هل الاعتماد على القضايا الغيبية سبب تخلّف المسلمين؟

1444-01-01

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الم «1» ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ «2» الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ «3» [البقرة: 1 - 3]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة التي اعتبرت أن من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، وفي آية أخرى ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 94]، هناك شهادة وهناك غيب في هذا العالم الذي نعيش فيه عالم المادة، فهل نحتاج وراء هذا العالم إلى عالم آخر اسمه الغيب؟ قد يقول الإنسان نحن لا نحتاج إلى الغيب، نحن نمتلك في هذا العالم وسائل العيش ووسائل الرزق، ووسائل تطور الحياة، ووسائل التقدم التكنولوجي، ووسائل السيطرة على الفضاء، نحن نمتلك كل شيء فلا نحتاج إلى شيء اسمه الغيب، لا نحتاج إلى عالم آخر اسمه عالم الغيب، فكيف نجيب عن هذا السؤال؟

هنا محاور ثلاثة:

  • علاقة عالم المادة بعالم الغيب.
  • ما هو تعريف الغيب.
  • ما هي حاجة الإنسان إلى الغيب؟
 المحور الأول: علاقة عالم المادة بعالم الغيب.

علاقة عالم المادة بعالم الغيب تكمن في قانون الحركة، فما هي الحركة وما هي علاقة الحركة بالمتحرك والمحرك؟

هذا الوجود الذي نحن نعيش فيه بأجرامه السماوية، وبنباتاته وأرضه له نوعان من الحركة: حركة ظاهرية وحركة جوهرية.

الحركة الظاهرية: وهي حركة الالكترونات حول نواة الذرة، ففي الفيزياء أن الذرة بحسب النموذج المعياري تتكون من عدة جسيمات، الكترونات وهي جسيمات ذو شحنة سالبة، وبروتونات وهي جسيمات ذو شحنة موجبة، ونيوترونات وهي جسيمات لا شحنة لها، النيوترون والبروتون يشكل نواة للذرة والإلكترون يدور في مدارات حول هذه النواة، كل شيء تضع إصبعك عليه الحجر، الفراش، الملعقة، كل شيء هو يعيش حركة، حركة الإلكترون حول نواة الذرة، ولا توجد ذرة في هذا الكون إلا وهي تعيش الحركة في أعماقها، حركة الإلكترون حول نواة الذرة، إذن كل الوجود يعيش حركة دائبة، هذه تسمى بالحركة الظاهرية.

أما الحركة الجوهرية «الباطنية» فتتبين بالفرق بين الفيزياء التقليدية والفيزياء الحديثة، فقبل خمسين سنة الفيزياء التقليدية تقول أن الوجود يتكون من جماد ونبات وإنسان وحيوان، وكل موجود له أبعاد أربعة: طول، عرض، عمق، وزمن، إذن الوجود أجزاء وأشياء مستقلة، يعني النجوم لا علاقة لها بالإنسان، الجبال لا علاقة لها بالإنسان، الإنسان وجود، والجبل وجود، والنجم وجود، وهذه أشياء مستقلة لا علاقة مع بعضها البعض، هكذا الفيزياء التقليدية تشرح الوجود.

أما الفيزياء الحديثة «فيزياء الكم» تقول أن ذلك كله شعور فقط وليس له واقع، أنت لأنك تعيش حواس خمس تشعر أن الأشياء مستقلة، هناك أشياء تدرك بالبصر، وهناك أشياء بالسمع، وهناك أشياء باللمس، أنت لأنك تعيش تفكك وحواس مختلفة تشعر أن الأشياء مختلفة وهذا ليس صحيحاً، الفيزياء الحديثة «الكم» تقول الوجود الذي نعيش فيه له أبعاد ثلاثة:

البعد الأول: الاتصال.

وذلك يعني لا تتصور أن الجبل مستقل عنك، أو النجوم مستقلة عنك، الإنسان والجبل والشجر والنجوم والكواكب كل الوجود كتلة واحدة، كتلة واحدة متصلة بعضها بالبعض الآخر، ليس الوجود مفكك لأجزاء وأشياء مستقلة، النجوم تؤثر فيك، حركة الأرض تؤثر فيك، أنت مؤثر ومتأثر، كل الوجود كتلة واحدة متصلة، لا يمكن أن تقول الالكترونات هي المبدأ ثم يأتي بعدها شيء آخر، كل موجود تضع يدك عليه هو يعيش حركة الالكترون، لا يوجد مبدأ تقول هذا المبدأ وهذا هو المنتهى، الوجود هو وجود واحد متصل بعضه بالبعض الآخر، صحيح أنك تشعر أن الوجود مستقل ولكنه في الواقع كتلة يتأثر بعضها بالبعض الآخر.

البعد الثاني: الحركة.

لا يوجد شيء لا يتحرك، حتى الجبل الأصم يتحرك، كل وجود مادي يعيش حركة لأن كل وجود يعيش حركة الإلكترونات حول نواة الذرة، وهذه الحركة حركة ظاهرية تكشف عن حركة أعمق، لولا أن هناك حركة أعمق لما تحرك الإلكترون حول نواة الذرة، حركة الإلكترون حول نواة الذرة مجرد حركة ظاهرية تكشف عن حركة أعمق وتسمى بالحركة الجوهرية، لذلك القرآن الكريم يقول: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88] كلها متحركة، كل الوجود متحرك، أنت تشعر أن هناك شيء ثابت وشيء متحرك لكن الجميع متحرك.

البعد الثالث: أن الحركة تدريجية.

ومعنى الحركة التدريجية أي لا يوجد اللاحق حتى ينعدم السابق، الحركة التدريجية بين وجود وعدم، بين موت وحياة، أمثلة حسية: عندما تتكلم فإن حركة الكلام هي حركة تدريجية أي أنك لا تستطيع أن تقول مثلاً كلمة رسول دفعة واحدة، في آن واحد، لا تقول السين قبل الراء أو اللام قبل الواو، لا يمكن ذلك، كلمة رسول تصدر مني بالتدريج الراء أولاً، فالسين ثانياً، فالواو ثالثاً، فاللام رابعاً، كلمة رسول وجود تدريجي لا يصدر دفعة واحد وإنما يصدر متدرجاً أي ينعدم شيء ويوجد شيء، تنعد الراء فتأتي السين، تنعدم السين فتأتي الواو، هكذا الوجود كله، كل الوجود بنفس كلمة رسول، كل الوجود يعيش حركة تدريجية، وهذه الحركة التدريجية بين موت وحياة، بين وجود وعدم.

هذه الحركة التدريجية هي التي تسمى بالحركة الجوهرية، عندما يقول تبارك وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ «2» [الملك: 1 - 2] البعض يتصور أن الموت هو الموت الذي سيأتينا، ولكن المقصود أن الله خلق حركة بين موت وحياة، الوجود كله يتحرك حركة واحدة بين موت وحياة، مثلاً جسم الإنسان يحيا ويموت في كل لحظة، في كل لحظة تموت آلاف الخلايا وتحيا آلاف الخلايا إلا خلايا الجذع الدماغي فإنها بعد سن السابعة تتوقف عن التغير، أما كل خلايا الجسم هي في حالة تغير وتجدد، تموت مئات وآلاف الخلايا وتحيا آلاف الخلايا، أي أن الجسم دائماً في حالة تغير، فحتى تبلغ خمسين سنة يمكن تعيش سبعين جسم أو ثمانين جسم لأنه يتغير ويتجدد، الجسم يعيش حركة بين موت وحياة كذلك الوجود كله بسمائه ونجومه وجباله ونباته وبإنسانه، كله يعيش حركة بين موت وحياة، هذه هي حقيقة الحركة أن الكون كله كتلة واحدة متحركة حركة تدريجية.

إذا كان الكون متحرك حركة وجودية تدريجية جوهرية فما هو مصدر الحركة؟

هنا أنقلك إلى حديث عن الرسول محمد ، حديث ينقله الشيخ الطبرسي[1]  عن الرسول يحتج على الدهريين  الدهريون هم الذين يعتقدون بأزلية العالم ما سبقه موت ولا سبقه عدم  يقول لهم: ما تقولون في ما قبلكم من ليل أو نهار؟ أتقولون أنه متناهي أم غير متناهي؟ فإن قلتم أنه غير متناهي فكيف وصلكم آخر ما لا نهاية لأوله! وإن قلتم أنه متناهي فقد كان ولا شيء منهما.

شرح معنى الحديث: أنت الآن في نهار وقبل هذا النهار كان ليل، الليل الذي كان قبل هذا النهار له نهاية أم لا! الطبع له نهاية فلو لم يكن الليل الذي سبق نهارنا نهاية لما جاء النهار، إذن الليل الذي سبق نهارنا له نهاية، فإذا كان الليل الذي سبقنا له نهاية هل كانت له بداية؟ لا يعقل أن يكون شيء له نهاية وليست له بداية، فبما أن الليل الذي سبقنا له نهاية إذن لهذا الليل بداية وهكذا.. ليل قبله نهار، ونهار قبله ليل، إلى أن تصل إلى نقطة هي البداية.

هذا الاستدلال الذي ورد عن الرسول نحن نطبقه على الحركة، الكون كله كتلة متحركة، هذه الحركة هل لها نهاية أم لا؟ طبعاً العلم يقرر أن الكون له عمر سيفنى يوم من الأيام، هذا الكون وهذه الكتلة المتحركة لها عمر ستنتهي يوماً من الأيام، وبما أن الكون له نهاية إذن له بداية، أيعقل أن يكون للشيء نهاية وليست له بداية! إذن له بداية، والعلم يقرر ذلك.

نقطة التفرد قبل ثلاثة عشر مليار سنة بدأ الانفجار العظيم وبدأ الكون بحسب التقرير العلمي في نظرية الانفجار العظيم، نقطة التفرد انبثق منها الانفجار العظيم وتحول إلى وجود وكون ونجوم وكواكب... إلخ

نقطة التفرد كيف انفجرت وكيف تحول الانفجار إلى كون؟ عبر الحركة، فلو لم يكن لنقطة التفرد حركة لما حصل الانفجار، ولو لم يكن الانفجار ما حصل الكون، إذن مبدأ الانفجار حركة، ولو لم تكن هناك حركة لما وجد هذا الكون بأسره.

نرجع إلى القول تلك الحركة التي اكتسبتها نقطة التفرد فأصبحت انفجاراً وأصبحت كوناً من أين اكتسبت الحركة؟

هنا نأتي للسؤال الأول: الكون انفجار من نقطة، وتلك النقطة ببركة الحركة تحولت إلى هذا الانفجار، نقطة التفرد لم تصنع الحركة وإنما اكتسبتها إذن من أين جاءتها الحركة؟ تلك الحركة ما هو مبدأها؟

إذن هناك مصدر للحركة، مصدر ثابت أعطى الحركة لنقطة التفرد فتحولت ببركة الانفجار إلى هذا الكون العظيم، إذن الحركة لها محرك ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء: 30]

إذن علاقة الكون بالغيب وهو الله علاقة الحركة بالمحرك، هذا الكون حركة له محرك، مصدر الحركة هو ما نسميه غيب، وهو ما نسميه الله تبارك وتعالى.

هذه الحركة لا تنقطع إذن مصدر الحركة لا ينقطع، مصدر الحركة دائم، والحركة تحتاج إلى هذا المصدر في كل آن، لأنها حركة بين موت وحياة، لأنها حركة بين فناء ووجود، لأنها حركة متجددة، فهي في كل آن تحتاج إلى المصدر مثل الطاقة الكهربائية، هذا النور هناك طاقة لولا أنها تمده في كل وقت ينقطع الكهرباء، أيضاً هذا الكون حركة ولهذه الحركة مصدر لو انقطع ذلك المصدر عن المدد لانتهى الكون كله، فإن الحركة التدريجية بين موت وحياة تحتاج إلى محرك دائم يمدها بالحركة في كل آن ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9]

حاجة الوجود إلى الغيب حاجة المتحرك إلى مصدر الحركة، لا يمكنك أن تعيش في الكون لأن الكون حركة، ولا يمكن أن تصدر هذه الحركة وتستمر لو لم يكن لها مصدر، ومصدر الحركة هو الغيب، فالحاجة إلى الغيب حاجة الحركة إلى المحرك.

 المحور الثاني: ما هو تعريف الغيب؟

الغيب هو وجود الله الذي معنا في كل آن وفي كل مكان ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] كيف يكون الله معنا ونحن لا نشعر به ولا نحس به ولا نلمس ولا نتذوق ولا نناله بإحدى الحواس الخمس؟ كيف يكون وجود الغيب مصاحب لوجود المادة لوجودنا ونحن لا نشعر به، لو كان شيئاً لشعرنا به؟!

كثير من يقول لو كان الله موجوداً لأحسسنا به، ولكن ليس كل ما هو موجود تناله الحواس الخمس، الإنسان لعجزه وقلة معرفته يعتبر أن كل شيء يصل إليه بالحواس الخمس وإذا لم يصل إليه بالحواس الخمس إذن لا وجود له، علمياً هذا اعتقاد خاطئ؛ لأنه ليس كل موجود يمكن أن تصل إليه بالحواس الخمس، مثلاً أنت الآن تؤمن بمشاعر أمك فهل تستطيع أن تصل إلى مشاعر أمك بالحواس الخمس؟ لا يمكن ذلك، أنت ترى آثار حب الأم ولا تصل إلى حب الأم نفسه، حب الأم يعيش عند الأم وليس عندك أنت تدرك أثر الحب من خلال المعاملة الجميلة التي تعاملك بها، تؤمن أن الأم تحبك وأن في الأم مشاعر تجاهك، إذن أدركت وجود المشاعر مع أنك لم تصل إليها بالحواس الخمس وإنما أدركت وجودها عبر أثرها.

يأتي خطيب يتحدث عن المنبر أنت تؤمن أن هذا الخطيب لديه فكر وهو أتى ليشرح هذا الفكر ويبينه أنت لا تستطيع أن تصل إلى نفس الفكر بحواسك الخمس وإنما تصل إلى أثره وهو الكلام والبيان، فليس كل شيء ينال بالحواس الخمس وإنما ينال أثره لا أنه ينال نفسه، ولذلك ورد في القرآن الكريم: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] التسبيح موجود ولكنك لا تصل إليه بالحواس الخمس.

نحن نؤمن بالموت وبما بعد الموت، هل يمكن أن نصل لعالم ما بعد الموت بإحدى الحواس الخمس؟ لا يمكن، لأننا محدودون بزمن ومكان فلا نستطيع أن نتجاوز الزمن والمكان، قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ «19» وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ «20» وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ «21» لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «22» [ق: 19 - 22] الغطاء هو الزمان والمكان، أنت لا تستطيع أن تتجاوز الزمن والمكان، الزمن يقسرك ويحدك ولا تستطيع أن تتجاوز الزمن، ولا تستطيع أن تعيش زمانين في لحظة واحدة، فإذا كنت في العاشرة فأنت لست في التاسعة ولست في الحادية عشر، الزمن يحدك قهراً عليك وكذلك المكان يحدك، لا تستطيع أن تعيش في مكانين في آن واحد، تعيش في مكان واحد وزمن واحد، الزمن والمكان هو الغطاء، إذا مات الإنسان تحرر من الزمن والمكان، فإذا تحرر منهما انكشف له عالم ما بعد الموت، عالم الأرواح والأشباح والملائكة والجن وأصناف من المخلوقات، بمجرد أن يغمض الإنسان عينه بالموت يرى عالم غريب وأصناف ما رآها ولا أبصرها ولا أدركها ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «22» إذن أنت تؤمن بما بعد الموت لكن لم تنله بالحواس الخمس.

هنا نطبق نفس النظرية بالنسبة إلى وجود الله عزوجل، وجود الله مع وجودك، لا ينفصل عن وجودك ولكن أنت لا تدركه بالحواس الخمس لأنك محدود بالزمن ووجوده لا يحده زمان، لأنك محدود بالمكان، ووجوده لا يحده مكان، فلا يمكن للمحدود بالزمن والمكان أن يدرك وجوداً لا يحده زمن ولا مكان، مثال: السمكة في البحر لا تعرف البحر، إذا خرجت من البحر عرفته، الأشياء تعرف بأضدادها لو كان الوجود كله نور ما عرفنا النور، لكن لأن النور يعقبه ظلام عرفنا النور، لو كان الوجود كله حياة ما عرفنا الحياة لكن لأن الحياة معها موت عرفنا الحياة، السمكة لا تعرف الماء حتى تخرج منه، كذلك الإنسان، الله معنا، وجوده مع وجودنا ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] مع أنه معنا في كل زمن وفي كل مكان لكن لا ندركه، لأننا في الزمن لا ندرك إلا الوجود الذي يحده الزمن، لأننا في المكان لا ندرك إلا الوجود الذي يحده المكان فلا يمكن أن ندرك الوجود الذي لا يحده زمان ولا مكان وهو وجود الله تبارك وتعالى، هذا هو الغيب الحقيقي وهو الله تبارك وتعالى.

 المحور الثالث: ما هي حاجة الإنسان إلى الغيب؟

حاجة الإنسان إلى الغيب تعويض النقص بالكمال، الإنسان نقص مهما امتلك من أموال أو طاقة بدنية أو طاقات فكرية إلا أن الإنسان يعيش نقصاً حاداً، ورد عن أمير المؤمنين : >ما لابن آدم والفخر وإنما أوله نطفة وآخره جيفة< الإنسان محدود بين قذارتين: قذارة النطفة وقذارة الجيفة، الإنسان كله نقص، علمه ناقص، قدرته ناقصة، حياته ناقصة، أفكاره ناقصة، يعيش النقص في كل جوانبه، إذا أدرك الإنسان نقصه أدرك الله تبارك وتعالى، ولذلك ورد عن الرسول محمد : >من عرف نفسه فقد عرف ربه< من عرف أنه نقص عرف أن هناك كمال، وهو يستمد الكمال من مصدر الكمال، يستمد الكمال الذي يعوض النقص من مصدر الكمال ألا وهو الله تبارك وتعالى، لذلك قال إبراهيم الخليل ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] وقال كما نطق القرآن عنه ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162] كل أموري بيد الله وكل علاقاتي مع الله تبارك وتعالى، حاجة الإنسان إلى الغيب هو حاجة تعويض النقص بالكمال، تعويض الشعور بالنقص بالشعور بالكمال، يقول القرآن الكريم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]

الحسين بن علي الذي نحن نعيش أيامه ورحابه عليه الصلاة والسلام أظهر لنا تعلق النقص بالكمال، وحاجة النقص إلى الكمال من خلال دعاء عرفة الذي نقرأه كل سنة، يعلمنا حاجة الإنسان إلى الغيب، لاحظوا هذه المقارنة التي يطرحها الإمام الحسين في دعاء عرفة عندما يقول: «أنت الذي أجملت، أنت الذي أنعمت، أنت الذي أفضلت، أنت الذي أحسنت، أنت الذي أعطيت، أنت الذي أغنيت..... وأنا المعترف بذنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أسأت، أنا الذي أخطأت، أنا الذي عملت، أنا الذي اعتمدت، أنا الذي تعمدت، أنا الذي فعلت، أنا الذي تركت...» أي أنا نقص وأنت كمال، وحاجتي إليك حاجة تعويض النقص بالكمال.

الإمام الحسين يصور لنا حاجة الإنسان إلى الغيب من خلال هذه المقارنة، وهكذا الحسين بن علي سار إلى الكمال منذ ولادته ومنذ طفولته، هو كمال ويتدرج في الكمال، ويسير نحو الكمال صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك إلى آخر لحظات حياته والدم جامد على عينيه قد صبغ شيبته وجسمه وهو يقول: إلهي تركت الخلق طراً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك، فلو قطعتني في الحب إرباً لما مال الفؤاد إلى سواك، اللهم رضا بقضائك وتسليماً لأمرك، يا غياث المستغيثين، هكذا وصل الحسين إلى ربه، وهكذا قلوبنا نحو الحسين مشتاقة نحو زيارة الحسين لأن تلك القبة وذلك المكان حوى الوجود الكامل.

[1]  في كتاب الاحتجاج ص28