1443-09-04

التيار الربوبي في ميزان النقد والتحليل

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

بعد أن تعرضنا إلى حقيقة الوحي وضرورة الوحي نتعرض إلى تيار فكري منتشر في المجتمع الإنساني ألا وهو تيار الربوبية، وهو المذهب الربوبي الذي يُنكر حاجة الإنسان إلى الأنبياء، ويقوم المذهب الربوبي على عدة ركائز:

  • الركيزة الأولى: هو يؤمن بوجود خالق، ولكن يرى أن الخالق نظَّم الكون بقوانين آلية مستغنية عن التدخل المباشر من قبل الله عزوجل، نظير من يصنع الساعة ثم يتركها تعمل بنظام آلي تسير عليه دون حاجة لتدخل الصانع في عمل الساعة.
     
  • الركيزة الثانية: أن الربوبيين يختلفون عن الإلهيين أو المتدينين في أنهم ينكرون الوحي ويعارضون الأديان، ويرون أن الخالق لم يتواصل مع أحد من البشر، وقد ازدهر المذهب الربوبي في القرن الثامن عشر وجل رموزه الفكرية كانوا في هذا القرن مثل فولتيير وتومان باين، وقد غلب على مقالاتهم الدعوى إلى تعويض الوحي بمنتجات العقل البشري.
     
  • الركيزة الثالثة: يعتقد الربوبيون أن غاية الحياة تحقيق السعادة، وأن طريق معرفة الحق هو العقل والعلم وليس الوحي، وإذا التزم الإنسان بالأخلاق التي يهديه إليها عقله وصل إلى كماله اللائق به من دون حاجة إلى اللجوء إلى الوحي والأنبياء.

بعد التعريف المجمل بالمذهب الربوبي نتناول المذهب الربوبي من خلال عدة محاور:

المحور الأول: هل العقل هو الضمان الموصل إلى الحقيقة؟

المذهب الربوبي أو التيار الربوبي يرتكز على العقل ويرى الاكتفاء بالعقل عن الوحي والأنبياء، فلو اعتمدت البشرية على العقل وحده هل تضمن الوصول إلى الحقيقة دون الرجوع إلى الوحي أم لا؟

هنا عدة تأملات في الاكتفاء بمنطق العقل دون الاستناد إلى الوحي:

التأمل الأول:

هل هناك قطع ويقين من قِبَل الربوبي بأن لا مصدر للحقيقة إلا العقل؟ هل يستطيع الربوبي أن يغرس هذا اليقين بأن هناك يقيناً وجزماً وقطعاً بأن لا مصدر للحقيقة إلا العقل ولا يوجد مصدر آخر؟ لاشك بأن الربوبي لا يمتلك هذا اليقين، هو قد يقول أنا يكفيني العقل، ولكنه لا يستطيع أن يبرز يقيناً بانحصار طريق الوصول إلى الحقيقة في العقل وأنه لا يوجد طريق آخر، إذن احتمال وجود طريق آخر للوصول إلى الحقيقة غير العقل ما زال هذا الاحتمال مفتوحاً، حتى الربوبي إذا راجع إنصافه ونفسه لا يستطيع أن ينكر أن هناك احتمال وجود طريق آخر يوصل إلى الحقيقة غير العقل، وإن كان هو لم يهتد لهذا الطريق، أو لم يذعن لهذا الطريق لكنه مازال يحتمل احتمالاً واضحاً أن هناك طريق آخر للوصول إلى الحقيقة ألا وهو الوحي مثلاً.

التأمل الثاني:

لو سلمنا بمرجعية العقل في الوصول إلى الحقيقة فهل العقل مضمون؟ هل العقل معصوم عن الوقوع في الخطأ أثناء محاولة الوصول إلى الحقيقة؟ هل يستطيع أحد من البشر كلهم أن يتيقن أن العقل معصوم وأنه ضمان للوصول إلى الحقيقة؟ أبداً هذه القوانين المختلفة التي يكذب بعضها بعضاً وهذه الاتجاهات الفلسفية المتنوعة لدى المجتمع البشري كلها تؤكد أن ركيزة العقل ليست ضماناً تاماً مسلماً للوصول إلى الحقيقة، وبالتالي ينفتح المجال أمام أخطاء العقل ما هية الطريق الثاني الذي يمكن أن نسلكه من أجل الوصول إلى الحقيقة، وهو ما عبر عنه الإمام أمير المؤمنين علي في قوله: ”فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ويحتج عليهم بالتبليغ ويثير لهم دفائن العقول“ ربما أنت تمتلك عقلاً لكن هذا العقل فيه كنوز مختزنة لا تستطيع أن تستغلها وحدك، ولا تستطيع أن تستثمرها وحدك تحتاج إلى طريق يهديك إلى كيفية استثمار كنوزك وطاقاتك العقلية.

التأمل الثالث:

هل العقل عندما يقول أنا طريق للوصول إلى الحقيقة هل هو يحكم باستحالة أن يرسل الله رسلاً أم يقول لا حاجة لنا إلى الرسل أم يقول لم يثبت لدينا أننا محتاجون إلى الرسل؟

المذهب الربوبي يتصور له ثلاثة أقوال ولذلك يأتي الكلام عن هذه الدعاوى بشكل تفصيلي، بالنسبة للدعوى الأولى أن يقول الربوبي مستحيل أن الله يرسل رسله، نقول كل شيء إنما يكون مستحيل إذا كان وجوده مستلزماً لاجتماع النقيضين أو كان وجوده خلاف مبدأ العلية أي معلول بلا علة، أما إذا كان وجود شيء لا يستلزم اجتماع نقيضين ولا يكون نقضاً لمبدأ السببية والعلية فلا وجه لاستحالته ويظل أمراً ممكناً، وجود الرسل والأنبياء لا يستلزم تناقضاً ولا يكون خرقاً لمبدأ السببية والعلية إذن فما هو الوجه في دعوى أن إرسال الرسل وبعث الأنبياء أمر مستحيل!

وإذا قالوا نعم غير مستحيل ولكن نحن لا نحتاج إلى الرسل والأنبياء، سبق وتحدثنا عن ذلك عن ضرورة وجود أنبياء وضرورة وجود وحي، وقد ذكرنا على ذلك في محاضرة سابقة أدلة من المنطق الفلسفي والمنطق العرفاني والمنطق الكلامي لإثبات ضرورة الوحي وضرورة وجود الأنبياء والرسل، فلذلك دعوى أنه لا حاجة هي دعوى غير تامة.

التأمل الرابع:

أن العقل يرفض المعجزة، يدعي بعض الربوبيين أن عقولنا لا تقبل شيء اسمه معجزة والنبوات والرسالات قائمة على الإعجاز فالذي يثبت نبوة النبي موسى، وعيسى، وإبراهيم، ومحمد هو المعجزة، والعقل يرفض شيء اسمه المعجزة واسمه خرق القوانين، كل العالم وكل الكون قائم على مبدأ القانون، وكل مسيرة الوجود قائمة على مبدأ الأسباب والمسببات، فلكل مسبب سبب، ولكل عمل وجه وداعٍ إلى حصوله، ولا يوجد لدينا شيء اسمه خرق للقوانين وخرق لقوانين الأسباب والمسببات يسمى معجزة كي يقال بأن المعجزة دليل على صدق النبوات، فالعقل يرفض المعجزة.

نحن لا نريد أن نتحدث عن حقيقة الإعجاز ومقومات الإعجاز هذا بحث تعرضنا له في عدة محاضرات ممكن الرجوع إلى شبكة المنير للبحث حول حقيقة المعجزة وحقيقة الكرامة، ولكن نقول الإعجاز ليس خرقاً للقوانين، الإعجاز ليس خرقاً لمبدأ السببية ومبدأ العلية، أو خرقاً لمبدأ استحالة اجتماع النقيضين أو خرقاً لأي قانون عقلي أبداً، إنما الإعجاز هو عبارة عن توسيط علل غير معروفة لعمل معين، لنفترض مثلاً من باب المثال عيسى ابن مريم كما ذكر القرآن الكريم عنه: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 49]

واحدة من هذه معجزاته ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وجود الطير من الطين يحتاج إلى سبب، والسبب المعروف بين المجتمع البشري أن هذه البذرة التي يضعها الطائر الأب في الطائر الأم تكون في هذه المادة الطينية فيولد منها الطير، وعيسى بن مريم عندما أوجد الطير من الطين لا أنه أوجده بلا قانون وبلا سبب وإنما استخدم سبباً آخر غير السبب المعروف بين المجتمع البشري وهو أن الطير لا يتولد إلى بتلك البذرة التي يقذفها الطائر الأب في الطائر الأم سبب آخر أوجده.

عندما يبرئ الأكمه والأبرص لا يعني أنه بلا سبب حتى يكون خرقاً لقانون السببية والعلية، بل هو على طبق قانون السببية، إنما سبب شفاء الأكمه والأبرص أسباب متعددة، استخدم سبب خفياً بعلمه الذي أفاضه الله عليه، ونتيجة ذلك أنه أبرئ الأكمه والأبرص.

فالإعجاز ليس خرقاً للقانون العقلي، الإعجاز ليس ضرباً لقانون السببية وإيجاد شيء بلا سبب، الإعجاز استخدامُ أسبابٍ لم يصل المجتمع البشري لمعرفتها من أجل الوصول إلى المسبب المعين ولذلك يعد معجزة بالنسبة إلى المتجمع البشري؛ لأنه استند إلى أسباب لم يصل إليها العلم أو الذهن البشري من أجل التوصل إلى هذا المسبب المعين، لذلك لا معنى لأن يقال أن العقل يرفض الإعجاز لأن الإعجاز خرق للقوانين والأسباب فكيف يقبله العقل!

الإعجاز تطبيق لقانون السببية والعلية ولكن عوض سبباً معروفاً بسبب غير معروفٍ، ثانياً الإعجاز لا يستغني عن العقل أي نحن عندما نستدل على نبوة النبي أو رسالة الرسول لا نستغني عن العقل، العقل هو الذي يستدل بالمعجزة على صدق النبي لأن النبي إذا جاء قال أنا رسول الله إليكم والدليل على رسالتي أني آتيكم بآية وآيتي أني أبرئ الأكمه والأبرص، آيتي مثلاً أضع العصا فتنقلب حية، آيتي أني آتيكم بهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإذا جاء وادعى أنه رسول وقال معجزتي كذا، والله تبارك وتعالى يعلم بأن هذا شخص يدعي النبوة ويقول أن لديه آية، إعطاء الله المعجزة بيد هذا الشخص دليل على تصديق الله إياه لأنه يقبح من الحكيم إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب، لأن إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب إضلالاً للبشرية وإبعادهم عن الهدف من خلقتهم وهو وصولهم إلى الله تبارك وتعالى، وإضلال البشرية نقض للهدف الإلهي، ونقض الهدف الإلهي قبيح، إذن لا يصدر من الله أن يعطِ المعجزة بيد إنسان كاذب، فلا محال إعطاء المعجزة بيد أي شخص دليل على صدقه، أن الله صدَّقه وأمضى دعواه. [1] 

المحور الثاني: ضرورة بشرية النبي.

ربما يقال نؤمن بأن المجتمع البشري يحتاج إلى رسالة وإلى نظام سماوي، ولكن لماذا لابد أن يكون الرسول بشراً؟ لماذا لا يكون الرسول ملكاً أو جهاز من الأجهزة؟ ما هي ضرورة بشرية الرسول، نحن محتاجون إلى نظام سماوي لكن لماذا لابد أن يكون النظام السماوي إنجازاً على يد بشر من المجتمع الإنساني؟

يُنظر إلى الأمر من عدة وجوه:

الوجه الأول: ما هي مهمة الأنبياء؟

مهمة الأنبياء هي تزكية الإنسان وتربيته تربية خلقية، مهمة النبي ليست مجرد إلقاء تعاليم، مهمة النبي ووظيفته أن يزرع في القلوب التي حوله مبادئ وقيم تحملهم على أن يكونوا أناساً صالحين، مهمته هي التزكية والتربية والتقويم كما ذكر القرآن الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]

وما دامت مهمة النبي مهمة تربوية أبوية لا يمكن أن تتم هذه المهمة مالم يكن النبي بشراً يختلط مع الناس ويعرف همومهم وعيوبهم ويعرف مواطن النقص فيهم ومواطن الكمال فيهم ويستثمر قدراتهم في سبيل الوصول إلى مرحلة التزكية والنقاء، ولذلك يكون النبي نفسه قدوة، وحيث لا يمكن للبشر أن يسير في طريق التزكية دون وجود قدوة ومثل يحتذي به ويهتدي بهداه لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] ويقول القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]

الوجه الثاني: ضرورة التسانخ بين الرسول والمرسل إليه.

ضرورة أن يكون الرسول من سنخنا ومن سنخ المجتمع البشري، فالنبي ليس دوره دور ساعي البريد كي يستغنى عنه بأي جهاز آخر، وهذا دين وليس مسألة فيزيائية كي يتعلمها الإنسان من جهاز، ولا مسألة رياضية يستطيع أن يتعلمها الإنسان من أي مصدر، الدين معناه أنه طريقة عبادية تفصيلية تحتاج إلى مراحل تدريجية تعتمد على لغة التواصل، وفرق بين أن يكون المحتاج إليه مجرد معلومة يكفي إلقاؤها وبين أن يكون المحتاج إليه مسيرة عملية، الأمور العملية لا يُعقل أن يتعلمها الإنسان بدون لغة تواصل بينه وبين من هو من سنخه وجنسه ألا وهو البشر، لا يعقل أن يتعلم الإنسان الخطوط العملية من دون خطوط تواصل بينه وبين من هو من سنخه، الدين مسيرة عملية عبادة، أدب، خلق، نقاء، وهذه الخطوط العملية لا يمكن أن يستفيدها الإنسان من دون لغة تواصل بينه وبين من هو من سنخه لذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء: 95] ويقول القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128].

الوجه الثالث: أن هذه كرامة للإنسان.

الإنسان أشرف المخلوقات ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]، الإنسان هو الخليفة ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] الإنسان صاحب الأمانة ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ [الأحزاب: 72] الإنسان بهذه العظمة وبهذه الطاقة كرامته أن يكون الرسول من سنخه ومن جنسه، فهذا تكريم للإنسان أن الله تبارك وتعالى يمن على الإنسان بأن يكون الرسول من جنسه.

الوجه الرابع: طبيعة الاقتداء.

طبيعة التكامل الروحي تحتاج إلى أن يكون المقتدى به بشراً لأن الإنسان لو أُرسل إليه رسول من الملائكة أو أُرسل إليه رسول من الجن لقال إنما صار رسولاً ونزيهاً ونقياً لأنه ليس بإنسان لكنه لو كان مثلي وعاش الصراع مع النفس الأمارة بالسوء وعاش الصراع مع الغرائز المتنوعة وعاش عوامل الانحراف المختلفة لانحرف وصار مثلي، وطبيعة الإنسان أنه يبحث عن الحجة لإبراز نقصه وضعفه ولذلك يقول: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]، فلو كان الرسول من غير البشر لاحتج الإنسان على الله بأنه لا يستطيع أن يكون كاملاً، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون كاملاً والدليل على ذلك أنك أرسلت لنا ملكاً أو جناً، فلسد هذا الباب على الإنسان ولإقامة الحجة عليه أن الإنسان بما هو إنسان، الأسير لشهواته، الذي يعيش صراعاً من غرائزه ونزواته يمكن أن يكون في أعلى درجات الكمال والشاهد هو الرسول الإنسان، وهو الوصي الإنسان، وهو الإمام الإنسان، إذن هناك ضرورة أن يكون الرسول إنساناً لقطع الذريعة أمام كل بشر أن يحتج بأنه لا يمكن للإنسان أن يتكامل، بل الإنسان يمكن أن يتكامل كتكامل الرسول والوصي ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف: 110] فهو بشر ولكنه استطاع أن يصل إلى أسمى درجات الكمال ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].

المحور الثالث: هل أنا ملزم بالبحث عن الأنبياء؟

يقول أحدهم احتَمِلُ أن الوحي طريق، لكن لا أعلم هل الوحي طريق للوصول للحقيقة أم لا، وإذا كان طريق فمن الضروري أن يكون صاحب هذا الطريق إنسان ولكن هل أنا ملزم بالبحث عن الأنبياء؟ هل هناك ما يُلزمني بالبحث عن الأنبياء والوصول إليهم أم لا؟

نقول نعم، عقلك الذي أوصلك إلى الخالق هو نفسه يلزمك بضرورة البحث هل هناك أنبياء أو رسل وهل هناك من بعثه الله إليك أم لا، نفس العقل الذي أرشدك وأوصلك إلى الإيمان بالخالق الواحد هو نفسه الذي يلزمك بالبحث عن الأنبياء والرسل، كما يقول علماء الكلام أنه من باب دفع الضرر المحتمل أنت مؤمن بالله ولكنك في الوقت نفسه مؤمن بأن الله له صفات وأسماء وله طريقة للتعامل معه ولا تستطيع لوحدك أن تصل إليها، فتقول لا أستطيع وحدي وبعقلي أن أعرف ذاته وصفاته والطريق للتواصل معه، لا أستطيع أن أعرف ذلك وحدي، وأحتمل أنني لو لم أبحث عن الأنبياء والرسل لأعرف ذلك لوقعت في الضرر الكبير وهو ضرر الانفصال عن خالقي، لأنني لا أعرفه ولا أعرف طريق التواصل معه، وبما انني أحتمل أن في ترك البحث عن الأنبياء ضرراً وهو ضرر الانفصال عن الخالق لعدم التواصل معه فالعقل يلزمني من باب دفع الضرر المحتمل، فابحث عن الأنبياء والرسل من أجل أن تزيح احتمال الضرر عن نفسك نتيجة الانفصال عن خالقك.

يمثل علماء الكلام بهذا المثال: أنت تعيش في دولة وهذه الدولة لها سلطة وجاءك شخص صادق معروف بالصدق والأمانة وقال أنا أُمثل السلطة والسلطة كلفتني بإيصال رسالة إليكم، يقول الناس: لو كان في الواقع هذا المرسل صادق قد يترتب علينا ضرر، لو كان هذا الشخص صادقاً في الواقع سيترتب علينا ضرر بإهمال كلامه وقطع التواصل معه، فمن باب حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل علينا أن نبحث عن صدقه، وعن الدلائل التي تدل على صدق كلامه، إن كان كاذب اكتشفنا كذبه وإن كان صادق لم يترتب على اتباعنا له والأخذ برسالته أي ضرر، فمن باب الحكم بلزوم دفع الضرر المحتمل علينا أن نبحث عن هؤلاء الأنبياء والرسل، لذلك يقول الفيلسوف جورج سانتيانا عام 1863م يقول: أمامنا ظاهرة تستدعي الالتفات وتستحق الاهتمام وهي أن الناس في كل مكان على ظهر هذه الأرض يدينون بدين من الأديان فكيف نستطيع أن نفهم الإنسان إن كنا لا نفهم الأديان! بمعنى أن أقل الفوائد في الرجوع إلى الأديان هو فهم للإنسان، بالنتيجة هذه الأديان جاءت من قبل إنسان، وأقل الفوائد بالرجوع إلى الأديان هو فهم الإنسان لأنه لم تمر على البشرية فترة إلا وفيها دين، منذ يوم آدم إلى يومنا هذا ما مر على المجتمع البشري زمن إلا وفيه دين بمقدار معين، وهذا يعني أن الدين ملازم للإنسانية، وأنه في كل جيل توجد إنسانية يوجد دين، مما يكشف عن ترابط عضوي بين الدين وبين الإنسانية إذ لم يخل جيل من وجود دين، وبالتالي ترك التعرف على الأديان وإهمالها هو عبارة عن سد باب من أبواب التعرف على الإنسان نفسه، وعدم التعرف على الإنسان ولو من هذا الباب منشأ لاحتمال ضرر، لعلنا إذا لم نتعرف على الإنسان من خلال الأديان يترتب علينا أضرار في قيادة المجتمع وفي النهوض بحضارته، وفي التواصل بين أفراده لذلك أهم الفوائد التي من خلالها نحتاج إلى الاطلاع على الأديان ومعرفتها هو معرفة الإنسان التي من خلاله نتجاوز بعض الأضرار المحتملة.

ومن أجل دفع الضرر المحتمل سوف نبحث عن الأنبياء ورسالات الأنبياء ولكن لدي مشكلتان تمنعني عن التصديق برسالات الأنبياء:

  • المشكلة الأولى: أحتمل أن النبوة مسألة مرضية.
     
  • المشكلة الثانية: أحتمل أن النبوة أو دعوى النبوة أو دعوى الوحي هي من الكذب الأبيض، فهناك عاملان يشكلان عائقاً أمام التصديق بهم والنظر في أدلتهم.

العامل الأول:

هناك تقرير على أن النبوة مرض، ونتيجة هذا المرض يظن ويعتقد أن هناك ملك يتكلم معه وأن هناك رسالة، بعضهم عبر عن هذا المرض بأنه مرض الفص الصدغي، وبعضهم عبر عنه بأنه مرض الذهان.

يذكر صاحب كتاب «الرؤى الدينية والطب المعاصر»: أن بين صرع الفص الصدغي وبين القضايا الروحية يوجد ارتباط، وهذا المرض يصيب المخ إثر نوبة كهربائية شديدة وأعراضه الشعور بالخوف، فقدان الوعي أحياناً، شم رائحة غريبة، يعي بعد دقيقة أو خمس دقائق ويتكلم عن قضايا وأشياء، وهذا ما يحكى عن النبي أنه كان شبه يغمى عليه ثم يقوم ويقول قال لي جبرئيل كذا ورأيت كذا وعلمني كذا..

البروفيسور شاندرن في جامعة كاليفورنيا كان يعالج مريضة اسمها قوين تانق عندما أنجبت طفلها كانت تعتقد أنها أنجبت المسيح عيسى بن مريم نتيجة تأثير صرع الفص الصدغي عليها، وقام مجموعة من العلماء بدراسة مئة وثلاثة وتسعين مريض بهذا المرض، فوجدوا أن 24 من هؤلاء المرضى يتحدثون عن قضايا دينية بعضهم يدعي الألوهية وبعضهم يدعي النبوة نتيجة إصابتهم بهذا المرض.

إلين وايت وهي أمريكية أدعت أنها تلقت ألفين رؤية من الإله وأحدثت طائفة في المسيحيين وماتت عام 1915م.

بالنتيجة بهذا الاستقراء قالوا إذن محتمل أن النبي مصاب بهذا المرض، يصيبه ويعي ثم يقول نزل علي جبرئيل وقال كذا ويقرأ القرآن وهذا نفس الاتهام الذي طرحته الجاهلية: قالوا ساحر أو مجنون.

وبعضهم عبَّر عن هذا المرض بأنه مرض الذهان وهو مرض من أكثر أنواعه شيوعاً الفصام وأهم أعراضه الهلوسة عندما يدعي المريض أنه يرى أشياء ويسمع أصوات ويشم روائح غير موجودة وأكثر هذه الهلاوس شيوعاً هي الهلاوس السمعية بالنسبة لمرض الذهان، فإن هذه الهلاوس حقيقية بالنسبة إليه مع أنه مريض، وقد تكون النبوة من هذا القبيل، فمع وجود هذا الاحتمال أن هؤلاء الأنبياء مرضى، فكيف يتأتى لنا كعقلاء أن ننزل إلى مستوياتهم وأن نستمع إلى دعواهم مع وجود أنهم يعيشون هذا المرض ألا وهو مرض صرع الفص الصدفي أو مرض الذهان وبالتالي هذا يعيق أمام الالتفات أو الإصغاء إلى دعواهم ومعرفة أدلتهم.

والجواب عن ذلك:

أولاً: كل هذه النتائج وصلت عن استقراء ناقص 24 حالة من خلالها طرحنا هذا الاحتمال، احتمال أن القضايا الدينية ترجع إلى مرض الفص الصدغي، أي أن القضية جزئية، تستطيع أن تقول بعض المصابين بمرض صرع الفص الصدغي أخبروا عن قضايا روحية لكن لا تستطيع أن تقول أن كل من أخبر عن قضايا روحية فهو مصاب بمرض صرع الفص الصدغي، هذا ليس استنتاجاً عقلياً ولا منطقياً وإلا كثير من الفلاسفة من أفلاطون وسقراط وأرسطو تحدثوا عن قضايا روحية هل هذا يعني أنهم مرضى! وكثير من علماء النفس وفي مدارس علم النفس المختلفة طرحوا قضايا روحية هل هذا يعني أنهم كانوا مرضى! وكثير من الشعراء تجد أن شعرهم مليء بالحكم والقضايا الروحية فهل هذا يعني أنهم مرضى!

ثانياً: النبي المصطفى محمد عاش ثلاثة وستين سنة وعاشره القريب والبعيد فهل رأوا فيه مرضاً، عاش بين قومه أربعين سنة لم يتكلم هل كان فيه مرض؟ عاش بين قومه أميناً صادقاً رزيناً عاقلاً يعولون عليه، وبالتالي سيرته السابقة دليل على نقائه وسلامته من أي مرض نفسي أو عقلي.

ثالثاً: هل يعقل لرجل أسس دولة ووضع نظاماً اقتصادياً عاماً، وقاد مجتمعاً إلى أوج الكمال الروحي والبدني وبقيت رسالته تغزو الأمم قرون هل يعقل أن كل هذا النتاج العظيم نشأ عن مرض الذهان أو مرض صرع الفص الصدغي! إذا كان مرضاً يصنع حضارة ويأتي بكتاب متكامل الأبعاد ويؤسس دولة ويؤسس نظام اقتصادي فقد وصل بمرضه هذا ما لم يصل إليه العقلاء، وهذا كلام غير منطقي.

رابعاً: الشخص الذي يقود هذه المهمة الخطيرة وهي تحويل مجتمع بأسره من مجتمع جاهلي إلى مجتمع علمي، مترابط، ومتدين فمن الطبيعي أن يكون شخصية حذرة لأنه يخوض مهمة صعبة وطريق صعب فلذلك تجده في حالة طرح شكوك وأسئلة دائماً حول طريقه وأبعاد طريقه، لأنه يريد أن يصل إلى تحقيق أهدافه ويجد في طريقه أنواع من العوائق والموانع، لذلك هو دائما في حالة حذر وقلق وطرح للأسئلة، فهل من المعقول أن هذه الشخصية الحذرة في كل تفاصيل حياتها لم تكتشف أنها مريضة واكتشف الآخرون أنها مصابة ورتبوا على ذلك ما يريدون!

إذن من خلال دليل حساب الاحتمالات نصل إلى بطلان هذه الدعوى.

العامل الثاني:

يقال إن النبوات كذب أبيض، والنبي جاء لإصلاح المجتمع البشري، وبما أنه يقود مهمة الإصلاح رأى أنه لا يستطيع أن يصلح المجتمع إلا إذا ادعى أنه نبي من الله، هو هدفه سامي، مجيد، عظيم وهو إصلاح المجتمع البشري لكن يرى أنه لو قال أنه مصلح لما نظر له أحد ولكن لو قال أنه نبي سيلتفون حوله، فهو كذب ولكن كذباً أبيض، كذب في طريق إصلاح المجتمع البشري والكذب في طريق إصلاح المجتمع البشري كذب أبيض، فنحن لا نكذب الأنبياء ولا نعتبرهم أشخاصاً غير صالحين لأنهم وإن كذبوا إلا أن كذبهم أبيض باعتبار أنه وسيلة لإصلاح المجتمع البشري لذلك ما الذي يحركني إلى أن أبحث عن أنهم صادقون أم كاذبون ما دمت أحتمل أن كذبهم كذب أبيض والكذب الأبيض ليس عيب حتى أحتاج إلى رفعه وتفنيده وبيان زيفه وإلى غير ذلك.

نجيب عنه بوجهين:

الوجه الأول: تاريخ الأنبياء.

طبيعة الإنسان الكاذب أن يُكتشف كذبه ولو يوماً ما، ربما من زلة لسان فيُكتشف أنه يكذب في دعواه ومسيرته، ولكن إذا رجعنا إلى تاريخ الأنبياء لوجدناه يمنع ورود هذا الاحتمال ألا وهو احتمال أنهم كذبوا كذباً أبيض من أجل تمرير رسالتهم الإصلاحية، لاحظوا النبي محمد قد لبث في قومه أربعين سنة عُرف من خلالها بالصدق والأمانة حتى أسماه قومه بالصادق الأمين، واستمر على هذا الخلق حتى بعد البعثة والنبوة فكان يرفض استخدام الأساليب الكاذبة لتثبيت رسالته حتى عندما توفي ولده إبراهيم، حيث صادف في يوم وفاة ولده كسوف الشمس فقال الناس كُسفت الشمس حزناً على إبراهيم، ولكن أبت نفسه استغلال ذلك وخداع الناس فصعد المنبر وخاطب المسلمين: يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته.

أبى أن يستغل أي شيء حتى لو كان في صالحه، ما دام هو أسلوب ملتوي تأبى نزاهته وصدقه أن يسلك هذا الأسلوب الملتوي.

إذن تاريخ الأنبياء تاريخ صدق ونقاء ونزاهة، تاريخهم يكشف عن أنهم لم يستخدموا كذباً أبيض أو أسود في سبيل تمرير رسالتهم الإصلاحية.

الوجه الثاني: نتاج الأنبياء.

كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“ يتميز الناس من نتاجهم، فالطبيب يتميز بنتاجه، وصاحب القانون يتميز بنتاجه، كل إنسان قيمته بغزارة وقوة نتاجه ويُعرف من خلاله مستواه، هذا هو الطريق لتقويم الناس، الطريق العقلائي لتقويم كل إنسان بنتاجه، فإذا رجعنا إلى نتاج الأنبياء ألا يكشف هذا النتاج الضخم من الوصايا الخلقية والطرق التربوية والكتب العبادية وجميع ما صدر عنهم عن استقامتهم ونزاهتهم وإخلاصهم وأنهم لم يرتكبوا طريقاً ملتوياً في سبيل الوصول إلى أهداف غير نقية.

قال الإمام أمير المؤمنين : ”تكلموا تُعرفوا؛ فإن المرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه“

[1]  وذكرنا في الليلة الأولى أو الثانية تطبيق دليل حساب الاحتمالات على الاستدلال بالمعجزة على نبوة النبي وقلنا راجعوا كتاب «المرسل، الرسول، الرسالة» للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، في ذلك الكتاب طبق دليل حساب الاحتمالات لإثبات الانتقال من المعجزة إلى إثبات نبوة النبي خصوصاً النبي محمد .