كيف نسيطر على ظاهرة القلق والكآبة في نفوسنا؟

1444-01-04

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]

صدق الله العلي العظيم

كل إنسان يحتاج إلى طاقة من الروحانية لأن كل إنسان يحتاج إلى الشعور بالهدوء والاستقرار، والطاقة الروحانية هي التي تغذي الإنسان بالشعور والهدوء والاطمئنان، فماذا تعني الروحانية؟

الروحانية هي الشعور بلذة البعد عن الذات وهمومها ومشاكلها، كلما ابتعد الإنسان عن ذاته ومشاكلها وهمومها شعر بلذة التحرر من الذات، شعر بلذة البعد من الذات، وهذا الشعور هو المعبر عنه بالروحانية.

في 12 يوليو من هذا العام أطلقت وكالة ناسا عن تلسكوب جيمس ويب الفضائي الذي استغرق بناؤه 30 سنة وصُرف عليه أكثر من عشرة مليار دولار، وقطع مسافة عن الأرض حوالي مليون كيلومتر، التقط هذا التلسكوب كما نقلت عنه وكالة ناسا مجموعة من الصور هي الأوضح والأعمق للفضاء الخارجي إلى الآن؛ لأن هذه الصور التي التقطها جيمس ويب تحكي الفضاء قبل مليارات من السنين، أي قبل تكوّن الأرض، فهي تحكي صورة الفضاء بعد بضع ملايين من الانفجار العظيم، وقبل مليارات من السنين، الإنسان عندما يشاهد هذه الصور يصاب بالذهول والدهشة والغرابة، كيف كان الفضاء الخارجي بنجومه ومجراته قبل مليارات من السنين.

هذا الشعور بالذهول والدهشة هو عبارة عن الشعور بالروحانية؛ لأن هذا الشعور يبعد الإنسان عن ذاته، يبعد الإنسان عن مشاكله وهمومه وغمومه، ويحلق بالإنسان إلى عالم آخر، عالم أسمى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ «20» وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ «21» [الذاريات: 20 - 21] إذن الروحانية هي لذة الشعور بالبعد عن المادة والبعد عن الذات.

فهل يمكن للإنسان أن يصل إلى لذة الشعور الروحاني من دون دين ومن دون عبادة؟ هل الروحانية مرتبطة بالدين أم مستقلة عنها؟ من هنا نحن نتناول ثلاثة محاور حول هذه النقطة:

  •  وجود الذات.
  • علاقة الروحانية بالدين.
  • علاقة العبادة بالروحانية.
 المحور الأول: وجود الذات.

هل هناك علاقة بين الدين وبين الروحانية؟

سام هاريس كاتب أمريكي كتب عام 2014م كتاب اسمه «الصحوة»، بلغ هذا الكتاب المرتبة الخامسة من بين الكتب غير الخيالية من حيث الأكثر مبيعاً بحسب نيويورك تايمز، وهذا الكتاب يتلخص في أن الكاتب يريد أن يفكك بين الدين وبين الروحانية، يقول فيه: يمكن للإنسان أن يصل إلى الشعور بالروحانية من دون دين ومن دون عبادة، فكيف يتم ذلك؟

هنا طرح في هذا الكتاب ثلاثة أمور: لغز الذات، لغز الوعي، والربط بين الوعي وبين الروحانية.

الأمر الأول: لغز الذات.

كل إنسان يشعر أن له ذات، كل إنسان يشعر أن له نفس تسمى أنا، وهذه النفس تتموضع في جزء من الرأس والدماغ، لذلك يشعر الإنسان كلما اقتربت الأشياء من رأسه صارت أقرب إلى وعيه وإدراكه، مما يعني أن الإنسان يشعر أن له نفس وذات تسمى أنا، وهذه النفس تقود جسمه كما يقود السائق السيارة.

لكن سام هاريس يقول بأن هذا الشعور خطأ ووهم، فليس للإنسان ذات ونفس، ليس للإنسان ذات وراء أفكاره ومشاعره وميوله، الإنسان هو الأفكار وهو الغرائز وهو الميول، ليس له وراء الأفكار والميول ذات يعبر عنها بكلمة أنا، والشاهد على ذلك أننا إذا استندنا إلى المنهج العلمي «علم الأعصاب، علم النفس» وفتشنا دماغ الإنسان لن نجد منطقة في الدماغ فيها الذات أو النفس بحيث نقول هنا النفس وهنا الذات، سائر عمليات التفكير التي تصدر من الإنسان هي عمليات متوزعة على أجزاء قشرة الدماغ وليست متقوقعة في منطقة معينة أو جزء معين من الدماغ، إذن كيف نقول أن الإنسان له نفس! الإنسان هو مجموعة من الأفكار والغرائز والميول، وليس وراء ذلك شيء يسمى نفس الإنسان أو ذات الإنسان.

الأمر الثاني: لغز الوعي.

يقول: كثير من الناس يعتقد أن له ذات ووعي، ونفسه هي التي تعي أو لا تعي، ولكن هذا الشعور خاطئ ما دام ليس عندنا ذات إذن ليس عندنا إلا وعي، والإنسان هو الوعي وليس هناك ذات، ينبغي أن نفهم لغز الوعي، الوعي حالة لا لون لها ولا شكل لها، ولا مساحة؛ أي عندما يفرح الإنسان لا يعني أن الوعي فرح بل هي حالات تمر على الإنسان، الوعي هو هو فرح الإنسان أم حزن، غضب أم رضي، الوعي لا لون له ولا شكل ولا صورة ولا مساحة؛ لأن الإنسان يحلق بوعيه في عوالم مختلفة وفي علوم متعددة وفي اختصاصات مختلفة.

فينبغي أن نعرف ما هو الوعي وأنه هو حقيقة الإنسان، حتى شعور الإنسان بنفسه عندما يقول أنا فإن هذا الشعور هو صورة من صور الوعي، وهو تجميع لبعض صور الوعي مما يعني أن الوعي أسبق من ما نسميه بالنفس والذات.

الأمر الثالث: الربط بين الوعي والروحانية.

يقول إذا أراد الإنسان أن يصل إلى الروحانية عليه أن يدرك أن لا ذات له، وأنه ليس له إلا الوعي، وكلما تأمل في الوعي وصل إلى درجة من الروحانية.

الإنسان يبصر بعينه، فعندما يأتلف عصب البصر مع شبكية العين تتولد نقطة تسمى البقعة العمياء نبصر بها ولا نبصرها، نحن نرى الأشياء بها لكن لا نراها، ولكن إذا أغمضت عينيك وركزت فيها ترى نقطة في كل عين هي مركز النظر ومركز الإبصار، هذه البقعة العمياء نبصر بها ولا نبصرها، نرى الأشياء بها ولكن لا نراها لأننا لا نركز عليها، الوعي كذلك نحن ندرك الأشياء بالوعي لكن الوعي نفسه لا ندركه، ندرك المكان، ندرك الناس، ندرك أفكارنا عن طريق الوعي أما الوعي نفسه لا ندركه لأننا لا نركز عليه، ولو ركز الإنسان على الوعي بشكل صافي متجرد عن الرواسب الاجتماعية والرواسب الثقافية والرواسب النفسية لوصل إلى حالة من الروحانية والهدوء والاطمئنان والسكينة بلا حاجة إلى دين ولا عبادة ولا صلاة، يمكنه أن يصل إلى الشعور بالروحانية من خلال التركيز على الوعي والتأمل في الوعي.

هذا كلام سام هاريس، ولكن نحن نمتلك ديناً له فلسفة خاصة وله رؤية حياتية وكونية خاصة، يقول أن لكل إنسان نفسٌ وراء الأفكار ووراء الغرائز ووراء الميول، والوعي ما هو إلا صفة من صفات النفس، وحالة من حالات النفس.

أولاً: يقول علماؤنا أن هناك عالمين: عالم خلق، وعالم أمر، يقول القرآن الكريم: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] ما هو الفرق بين الخلق والأمر؟

الخلق هو المادة والمدة، والأمر هو المتحرر من المادة والمدة، كل موجود نضع إصبعنا عليه إذا كانت له مادة وله زمن فهو من عالم الخلق، وكل موجود ليس له مادة ولا يخضع للزمن فهو من عالم الأمر، يقول القرآن الكريم عندما يتحدث عن جسم الإنسان يعبر عنه بالخلق: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14» [المؤمنون: 12 - 14] الجسم من عالم الخلق لأن الجسم له مدة وله مادة، له زمن معين ومادة.

وأما عندما يعبر القرآن الكريم عن الروح يقول ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] فالروح من عالم الأمر لأن الروح لا مادة لها ولا زمن، فهي وجود متحرر من المادة والمدة، لذلك الروح من عالم الأمر والجسم من عالم الخلق، وبين العالمين تواصل وتمازج، الروح مع أنها من عالم الأمر تدير الجسم الذي هو من عالم الخلق.

ليست الروح داخل الجسم، وليست متمركزة في الدماغ حتى يقول سام هاريس فتشنا الدماغ ولم نر الروح، ولم نر في الدماغ مكان فيه النفس والأنا، الروح ليست متقوقعة في الجسم، الروح تدير الجسم فكيف تكون متقوقعة فيه، الروح هي من عالم، والجسم من عالم، وبينهما تمازج لذلك لا معنى لأن يقال لا منطقة في الدماغ فيها نفس أو فيها روح يعبر عنها بكلمة أنا.

ثانياً: عندما نستدل على الأشياء لدينا ثلاثة أدلة: التجربة، العقل، الوجدان، مثلاً كل ماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة، نثبت هذه الحقيقة إذا أقمنا التجربة ثبت لنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة، مثلاً معادلة رياضية لا نستطيع أن نحلها بالتجربة لأن لا حل لها إلا بالعقل إذن الدليل هنا هو العقل، والدليل الثالث هو الوجدان لا بالتجربة ولا بالعقل، كيف أثبت أن أمي تحبني؟ كيف أثبت أني فَرِحٌ أم حزين، أني جائع أم عطشان؟ لا يمكن أن أثبت هذه الأمور لا بالتجربة ولا بالعقل إنما بالوجدان، والعلماء يقولون أن أقوى الأدلة هو دليل الوجدان لأنه لا يخطئ ولا يزل.

يقول المفكر الفرنسي ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود. هذا يسمى دليل الوجدان، وهو أقوى الأدلة، وبنفس دليل الوجدان نثبت أن للإنسان روح ونفس، الإنسان معرض التغيرات كان طفلاً ثم صار شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، كان جاهلاً صار عالماً، كان أعزب صار متزوجاً، كان خالياً صار والداً، كان فرحاً صار حزيناً، كان جسمه ضعيف صار جسمه بدين، هذه التغيرات كلها تغيرات جسمية، علمية، نفسية، اجتماعية، مع هذه التغيرات كلها يشعر الإنسان بوجدانه أن هناك وحده ثابتة وراء التغيرات كلها اسمها أنا، إذن الوجدان يشهد أن هناك وحده ثابتة لا تتغير مع وجود تغيرات كثيرة على الجسم والفكر والمجتمع يعبر عنها بكلمة أنا.

إذن الوجدان دليل على وجود الروح والنفس، دليل على وحدة ثابتة وراء الأفكار المتغيرة والميول المتنوعة، والغرائز المتعددة ألا وهي النفس.

ثالثاً: لا معنى لأن نقول أن الإنسان هو الوعي، الوعي فعل يحتاج إلى فاعل، الوعي عملية يقوم بها الإنسان تحتاج إلى مصدر، لو لم يكن للإنسان نفس لما كان له وعي، لأن النفس فاعل للوعي، ولأن الوعي عملية تحتاج إلى واعي ألا وهي النفس، لذلك ما ذكره سام هاريس من محاولة الاستغناء عن الدين في الوصول إلى الروحانية بإنكار الذات والروح هي محاول خاطئة.

 المحور الثاني: علاقة الروحانية بالدين.

هل يحتاج الإنسان في الوصول إلى الروحانية إلى الدين أم لا؟

الروحانية كما ذكرنا هي شعور باللذة لذة التحرر من الذات ولذة التحرر من الدنيا وهمومها وغمومها، الروحانية تحصل من عدة أسباب: الاسترخاء، أو أن يأخذ الإنسان تنفسا بطيئاً وعميقاً يوصله إلى شعور بالروحانية، كذلك رياضة اليوغا أيضاً توصل الإنسان إلى درجة من الشعور بالروحانية، ولكن هذه الروحانية لا تكفي، ما يحتاج إليه الإنسان هو روحانية عن طريق الدين، ما يحتاج إليه الإنسان روحانية عن طريق الارتباط بالله تبارك وتعالى، أما الروحانية التي يستقيها من اليوغا والاسترخاء والتنفس هي روحانية مجازية مؤقتة زائلة، الروحانية الحقيقية الثابتة المستقرة لا يمكن أن يحصل عليها الإنسان إلا بواسطة الدين والارتباط بالله تبارك وتعالى.

ويليم غلاسر عالم نفس أمريكي يقول: يولد الإنسان وتولد معه عدة حاجات: منها حاجات جسمية كحاجة الإنسان إلى البقاء بالأكل والشرب والهواء، ومنها حاجات نفسية كحاجة الإنسان إلى الترويح عن نفسه بين فترة وأخرى، وحاجة الإنسان إلى الشعور بالحرية، حاجة الإنسان إلى الشعور بالانتماء أن ينتمي إلى أسرة وإلى قبيلة، إذا حرم من هذا الشعور يبقى يعيش كآبة وحزن عميق، الشعور بالانتماء إلى الأسرة والقبيلة حاجة أساسية تولد مع ولادة الإنسان، حاجة الإنسان إلى الشعور بالأمان، لو لم يشعر بالأمن في بلده أو في بيته أو في مجتمعه فإنه يعيش اضطراباً وقلقاً قد يؤدي إلى عملية انتحار في حياته، حاجة الإنسان إلى الشعور بالاطمئنان والاستقرار نتيجة الشعور بالقوة والسيطرة على نفسه، فما هو الغذاء الذي يشبع كل هذه الحاجات؟

لا يوجد غذاء كاف لتغطية هذه الحاجات النفسية الأساسية إلا الارتباط بالله عزوجل، الارتباط بالله يغذي عند الإنسان الشعور بالانتماء، ذكرنا سابقاً أن انتماء الإنسان إلى أمه يحسسه بالاطمئنان لأنه أمه مصدره، فكيف إذا انتمى إلى مصدره الأساسي وسببه الأول ألا وهو خالقه تبارك وتعالى، شعور الإنسان بالانتماء إلى أمه يعطيه هدوء فكيف بانتمائه إلى مصدره الأول وهو خالقه، من هنا الإمام أمير المؤمنين علي يقول لابنه الحسن : ”بني وألجئ ظهرك في الأمور كلها إلى خالقك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز ومن يتوكل على الله فهو حسبه“.

الانتماء إلى الله يغطي حاجة وهي الشعور بالأمن، الأمن الإلهي أعظم أمن يسبغ على الإنسان، الانتماء إلى الله والارتباط به يغطي حاجة أساسية لدى الإنسان وهي الشعور بالقوة، أنن ي مسيطر على مشاعري وعواطفي وأعصابي لأنني مرتبط بالله تبارك وتعالى، إذن الروحانية المطلوبة المستقرة هي التي تغطي الحاجات الثلاث: حاجة الإنسان إلى الأمن، وحاجة الإنسان إلى القوة، وحاجة الإنسان إلى الانتماء، ولا مجال لتغطية هذه الحاجات الثلاث إلا بالانتماء والارتباط بالله تبارك وتعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162]

 المحور الثالث: علاقة العبادة بالروحانية.

ما هو الطريق لتغذية الحصول على الروحانية؟ ما هو الطريق للوصول إلى لب الروحانية وجوهرها وهي الشعور بلذة البعد عن الذات والبعد عن همومها ومشاكلها؟

الطريق إلى ذلك هو العبادة، العبادة لها أثران نفسيان مهمان: لاحظوا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا «2» وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2 - 3] وهذا الكلام لا يقصد به أثره في الآخرة بل في الدنيا، وهذان الأثران هما: مخرج ورزق.

الأثر الأول: الهداية.

يظل الإنسان أحياناً متأرجح بين عدة طرق، كالشاب مثلاً عندما يتخرج من الإعدادية لا يعلم أي تخصص يدخل فيبقى متأرجح بين عدة طرق، ذلك التأرجح يزول بالارتباط بالله، فالارتباط بالله له أثر عجيب وهو إزالة التأرجح والتذبذب من النفس ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] ركعة تصليها إلى ربك تهتدي إلى الطريق الذي تريد، إنسان متحير بين عدة وظائف لا يدري أي الوظائف أفضل وأنجح له، يصلي ركعتين يهتدي بهما إلى الوظيفة المناسبة، الارتباط بالله يهدي إلى الصواب ويرفع التذبذب، ويزيل التأرجح من داخل النفس، هذا هو معنى قوله تعالى: ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا «2»، وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.

الأثر الثاني: يرزقه من حيث لا يحتسب.

لا توجد سعادة أعظم من السعادة النفسية، ليست السعادة بالأموال ولا بالسيارة الفارهة ولا بالفيلا الضخمة ولا بالقصور، السعادة الحقيقة باطمئنان النفس، السعادة الحقيقة بأن تشعر دائماً بالهدوء والسكينة والاستقرار، وهذه السعادة الحقيقة وهي الشعور بالاستقرار لا تحصل عليها إلا بالارتباط بالله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] وهذا هو معنى الرزق، هو رزق الاستقرار والهدوء، قال تبارك وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] حياة طيبة أي حياة يشعر فيها الإنسان بالهدوء والاستقرار وأنه لا يبالي بمصائب الدنيا ومتاعبها ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62].

إذن العبادة هي الطريق للروحانية؛ لأن العبادة تعطيك أثران أثراً يزيل التذبذب وهو الهداية، وأثر يزيل القلق والخوف وهو الاستقرار والاطمئنان، فهي الطريق للوصول إلى الروحانية، وأهم مصاديق العبادة هو الصلاة، كثير من أبنائنا يتهاون بالصلاة أو يؤخرها ولا يبالي بوضع الصلاة، الصلاة هي الطريق للاستقرار، كل إنسان منا يحتاج إلى الاستقرار، فأنت لا تستطيع أن تدرس أو أن تبدع أو تنتج بدون استقرار، الشعور بالاستقرار دخيل في الإنتاج والإبداع والعطاء، والطريق للوصول إلى الاستقرار والاطمئنان هو الصلاة والوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى.

يحكي الإمام الصادق عن الإمام علي : ”كان علي إذا فزع من أمر لجأ إلى الصلاة“ متى ما مر عليه أمر مفزع ومخيف لجأ إلى الصلاة، يصلي ركعتين ليزول بهما الخوف ويزول القلق والتذبذب من النفس.

ورد عن الرسول محمد : ”أحب من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة“ أي أن لذة الصلاة لا تضاهيها لذة، لذة المناجاة لله، لذة الوقوف بين يدي الله هي لذة التحرر من الغرائز والمادة، والتحرر من الذات وهمومها وغمومها، هذه اللذة الروحية هي الروحانية الحقيقية التي لا تضاهيها لذة، وقد فرض الله الصلاة خمس مرات في اليوم لأن الإنسان خلال اليوم تمر عليه حالات من القلق والتذبذب ومن إثارة الشهوة والغرائز فأراد الله أن يضع لك علاج خمس مرات تتناوله في اليوم، الصلاة علاج تتناوله خمس مرات في اليوم لوقايتك من حالة التذبذب والقلق والكآبة والتأرجح، علاج تتناوله خمس مرات في اليوم يجعلك إنساناً ثابتاً مطمئناً واثقاً من قوتك وذاتك.

ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”ما تقرب العبد إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وهو الصلاة، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها“ أي أن الصلاة تطغى على كل أحاسيسه ومشاعره، ويصبح إنساناً متعلقاً بالله في كل شؤونه وأموره، حاول أن تأتي بالنافلة في اليوم ولو ركعتين، حاول أن لا تنام إلا وقد صليت صلاة الشفع أو الشفع والوتر ثلاث ركعات، هذه الصلاة لا تأخذ منك أكثر من دقيقتين، هاتان الدقيقتان تمنحك شعور بالهدوء والاستقرار والاطمئنان وأنت بحاجة ماسة إلى مثل هذا الشعور المهم في حياتك، لذلك يركز الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم على أهمية الصلاة وعلى أهمية النافلة كما ذكر القرآن الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2» [المؤمنون: 1 - 2] فالإنسان بمجرد أن يكبِّر للصلاة يتذكر ذنوبه والموت والوقوف بين يدي الله، هذه الذكريات هي الخشوع وهي التي تعطيك تفاعلاً مع الصلاة، وهي التي تعطيك تناغماً مع الصلاة، هي التي تجعل للصلاة أثراً على ذاتك وسلوكك ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45]

ومن أعظم آثار الصلاة أن المصلين هم الأكثر تحدياً وإصراراً على مواقفهم وعلى قراراتهم نتيجة الارتباط بالله، يصبح الإنسان المواظب على الصلاة الخاشعة أكثر الناس تحدياً وأقوى الناس إرادة وأكثرهم حزماً، لذلك الإمام أمير المؤمنين يصلي والحرب قائمة، والسهام تنفذ إلى جسده فلا يشعر بها، لذة الصلاة شغلته عن ألم السهام والنبال لأن لذة الصلاة لا تضاهيها لذة، وكذلك الإمام الحسين يوم عاشوراء يصلي والسهام تترا عليه ولا يشعر بها لأنه في حالة علاقة وعروج إلى الله تبارك وتعالى، وكذلك إخوة الحسين الذين كانوا مع الحسين، كانوا أقوى الناس إرادة وأكثر الناس تحدياً لانغماسهم في الصلاة وانغمارهم فيها، وقد باتوا ليلة العاشر من محرم ركعاً سجداً يتودعون ويتزودون من الصلاة، وأبدعوا يوم عاشوراء شجاعة وبسالة خصوصاً إخوة الحسين من أم البنين الأربعة: عون، جعفر، عثمان، والعباس بن علي، هؤلاء الإخوة الأعزة الأحبة، حققوا يوم عاشوراء بطولات لا نظير لها.