصول إليها فلابد أن يوصل الله الوحي إليه، وهو ما يُعبر عنه بقاعدة اللطف، المجتمع محتاج، والله يعلم بحاجة المجتمع البشري إذن مقتضى علمه بحاجة المجتمع البشري للوحي وقدرته على تلبية هذه الحاجة وكماله والفاعل الكامل غايته بروز كماله، مقتضى هذه الأمور الثلاثة أن يوصل الوحي إلى المجتمع البشري، وإلا لو لم يوصل لكان نقضاً للهدف من وجود المجتمع، ونقض الهدف قبيح لا يصدر من الحكيم، إذن مقتضى ذلك أن يوصل الوحي إلى المجتمع البشري بوسيلة مضمونة، حتى لا يبقى للناس حجة ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165]

والوسيلة المضمونة هي الرسل المعصومة، قال تبارك تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ «46» [الحاقة: 44 - 46]

وقال تبارك وتعالى في آية أخرى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا «26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «27» لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «28» [الجن: 26 - 28]

فإذا كان كذلك فكيف يكون الوحي تجربة إنسانية! كون الوحي تجربة إنسانية يعني أن الله تبارك وتعالى لم يحقق هدفه من وجود الخلق، إذ لا يمكنه تحقيق هدفه إلا من خلال إرسال رسالة عبر وسيلة مضمونة، والتجربة البشرية ليس وسيلة مضمونة لوصول الوحي إلى المجتمع البشري الذي يحتاج إليه حاجة ماسة.

والحمدلله رب العالمين

[1]  كتاب الأسفار لملا صدره الشيرازي، ويقصد بالأسفار هي الأسفار الأربعة؛ وهو مصطلح في علم الأخلاق وعلم العرفان.