أمسية شهيد القرآن

1443-09-08

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية التي تدعونا للتدبر في كتاب الله نتناول التدبر في ثلاثة مواطن من مضامين القرآن الكريم:

 الموطن الأول:

تناول القرآن الكريم حقيقة القرآن تارة بعنوان الإنزال وأخرى بعنوان التنزيل، وقال تبارك وتعالى في بعض آياته ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1]، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3]، وقال في آية أخرى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] وفرَّق كثير من المفسرين والعلماء بين صورة الإنزال وصورة التنزيل، وذلك لأن القرآن الكريم نزل على النبي المصطفى بنحوين وطورين، نزل عليه دفعة واحدة في ليلة القدر، فملأ نوره قلب النبي ، نزل القرآن بتمام معانيه ومضامينه على قلب النبي في ليلة القدر، قال تبارك وتعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195]

ثم بعد ذلك أصبح ينزل القرآن مرة أخرى بشكل تدريجي حسب المناسبات، حسب الظروف، حسب الأوضاع المستجدة، كان ينزل القرآن جواباً عن سؤال، دفعة لشبهة، تقريراً لحكم إلهي أمراً ونهياً، لذلك عبَّر عن ذلك النزول التدريجي لمدة ثلاث وعشرين بأنه تنزيل، فقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]

فالقرآن كان مستودعاً ومختزناً في قلب النبي المصطفى قبل أن ينزل بشكل تدريجي حسب المناسبات والظروف، والذي يعبّر عن هذه الحقيقة أن القرآن كان مختزناً في قلبه عدة آيات ترشد النبي إلى الانتظار للنزول التدريجي، مثلاً قوله تعالى ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114] كان القرآن مختزناً عنده لكنه أُمر بأن لا يعجل ببيانه حتى ينزل عليه وحيه بشكل تدريجي، وقال في آية أخرى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ «19» [القيامة: 16 - 19]

 الموطن الثاني:

الفرق بين الإحكام والتفصيل، عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1]، وقال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7]

عندما نأتي لتحليل معنى هذه الآية المباركة ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أي أن القرآن مر بمرحلتين: مرحلة إحكاميه، ومرحلة تفصيلية، فمرحلة الإحكام هي عبارة عن وضع الأسس والخطوط العامة والقواعد العامة، القرآن دستور للبشرية إلى يوم القيامة، ومن أجل أن ينتظم القرآن دستوراً للمجتمع البشري إذن مقتضى الدسترة أن يمر بهاتين المرحلتين: المرحلة الأولى القواعد والخطوط العامة التي ينطلق منه تشريع القرآن، والمرحلة الثانية التفاصيل والآيات التي تتعرض للأحكام والقوانين بشكل تفصيلي استناداً إلى الخطوط العامة والمبادئ العامة المذكورة في القرآن الكريم.

لذلك الآية الأخرى وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] ﴿أُمُّ الْكِتَابِ أي هذه الآيات المحكمات تشكل قواعد الكتاب، تشكل مبادئ الكتاب، تشكل أسس الكتاب، إذن هي أم الكتاب، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ الآيات المتشابهة هي الآيات التي تتعرض لتفاصيل القرآن وتفاصيل الأنظمة والصفات مثلاً قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] آية محكمة تصف الله تبارك وتعالى بأنه لا يماثله شيء؛ لأنه الوجود الأزلي الأبدي اللامحدود فلا يماثله شيء، آية محكمة وتعتبر قاعدة وخطاً عاماً في القرآن الكريم، ولكن عندما نستمع إلى آيات تتحدث عن تفاصيل تتعلق بالله تبارك وتعالى مثلاً قوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10]، ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] تتحدث عن مجيء، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] إذن الآيات التي تتحدث عن التفاصيل ينشأ منها الاشتباه هل أن الله له يد، هل أن الله له مجيء، هل أن الله له استواء وغير استواء، لأنها آيات تتحدث عن التفاصيل فأصبحت منشأ للتشابه والإبهام؛ لذلك تسمى آيات متشابهات.

هذه الآيات المتشابهات لا يمكن فك ألغازها وفهم معانيها ومضامينها إلا بإرجاعها للآيات المحكمات، التفاصيل تُرجع إلى الخطوط العامة ليُعرف معناها وواقعها وهذا ما يعبَّر عنه بعملية التأويل ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] تأويل الآية يعني إرجاعها إلى الآيات المحكمات من خلال المقارنة بينها وبين الآيات المحكمات ليعرف معناها ويعرف مضمونها الذي هو عملية التأويل.

 الموطن الثالث:

هناك آيتان أمرتا بالتدبر، الآية الأولى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] والآية الثانية: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] التدبر على ثلاثة أنواع: تدبر روحي، تدبر فكري، تدبر تربوي عملي.

التدبر الروحي ثلث القرآن الكريم يتحدث عن النفس البشرية وأطوارها وألوانها، يتحدث عن المقارنة بين الدنيا وبين الآخرة، يتحدث عن وصف يوم القيامة وأهواله وأطواره، يتحدث عن الفرق بين النعيم والجحيم، هذا الثلث من القرآن هو مادة خام للتدبر الروحي، هناك أكثر من ثلث القرآن الآيات التي تأمر بالتفكير في خلق السماوات والأرض وما حول الإنسان، إطلاق حركة العقل للتفكير والتأمل ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] هذه الآيات تعتبر مادة خام للتدبر الفكري.

نذكر مثال يجمع بين التدبر الروحي والتدبر الفكري عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] هنا يمتزج التدبر الروحي بالتدبر الفكري، ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ كيف يكون الناس وقوداً للنار، النار تشتعل بمواد معينة وتتأجج ما دامت هذه الماد حاضرة لكن كيف يكون الناس أنفسهم وقوداً للنار، ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ الحجارة كما تعرفون من الأجسام الرديئة التوصل للحرارة، الحجر يكتسب الحرارة ببطيء ولكن لا تنفك عنه الحرارة إلا ببطيء أيضاً، فالحرارة في الحجر أشد من الحرارة في الحديد؛ لأن الحجر لا يفقد الحرارة بشكل دفعي وإنما بشكل بطيء ويكون عاملاً في انسلاخ الجلود أشد من أي جسم آخر.

وكيف يكون الناس وقوداً، من هنا إذا نعود للقرآن الكريم نجد أن القرآن الكريم يقسم الناس إلى إنسان نوري وإنسان ناري، هناك إنسان هو نوري كما يقول عنه القرآن الكريم: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم: 8] هؤلاء نور في قلوبهم، نور في عقولهم، نور في سلوكهم، تحفُّ بهم الأنوار من كل جهة ومن كل مكان، هؤلاء في الدنيا أنوار وفي الآخرة أنوار، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وهناك إنسان ناري قلبه مملوء حقداً وضغينة وحسداً، سلوكه مملوء تحاملاً وغيبة واعتداء، تراه إنساناً لا يعيش ارتياحاً واطمئناناً، يعيش قلقاً وكآبة، يعيش نقمة، فهناك فرق بين الإنسان النوري الذي هو نفس مطمئنة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27] وهناك الإنسان الناري الذي يعيش قلقاً وكآبة وحقداً وضغينة ولا يستقر على حال، ولذلك اعتبر القرآن النفاق مرضاً قال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] إذن هذا الإنسان النوري كيف علاقته بالله يقول القرآن الكريم: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] كلامه طيب، عمله صالح، كلامه يصعد، عمله الصالح يرفعه إلى مستويات عليا في رضوان الله تبارك وتعالى، وأما الإنسان الناري يقول عنه القرآن الكريم: ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه: 81] الناري يهوي والنوري يصعد، الإنسان الناري هو في حالة نزول وهوي، وفي حالة اندحار إلى أن يصل إلى الجحيم، فإذا وصل إلى الجحيم أصبح وقودها، هذا الإنسان هو في الدنيا قطعة من النار فكيف بالآخرة، هو في الدنيا نقمة على المجتمع فكيف بالآخرة، هذا الإنسان قطعة من النار يجيء في الآخرة ومكانه جاهز في النار؛ لأنه يتحول إلى وقود لنار جهنم، إذن من هنا نفهم أن هذه الآية المباركة تشتمل على تدبر روحي وتدبر فكري بالفرق بين الإنسان النوري والناري.

أما التدبر التربوي العملي هو أن يعيش القرآن في بيوتنا وفي قلوبنا، ففي هذا العصر ابتعد الكثير من المسلمين عن القرآن، فإذا قورن زماننا هذا بزمان آبائنا وأجدادنا كيف كان شهر رمضان في بيوتهم وفي خلواتهم، بيوتاً للقرآن ومواطن لشعاع القرآن، لقد كان القرآن ربيعاً للمؤمنين في قلوبهم وعقولهم، لا تمر بمكان في شهر رمضان إلا وتسمع تلاوة القرآن وصوت القرآن وإصغاء الناس للقرآن وتهافتهم وتسارعهم على تلاوة القرآن وترتيله، كان القرآن نوراً وحياة يجذب قلوب الجميع إليه، ولكن أصبح القرآن زينة في بيوتنا، أصبح القرآن منظراً يراه أبناؤنا منعزلاً عن حياتهم وأجوائهم، أجيالنا وأبناؤنا اليوم لا يعيشون حباً للقرآن، ولا يعيشون رغبة ونزوعاً نحو قراءة القرآن، يشعرون أن قراءة القرآن أمر ثقيل على أنفسهم لأن بيوتهم لم تعش صوت القرآن، لأن البيوت لم يشع فيها صوت القرآن ونور القرآن، ورد عن النبي محمد : ”إن البيت الذي يُقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة، تهجره الشياطين، يضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدري لأهل الأرض“ البيت الذي يملأه نور القرآن مأوى الملائكة، مأوى الأنوار، ترصده الملائكة بالأنوار، بينما البيت المظلم الذي لا يُر فيه نور القرآن بل تجد فيه أصواتاً أخرى ونغمات أخرى يذكرها الحديث النبوي ”وأما البيت الذي يعزف فيه القيان تهجره الملائكة وتحضره الشياطين“ هكذا أصبحت بعض بيوتنا خصوصاً في شهر رمضان، لا تسمع فيها إلا صوت الموسيقى وشاشة التلفاز والإقبال على الأفلام والمسلسلات المتنوعة، ولا يُر ولا يسمع ولا ينظر إلى صوت القرآن ونور القرآن.

القرآن مغيب عنها وبالتالي فمن الطبيعي أن ينشأ الأجيال وهم في بعد عن القرآن لا يألفونه ولا يستسيغونه ولا يُقْبِلون عليه لأن بيوتهم لم تعش القرآن منذ البداية، من هنا مقتضى التدبر في القرآن ليس فقط أن نتأمل في آياته بل التدبر فيه تدبراً سلوكياً عملياً أن نملأ بيوتنا بصوته، وأن نجلب قلوب أطفالنا إليه، أن نعودهم على أنهم إذا جلسوا مستيقظين بعد الفجر أن يسمعوا صوت القرآن من الأب أو من الأم، ولا أقل من الجهاز الذي يتلو صوت القرآن الكريم حتى يعيشوا نداء القرآن ونور القرآن، ولقد ورد في الحديث الشريف: ”إن درجات الجنة بعدد آيات القرآن، حيث يقال اقرأ وأرقى؛ فكلما قرأ آية رقى درجة“ وفي بعض الروايات الشريفة: ”من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ عشرين آية كُتب من الذاكرين، ومن قرأ ثلاثين آية كُتب من القانتين، ومن قرأ خمسين آية كُتب من الخاشعين“ إذن قراءة القرآن من أجل تحفيز الأجيال على الارتباط بصوت القرآن من أهم مواطن رسالة القرآن ومن أبلغ صور التدبر والارتباط بالقرآن الكريم.