طوفان نوح بين الحقيقة والأسطورة

1443-09-09

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ «14» فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ «15» [العنكبوت: 14 - 15]

صدق الله العلي العظيم

النبي نوح عليه أفضل الصلاة والسلام أول الرسل إلى الأرض، وقد لبث في قومه كما ذكر القرآن 950 سنة وحينما رفض قومه دعوته بنى سفينة حمل فيها من كل زوجين من الحيوانات في أرضه اثنين وعندما جاء وقت العذاب أمطرت السماء بغزارة، وتفجرت ينابيع الأرض حتى أغرق الطوفان كل ما يدب على الأرض، وقد تحدث القرآن عن هذا الحدث بشكل تفصيلي، وكان الاعتقاد السائد هو أن قصة الطوفان طوافان نوح قصة توراتية لا نظير لها في تراث الأمم وتواريخهم، إلى أن اكتشفت الرواية البابلية، وأن هناك طوفان حدث في منطقة بابل، وهذه الرواية اكتشفت عام 1853م أعقبها الكشف عن رواية سومرية في مدينة نيبور آخر القرن التاسع عشر عن حدث الطوفان، وتعددت بعد ذلك الروايات والكشوفات عن حدوث طوفان.

نقل السيد صاحب الميزان أعلى الله مقامه في الميزان[1]  أخبار الطوفانات أي عدة أنواع من الطوفان حصلت على الأرض، وأنه في تاريخ الكلدانيين وتاريخ اليونان نقلاً عن أفلاطون، وتاريخ الفرس، وقدماء الهنود، وكتاب أوستا الذي هو كتاب المجوس، وتاريخ الأدب الهندي أيضاً، كل هذه المصادر تحدثت عن حصول طوفان في بلد معين وفي مكان معين بتخمين تاريخ معين.

وقد استغل ذلك المنكرون لطوفان نوح وقالوا: لا يوجد شاهد تاريخي يثبت وجود نوح ولا يتوقع الأركيولوجيون وجود شاهد أرضي جيولوجي يؤكد أن هناك شخصاً اسمه نوح اقترنت شخصيته بهذا الطوفان، إذ أن أسطورة الطوفان قد كتبت بعد زمن نوح التقديري بقرون وتشبعت بالعصر الوثني وتم توظيفها لأغراض عقدية وثنية، لذلك يقرر الأركيولوجيون الطاعنون في قصص الأنبياء أن غياب كل أثر لهذا الخبر القديم دليل خرافيته.

وانطلاقاً من هذه المقدمة نتحدث في محاور متعددة:

المحور الأول: هل يمكن أن يستخدم القرآن قصة أسطورية للوصول إلى هدفه؟

هل يمكن أن يوظف القرآن من أجل الوصول إلى هدفه ألا وهو هداية المجتمع البشري قصصاً أسطورية لا برهان ولا دليل عليها من أجل أن يصل إلى هدفه ألا وهو هداية البشرية؟

ذكر السيد صاحب الميزان أعلى الله مقامه في الميزان[2]  أن بعض الباحثين ذكر وتبنى نظرية أنه من الممكن أن تكون قصة نوح أسطورة ومع ذلك ذكرها القرآن الكريم واستخدمها من أجل الوصول إلى هدفه، فقال: نرى أن القرآن يهمل في تاريخ الأنبياء والأمم أمور مهمة مثل تاريخ الوقوع، محل الوقوع، أوضاع طبيعية واجتماعية وسياسية اقترنت بالوقوع، أي هذه الدلائل التي نستطيع من خلالها أن نوثق وقوع الحدث لا يذكرها القرآن، مثلاً القرآن يذكر قصة طوفان نوح ولكنه لا يحدد الزمن ولا المكان ولا يحدد الملامح الطبيعية والاجتماعية آنذاك حتى تُستخدم هذه الملامح في إثبات الحدث، يقول هذا الإهمال من القرآن الكريم أن يهمل دلائل جوهرية مهمة لتوثيق الحدث ويختار من القصة بعض الشذرات وبعض الأحداث هذا دليل على أن القرآن يهمه ما يرتبط بهدف الهداية؛ أي يختار من قصة نوح ما يرتبط بهدف الهداية، يختار من قصة موسى ما يرتبط بهدف الهداية، ثبتت القصة أم لم تثبت، زمنها، مكانها، ملامحها لا ينظر إليها القرآن، القرآن ينظر إلى ما يستخلص من القصة من عظة وعبرة في مجال الوصول إلى هدفه ألا وهو الهداية إلى السعادة الإنسانية.

يقولون لذلك من الممكن جداً أن يستخدم القرآن قصصاً دائرة بين الناس أو بين أهل الكتاب في عصر نزول القرآن وإن لم يثق القرآن بصحتها، بل حتى لو كانت قصة خيالية كما قيل بذلك في قصة موسى مع فتاه، أو قصة الملأ الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.. وغير ذلك، فالفن القصصي لا يمنع شيئاً من ذلك بعد ما ميز القاص أن ذِكْر القصة أبلغ وسيلة للوصول إلى مقصده.. وهذا كلام بعض الباحثين.

لكن السيد صاحب الميزان[3]  يقول: هذا غير معقول، لا لأن الإيمان يبتني عليه بأن نقول الإيمان بالله وبرسوله ينفي أن يشتمل القرآن على قصص خيالية ليتوصل بها إلى أهدافه، ولا ندعي أن الإيمان متقوم بذلك، لكن ندعي أن ظواهر القرآن ترفض ذلك فإذا كان القرآن كتاباً عزيزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما نص على ذلك، ونص ﴿أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 19]، ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [يونس: 32] ونص على أنه يهدي إلى الحق وأنه يهدي إلى صراط مستقيم، فمجموع هذه الآيات واضحة الدلالة على أن القرآن لا يشتمل إلا على ما هو حق، حتى لو كان الفن القصصي ممكن أن يستخدم قصة خيالية لأجل الوصول إلى الهدف، ولكن مجموع هذه الآيات في القرآن الكريم ترشد بشكل واضح إلى أن القرآن بكل ما فيه حق، وكل ما فيه موافق للصواب وكيف يكون مقصد من المقاصد حقاً على الإطلاق مع تسرب الباطل إلى قصصه وطرقه التي يستخدمها! وكيف ينسجم ذلك مع قول القرآن عن نفسه ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ «13» وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ «14» [الطارق: 13 - 14] مع تسرب البيان إلى شيء من قصصه بنحو المسامحة والمساهلة فهذا المسلك ليس مسلكاً صحيحاً في فهم القرآن الكريم.

المحور الثاني: ما هي الأدلة على أن طوفان نوح أو الطوفان الذي اقترن بشخصية نوح تاريخياً وقع؟

قصة الطوفان وردت في التوراة كما وردت في القرآن الكريم، وبين الكتابين توجد بعض الفروقات ومن هذه الفروقات أن نوح بعد أن انتهى الطوفان سكر وتعرى، فرأى حام أبو كنعان عورته ولما استفاق نوح من سكره لعن كنعان، وأن نوح عاش بعد الطوفان 350 سنة، وأن السفينة رست على جبل أرارات وهو في تركيا كما نص بعض الباحثين، بينما القرآن نص على أنها انتهت إلى الجودي، والجودي اختلف في موقعه من الأرض بعضهم قال في جنوب العراق أو أن الجودي كما ذكر السيد صاحب الميزان هو جبل مُطل على جزيرة ابن عمر في شرق دجلة من نواحي الموصل، وبعضهم يقول أن جبل الجودي موجود في وسط مسجد الكوفة، وبعضهم يقول أنه في النجف عند بحر النجف، وهذه أقوال مختلفة في تفسير معنى الجودي.

ما هي الأدلة على وقوع الطوفان؟

هنا أدلة أربعة: قائمة الملوك السومرية، وقصة الطوفان السومري، وملحمة جلجامش، والدليل الرابع الذي ذكره السيد صاحب الميزان نقلاً عن بعض المؤرخين والمتخصصين في هذا المجال.

الدليل الأول: قائمة الملوك السومرية.

قائمة ملوك سومر هي وثيقة تاريخية قديمة أو نص كُتب في عصر أوتو حيكال وهو ملك أوروك، ينقل الدكتور سامي عامري في كتابه «الوجود التاريخي للأنبياء» [4]  النص نفسه وهذا المنشور يحكي أن هذه الوثيقة ترجع إلى عام 1827 قبل الميلاد وهي موجود هذه الوثيقة في متحف شموليان في أكسفورد.

تضمنت هذه الوثيقة قوائم الملوك السومريين وقسمتهم إلى ما قبل الطوفان وما بعد الطوفان، ونحن نستفيد من هذه الوثيقة التقسيم، أنها قسمت ملوك سومر إلى ما قبل الطوفان وما بعد الطوفان، فهي تدل على مركزية تاريخية للطوفان، أن الطوفان كان مركزية تاريخية بحيث أرخت الأحداث وتاريخ الملوك به، فاعتُبر بعضهم قبل ذلك وبعضهم بعده.

الدليل الثاني: الطوفان السومري.

الطوفان السومري وُجد في لوح مسماري، ويحكي قصة الطوفان السومري فيما يقرب من عصر الملك البابلي حمورابي الذي كان موجوداً عام 1728 قبل الميلاد، ولكن ذهب بعض النقاد إلى أن زمن الطوفان السومري أبعد من ذلك بل هو يرجع إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد لأن عصر الحكم السومري كان في الألفية الثالثة قبل الميلاد.

الجزء الأكبر من قصة الطوفان السومري مفقود، ولكن ما يهمنا هو بعض الخطوط العريضة من هذه القصة حتى نستشهد بها على وقوع طوفان نوح ، تذكر هذه القصة وينقلها بالشكل والنص كما هو وما انتقش فيه يقول: أن زيوسودرا كان ملكاً تقياً وكان عند جدار يسمع حديث الإله إنكي طلب إنكي من زيوسودرا أن يبني سفينة ضخمة، وركب زيوسودرا السفينة التي ظل الماء يتلاعب بها لسبعة أيام وسبع ليالي، ثم خرج زيوسودرا بعد أن نجا من الطوفان، ثم يذكر بقية القصة ويقول في وصف ما جرى في هذا الطوفان: جاءت الأعاصير والعواصف واكتسحت العواصم سبعة أيام وسبع ليال، وجعلت الأعاصير المدمرة السفينة تتأرجح في المياه العالية، وعندما انتهى الطوفان بزغت الشمس فأنارت الأرض وعندئذ فتح زيوسودرا كوة في الفلك فدخلت السفينة بأشعتها في الفلك فركع زيوسودرا، ونحر أعداداً كبيرة من الثيران والأغنام.

هذا الطوفان السومري يلتقي في بعض ملامحه مع تاريخ الطوفان المذكور وفي التوراة العهد القديم وإن كان هنا اعتبر الشخصية هي ملك لكن هذا الملك كان تقياً وكان موحى إليه من قبل الإله أن يبني السفينة، فبنى السفينة ودخل بها في العباب إلى أن تمت النجاة.

الدليل الثالث: ملحمة جلجامش.

تتكون ملحمة جلجامش من ثلاث مئة سطر على اثنا عشر لوحة وتعود إلى سنة 2000 قبل الميلاد، وقد اكتُشفت في منطقة نينوى، الدكتور فاضل عبد الواحد علي في كتابه «الطوفان في المراجع المسمارية» ذكر[5] : جلجامش هو أحد ملوك الوركاء الذين نسجت حولهم أساطير وملامح في عهد السومريين والبابليين، وما يهمنا من هذه الملحمة مما يرتبط بطوفان نوح، بحث جلجامش عن جده أوتنابشتم ليسأله عن طريق الخلود وبعد أن عثر جلجامش على جده أخبره جده كيف نجا من الطوفان، قال أتونابشتم إلى جلجامش: سأكشف لك عن مسألة خفية، سأخبرك بسر من أسرار الآلهة إن شوروباك وهي مدينة تقع على ضفاف الفرات وهذه المدينة كانت قديمة وعندما عقدت الآلهة العزم على إحداث الطوفان قيل اهدم البيت وابني السفينة وأحمل في السفينة بذرة كل المخلوقات الحية، كما عبر القرآن الكريم ﴿احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40]، أما السفينة التي ستُبنى فاضبط مقاييسها واجعل عرضها مساوياً لطولها... إلى أن قال: وفي اليوم الخامس أقمت هيكلها وكانت مساحة قاعدتها إيكو واحد وكان ارتفاع كل من جدرانها 120 ذراعاً هكذا حددت أبعادها وهيكلها، لقد جعلت فيها ستة فواصل قسمتها إلى سبعة طوابق، قسمت أرضيتها إلى تسعة أقسام، غرزت فيها مسامير الخشب لمنع وصول الماء، وفي اليوم السابع تم بناء السفينة غير أن إنزالها إلى الماء كان في غاية المشقة إذ كان علينا أن نبدل الألواح في الأعلى والأسفل إلى أن غطس ثلثها في الماء ثم حملتُ فيها كل ما أملك، وحملتُ كل ما عندي من مخلوقات حية، وأصعدتُ على ظهر السفينة عائلتي، وأصعدتُ على ظهرها حيوان الحقل والبر المتوحش وكل الصناع وحدد لي وقتاً معيناً... إلى أن قال: فدخلت السفينة وأغلقت الباب وعند إطلالة الفجر ظهرت في الأفق سحابة سوداء وتحطمت الأرض الواسعة مثلما يتحطم الإناء، واستحال كل نور إلى ظلمة وظلت ريح الجنوب تهب يوماً كاملاً وتزايدت سرعتها حتى غطت الجبال فلم يستطع الأخ أن يرى أخاه، ولستة أيام وست ليال استمرت زوابع الطوفان في الهبوب وعندما حل اليوم السابع خفت وطأة الزوابع للطوفان في الهجوم، ثم هدأ البحر وسكنت العواصف وانتهى الطوفان واستقرت السفينة على جبل نيسير.

لقد مسك جبل نيسير السفينة ولم يدعها تتحرك وعندما حل اليوم السابع أخرجت حمامة[6]  وأطلقتها فراحت الحمامة ولكنها لم تلبث أن رجعت، لقد رجعت لأنها لم تجد محطاً لها وعندئذ أخرجت السنونو وأطلقته فراح ولكن لم يلبث أن رجع، ومن ثم أخرجت الغراب وأطلقته فراح الغراب، ولكنه عندما رأى أن المياه انحسرت أكل وحام ونعق ولم يرجع.

بالنتيجة تشترك قصة الطوفان السومرية وقصة الطوفان البابلية وإن كانت قصة جلجامش أطول تفصيلاً من الوثائق السابقة، تشترك في عدة أمور: البحر والسفينة والطوفان وبعض الأيام وما حصل، والخلاف بين القصتين: في عدد الناجين، حجم السفينة، اسم البطل هل هو زيوسودرا أو أتونابشتم، فهذا لا يؤثر في أصل القصة لأن الأسماء قد تختلف بحسب اختلاف اللغات واختلاف الوسائل، والتشابهات بين قصة طوفان بلاد الرافدين وقصة الطوفان المذكورة في التوراة كثيرة وواضحة أهمها أن الإله أمر بالطوفان وأن الطوفان سببه الأمطار الغزيرة وأن الطوفان جاء لعقوبة البشر بعد إفسادهم وأن الله نجى البطل أيا كان اسمه وأن النجاة كان بسفينة عظيمة، وأن البطل أرسل طيوراً لمعرفة ما انتهى إليه الطوفان، وأن السفينة رست على جبل، وليس في القرآن أي تفصيل مثل هذه التفاصيل غير الطوفان الذي أغرق قوم نوح فلم يذكر زمانه ولا مكانه ولا الدولة التي عاش في كنفها ولا ما خلَّف أو أبقى من عمران.

الدليل الرابع:

وهو الدليل الذي تعرض له السيد صاحب الميزان قدس سره في الميزان[7]  قال: ومما يناسب المقام ما نشرته جريدة كيهان المنتشرة أول سبتمبر عام 1962م المطابق لغرة ربيع الأول سنة 1382 هـ  نشرت أن جماعة من المختصين الجيولوجيين مع بعض رجال الجند التركي عثروا في بعض قلل جبل أرارات المذكور في قصة الطوفان السومرية في مرتفع 1400 قدم على قطعات أخشاب يعطي القياس أنها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك، تبلغ بعض هذه القطعات من القِدَم بحسب ما ذكره الجيولوجيين 2500 سنة قبل الميلاد تماماً يتقارب مع ما ورد في قصة الطوفان السومرية والبابلية، والقياس يعطي أنها قطعات من سفينة يعادل حجمها ثلث حجم مركب كوئين مار الإنجليزي التي طولها ألف وتسعة عشر قدماً وعرضها مئة وثمانية عشر قدماً وقد حُملت الأخشاب إلى سان فرانسيسكو لتحقيق واقعها.

المحور الثالث: هل الطوفان كان محلي أو عالمي؟

ذكر الدكتور سامي عامري في كتابه «الوجود التاريخي للأنبياء» أن الطوفان كان محلياً، يقول: المذهب الذي أراه أن الطوفان كان محدوداً جغرافيا ولم يكن عالمياً، إذ أن الطوفان كان عقوبة لقوم وهم كفار وكان نوح مرسلاً إليهم، وممن شهد من المفسرين لمحلية الطوفان ابن عطية المتوفى عام 542 في تفسيره «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» الذي طُبع في بيروت دار الكتب العلمية عام 1422 هـ  وذكر هناك أن الطوفان كان محلياً.

وذكره الألوسي أيضاً المتوفى عام 1270 هـ  في تفسيره «روح المعاني» قال: الذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاماً ولم يؤمر نوح بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات، بل أومر بحمل ما يحتاجون إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه، فكأنه قيل له احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين.

لكن صاحب الميزان يستقرب أن الطوفان عالمي ويذكر في الميزان[8]  يقول: إن المراد بسائر الآيات الدالة بظاهرها على العموم قوله: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26] وقال أيضاً: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات: 77]، ومن الشواهد من كلامه على عموم الطوفان ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] فلو كان الطوفان خاص بالعراق كما قيل لم يكن حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين وهو ظاهر.

بعض الجيولوجيين استدلوا على أن الطوفان عام ولم يكن خاصاً بالعراق لوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال، قال لعل ذلك أن هذه الجبال تكونت إثر براكين من داخل الماء فلا تدل على أن الطوفان مثلاً وصل إليها، السيد صاحب الميزان[9]  يقول: سألت صديقي الفاضل الدكتور سحابي المحترم أستاذ الجيولوجيا بجامعة طهران أن يفيدني بما ترشد إليه الأبحاث الجيولوجية في أمر هذا الطوفان، يقول فأجابني ببحث مفصل في فصول[10] ، يذكر سحابي بعض الملامح التي ترشد إلى عمومية الطوفان منها الأراضي الرسوبية، والأراضي الرسوبية في الجيولوجيا عبارة عن طبقات أرضية كونتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض، والطوفان بالنظر إلى ضخامة القشر الرسوبي في بعض الأماكن لم يحدث مرة واحدة ولا في سنة وفي سنين بل دام وتكرر مئات السنين كلما حدث كوَّن طبقة رسوبية، ثم إذا انقطع غطتها طبقة ترابية، يقول الطبقات الرسوبية عادة نتيجة مرور السنين وتعرضها إلى ضغطات جانبية قوية شديدة تخرج عن الأفقية إلى التدوير والالتواء، بينما الطبقات الرسوبية التي نحن عثرنا عليها كانت أفقية، وكون هذه الطبقات الرسوبية أفقية وليست مستديرة ولا ملتوية معناه أن عمرها لا يتجاوز عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف سنة من زماننا هذا.

ثم يذكر نقطة ثالثة وهي انبساط البحار، يقول: تكوّن القشور الرسوبية عامل في انبساط أكثر بحار الكرة الأرضية واتساعها بأطرافها حتى غطت أكثر سواحلها ومن ذلك جزيرة بريطانية انقطعت عن فرنسا وانفصلت من أوروبا بالكلية نتيجة تغطية البحر إلى عدة من السواحل.

ثم يذكر شواهد جيولوجية تؤيد أن النزولات الجوية كانت غير عادية في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانية وهو المسمى بعهد الطوفان؛ أي أن الدور الذي نعيش فيه هو الدور ما بعد الطوفان.

بالنتيجة على ما قدمناه من البحث يمكن أن ينطبق ما قصه القرآن من خصوصيات الطوفان في زمن نوح على هذا، كقوله تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ «11» وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ «12» [القمر: 11 - 12]، وقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ [هود: 40]، وقال: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [هود: 44]

المحور الرابع: في أدلة المنكرين.

بحسب دليل حساب الاحتمالات وقع طوفان وأن القرآن لم يذكر قصة أسطورية تخيلية، ولكنه لم يحدد زمان ولا مكان ولا ملامح معينة لشخصية نوح، ولو ذكرها القرآن ومن ثم اكتشف الأركيولوجيون خلافها لصح أن يقال أن ما ذُكر في القرآن أسطورة، لكن القرآن بذكاء لم يحددها بل ذكر القصة بشكل إجمالي، وبالتالي ما نراه فعلاً من هذه الوثائق التي تؤكد بشكل يقيني وقوع الطوفان وإن لم نجزم ما هو الاسم المناسب ولعل له أسماء بحسب اختلاف اللغات، إذن لا يصح أن ينسب إلى القرآن أنه ذكر قصة أسطورية أو ما دام لم يذكر اسم نوح إذن لا وجود له، بالنتيجة هذا كلام غير منطقي.

بلا شك أن المنطق المادي يختلف عن المنطق الإيماني، المنطق المادي يقول: كيف يحصل عقاب للبشر ويستثنى منه المؤمنون وبعض الحيوانات فإن هذا ضد الطبيعة المضطردة التي لا تتعطل بينما المؤمنون يقولون مقتضى القدرة الإلهية والعلم الإلهي وأن هذا كان عقاباً ولم يكن حدثاً طبيعياً عادياً، إمكان استثناء المؤمنين وبعض الحيوانات من غيرهم، خصوصا أن هذا الاستثناء جاء استثناء اختيارياً لا أنه استثناء طبيعي، استثناء من خلال الصعود في السفينة.

وأدلتهم على ذلك:

1» الدليل الأول: أنه بعد أن اكتشفنا قصة الطوفان السومري والطوفان البابلي وما أشبه ذلك إذن لعل القرآن نسخ من هذه الوثائق التاريخية الأدبية الموجودة عند السومريين والبابليين وأودعها في القرآن، والحال بأنه مأخوذ من التراث الأدبي السومري البابلي.

الجواب عن ذلك:

إن أساطير بلاد الرافدين الموجودة في هذه الألواح السومرية التي سبق ذكرها أصلها حدث تاريخي صحيح بالنتيجة، وعلماء الأنثروبولوجيا يسلّمون أن الأسطورة قد تكون صورة متأخرة لقصة تاريخية صحيحة وإن تم تفخيمها أو تغيير بعض ملامحها، هذا مما يلمح إليه القرآن الكريم في قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ «13» تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ «14» وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «15» [القمر: 13 - 15] أي أن السفينة بقيت فترة معتد بها يستفاد منها، ومقتضى بقائها آية أن وثقتها الألواح السومرية ونقلتها، وبالتالي ما أخبر به محمد في القرآن نقل قصة لها واقع وأن استمرار هذه القصة إلى أن وصل إلى التراث الأدبي البابلي لعله نتيجة بقاء السفينة مدة من هذه العهود فليس الغريب أن تَذكر هذه الألواح السومرية قصة الطوفان، الغريب هو العكس أن لا تذكر، طوفان بهذا الحجم حتى لو كان خاص ببلاد الرافدين، اكتسح بلاد الرافدين وأهلك من فيها وقضى على الحياة فيها، من الطبيعي أن تسجله الألواح السومرية، فإذا كان هذا الحدث قد وقع منذ حوالي خمسة آلاف سنة وهو طوفان عظيم إذن من باب أولى أن تذكره هذه الألواح السومرية.

قال عالم السومريات والآشوريات البارز في جامعة كوبنهاغن بينت آلستر قال: كثيراً ما يُفترض أن القصص التي تُروى في الملاحم السومرية تستند إلى أحداث تاريخية فعلية.

2» الدليل الثاني: قالوا لا وجود لاسم نوح في الآثار الأرضية.

والجواب على ذلك:

إن نوح عاش في بلاد الرافدين بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد أو قبل ذلك وهذا يجعل أمل العثور على اسمه أمراً بعيداً خصوصاً أنه كان مستضعفاً بين قومه فربما كان هذا سبباً لاندثار ذكره أو اندثار اسمه، ولكن هذا لا يعني أن الشخصية لم تكن موجودة خصوصاً مع التعبير عنها بأسماء أو إشارات أخرى.

3» الدليل الثالث: قال الدكتور رشيد الناضوري: لا ينبغي الجزم بصورة حاسمة أنه حصل هذا الطوفان المقترن بنوح لأن جنوب العراق واجه الكثير من الفيضانات والطوفانات، فأي هذه الطوفانات هي التي اقترنت بشخصية نوح وهي التي تحدث عنها التوراة وتحدث عنها القرآن الكريم؟!

الجواب عن ذلك:

يقول الدكتور محمد بيومي مهران: لقد عثر سير ليوراند وولي في حفائره في أور عام 1929 على طبقة من الغرين السميك الذي يقدر بحوالي ثمانية أقدام واعتبره دليلاً مادياً على الطوفان السومري نظراً لكثافة تلك الطبقة الغرينية وتوافقها الزمني مع النصوص السومرية وأنها تنتمي إلى عصر حضارة العبيد الذي هو عصر ما قبل التاريخ أي ما قبل الطوفان، ثم اتجه وولي بعد ذلك إلى الحفر في موقع بعيد عن أور بحوالي 300 ياردة من ناحية الشمال الغربي فكانت النتيجة إيجابية مما أدى إلى القول بوجهة نظره المشهورة في ارتباط تلك الطبقة الغرينية السميكة بالطوفان الذي ذكرته الكتب المقدسة.

ويتجه ليوراند وولي إلى اعتبار هذا الطوفان طوفاناً كبيراً لا مثيلاً له في أي عصر لاحق من تاريخ العراق لا في أور ولا في غيرها، وأن الطوفان هو الذي وضع نهاية لحضارة العبيد، وهو يتفق في توقيته مع التاريخ السومري الذي وصل إلينا وأنه بعينه الطوفان الذي تحدثت عنه قائمة الملوك السومرية وهو الطوفان الذي روته التوراة في سفر التكوين، كما أنه وجد في أور أسفل طبقة المباني السومرية طبقة طينية مليئة بقدور من الفخار الملون مختلط بها أدوات من الصوان والزجاج البركاني وكان سمك هذه الطبقة حوالي ستة عشر قدماً أسفل المباني الطينية يمكن تأريخها بحوالي 2700 قبل الميلاد.

[1]  في الجزء العاشر ص 257
[2]  الجزء السابع من الميزان ص65
[3]  الجزء السابع ص 166
[4]  الجزء الثاني
[5]  كتاب الطوفان في المراجع المسمارية ص121
[6]  نفس الرواية الواردة عند الشيعة أن نوح لما وقفت السفينة أول ما فعل أطلق الطيور حتى يكتشفوا الحياة لأن الطير أكثر معرفة بمواطن الحياة من غيره
[7]  في الجزء العاشر ص 270
[8]  في الجزء العاشر ص264
[9]  ص266
[10]  وينقل السيد هذا البحث من صفحة 266 إلى صفحة 270