القرآن بين الزمكانية والثبات

1443-09-11

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9]

صدق الله العلي العظيم

وقع البحث حول تاريخية القرآن الكريم والبحث هنا في عدة محاور:

  • ما هو المقصود بتاريخية القرآن الكريم؟
  • في تاريخية التاريخ.
  • ما هي الأدلة والشواهد على تاريخية القرآن الكريم؟
المحور الأول: ما هو المقصود بتاريخية القرآن الكريم؟

تاريخية القرآن الكريم هي عبارة عن خضوع النص القرآني للزمكان وأحوال المخاطب، فهو نص مؤطر بزمن معين ومكان معين وحالات المخاطب التي خوطب به النص، وبالتالي فليس للنص القرآني قداسة لاختصاصه بزمانه ومكانه، ولا شمولية فيه ولا معيارية له؛ بمعنى أن النص القرآني لا يصلح في زماننا هذا أن يكون معياراً فاصلاً بين الصواب والخطأ بلحاظ أنه نص زمكاني؛ أي متأطر بزمان ومكان.

ولذلك ورد القرآن على طبق أسباب النزول، فهناك مناسبات وأسباب نزل على ضوئها القرآن الكريم ولم ينزل مجرداً من الأسباب والمناسبات، وهذا ما ذكره محمد أركون في كتابه «تاريخية الفكر»[1] : وبما أن النص القرآني تاريخي فمن الطبيعي أن يكون تفسير القرآن تاريخياً؛ بمعنى أن تفسير القرآن يخضع للمعطيات الثقافية التي يعيشها المفسر في كل زمان، فمثلاً البيضاوي والطنطاوي والطبرسي والطوسي كل من هؤلاء فسر القرآن بمعطيات زمانه وبثقافة زمانه، ولذلك يختلف فهمه للقرآن عن فهم الطباطبائي أو الخوئي للميزان لأنهما ينطلقان من ثقافة زمانهما، فكما أن القرآن تاريخي فتفسير القرآن تاريخي كما ذكره الجابري في كتابه «نحن والتراث»[2] .

وقال أركون في كتابه «قضايا في نقد العقل الديني»: التاريخية تعني ارتباط النص القرآني بالبيئة الجغرافية والطبيعية والقبائلية لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع، فكل هذه العوامل من أجواء الطبيعة ومن ثقافة البيئة، ومن ثقافة القبيلة انعكست على النص القرآني الذي جاء في القرن السابع خلافاً للرؤية التقليدية أي رؤية المسلمين جميعاً الذين يعتبرون القرآن نصاً متعالياً على الزمان والمكان، يقول أركون هذه نظرة تقليدية لا صحة لها، فالقرآن ليس متعالياً على الزمكان بل لابد في مجال فهم القرآن من إدخال عنصر التاريخ، لأننا لو لم ندخل عنصر التاريخ في فهم القرآن لدخل القرآن في عالم الإلهيات أي ما فوق التاريخ، أو نزل إلى الانثروبولوجيا أي ما تحت التاريخ وكلاهما اختيار تعسفي، فلابد أن يُقرأ القرآن من زاوية زمانه ومكانه وثقافة البيئة التي انطلق منها القرآن الكريم.

المحور الثاني: في تاريخ التاريخية.

من أقدم من صرَّح بأن القرآن تاريخي هو أركون في مؤتمر عُقد في باريس عام 1974م، صرَّح هناك لا بأن القرآن تاريخي فقط بل بشمول التاريخية لكل محتوى القرآن الكريم، أي بعض التاريخين كنصر حامد أبو زيد أو الجابري قد يفصلون بين مفاهيم القرآن ويقولون بعض المفاهيم شمولية وبعضها تاريخية، أما أركون قد صرَّح بشمول تاريخية القرآن لكل محتوى القرآن حتى في حديثه عن التوحيد أو حديثه عن الاخلاق أو حديثه عن العدالة، كل ذلك تحدَّث عنه بنظرة نسبية تناسب زمانه ومكانه.

وذكر نصر حامد أبو زيد في كتابه «النص والسلطة»[3]  أن ما طرحه قاسم أمين في مصر  وهو من أقدم الحداثيين في مصر عام 1908م والطاهر الحداد في تونس حيث قالا: إن الظرف الاجتماعي هو الأساس في تفسير الآيات المتعلقة بأحكام المرأة، فأحكامها نسبية تاريخية مثلها مثل أحكام العبيد، أي كما أن أحكام العبيد الكل يقول أنها أحكام تاريخية مضى زمانها كذلك أحكام المرأة هي أحكام نسبية تاريخية انطلقت من ظرف اجتماعي معين.

لذلك يحاول طاهر الحداد نفسه أن يفلسف كيفية تاريخية أحكام المرأة يقول: جاء الإسلام وكانت المرأة في كوة مظلمة تُعتبر سلعة تورث من رجل إلى رجل، ولا قرار لها ولا شهادة لها، فجاء الإسلام وأعطاها قيمة حيث أنه أعطاها نصف ما يرث الرجل، وقَبِل شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وساوى بينها وبين الرجل في كثير من الأحكام انطلاقاً من إيمانه  إيمان القرآن  بالعدالة، والعدالة اقتضت في ذلك الظرف أن يزحزح الأحكام الجاهلية بهذا المقدار لا أكثر، فلذلك إذا أخذنا بروح العدالة التي انطلق منها القرآن الكريم ينبغي بناء على ذلك أن تكون المرأة الآن مساوية للرجل باعتبار أن المرأة الآن ساوت الرجل في جميع التخصصات وشتى ميادين الحياة، فمقتضى منطق العدالة أن تأخذ حكم الرجل حتى في الشهادة وفي الميراث. أي أن ما ذكره القرآن من الشهادة والميراث مثال للعدالة في ذلك الوقت أي هو حكم تاريخي زماني ينسجم مع طبيعة الظرف الاجتماعي آنذاك.

وأردف على ذلك عبدالعزيز الثعالبي في كتابه «روح التحرر في القرآن الكريم»[4]  قال: إن ستر الوجه للمرأة هي عادة فارسية تسربت للمجتمع العربي ولم يفرض القرآن الستر على المرأة، وإنما أوجب الحجاب على نساء النبي لخصوصية في نساء النبي ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32]

المحور الثالث: ما هي الأدلة والشواهد على تاريخية القرآن الكريم؟

قبل أن ندخل في مناقشة الأدلة والشواهد التي ذكرها الحداثيون وما بعد الحداثة لتاريخية القرآن الكريم نذكر أين محل البحث، وهو في آيات التشريع والأحكام أي البحث الذي له ثمرة في أن القرآن تاريخي أو غير تاريخي هو البحث في آيات الأحكام وإلا آيات القصص التاريخية وآيات التأمل في الكون والآيات التي تحث على الأخلاق لا معنى في البحث في تاريخيتها، نحن نبحث الآن عن التاريخية بلحاظ آيات الأحكام أي اللائحة التشريعية الواردة في القرآن الكريم، وآيات الأحكام على أقسام أربعة:

القسم الأول:

ما عُلم انتهاؤه في زمن النبي، والكل يسلِّم بأنه كان حكماً موقتاً، إما انتهى لأن القرآن نص على انتهائه أو انتهى لانتفاء موضوعه أو انتهى لنسخه مثلاً عندما نأتي لآية النجوى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12] أو مثلاً عندما نأتي إلى نسخ القبلة، كانت القبلة لبيت المقدس ثم نزل قوله تعالى يخاطب المسلمين بالتوجه إلى البيت الحرام ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144]، أو حكماً انتفى موضوعه مثل أحكام العبيد، حيث يكون الإنسان عبداً إذا أُسر في حرب بين المسلمين والمشركين وكانت هذه الحرب بولاية المعصوم.

القسم الثاني:

ما جاء معللاً، ووقع البحث في أن علته نوعية أم استغراقية ونذكر في ذلك موردين:

  • المورد الأول: شهادة المرأة قال القرآن الكريم: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة: 282] وقع البحث هل هذه العلة نوعية أو استغراقية بمعنى هل أن هذه العلة مربوطة بنوع المرأة؛ أي بما أن نوع المرأة معرض للضلال لذلك لزم أن تكون شهادتان بشهادة فيبقى هذا الحكم، وهذا ما فهمه علماء الإمامية، أم أن هذه العلة هي علة استغراقية بمعنى أنه يريد أن يقول إذا كانت المرأة في معرض الضلال فيكون شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، فلو فرضنا أن المرأة خرجت عن الضلال، شُخِّصت على أنها امرأة عاقلة لبيبة واعية مدركة لا ضلال لا نسيان ممكن أن يتغير الحكم، وهذا فهم آخر غير ما فهمه علماء الإمامية.
     
  • المورد الثاني: نأتي إلى ما دل على أن المرأة ترث نصف سهم، والرجل يرث سهماً كاملاً، وفي الروايات ورد تعليل ذلك بأن الرجل مُلزم بالنفقة على الأسرة لذلك عُوِّض عن إنفاقه بسهم كامل من الميراث، وأما المرأة فهي غير ملزمة بالإنفاق حتى ولو كانت أثرى الأثرياء، بل حتى لو كان زوجها فقيراً فهي ليست ملزمة على الإنفاق على الأسرة فلذلك ترث نصف سهم.

ونفس الكلام هذا التعليل استغراقي بمعنى لو فرضنا أن رجلاً لا يجب عليه النفقة، حتى لو كان رب أسرة إما لأنه مجنون أو إما أنه لا مال له، فإذا لم تجب على الرجل النفقة لعلة من العلل هل ترث المرأة حينئذ سهماً كاملاً أم لا؟ أي هل العلة استغراقية مضطرة يدور الحكم مدارها وجوداً وعدماً أم لا؟ هذا محل بحث وإن كان رأي علماء الإمامية بالإطباق على أنه المرأة ترث نصف سهم مهما تغير الوضع، إذن بالنتيجة هذا قسم ثاني ونسميه بالأحكام المعللة.

القسم الثالث:

ما وقع الخلاف في فهمه هل أنه عام أم أنه خاص، مثلاً عندما نأتي لآيات الجهاد ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] السيد الخوئي قدس سره يقول: هذه آيات واضحة الدلالة على أن الجهاد حكم واجب على المسلمين وإن كان يحتاج لإعلان الجهاد إلى ولايةٍ هي المعول عليها في إعلان الجهاد من حاكم شرعي، لكنه يظل حكماً واجباً على المسلمين كسائر الأحكام الشرعية، إذن هو يفهم من آيات الجهاد أنها حكم مثل الصلاة والصوم وغير ذلك، بينما عالم آخر كالشيخ المطهري يقول: الجهاد في القرآن جهاد دفاعي وليس ابتدائي أي ليس من أحكام الشريعة أن على المسلمين أن يجاهدوا المشركين ابتداء، إنما إذا كان المسلمون في موقع الدفاع عن أنفسهم فيشرع لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، الآيات في القرآن ناظرة في الجهاد الدفاعي وليس في الجهاد الابتدائي، ولا دليل على أن الجهاد الابتدائي حكم من أحكام الشرعية، فهذا اختلاف في فهم الآيات القرآنية بغض النظر عما دلت عليه الروايات الشريفة.

القسم الرابع:

الآيات العامة  وهذا هو موضوع النزاع  آيات عامة ليست معللة لم يختلف المسلمون في فهمها هل هي تاريخية أم غير تاريخية؟

﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229]، ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] هذه الآيات العامة ماذا يقال فيها هل انتهى زمانها بانتهاء زمان القرآن أم أنها تشريعات باقية إلى يوم القيامة؟ ثمرة البحث في تاريخية القرآن وعدمه تظهر في الآيات العامة وإلا ما قبلها فهي آيات ارتفع حكمها وآيات معللة وآيات مما اخْتُلف في فهمه أنه عام أو خاص في بعض الموارد، والكلام كله في القسم الرابع وهو الآيات العامة.

ما هي الأدلة التي أقامها الحداثيون أو رواد ما بعد الحداثة على تاريخية النص القرآني؟

هنا ذكروا عدة أدلة ومنها:

الدليل الأول:

قالوا القرآن نفسه يشهد على نفسه بأنه تاريخي وذلك من خلال صنفين من الآيات:

  • الصنف الأول: أن القرآن أبرز مفاهيم بأسلوب أسطوري ينسجم مع الذهنية العربية آنذاك، فعندما تحدث القرآن عن الله جعل له عرش وكرسي وله لوح وله قلم وجنود وصف ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وقال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم: 1] ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 22] وهذا كله ما تفهمه الذهنية العربية عن أي ملك وسلطان، فالله تبارك وتعالى في القرآن استخدم اللغة الأسطورية العربية في إبراز هذه المفاهيم، فمعناه أن هذه اللغة كانت لغة تاريخية انسجاماً مع الذهنية العربية في ذلك الزمان والآن الإنسان المعاصر لا علاقة له بالعرش والكرسي والقلم واللوح بل يفهم هذه الآيات بمعنى أوسع وأشمل مما تدل عليه هذه الألفاظ.
     
  • الصنف الثاني: أنه ليس فقط اللغة تاريخية بل حتى المضمون تاريخي مثل الآيات التي تضمنت الحسد والسحر والجن والملائكة وإبليس والجنة المملوء بالحور العين وأنهار الخمر والعسل، كل هذه مضامين يتسلى بها العربي آنذاك، والعربي باعتباره يعيش في تلك البيئة يخاف من الجن والحسد والسهر، فجاءت كل هذه الآيات مواكبة لثقافة زمانه وإلا لا حسد ولا سحر ولا جن ولا ملائكة ولا إبليس ولا غير ذلك، جاءت هذه الآيات منسجمة مع ثقافة العربي آنذاك أي الفترة التي نزل بها القرآن الكريم، وهذا ما تعرض له أركون في كتابه «تاريخية الفكر» [5] .

الجواب عن هذا الاستدلال: 

بالنسبة للقسم الأول راجعوا السيد صاحب الميزان قدس سره حيث يذكر أن معاني الألفاظ هي معاني مجردة أي بعض مصاديقها حسية لا أنها حسية فمثلاً في كلمة العرش يذهب عقلنا إلى المصداق الحسي عرش أي مكان يعبر عن السلطنة والملك، وهذا ليس هو المعنى بل هو مصداق من مصاديق المعنى، والعرش لم يوضع لهذا المصادق الحسي، العرش وضع إلى منطلق الحكم ومنطلق السيطرة لذلك كما يقول السيد صاحب الميزان يقول العرش هو عبارة عن خارطة الكون كله، كما كل الشركات وكل المؤسسات وكل الدول لديها خارطة للمؤسسة وجهاز يكشف كل أعمال المؤسسة وحركاتها وسكناتها، جهاز يمتلك خارطة الكون كله ﴿وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] خارطة الكون هي عرش الكون، والمراد بالعرش موقع السلطة وموقع السيطرة، وذهننا يذهب لمصداق حسي وإلا معنى العرش هو معنى كلي عام تجريدي، أركون عندما يذكر هذه الأمثلة خلط بين المفهوم والمصداق، المفهوم ليس حسياً المصداق حسي، والله تبارك وتعالى عندما استخدم هذه الألفاظ في القرآن لم يستخدم لغة مؤقته بل هي لغة دائمة لأن مفاهيمها مفاهيم تجريدية، واستئناس العربي بالمصاديق الحسية لا يُضيق المفهوم ولا يؤطره حتى يقال بأن هناك تاريخية بحسب اللغة.

وأما بالنسبة للقسم الثاني من الآيات القرآنية لم يقم دليل على عدم واقعية ذلك، المشكلة هي سيطرة الفكر المادي، فهو الذي يحصر الذهن بالواقع المادي أي كأننا ننطلق من كلمات ماركيس الذي يقول: الفكر انعكاس للمادة، النص انعكاس للفكر والفكر انعكاس للمادة فمن الطبيعي أن يتأطر النص بالواقع المادي. كأنه لا واقع إلا المادي وهذا غير صحيح، ولكن نحن لقصور أدواتنا لا يمكننا أن نتخطى الحاجز المادي ونظن أن العالم فقط هو عالم المادة، بينما ينص القرآن نفسه على أن العالم ليس عالماً مادياً ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام: 73] فهناك عالم شهادة وهو عالم المادة الذي نعيشه وهناك ما هو وراء هذا العالم ألا وهو عالم الغيب وفيه الجن والملائكة والأشباح والأرواح وما أشبه ذلك مما يجري في ذلك العالم والله تحدث عن هذا العالم في عدة آيات من القرآن الكريم عندما يقول تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21]، ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] إذن بالنتيجة القرآن يفصح بشكل واضح ولم يقم دليل على خلافه، العالم ينقسم إلى مادي وغير مادي وبالتالي عدم وجدانك دليلاً مادياً على الجن وإبليس والملائكة وما أشبه ذلك غاية ما ينفي أنها ليست مادية ولا ينفي وجودها وتكونها.

الدليل الثاني:

قالوا من أعظم الأدلة على تاريخية القرآن هي مناسبات النزول، فبما أن القرآن نزل على ضوء مناسبات وأسباب فكيف نعمم القرآن لكل زمان وقد كان قد نزل لأجل علاج مناسبات وأسباب معينة مما يؤطر مفهوم القرآن، يقول نصر حامد أبوزيد: بناء على كلامكم  أنتم أيها المتدينون الذي تقولون بأن القرآن شمولي وليس تاريخي  أن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم: 1] إما أن هذه الآية تاريخية وهذا ما نقوله نحن أو أن الآية عامة فمعناه أن النبي يُحرم ما أحل الله له في جميع الأحكام وبحسب كل زمان، وهذا طعن في أمانة النبي ورسالته.

يلاحظ على هذا الاستدلال:

  • أولاً: عدد الآيات التي نزلت في القرآن 6236 آية، والآيات التي لها مناسبة نزول هي 470 آية فكيف نحكم على جميع آيات القرآن بأنها مؤطرة بمناسبات النزول والحال أن الذي جاء بحسب مناسبات النزول هو 470 من 6236 آية؟!
     
  • ثانياً: فرق بين مناسبة النزول وسبب النزول، مناسبة أوجبت أن تنزل آية عامة لا أن المناسبة سبب يضيق مدلول الآية، هذه الحادثة ناسبت أن ينزل فيها آية لا أنها خصصت الآية ولذلك يقول الأصوليون: خصوص المورد لا يخصص الوارد، والوارد عام فما معنى أن تخصصه بهذا المورد!

ثابت بن قيس طلق زوجته خولة فنزلت الآية: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة: 229] فهل اختص الطلاق بطلاق قيس بن ثابت! لمناسبة حدوث الطلاق نزلت الآية لتشرع حكماً عاماً، خصوص المورد لا يخصص الوارد.

أو عندما نأتي إلى آيات اللعان وآيات الظهار كلها آيات عامة وإن نزلت في مناسبات خاصة.

  • ثالثاً: السيرة العقلائية في كل لغة على أن المدار في العموم هو اللفظ اللغوي وليس مناسبة ذكره وبيانه، صدر قانون لكن صدور القانون استدعته حادثة من الحوادث اقتضت تشريع القانون فهل تجد شعباً يخصص القانون بتلك الحادثة التي شرع فيها القانون؟ أم يقولون أن القانون عام وإن كانت الحادثة استدعت تشريعه؟ السيرة العقلائية قائمة على أن المدار في القانون على لفظه لا على مناسبة تشريعه ونزوله.

وأما هذه الآية المباركة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم: 1] من الواضح أن هذه الآية ليست تشريع، نحن نتحدث عن آيات التشريع وهذه الآية ليس لها علاقة بالتشريع، هذه الآية تخاطب النبي في حدث بينه وبين بعض زوجاته وكما يقول علماؤنا هي خطاب شفقة للنبي، أنت تمنع نفسك من أمور أحلها الله لك لأجل أن بعض زوجاتك لا ترضَ، فهو خطاب شفقة على النبي وفي نفس الوقت تعريض بتلك الزوجة التي أصرت على النبي أن يمتنع عن هذا الأمر المحلل.

[1]  كتاب تاريخية الفكر ص 126
[2]  كتاب نحن والتراث ص29
[3]  كتاب النص والسلطة ص10
[4]  كتاب روح التحرر في القرآن الكريم ص26
[5]  كتاب تاريخية الفكر ص81