مغالطات غربية حول وجود النبي (ص)

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب: 40]

صدق الله العلي العظيم

وجود النبي محمد من أوضح واضحات التاريخ، فهو الوجود الذي غيَّر الحركة العقائدية والفكرية منذ القرن السابع الميلادي وبدأ به تاريخ جديد للبشرية، ولكن مع ذلك كله يأتي حديث من قِبَل بعض المستشرقين بإنكار وجود محمد وأنه لم تعش شخصية في التاريخ اسمها محمد بن عبدالله، والحديث عن إنكار وجود للنبي صادم للكثير من بني البشر حيث أن هذه الدعوى لم تسمعها أذنٌ من قبل فهي حديثة عهدٍ بالظهور، والحديث هنا عن وجود النبي لا من باب إثبات وجوده فإنه كنظير إثبات وجود الشمس، والحديث مع من ينكر وجوده كالحديث مع من ينكر وجود الشمس، ولكن الهدف من هذا الحديث هو بيان سخافة بعض المستشرقين أو اللا دينيين الذي يتشبث بأدنى شيء من أجل مواجهة الفكر الديني ولو ببعض خيوط العنكبوت وليس هذا غريباً في عصرنا الحاضر.

أذكر هذه النقطة المرتبطة بوجود النبي عيسى ، ولاحظوا الطابع العام الغالب على الثقافة الشعبية في الغرب خصوصاً أوروبا، الانفصال الواضح عن عالم الأكاديمية واستسلام الناس لمروجي المعارف المبسطة التي تنقل من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي  وهذه حقيقة  ساهمت في تضخم الخطاب الشعبي العامي وتقليص الخطاب العلمي التخصصي الذي لا يكاد يغادر المجلات العلمية لأنها ضعيفة التوزيع.

من خلال سبر للآراء جرى في بريطانيا عام 2015م حول عقائد الإنجليز، شهد هذا الاستقراء 39% من المشاركين من البريطانيين الذي يقولون أن عيسى المسيح شخصية أسطورة ولا وجود لها، وهذا يكشف عن الوهن في ثقافة الجيل المعاصر، وهذا سيمتد إلى مجتمعاتنا بعد هيمنة وسائل التواصل وبعد هيمنة هذه المعارف المختصرة المبسطة التي تُنقل كرسائل عامة لأجيالنا وأبنائنا، وستنفذ مثل هذه التفاهات والسخافات التي لا تستند إلى دليل وتبتعد عن كل الوجوه والمعارف العلمية المتينة، لذلك إذا حصل هذا في بريطانيا 39% ينكر أو يشكك في وجود السيد المسيح فمن المحتمل جداً سراية مثل هذه التصورات حتى في مجتمعاتنا الإسلامية بالنسبة إلى وجود النبي أو وجود المعصومين باعتبار اعتماد الجيل الجديد الآن على هذه المعلومات المبتورة الناقصة التي تُنْقل من خلال وسائل التواصل دون تدقيق علمي ودون سند أكاديمي.

لذلك عندما نرجع إلى هذه النقطة وهي وجود النبي نجد أن هناك قلة من اللا دينيين حاولوا إنكار الإسلام، وإنكار جدوى الإسلام، وإنكار دور القرآن إلى أن وصولوا إلى إنكار وجود النبي محمد وأنه قام بهذا الدور الذي يذكر عنه، فمن الطريف أن أشهر كتاب تشكيكي أُلّف في السنوات الأخيرة هو كتاب الكاثوليكي المعروف روبيرت سبنسر بعنوان «هل وجد محمد؟» هذا المؤلف لا يعرف اللغة العربية وليس عنده خبرة بالتاريخ الإسلامي ويعترف بذلك، ومع ذلك مجرد هذا الكتاب أعطى ضجة في أنه هل فعلاً وُجد شخص كذلك أم لا، ولأجل ضعف قيمة الكتاب تم تجاهل الكتاب في الدوائر الاستشراقية بوضوح، من يجول في مثل هذه الدوائر ولا يكاد يعثر على مراجعة نقدية لهذا الكتاب في المجلات العلمية التي تعنى بتقديم الكتب الأحدث مما يدل على سقوط قيمته، وإن أثار ضجة بين شباب الغرب لقلة التزود بالثقافة والبعد عن مصادر المعارف الموثوقة.

يستدل في هذا الكتاب ببعض الأدلة على عدم وجود النبي وأنه ليس معلوماً أنه وُجد شخص بمثل ذلك، وأضم لهذه الدعوى شخص من عندنا من المملكة كتب مقال في وسائل التواصل اعتمد على بحث أو مقال نُشر في الغرب، وخلاصة هذا المقال: ليس الاسم الحقيقي لصاحب الشريعة محمد بل اسمه قثم بن عبد اللات بن عبد المطلب وهو نصراني موحد نُسب إليه هذا الدين والقرآن وبقية الأمور. وقد كُتبت تغريدات تتحداه في ذكر مصدر تاريخي واحد على الأقل ينقل أن اسم النبي هو هذا ومن ثم غير اسمه أو حاول أن يضفي على شخصيته هالة معينة، والواقع أنه لا يوجد مصدر تاريخي سوى تكهن صاحب هذا المقال أن هناك شخص اسمه قثم بن عبد اللات إذن هو هذا قثم المسمى محمد.

البحث في المقام في محورين:

  • في الأدلة التي أقيمت على نفي وجود النبي .
  •  في تطبيق دليل حساب الاحتمالات في المقام.
المحور الأول: في الأدلة التي أقيمت على نفي وجود النبي .

وهذه الأدلة المزعومة:

الدليل الأول:

تأخر كتابة السيرة النبوية حيث أن السيرة النبوية ما كتبت إلا بعد مئة سنة أو مئتين سنة من عهد النبي فمن أين نثق بكتابة هذه السيرة وأن هناك شخص يحمل هذا الاسم حيث أن هذه السيرة كتبت في القرن الثالث الهجري فلا نثق بها لإثبات وجود شخص بهذا الاسم، فإن كُتُبَ القرن الثالث اعتمدت على جمع الشائعات المتناثرة هنا وهناك كما هو حال الأناجيل، فلا نستطيع أن نثبت صحة ما ذكرته السيرة من أن هناك شخصاً اسمه محمد كان مبدئاً لهذا الدين الإسلامية.

الجواب عن هذا الاستدلال: 

أخبار السيرة التي كُتبت في العصر الأموي أي بعد النبي بمئة سنة وصلتنا بأسانيد كثيرة متصلة جيلاً عن جيل عمن رأى النبي ، وكما أن هذه السيرة أقدم من القرن الثالث حيث أُدعي أنها كتبت في القرن الثالث، فقد كُتِب في خبر الرسول ما هو مأثور عن موسى بن عقبة سنة 141، ومعمر بن راشد سنة 154، ومحمد بن إسحاق 151، ونجيح بن عبد الرحمن سنة 170، وعبد الملك بن حزم الأنصاري سنة 176، والحافظ بن وهب 197، هذا إذا لاحظنا كتب التاريخ لدى أهل السنة.

وأما إذا لاحظنا ما نقل عن أئمتنا الأئمة المعصومين بأسانيد متصلة فهي لا تعدو أربعين سنة بينها وبين وفاة النبي ، ولذلك ذكر السيد السيستاني دام ظله كما نقلتُ عنه في كتاب «الرافد في علم الأصول» أن الإمامية صنفوا في الحديث والسيرة قبل أن يصنف العامة  أهل السنة  في الحديث والسيرة، والحديث والسيرة هو رواية عن مقولات النبي وأقواله وأخباره، فلقد صنف الإمامية في ذلك منذ عصر الإمام الباقر ، وما بين عصر الإمام الباقر وبين عصر النبي لا يوجد إلا ثلاثة عقود أو أربعة، وبالتالي فدعوى أن السيرة النبوية كُتبت في القرن الثالث وبالتالي ما هي إلا تجميع مجموعة من الشائعات هي دعوى مما لا أساس لها.

الدليل الثاني:

وجود صلبان على العملات الإسلامية الأولى مما يدل على أن المسلمين الأوائل كانوا نصارى، والدليل على أنهم نصارى وجود الصليب في عملاتهم الرسمية فأين هو الدين الإسلامي وأين وجود رسول للدين الإسلامي والحال أن متبعيه كانوا من النصارى إلى عهد الدولة الأموية!

الجواب عن ذلك: 

تفسير وجود الصليب في العملات واضح سببه وهو أن الدولة الإسلامية كانت محاطة بدول مجاورة وبينها وبينهم علاقات تجارية موسعة ولم يمكنها الاستغناء عن هذه العملات في فترة وجيزة لأنها تعتمد على التجارة مع دول مجاورة، وهذه الدول المجاورة دول مسيحية صليبية، من الطبيعي أن يبقى الصليب في العملة المتبادلة بين الدولة الإسلامية وبين تلك الدول، ولذلك بشكل تدريجي تم التخلص من الصليب وصور الأباطرة نتيجة إحاطة دولة الإسلام بالدولة الفارسية والدولة البيزنطية في ذلك الوقت، لاحظ ما ذكره أحد الباحثين في هذا المجال ألا وهو تيم ويلس المتخصص في العملات الرسمية قال: كان الحال في الإمبراطورية الساسانية السابقة التي هي جاءت جزء من الإمبراطورية البيزنطية والتي استولى عليها العرب تمثلت النقود الأولى لهم بعد الغزو في تقليد النقود النحاسية البيزنطية المعاصرة، وقد تم تجاوز ذلك في نهاية الأمر بظهور أنواع مختلفة تعتمد بغير انضباط على التصميمات البيزنطية مع أساطير بالعربية أو اليونانية في سبعينيات القرن الهجري الأول.

الدكتور سامي عامري في كتابه «الوجود التاريخي للأنبياء» ينقل عدة عملات بصورها من مصادرها كيف تطورت بشكل تدريجي حتى تخلصت من شكل الصليب أو من العبارات التي كانت تقليداً لتلك الدول، يقول: هناك عملة في عهد معاوية فيها عبارة «بسم الله» بالعربية وعلى الجهة الأخرى صورة النار المقدسة عند الفرس، هناك عملة نقدية سُكَّت سنة 72 هـ  في حكم عبد الملك بن مروان على وجهها عبارة «بسم الله» «محمد رسول الله»، وعلى الجهة الأخرى نُقشت النار الزرادشتية؛ لأنهم كانوا يتعاملوا مع الإمبراطورية الفارسية فكانت العملة المتداولة بينهم فيها صورة النار، وأيضاً ينقل أنه إلى سنة 74 غُيرت العملة تماماً وخلت منها صورة النار الزرادشتية وخلا منها صورة الصليب.

الدليل الثالث:

قالوا مكة ليست في المكان المعروف اليوم في الحجاز، وإنما مكة في الشام وبالتالي إذا قلنا بأن هناك رسول اسمه محمد فقد كان رجل شامي وهذا الذي تدّعونه هو شخص مما لا وجود له.

الجواب عن ذلك: 

هذا مخالف لما هو المتواتر القطعي بين جميع من عاصر ومن اتصل ومن قارب ذلك العصر بوجود مكة وأنها كانت مركزاً وقبلة، بل لم يصلنا شيء في كتب التاريخ الإسلامي يذكر أن مكة في الشام، فقد كُتِب في التاريخ تفاصيل دقيقة عن مكة وأسمائها وأرضها وعلمائها ومتعلميها، وظهرت مكة في الخرائط القديمة حتى قبل ولادة النبي وإن كان اسمها في ذلك الوقت مكوربا وهو اسم رومي وليس اسم عربي ولكنها نفس الموقع وفيها الكعبة وهي المقصد لمن كان إبراهيمياً أو حنيفياً في ذلك الوقت.

الكاتب الكندي «دان جيبسون» له كتاب يقول: البتراء هي القبلة الأولى للمسلمين على مدى قرنين معتمداً بذلك على قبلة المساجد الأولى الموجودة في المدينة، إذا نتحرى قبلتها نجد أن قبلتها باتجاه البتراء.

الجواب عن ذلك: 

المستشرق دافيد كانج هو أعرف المستشرقين بالقبلة وعلاقتها في علم الفلك في تاريخ الإسلام ولديه مؤسسة أوروبية تعتني بالتاريخ الإسلامية في الفلك والرياضيات، كتب رداً مستفيضاً على ما ذكره جيبسون وبيَّن أن أطروحته بلا سند علمي وأنه من المنصرين  أي يعمل في التنصير 

كما علق المستشرق مارك أندرسون في مقالته «هل كانت مكة حقاً مهد الإسلام» على أطروحة جيبسون بقوله: إن الاعتقاد بأن مجتمعاً مترامي الأطراف صعب المراس ولا يقتنع بالسرعة هل من المعقول أن ينقل قبلته المقدسة من البتراء  إذا كانت هي فعلاً  بعد مئتين سنة إلى هذه الكعبة من دون أي حدث تاريخي ومن دون أي شيء أثَّر عليه لكي ينقل قبلته من البتراء إلى الكعبة في مكة!

من الممكن أن يوافق بالإجماع على نقل مركزه المقدس أو أن يتمكن أحد بطريقة ما من القيام بذلك دون ترك أثر ولو واحد في السجل الحديثي والتاريخي! هذا أمر موهوم جداً.

إذن فهذ الأدلة الواهية التي يُحاوَل من خلالها إنكار وجود النبي بهذه الأدلة تبين ضعفها وسخافتها.

المحور الثاني: في تطبيق دليل حساب الاحتمالات في المقام.

دليل حساب الاحتمالات هو عبارة عن حشد قرائن في محور معين، فكلما قامت قرينة على ذلك المحور يقوى احتمال ثبوته، إلى أن يصبح احتمال عدم ثبوته احتمالاً موهوماً مما لا يعتنى به لدى الإنسان العاقل.

وهنا يأتي تطبيق دليل حساب الاحتمالات على وجود النبي وذلك من خلال عدة قرائن:

القرينة الأولى: الإجماع.

الإجماع على أن هناك شخصاً وُجد اسمه محمد أتى برسالة، حتى من المستشرقين الذي ينكرون ربانية القرآن ويبالغون في التشكيك في صدق الروايات الحديثية مع ذلك يقرون بوجود الشخص وأنه أتى بدين، حتى قالت باتريشيا كرون وهي من أبرز المستشرقين تشكيكاً في الروايات الإسلامية وطعناً فيها وهي مستشرقة دنماركية مهتمة بالتاريخ الإسلامي المبكر، درست في أكسفورد وكامبردج تقول في مقالتها بعنوان «ما الذي نعرفه حقاً عن محمد؟» قالت: لا شك أن محمداً كان موجوداً بالرغم من المحاولات العرضية لإنكار وجوده، سمع عنه جيرانه في سوريا البيزنطية في غضون عامين من وفاته على أبعد تقدير، ثم ذكرت نصاً يونانياً وقفت عليه يرجع إلى تلك الفترة مكتوب «أثناء الغزو العربي لسوريا» أي يعتبر فتح سوريا في ذلك الوقت في نظر البيزنطيين هو غزو عربي، أثناء الغزو العربي لسوريا بين 632م و634م  وهو وقت وفاة النبي  أن نبياً كاذباً ظهر بين الساكنسوين؛ وهو لقب يطلق على العرب آنذاك في لغتهم.

كما شارك مايكل كوك زميلته كرون في الإقرار بوجود النبي في كتابه «محمد» وقال: إن النقاط الكبرى التي تتفق مع التراث الإسلامي قد ألغت كل شك في شأن أن محمداً كان شخصاً حقيقياً.

القرينة الثانية: التواتر.

وبحسب المصطلح المنطقي التواتر هو اتفاق جماعةٍ على نقل حدث يمتنع تواطؤهم على الكذب، نقل جماعةٌ جيلاً عن جيل أن هناك مكة وأن هناك كعبة، وأن هناك شخص اسمه علي بن أبي طالب، وأن هناك شخص اسمه عبد المطلب، فهذا يسمى دليلاً متواتراً، والشك في حجية التواتر يؤول إلى السفسطة، فإن من شك في وجود لندن أو وجود نيويورك يعتبر ممن به خلل عقلي، وهذه البلدان نُقلت لنا بالتواتر لمن لم يراها ولم يزورها، والأخبار التي تصل إلينا إما هي أخبار متواترة أو أخبار غير متواترة لا يخلو الأمر، فإذا كنت لا تقبل حتى الخبر المتواتر فإذن لا يمكنك التصديق بأي خبر، فإذن بالنتيجة من يشك حتى في الخبر المتواتر ولا يبني عليه لا يمكنه أن يبني على صدق خبر من الأخبار.

والناظر في خبر النبي يعلم أن ما وصلنا عنه من قرآن وأحاديث وسيرة متواترة لأننا نقطع بحصول هذا، بالنتيجة القرآن والحديث والسيرة نقطع بحصول بعضه وهذا ما يعبّر عنه بالتواتر الإجمال كتواتر مجاهرته بالتوحيد في مكة، وزواجه من خديجة، وهجرته إلى المدينة ونحو ذلك مما نقله المؤرخون جيلاً عن جيل بنحو يمتنع تواطؤهم على الكذب، وبلغة الأرقام نقول عدد الصحابة الذين شهدوا أنهم رأوا رسول الله أكثر من مئة ألف صحابي، وعدد التابعين الذين رأوا الصحابة ونقلوا عنهم أضعافهم، وعدد تابعي التابعين الذين رأوا التابعين ونقلوا عنهم أضعاف ذلك إلى أن يصل الأمر إلى الملايين والمليارات فإنكار كل ذلك عناد ما بعده عناد، ومن شك فيه لزم أن لا يصدق بوجود بشر أصلاً.

ومما تواتر أيضاً وجود طبقة من الناس في القرن الأول من نسل النبي وكان لهؤلاء دور سياسي بارز كالحسن والحسين صلوات الله عليهما.

القرينة الثالثة: هي المصاحف.

يقول المستشرق الفرنسي فرانسوا ديروش أبرز علماء مخطوطات القرآن في عصرنا الحاضر: صحيح أن جون وانسبرو  وهو الذي شكك في نسخ القرآن وقال بأن القرآن ما كتب إلا في نهاية القرن الثامن أي بعد وفاة النبي بفترة معتد بها  وهو يناقشه في هذا المدعى فيقول: إن الآثار المادية لتداول كتاب القرآن المطابق للنسخة العثمانية تعود في أسوء الأحوال إلى زمن لا يتجاوز نهاية القرن السابع ومن الواضح أن النبي ولد 571 أي في القرن السادس، وتوفي سنة 632 أي في القرن السابع، فإذا كانت النسخ تعود في أسوء الأحوال إلى نهاية القرن السابع فهي تعود إلى زمان مقارب جداً لوفاة النبي ، وقد جمعت المستشرقة ستال ويلان من مصادر عربية كثيرة ما يدل على انتشار ظاهرة نسخ المصاحف مع نهاية القرن الأول الهجري.

شواهد على هذا:

  • المخطوطات المنسوبة لعثمان بن عفان خمس وهي موجودة في إسطنبول في متحف المصاحف تثبت الوثائق أنها بخط عثمان بن عفان.
     
  • النسخ المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب ويوجد ثلاث نسخ في إسطنبول، ونسخة في الهند، ونسخة في صنعاء اليمن، ونسخة في مصر، ونسختين في النجف الأشرف، وثلاث نسخ في مشهد المقدسة، ومجموع هذه النسخ متطابقة الخط، ومتطابقة من حيث تاريخ الكتابة، وبملاحظة القرائن المختلفة يوثق بأنها بخط الإمام علي ، مضافاً إلى النسخ الأخرى.

ثم يقول الدكتور سامي عامري في كتابه «الوجود التاريخي للأنبياء»[1] : المدهش أن هنالك قرائن على أننا نمتلك مخطوطة تعود إلى عصر الخلفاء، وهي مخطوطة توبنغن التي تملكها جامعة توبنغن في ألمانيا وقد أثارت ضجة عالمية منذ سنوات قليلة بعد أن دل البحث العلمي أن الجلد الذي كُتبت عليه قد هُيئ للكتابة بين 649م أي بعد وفاة النبي ب17 سنة، أي بعد سنوات قليلة من وفاة الرسول ، ونقل صفحة في كتابه من هذه النسخة المخطوطة، وأنا بنفسي وجدت نسخة في إسطنبول منسوبة للإمام علي ، ونسخة في كوبنهاغن منسوبة للإمام علي ، صحيح أنني لا أعلم أن جميع ما فيها يطابق للقرآن أم لا ولكن رأيناها من خلال الشاشة التي تُعرض عليها لمن يزور هذين المكانين.

القرينة الرابعة: النقوش.

النقش كتابة لكلام أو رموز على صخر أو جدار، والاعتماد على النقوش في البحث التاريخي حجة عند أكثر الأركيولوجيين مع أنهم أكثر الناس تشكيكاً، ولكن النقوش الصخرية عندهم من أوثق الوثائق التي تدل على ثبوت الأحداث.

وإذا راجعنا النقوش الصخرية والجدارية التي تدل على وجود النبي فهي كثيرة منها: ختم الخليفة عبد الملك بن مروان الذي كتب على جهة منه فلسطين، وعلى الجهة الأخرى لا إله إلا الله وحده لا شريك، محمد رسول الله.

أيضاً من هذه النقوش ما نقش على قبر عباسة بنت جريرج والصخرة التي على قبرها اكتُشفت أخيراً وهي في أسوان في مصر تاريخ وفاتها 14 ذو القعدة سنة 71هـ، ونقش على قبرها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر عباسة بن جريرج بن أسد رحمة الله عليها توفيت سنة 71 وهي تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.

أيضاً درهم عبد العزيز بن عبدالله بن عامر يعود إلى سنة 72 وكان من ولاة الخلفاء مكتوب على هذا الدرهم: إله واحد لا إله غيره، محمد رسول الله.

أيضاً نقش إعادة بناء الحرم، هناك نقش وُجد قريباً من الطائف ودُرس هذا النقش من خلال الأدوات الحديثة، وتبين أن عمره سنة 78هـ، ومكتوب في هذا النقش شهد الريان بن عبدالله: أنه لا إله إلا الله، وشهد أن محمداً رسول الله، هذا الكتاب عام بني المسجد الحرام لسنة 78هـ .

القرينة الخامسة:

جمع المستشرق روبيرت هيولاند في كتابه «الإسلام كما رآه الأخرون» شهادات كثيرة من غير المسلمين في العصر الإسلامي حتى سنة 164هـ  باللغات السريانية والعبرية واللاتينية واليونانية والقبطية والصينية والأرمينية تثبت وجود النبي ، وهنا نقل مجموعة من هذه الشهادات منها:

  1. سنة 636م كُتبت في ورقة أمامية لمخطوطة سريانية تضم إنجيل متَّى وإنجيل مرقس كتبت فيها بضعة أسطر تتحدث عن الدخول العربي إلى تلك البلاد، كتبوا فيها: دُمرت قرى كثيرة بقتل عرب محمد أهلها، قُتل كثير من الناس وأُخذوا أسرى من الجليل  في فلسطين  وقد ذهب المستشرق نولادكا إلى أن هذا النص قريب من أحداث معركة اليرموك.
     
  2. توماس الكاهن الموجود سنة 640م في تاريخه الذي ألفه في ذلك الوقت كتب عن حكم هرقل في عام 945م قال: في الجمعة 7 فبراير 634م في الساعة التاسعة دارت معركة بين الرومان وعرب محمد في فلسطين على بعد اثني عشر ميلاً شرق غزة.
     
  3. ومن هذه الشهادات تاريخ أرمينيا المكتوب سنة 660م ونُسب إلى الأسقف الأرمني سيبوس الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي  أي في نفس القرن الذي توفي فيه النبي   في هذا الكتاب تاريخ أرمينيا يقول: في تلك الحقبة ظهر رجل من بين العرب من أبناء إسماعيل يدعى محمد وصار علماً وعلمهم الإيمان برب إبراهيم وقال إن الأمر جاء من السماء وأمرهم جميعاً أن يجتمعوا سوياً ويتوحدوا على الإيمان وبعد أن تركوا تعظيم الأشياء الباطلة اتجهوا نحو الله الحي الذي ظهر لأبيهم إبراهيم، وشرع لهم محمد أن لا يأكلوا الميتة ولا يشربوا الخمر ولا يكذبوا ولا يرتكبوا الزنا وقال لهم لقد وعد الله تلك الأرض إبراهيم وابنه من بعده إلى الأبد وما وعد به تحقق في ذلك الوقت.... إلخ كلامه.
     
  4. تاريخ الأسقف يوحنا النقيوسي الموجود حوالي 690م وهو أسقف مدينة نقيوس الواقعة شرق دلتا في مصر مؤرخ للعصر الأول للفتح الإسلامي لمصر، ألف كتاباً في التاريخ قيل أنه باليونانية أو القبطية ووصلتنا ترجمته باللغة الإثيوبية جاء في تاريخ يوحنا النقيوسي قال: والآن فإن العديد من المصريين الذين كانوا مسيحين أنكروا الإيمان الأرثودوكسي المقدس، ومعمودية الحياة، واعتنقوا دين المسلمين الأعداء، وقبلوا عقيدة محمد وقد زاغوا مع الوثنيين وحملوا السلاح بأيديهم وحاربوا المسيحين.... إلخ الكلام.

إذن مجموع هذه القرائن بما أنها تمحورت وتمركزت في هذا العنوان وهو وجود محمد، وكل قرينة تضفي احتمالاً معتداً به على الوجود فإن تراكم هذه القرائن يوصل العاقل السليم إلى اليقين بحيث لا يُحْتمل أصلاً احتمالاً غير ذلك في موضوع وجود النبي .

[1]  ص 181