أين عدالة الله والأرض تعجّ بالحروب والاضطهاد والأيتام والفقراء؟

1443-09-26

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32]

صدق الله العلي العظيم

هناك ثلاثة أسئلة يطرحها كل إنسان يلتفت إلى الخليقة التي وُجد فيها:

  • السؤال الأول: لماذا خلق الله الوجود؟ لماذا خلق الله الكافر وهو يعلم أنه سيؤول إلى النار؟ لماذا خلق الله المحروم من أب وأم وهو يعلم بأنه سيبقى محروماً حتى موته؟
  • السؤال الثاني: لماذا خلق الله البشر متمايزين، خلق أسمر وأبيض، وغني وفقير، ومريض وسليم، ومظلوم وظالم؟ أليس هذا الاختلاف منشأ للتحاسد والتحارب بين البشرية؟
  • السؤال الثالث: لماذا سلط الله الشرور على المجتمع البشري فهناك الأمراض وهناك الأوبئة وهناك الحروب والاضطهاد والظلم؟ هل ينسجم هذا مع حكمته ورحمته، عندما يزور الإنسان مستشفى سرطان الأطفال ويرى الأطفال المصابين بالسرطان فيتساءل ما هي الحكمة من وجود هؤلاء إذا كان الله يريد ذلك فهل هذا ينسجم مع رحمته وعدله؟ وإذا كان لا يريد ذلك فلماذا لا يمنعه ولا يقف حاجزاً أمامه؟

هذه أسئلة ثلاثة تتردد على ذهن كل إنسان لذلك لكل سؤال محور يتعلق به:

 المحور الأول: لماذا خلق الله هذا الكافر وهو يعلم أنه سيؤول إلى النار بكفره، وخلق الله ذلك اليتيم المحروم وهو يعلم أنه سيبقى يتيماً محروماً مدى حياته؟

الجواب عن هذا السؤال، هناك قاعدتان فلسفيتان ترتبطان بهذه النقطة:

  • القاعدة الأولى: الفاعل الناقص غايته إكمال نقصه، والفاعل الكامل غايته ظهور كماله، هناك إنسان يدرس ويتعلم غايته أن يكمل نقصه ويصبح إنساناً عالماً فهذا فاعل ناقص وغايته وهدفه إكمال نقصه، وأما الكامل فكماله يفرض عليه ظهور الكمال، كماله هو الذي يدعوه إلى إظهار كماله وإظهار مجده، الفاعل الكامل غايته ظهور كماله، هنا نأتي إلى الله تبارك وتعالى هل الله فاعل ناقص؟ هل غايته من الخلق إكمال نقصه؟ هل له حاجة في وجود هذا الكون؟ أبداً ليس فاعلاً ناقصاً كي يكون هدفه إكمال نقصه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] لأنه تعالى كامل وغايته ظهور كماله، ومن كماله أن يُظهر كماله، خَلْق السماوات والأرض والإنسان كلهم مظهر لكمال الله ومظهر لعظمة الله، لا يوجد مخلوق إلا وهو مظهر لكمال الله وعظمته ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] الكافر هو مظهر لكمال الله، المؤمن هو مظهر لكمال الله، كل الموجودات مظهر لكمال الله، وكماله تعالى اقتضى أن يظهر كماله لأن من الكمال إظهار الكمال، فكل الوجود مظهر لكماله، حتى الإنسان العاصي والكافر هو مظهر لكمال الله لأنه بالنتيجة كل مخلوق يمتلك صفة قد يكون هو غير ملتفت إليها ومفرط فيها ولكن كل موجود وكل إنسان يمتلك صفة كمالية من خلالها هو مظهر لكمال الله وعظمته وقدرته تبارك وتعالى.
     
  • القاعدة الثانية: العلم ليس من سلسلة علل المعلوم، مثلاً عندي ولد أُدخله المدرسة وأوفر له كل وسائل التعليم والتحفيز والعناية من أجل أن يتخرج من مدرسته ولداً متألقاً متفوقاً ولكنني أعلم مسبقاً أن هذا الولد فاشل وأن كل الوسائل لن تنجح ولن تنفع معه، فأنا أوفر له كل الوسائل مع علمي بأنه سيفشل وأنه لن يكون ناجحاً، إذن إعطائي إياه كل وسائل النجاح والتعليم والتفوق هل هذا الإعطاء عدل أم ظلم، هل هذا الإعطاء نعمة أم بخل؟ لا إشكال أن عناية الأب لولده مع أنه يعلم بأنه فاشل وتوفير كل وسائل التعليم له عدل ورحمة وعناية، وإن كان يعلم أن الولد فاشل لا يعد توفير وسائل التعليم سبباً لوقوعه في الفشل، العلم ليس من سلسلة علل المعلوم، الله تبارك وتعالى خلق الكافر ووفر له كل وسائل النجاح، أعطاه عقل، وأعطاه إرادة وأعطاه وجود ونعم وكل الوسائل من أجل أن يستثمرها في أن يكون إنساناً كاملاً مطيعاً ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] لكنه فاشل بإرادته وباختياره اختار سبيل جهنم والكفر ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18] ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء: 19] نحن نعطي الجميع ونوفر الوسائل للجميع ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء: 20]

إذن خلق الكافر والله يعلم أنه سيؤول إلى جهنم ليس ظلماً ولا تشجيعاً على الكفر ولا سبباً من أسباب كفره، بل خلقه لكي يكون مظهراً لكمال الله عزوجل، لكنه اختار أن يتعامى عن صفات الكمال التي وُهبت له وأن يسلك سبيل النار باختياره وإرادته ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا «9» وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا «10» [الشمس: 9 - 10]

 المحور الثاني: لماذا خلق الله البشر متمايزين، خلق أسمر وأبيض وغني وفقير ومريض وسليم، ومظلوم وظالم؟ أليس هذا الاختلاف منشأ للتحاسد والتحارب بين البشرية؟

هناك فرق بين التمييز والتمايز، مثلاً أنا أستاذ ولدي طالبان متساويان في الذكاء والقدرة، ولكني أفضل أحدهما على الآخر بلا مبرر، هذا يسمى تمييز وهو ظلم، وهناك تمايز بمعنى أن هذين الطالبين أُخضعهما لامتحان واختبار فكل منهما بقدرته وبمعلوماته سوف يبرز في الامتحان، فإذا تفوق أحدهما على الآخر كان هذا تمايز وليس تمييز، هل أن اختلاف الخَلْق في الصفات تمايز أم تمييز؟

للجواب عن هذا السؤال نقول: هناك صفات ذاتيه وهناك صفات عرضية، الصفات الذاتية نابعة من الوجود المعين «شيئية الشيء بوجوده المعين» كل صفاتك وشيئيتك وإنسانيتك ناشئة من وجودك، مثلاً لو أتينا للعدد تسعة وهو العدد الذي بين الثمانية والعشرة، لو غيرنا مكانه وجعلناه بين الاثنان والأربعة لا يصبح العدد تسعة بعد ذلك، بل يصبح عدد مدحرج بين الاثنان والأربعة فهو إذن ثلاثة، متى ما رفعته عن وجوده صار شيء ثاني، شيئيته بوجوده المعين، فهو لا يصبح العدد تسعة إلا إذا كان بين الثمانية والعشرة.

تفاحة صفراء وتفاحة حمراء، لكل تفاحة نواة، نواة التفاحة الصفراء لا تنتج التفاحة الحمراء وبالعكس، لو أردنا من النواة الصفراء أن تنبت حمراء فذلك لا يحدث، وهذا يسمى سنخية بين العلة والمعلول، المعلول وليد علته وابن علته، لذلك لو وضعنا هذه النواة مكان هذه النواة لكانت تفاحة أخرى وليست هي التفاحة الأولى.

والمثال الثالث نمثله على الإنسان مثلاً أبو طالب مؤمن قريش هذا الإنسان العظيم، أبوه عبد المطلب، أخوه عبد الله، ابنه علي بن أبي طالب، أخوه أبو لهب، لو أننا أردنا النطفة التي تولد منها أبو لهب ليكون فيها أبو طالب، فهل يصير أبو طالب هو نفسه؟ لا يصير ذلك بل يكون إنسان آخر، النطفة علة ومعلولها منها، النطفة التي تولد منها أبو لهب لا يتولد منها إلا أبو لهب، والنطفة التي تولد منها أبو طالب لا يتولد منها إلا أبو طالب، ولو وضعنا كل منهما مكان الآخر لما كان هو نفسه، كل موجود شيئيته بوجوده المعين لا بوجود آخر، أبو طالب من وجود معين ومن ظرف معين ومن نطفة معينة لو زحزح عنها لم يكن أبا طالب بل كان شيئاً آخر.

من هنا نأتي للجواب لو جئت من منطقة أخرى أو من نطفة أخرى أو مكان آخر لم تكن أنت، أنت شيئتك ناشئة عن هذا الوجود المعين الذي أبدعت وخلقت فيه، وبمجرد أن تغير الموقع لم تكن أنت، تصير شيئاً ثاني، فإن شيئية الشي نابعة من وجوده المعين، ففي الصفات الذاتية أبوك التقى مع أمك فتولدت النطفة، وبمجرد أن تولدت النطفة حَمَلْتَ الصفات الوراثية وحَمَلْت اللون والشكل والذكاء والمنطقة وكل هذه الصفات، فلو كنت في مكان آخر لكنت من نطفة أخرى، ولو كنت من نطفة أخرى لم تكن أنت بل كان إنسان آخر، فلا معنى لأن تقول لماذا أنا هنا، لأن هذا هو وجودك ولو كنت في مكان آخر لم تكن أنت بل إنسان آخر.

الصفات العرضية مثلاً هذا شجاع، هذا كريم، هذا غني، هذا حاكم، هذا محكوم... هذه صفات عرضية، لكي يتحقق التكامل بين البشرية، كل إنسان أعطي صفة كمال ليست في غيره حتى هذا الإنسان المريض عنده موهبة لا توجد عند غيره، هناك أناس لديهم صمم، عمى، شلل، لكن لديهم مواهب لا توجد عند غيرهم من الأصحاء السليمين، كل إنسان خلقه الله أعطاه موهبة لا توجد عند غيره، آيات الله بعدد أنفاس الخلائق، إنسان لديه قدرة عقلية، وإنسان لديه قدرة لسانية، وإنسان لديه قدرة فنية، وإنسان لديه قدرة تقنية، وإنسان لديه قدرة جسمية بدنية، وزَّع الله القدرات والمواهب والملكات بين خلقه لكي يحتاج كل واحد للآخر ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 32] سخرياً أي ليستخدم بعضهم بعضاً، أنت تخدم إنسان ويخدمك إنسان آخر، خُلِق البشر متفاوتين لكي يصلوا إلى الكمال يقول الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] ويصير الكمال بالتعارف ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] تعارفوا لأستفيد من تجربتك وتستفيد من تجربتي، ولأستفيد من فكرك وتستفيد من فكري، ويحصل التعارف بالتمايز وليس بالتمييز، التمايز بمعنى أن كل شخص يمتلك موهبة يحتاج الآخرون إليه فيها، والآخرون يمتلكون موهبة يحتاج هو فيها إلى الآخرين، من هنا نشأ التمايز ونتيجة التمايز التعارف، ونتيجة التعارف وصول البشرية إلى الكمال، نتيجة تلاقح الطاقات والتجارب والأفكار بين أبناء المجتمع البشري.

 المحور الثالث: لماذا سلط الله الشرور على المجتمع البشري فهناك الأمراض وهناك الأوبئة وهناك الحروب والاضطهاد والظلم؟ هل ينسجم هذا مع حكمته ورحمته، عندما يزور الإنسان مستشفى سرطان الأطفال ويرى الأطفال المصابين بالسرطان فيتساءل ما هي الحكمة من وجود هؤلاء إذا كان الله يريد ذلك فهل هذا ينسجم مع رحمته وعدله؟ وإذا كان لا يريد ذلك فلماذا لا يمنعه ولا يقف حاجزاً أمامه؟

خلقنا الله متفاوتين لكي نتكامل، حتى الكافر خلقه وأعطاه صفات الكمال من أجل أن يكون مظهراً لكمال ربه لكنه اختار الطريق الآخر باختياره وإرادته، وعلم الله بأنه سيختار الطريق الآخر لا يعني أن الله سبب له ذلك، ما دام باختياره وإرادته سلك الطريق الآخر وكان بإمكانه أن يحقق ما خُلِق لأجله وهو أن يكون مظهراً للكمال فهذا سوء إرادته.

ولدينا أربعة أجوبة عن هذا السؤال: جواب فلسفي، جواب علمي، جواب عرفاني، جواب إيماني تربوي.

 الجواب الأول: الجواب الفلسفي.

الفلاسفة يقولون لا يوجد شر في الكون كل الوجود خير، الله خير محض ولا يصدر من الخير إلا الخير، كل الوجود خير ولا يوجد شيء اسمه شر، يقول تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] وأما الشر مسألة نسبية وليست واقعية حقيقية، أنت تعتبر البعوضة شر مع أن البعوضة في حد ذاتها طاقة، إذا قرأت التقارير العلمية عن البعوضة ترى ما تملكه من حواس ووسائل للمعرفة والتنبؤ لا تتوقعه، هي بحد ذاتها خير لأنها طاقة تسهم في تلقيح زراعات وتسهم في القضاء على الحشرات، هي في حد ذاتها خير، وأما الشر الذي أراه فهو لأنها لا تتناسب مع جسمي فإذا تعرض جسمي لها أحسست بالألم، إذن صار الشر مسألة نسبية، إذن ما هي نسبتك بالنسبة إلى الدجاجة أو الخروف؟ هل أنت خير أم شر! الإنسان لا يعتبر نفسه شر، بينما السمكة تعبرك شر وأعظم شر لأنك تأكلها، إذن أصبحت مسألة الشر مسألة نسبية، الإنسان هذا المخلوق العظيم الذي يمتلك طاقات وقدرات وإبداعات لا يستطيع أحد أن يقول عنه شر بينما هذا الإنسان بالنسبة إلى السمكة والدجاجة شر لأنه الذي يأكلها ويفترسها ويشبع بطنه بها، إذن صار الشر نسبة نسبية وليست مسألة حقيقية.

الوجود كله خير وليس فيه شر، أنت تعتبره شر ولكنه في حد ذاته خير، الزلازل والبراكين تعتبرها شر لكنها تُسهم في استقرار قشرة الأرض، هذه الزلازل هي بالنسبة لك أنت القريب منها شر لكن بالنسبة إلى قطع أخرى وبقاع أخرى من الأرض تعتبر خير لأنها تسهم في استقرار الأرض، إذن أصبح الشر مسألة نسبية وليست مسألة حقيقة.

 الجواب الثاني: الجواب العلمي.

الكون كله يتحرك لا شيء ثابت ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] هناك حركة عرضية مثل حركة الإلكترون حول النواة الذرية، وهناك حركة جوهرية مثل حركة الوجود كله في صميم ذاته وفي صميم نفسه.

الحركة الجوهرية للوجود تقوم على التزاوج بين الأضداد، لو لم يكن هناك أضداد لبقي الوجود ساكناً لا يتحرك، حركة الوجود تعتمد على التزاوج بين الأضداد، مثلاً كل مادة تحتوي على مادة ومادة مضادة، كل وجود مادي يحتوي على مادة ومادة مضادة عنصر موجب وعنصر سالب، ولذلك فسَّر بعض العلماء الآية المباركة بهذا المعنى ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [الذاريات: 49] ولو لا هذا التزاوج لما تولدت القوة النووية، ولو لا القوة النووية في الكون لما تحرك فلك ولا مجموعات شمسية ولا سار الكون بهذه المسيرة ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40]

الكثافة واللطافة أضداد، هناك موجودات في غاية اللطافة مثل الموجات الطويلة وهناك موجودات في غاية الكثافة مثل النجوم النيوترونية كالثقوب السوداء التي تبتلع الكواكب إذا اقتربت منها، هناك تزاوج بين وجودات في غاية اللطافة ووجودات في غاية الكثافة ولو لا هذا التزاوج بين الضدين ما سارت حركة الوجود.

هناك نجوم تتمدد دائماً وهناك نجوم تنكمش ولذلك يقول: ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ [البقرة: 245] ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات: 47] هناك تمدد وهناك قبض ولو لا هذا التزاوج بين الضدين حركة القبض والبسط من جهة أخرى لما استقرت مسيرة الوجود.

هناك موت وحياة، الإنسان في كل لحظة تموت منه آلاف الخلايا وتحيا فيه آلاف الخلايا، الإنسان يعيش موت وحياة في كل لحظة تمر عليه ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19] ويقول تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] إذن تزاوج بين الموت والحياة، بالنتيجة الضد يظهر حسنة الضد، لولا الظلام ما عرفنا النور، ولو لا الألم لم نذق اللذة، ولو لا الفقر لم يكن للغنى قيمة، ولو لا الحر لم نعرف معنى البرد، كل الوجود قائم على التزاوج بين الأضداد ولو لا التزاوج بين الأضداد ما سارت حركة الوجود وما انتظمت مسيرة الوجود، هذا هو السر في وجود هذه الأضداد التي أنت تعتبرها شرور وهي في الواقع خير ضروري لانتظام مسيرة الوجود.

الشمس باطنها موت ولا يستطيع أحد الاقتراب منها لأنها تعيش آلية الاندماج النووي ولكنها مصدر الحياة على الأرض، هذه الشمس التي هي عنصر قاتل تبتلع من يقترب منها هي مصدر حياة وخير على الأرض، لولاها لمات كل ما على الأرض، إذن هناك تزاوج بين الأضداد.

 الجواب الثالث: الجواب العرفاني.

العرفاء عندما ينظرون إلى قوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ «26» وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ «27» [الرحمن: 26 - 27] يقولون صفات الله تنقسم إلى جلال وجمال، جمال عبَّر عنه بإكرام، وجلال عبَّر عنه بالجلال، كل صفة يمتاز بها الله عن خلقه فهي صفة جلال قاهر عزيز جبار، هذه صفات يمتاز بها عن خلقه فهي صفة جلال وكل صفات يتصل عبرها بخلقه تعتبر صفة جمال، خالق، رازق، محيي، مميت، معطي، هذه صفات جمال ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر: 23] جَمَعَ بين صفات الجلال والجمال، ما هو الهدف من التنوع بين الجلال والجمال؟

الهدف هو ربط الإنسان بالله، هناك مجموعة من البشر ترتبط بالله من خلال صفة الجمال، إذا أدركت جمال الله ونعمه ورحمته وعطائه انجذبت إليه فعبدته بدافع الحب والشكر ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، وهناك قوم إذا رأوا صفات الجلال من العزة والجبروت والملك عبدوا الله بدافع الرهبة والخشوع والخضوع، فجعل له صفات جلال ليعبده بعض عباده بالخشوع، وجعل له صفات جمال ليعبده بعض عباده بالحب والشكر، إذن العباد ينطلقون نحو الله بالعبودية إما بدافع الجلال أو بدافع الجمال.

والشرور هي مظاهر لصفة الجلال، الكوارث، والزلازل، والأوبئة، إنذار، وعيد، كل هذه مظاهر لصفة الجلال عنده، وعندما تنظر للأرض الخضراء والربيع وأزهاره واعتدال الأجواء فهذه مظاهر لصفة الجمال، كل من الصفتين لها أثر على الإنسان صفة الجلال تربط الإنسان بالله من خلال الخضوع والخشوع، وصفة الجمال تربط الإنسان بالله من خلال صفة الحب والشكر، إذن لنفترض الشرور موجودة وكلام الفلاسفة غير صحيح، فالشرور أضداد للخيرات ولو لا التزاوج بين الأضداد وهي الشرور والخيرات لما انتظمت مسيرة الوجود، وكذلك نقول في الجواب الثالث: الشرور مظهر لصفة الجلال، كما أن الخيرات مظهر لصفة الجمال، ولولا هذا التنوع بين الصفتين لما اتجه الخلق إلى الله تارة بدافع العبودية والخشوع والخضوع، وتارة بدافع الحب والشكر ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [البقرة: 152]

 الجواب الرابع: الجواب الإيماني.

وجود الشرور يحقق آثار تربوية مهمة جداً، الشرور على قسمين: شرور اختيارية، وشرور قهرية، شرور اختيارية وقد مثلنا له سابقاً بمثال يركز عليه الملحدون، وهو قولهم انظروا إلى مستشفى سرطان الأطفال، وُلِد الطفل وهو مصاب بمرض قاتل، أو وَلِد وهو سليم ولكن بعد مدة وهو طفل رضيع أصيب بمرض قاتل هل هذا الشر من الله أم من العبد؟ بالطبع هومن العبد، لو لا أن أباه مريض واتصل بأمه لما سرت إليه الأمراض الوراثية، لم يأتي من الله تبارك وتعالى، الأب باختياره وبإرادته اتصل بها، وباختياره وبإرادته صار سبباً في انتقال الأمراض الوراثية المزمنة إلى ولده، رجع الشر إلى سبب اختيار صادر من إنسان.

ولما تكون الأم سليمة والأب سليم ولكن قد تكون هذه المرأة عَرَّضت نفسها لأشعة معينة ونتيجة هذه الأشعة أصبح الجنين مصاب بمرض قاتل، هي باختيارها وإرادتها دخلت وعرضت نفسها لهذه الأشعة، ونتيجة هذا العمل الاختياري أصيب هذا الطفل بالمرض.

وقد يكون الطفل ولد سليماً، لكن أبويه سافرا معه إلى بلد ملوث، نقلاه إلى منطقة ملوثة، أو مرض الطفل فسقاه أبواه دواء له آثار سلبية وخيمة، فأصبح الطفل مريضاً، فنشأ المرض والضرر من سبب اختياري يرجع لأبويه، قد يقول أحدهم هم لا يعلمون بذلك الضرر، إلا أن العلم وعدم العلم لا ينافي الاختيار.

أحدهم قتل شخص آخر، فهذا الشخص باختياره وإرادته قتل الشخص الآخر، قد يقال أنه قتله بغير عمد أصابه في حادث سيارة مثلاً عن غير قصد بالنتيجة هي عملية اختيارية، فهذا الشخص خرج بسيارته في هذا الوقت باختياره، وذاك المقتول خرج في هذا الوقت إلى الشارع العام باختياره، فيرجع الشر إلى عملية اختيارية محضة من قِبَل الإنسان وحق الإنسان ومن داخل الإنسان وإن كان الإنسان لا يعلم بعواقبه، لا أن هذا شر قهري.

والقسم الثاني وهو الشر القهري الذي لا اختيار للإنسان فيه، مثل حدوث الزلازل والبراكين، أو انتشار الأوبئة، فهذا بدون سبب اختياري بالنتيجة هي سبب قهري، أسباب غير اختيارية قهرية لا مجال لاختيار الإنسان فيها، ولها أهداف:

  • الهدف الأول: استفزاز قدرة الإنسان أي أن الإنسان إذا اطلع على أن هناك وباء منتشر، فإن اطلاعه على ذلك يستفز قدرته فيضطر إلى أن يخترع دواء، يضطر إلى أن يخترع أساليب وقاية، يضطر إلى أن يحمي بلده ومنطقته وأهله ونفسه بأساليب متنوعة، أي أن الشر استفز قدرتك وحرك فيك قدرة الإبداع وقدرة العطاء، الشر أصبح له أثر تربوي عملي على سلوكك وحياتك لأنه حولك إلى إنسان منتج ومبدع، ولو لم تخف الشر لعشت كسولاً نائماً على الوسادة الناعمة، لكن الشر حرك فيك القوة الإبداعية، وهذا هدف تربوي من أهداف وجود الشرور.
     
  • الهدف الثاني: أن الشرور تصقل الإرادة عند الإنسان، هناك فرق بين الإنسان المترف والإنسان الذي يعيش الصعاب في حياته، الإنسان المترف لا يعيش إرادة قوية، الإنسان المترف لا يعيش قوة التحدي للحياة لأنه اعتاد على الترف وعلى السلاسة والوسادة الناعمة، بينما الإنسان الذي ذاق أمراض وصعاب واضطهاد ويُتْم وذاق أي وسيلة من وسائل الاستضعاف والنقص تصقل إرادته ويكون له إرادة حديدية وتحدي ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] الذين استغلوا الظرف واستثمروا الظروف وبنوا على قوة الإرادة والصبر والتحدي ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ «156» أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «157» [البقرة: 156 - 157] وقال تبارك وتعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا «1» إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا «2» [الإنسان: 1 - 2] الإنسان لابد له أن يبتلى وأن يمر بالابتلاء حتى تقوى إرادته ومشاعره، لابد أن يمر بفترة ابتلاء واختبار، ورد في الحديث: ”إن الله إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً“ وفي حديث آخر: ”إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه“

فالهدف من وجود الشرور ابتلاؤك والهدف من ابتلائك تقوية إرادتك، والهدف من تقوية إرادتك أن تكون إنساناً صانعاً للحياة والعطاء والإبداع لأنك قوي الإرادة ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] وهكذا كان الأئمة الهداة صلوات الله وسلامه عليهم ذاقوا صعوبة الحياة ومرارتها، ذاقوها فتحملوها فكانوا أبطالاً ونجوماً في مجال قوة الإرادة وقوة التحدي.