البعد الاجتماعي في شخصية الإمام الحسن الزكي (ع)

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208]

صدق الله العلي العظيم

السلم كلمة مشتقة من السلام، والسلام هو عبارة عن الأمن والاطمئنان ولذلك من أسماء الله تعالى السلام، لأن الله مصدر الأمن والاطمئنان، يقول القرآن الكريم: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر: 23]

وقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]

القرآن الكريم طرح ثلاثة عناوين وهي: السَّلَم، والسَّلْم، والسِّلْم. ولكل عنوان من هذه العناوين معنى يختلف عن الآخر، السَّلَم هو عبارة عن الاستسلام والانقياد، والسَّلْم هو عبارة عن الصلح ووقف القتال، والسِّلْم هو عبارة عن مبدأ إنساني وهو مبدأ الرحمة.

فعندما يتناول القرآن الكريم السَّلَم بمعنى الاستسلام يقول: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء: 90]

وعندما يتحدث عن السَّلْم بمعنى وقف القتال عبر الصلح والهدنة يقول: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ «60» وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنفال: 60 - 61]

وعندما يتحدث عن السِّلْم يطرحه القرآن كمبدأ إنساني لابد من ترسيخه وشيوعه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208]

ونحن نتحدث هنا عن العنوان الثالث وهو عنوان السِّلْم الاجتماعي الذي طرحه القرآن كمبدأ إنساني لابد من ترسيخه وتحويله إلى ثقافة اجتماعية، والسِّلْم عندما نتحدث عنه نناقشه من خلال محاور ثلاثة:

  • فلسفة السِّلْم الاجتماعي.
  • علاقة الدين الإسلامي ب السِّلْم الاجتماعي.
  • مظاهر السِّلْم الاجتماعي في شخصية الإمام الحسن المجتبى .
 المحور الأول: فلسفة السِّلْم الاجتماعي.

السِّلْم الاجتماعي تطرحه عدة مجالات، علم النفس يطرح السِّلْم الاجتماعي، وعلم الاجتماع يطرح السِّلْم الاجتماعي.... السِّلْم الاجتماعي له فلسفة إنسانية ينبغي أن نبلورها ونستجليها من خلال عدة بنود:

1. البند الأول: السِّلْم الاجتماعي هو نزعة أصيلة في شخصية الإنسان، الإنسان بما هو إنسان ما جُبِل على الصراع ولا جُبِل على العنف، ولا جُبِل على الاحتراب، ليس من طبع الإنسان بما هو إنسان الصراع أو الاحتراب أو المواجهة، الطبع المنسجم مع فطرة الإنسان وطبيعته هو السِّلْم والوئام، ما فُطر الإنسان على الصراع بل على الوئام، ما فُطر الإنسان على العنف بل على الحب، من فطرة الإنسان وطبيعته أنه يرغب في الوئام، يرغب في الألفة، لذلك يركز علم النفس الاجتماعي على أن هناك نزعة أصيلة في شخصية كل إنسان وهي النزعة نحو المجتمع، نحو الالفة، نحو المحبة، نحو الوئام، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] التعارف يعني الوئام والسلام، وهو المنسجم مع خلقتكم وفطرتكم وطبيعتكم.

2. البند الثاني: السِّلْم الاجتماعي لا يعني محو الاختلافات، كل مجتمع فيه اختلافات، والاختلافات في القدرة الذهنية تعني الاختلافات في الفكر، الاختلافات في المستوى الثقافي تعني الاختلاف في الاتجاه، الاختلافات في المستوى الاجتماعي تعني الاختلاف في الاحتياج، كل مجتمع إنساني لابد فيه من الاختلاف، الاختلاف سنة طبيعية تقوم عليها المجتمعات كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ «118» إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «119» [هود: 118 - 119]

الاختلاف سنة اجتماعية، إذن السلم الاجتماعي لا يعني محو الاختلافات، الاختلافات لابد منها، السلم الاجتماعي يعني إدارة الاختلاف لا محوه، كيف ندير الاختلافات إدارة حسنة، كيف نحول الاختلافات في الذهن، في المستوى الثقافي، في المستوى الاجتماعي إلى تكامل في الطاقات وتجانس في القدرات وانسجام بين المواهب، السِّلم الاجتماعي هو عبارة عن إدارة الاختلاف وليس عبارة عن محو الاختلاف، الاختلاف أمر لابد منه، ولذلك يؤكد القرآن الكريم على مبدأ التعاون لأن في التعاون إدارة للاختلافات ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]

وقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46]

3. البند الثالث: هناك بحث يذكره خالد محمد البديوي في كتابه «الحوار والسلم الاجتماعي» عن أيهما أول العدالة أم الأمن؟

كثير من علماء النفس الاجتماعي ذكروا هذا التسلسل: عدالة فأمن فإنتاج. لا يمكن لشعب أن يصعد إلا بثلاثة أركان عدالة، ثم أمن، ثم إنتاج. العدالة أولاً، ما لم تعطَ الحقوق فليس هناك عدالة، وما لم تنتشر العدالة لا يعيش المجتمع أمناً ولا يعيش المجتمع سلاماً، وما لم يكن هناك أمن وسلام لا يكون هناك إنتاج وعطاء وإبداع، لا يستطيع المجتمع أن ينتج إلا إذا عاش السلام والأمن، ولا يمكن أن يعيش السلام والأمن إلا إذا عاش الشعور بالعدالة وتوزيع الحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه.

إذن العدالة ثم الأمن ثم الإنتاج، ولكن حتى العدالة تحتاج إلى سِلْم، عندما نريد أن ننشر العدالة نحتاج إلى أدوات سلمية، هل يمكن أن ننشر العدالة بأدوات عنف وصراع، بأدوات احتراب؟ لا يمكن ذلك، حتى العدالة التي هي المنطلق والمبدأ الأول تحتاج إلى أدوات سلمية، تحتاج إلى أدوات أمنية تديرها حتى تنتشر وتترسخ في المجتمع الإنساني.

إذن هناك تسلسل، لابد من السلم أولاً فتستقر العدالة فينتشر الأمن فينطلق المجتمع نحو الإنتاج والعطاء ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود: 61]

وقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2]

4. البند الرابع: السِّلْم الاجتماعي هو عبارة عن حماية للمجتمع، المجتمع اليوم لا يحمي نفسه بالقوة، ولا يحمي نفسه بالصراع، كل مجتمع يحمي نفسه بالإنتاج، الإنتاج هو الذي يحميك، الإنتاج هو الذي يجعلك إنساناً قوياً، الإنسان المنتج هو الذي يفرض نفسه، الإنسان المنتج هو الذي يفرض وجوده، الإنتاج علامة القوة لذلك القوة الناعمة في هذا العالم التي حولت العالم إلى أسرة وقرية واحدة عبر وسائل التواصل الذي يحمي أي فئة أي شخص أي مجتمع هو الإنتاج، لذلك يركز الدين على مبدأ الإنتاج، ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : قيمة كل امرئ ما يحسنه. قيمتك في الإنتاج لأن الإنتاج يعطيك قوة، فالإنتاج هو الذي يحقق لك السلام وهو الذي يحقق لك الأمن، فإذا أردت أن تكون مسالماً آمناً فأنتج، فإن الإنتاج يعطيك قوة وسلاماً وحماية.

5. البند الخامس: ليس السِّلْم الاجتماعي مجرد كلمات وتنظيرات وعبارات ننقلها أو نتكلم بها، السِّلْم الاجتماعي لابد أن يتحول إلى ثقافة وإلى مبادئ يعيشها الناس، ما لم يتحول المجتمع إلى ثقافة السِّلْم لا يمكن أن يعيش السِّلْم، هانس كونج لاهوت أحد فلاسفة اللاهوت المعروفين يقول: لا يتحقق سلام بين الأمم والشعوب إلا بسلام بين الأديان، ولا يتحقق سلام بين الأديان إلا بحوار بين الأديان والإيديولوجيات.

أصل السلم الاجتماعي هو لغة الحوار، أن يكون هناك حوار بين الأديان، حوار بين الإيديولوجيات، حوار بين المذاهب، الحوار هو الذي يحقق ثقافة السلم الاجتماعي لذلك أبناء المجتمع الواحد يحتاجون إلى أن يعيشوا لغة الحوار، لغة الحوار هي لغة الاحترام للآخر، لغة الحوار هي لغة الإقرار بالآخر، لغة الحوار هي لغة بغية الأمن والسِّلْم الاجتماعي، لاحظ أبناء الدين الإسلامي يحتاجون إلى حوار بين أيديولوجياتهم ومذاهبهم، أبناء المذهب الواحد يحتاجون إلى أن يعيشوا ثقافة لغة الحوار بدل أن يهدروا طاقاتهم وأوقاتهم في الاختلافات الجزئية والقضايا الهامشية، فليمعنوا طاقاتهم وقدراتهم في تأصيل الفكر الديني والدفاع عنه وبناء أسسه ودعائمه بدل إهدار الوقت في الخلافات من هنا وهنا، السلم الاجتماعي ثقافة وليس مجرد كلمات تُنقل أو تُردد، هذه هي فلسفة السلم الاجتماعي.

 المحور الثاني: علاقة الدين الإسلامي بالسِّلْم الاجتماعي.

قد يقول قائل الدين الإسلامي بعيد عن السلم الاجتماعي وذلك لمشكلتين:

  •  المشكلة الأولى: أن الإسلام يشترط في القيادة أن تكون القيادة مسلمة، ولا يقبل بقيادة غير مسلمة، وهذا يتنافى مع مبادئ السلم الاجتماعي.
  •  المشكلة الثانية: عندما تراجع فقه الأقليات في الإسلام تجد أن الإسلام يفرض على الأقليات في المجتمعات الإسلامية أن تدفع الجزية حتى تعيش في المجتمع الإسلامي، ودفع الجزية يتنافى مع مبدأ السلم وثقافة السلم الاجتماعي.

الجواب عن هذا الإشكالات: انظر إلى الدين الإسلامي من خلال ثلاثة عناصر: العنصر البنائي، والعنصر التربوي، والعنصر القيادي.

العنصر الأول: العنصر البنائي.

ما هي رؤية الإسلام في الحضارة؟ الغرب طرح رؤيته في الحضارة سواء من خلال تيار الحداثة أو ما بعد تيار الحداثة، بينما الحضارة بنظر الإسلام لا يكفي أن تقوم على التقدم التكنولوجي أو على التحول الرقمي، الحضارة لابد أن تقوم على أسس أربعة وهي التي ترسخ السلم الاجتماعي: العدالة، والتعاون، والأخوة، ومبدأ الشهادة والرقابة الاجتماعية.

الركن الأول: العدالة، القرآن ينادي ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8]

الركن الثاني: التعاون، القرآن الكريم يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] ليكن شعوركم ومبادراتكم ودوافعكم الإنسانية نحو التعاون وجمع الجهود، جمع الطاقات، نحو جمع المواهب والقدرات.

الركن الثالث: الأخوة، لا يكفي التعايش السلمي، هناك فرق بين التسامح والسلم، التسامح شيء، والسلم شيء آخر، التسامح هو عبارة عن إبر مسكنة لفترة مؤقتة، إذا جئنا لشخصين مختلفين وقلنا تسامحوا هو بمعنى إعطاء مسكنات لفترة مؤقتة بين المختلفين، أما السلم فهو أعمق من التسامح، السلم يعني إعادة المختلفين إلى الجذور الإنسانية، والجذور الإنسانية هي عبارة عن نزعة الحب والوئام، لذلك لا يكتفي الإسلام بوجود سلم بل يطلب مبدأ أعمق من السلم ألا وهو مبدأ الأخوة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10]

الإسلام يشترط أساساً من أسس الحضارة أن تكون هناك أخوة ولا يكفي مجرد التسالم والتسامح.

الركن الرابع: الرقابة، لا تقوم حضارة بدون رقابة وبدون شهادة، رقابة في مكافحة المخدرات، رقابة في مكافحة الأخلاق الشاذة، رقابة في مكافحة مختلف ما يدمر إنسانية المجتمع، قال تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110]

العنصر الثاني: العنصر التربوي.

الإسلام يربي المسلم على السلم والحب والوئام، وهناك عدة خطوات تربوية يركز عليها الإسلام كبناء تربوي للمسلم على السلم:

الخطوة الأولى: حسن الظن، عليك أن تحسن الظن بالآخرين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات: 12]

الخطوة الثانية: الكلمة الطيبة ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ «24» تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 24 - 25] الكلمة الطيبة تزرع السلم، تزرع الحب، تزرع الوئام، تزرع الترابط بين أبناء المجتمع الواحد.

الخطوة الثالثة: التعامل الحسن، لا تكن عنيفاً، لا تكن مصارعاً وملاكماً، كن رحيماً، كن رؤوفاً، كن ناعماً في العلاقات مع الآخرين، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34]

العنصر الثالث: العنصر القيادي.

القيادة في الإسلام هي منبع رحمة وليست منبع صراع وعنف، لاحظوا المبدأ النبوي والمبدأ العلوي اللذان يمثلان قيادة الرحمة في الإسلام، النبي محمد حينما وصل المدينة وبدأ ينشئ مجتمعاً أول خطوها بدأها بالسلم الاجتماعي، أقام صلحاً بين المسلمين واليهود، أقام صلحاً بين الأوس والخزرج وكانتا قبيلتين متصارعتين مدة مديدة من الزمن، أقام صلحاً بين المسلمين في المدينة والمشركين في مكة في صلح الحديبية، بدأ دولته بمبدأ السلم الاجتماعي من خلال ثلاثة أنواع من الصلح أبرمها النبي .

الإمام أمير المؤمنين علي في رؤيته نحو قيادة الرحمة عندما يقول لمالك الأشتر في عهده لمالك: وأشعر قلبك الرحمة للرعية واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

فبالنسبة لاشتراط القيادة أن تكون مسلمة هو احترام للأكثرية وهذا مبدأ عالمي، المجتمع الألماني يحكمه إنسان ألماني وليس جنسية أخرى، المجتمع الأمريكي يحكمه إنساني أمريكي، المجتمع الصيني يحكمه إنسان صيني، كل مجتمع يحكمه من ينتمي للأغلبية في ذلك المجتمع لأن انتماءه للأغلبية هو الأعرف بأمزجتهم واتجاهاتهم وميولهم فهو الأقدر على إدارتهم، عندما يشترط الإسلام أن تكون قيادة المجتمع الإسلامي أن تكون القيادة مسلمة ليس متنافياً مع مبدأ السلم الاجتماعي بل هو احترام لمبدأ عالمي وهو أن القيادة تنتمي للأكثرية في أي مجتمع تقوم فيه قيادة وهذا ما نهجه الإسلام أيضاً.

أما المشكلة الثانية لماذا يأخذ الإسلام الجزية من أهل الكتاب الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي نقول: الجزية هي مجرد ضريبة، والضريبة مفروضة على المسلم وعلى غير المسلم، بل الضريبة على المسلم أكثر نسبة من الضريبة على غيره، في الفقه الإسلامي على كل مسلم ضريبة الزكاة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60] يدفع إما العشر، إما نصف العشر.

غير المسلم في المجتمع الإسلامي يدفع ما يقارب ثمانية عشر بالمئة، أي أن المسلم يدفع ضريبة أكثر من غير المسلم، الجزية ليست احتقار للأقليات ولا تتنافى مع مبدأ السلم الاجتماعي، الجزية ضريبة وهي مفروضة على كل الشعب، المسلم يدفع زكاة وغير المسلم يدفع جزية، والضريبة تسهم في إصلاح أوضاع المجتمع من بناء الجسور، وشق الطرقات، وفتح مرافق الحياة والتواصل بين أبناء المجتمع.... إلخ

 المحور الثالث: مظاهر السلم الاجتماعي في شخصية الإمام الحسن الزكي .

الإمام الحسن المجتبى شكّل مبادئ السلم الاجتماعي، شكّل الشخصية الفريدة بأجلى صورها للسلم الاجتماعي، السلم الاجتماعي ينحدر من شخصية اجتماعية، ويكون الإنسان شخصية اجتماعية إذا امتلك روح اجتماعية، والروح الاجتماعية لها مظاهر ثلاثة: كرم، حلم، سلم.

إذا أردت أن تعرف هل هذا الإنسان يمتلك شخصية اجتماعية انظر للمظاهر الثلاثة، إذا تجسدت هذه المظاهر الثلاثة فيه كشفت عن كون هذه الشخصية ذا روح اجتماعية إنسانية بأعلى صورها وأجلى مظاهرها، وهذا ما تجسد في شخصية الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامته عليه.

مبدأ السلم الاجتماعي: صالح الإمام الحسن معاوية بن أبي سفيان، وصلح الإمام الحسن لمعاوية يعني أهداف ثلاثة:

1. الهدف الأول: صيانة القيادة الشرعية عن الإذلال، لمَّا نشب القتال بين الإمام الحسن وبين معاوية، كان معاوية أقوى جيشاً عدة وعتاداً، سيطر على شمال العراق وبعض مدن الجنوب فأصبح جيش الإمام الحسن جيشاً محاصراً، لم يكن معاوية يخطط لقتل الإمام الحسن بل كان يخطط لأسره، الأسر أقوى بالنسبة لمعاوية من القتل، أن يقع الحسن أسيراً بين يدي معاوية لا أن يكون الحسن قتيلاً في تلك الحرب فيكون شهيداً، ولذلك الإمام الحسن أدرك هذا الهدف وضيّع الفرصة على معاوية فقال: والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سراً، فلأن أسالمه وأنا أعزيز أحبّ إلي من أن يقتلني وأنا أسير أو يمن علي بالعفو فتكون سبة على بني هاشم لا يزال يمن بها معاوية هو وعقبه على الحي منا والميت.

لو استمر القتال مع معاوية لكان الإمام الحسن أسيراً، وإذا أصبح الإمام الحسن أسيراً فهذا إذلال للقيادة الإسلامية، سيد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله، والقيادة الشرعية المفترضة الطاعة تقع أسيرة بين يدي معاوية! هذا إذلال لمنصب القيادة، الإمام الحسن ضيّع هذا الهدف على معاوية فسالمه وصالحه من منطق الحفاظ على العزة والكرامة، كما انطلق الإمام الحسين من منطلق العزة والكرامة.

2. الهدف الثاني: مبدأ السلم الاجتماعي، كانت الامة تحتاج إلى سلم، كان المجتمع الإسلامي في حاجة ضرورية للسلم الاجتماعي آنذاك، مبدأ السلم الاجتماعي الذي هو امتداد للنهج النبوي وامتداد للنهج العلوي، السيدة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها تحكي طبيعة المجتمع قبل النبي وبعد النبي «كُنتُم عَلى شَفا حُفرَةٍ مِنَ النّارِ مَذقَةَ الشّارِبِ، ونُهزَةَ الطّامِعِ، وقَبسَةَ العَجلانِ، ومَوطِئَ الأَقدامِ، تَشرَبونَ الطَّرقَ، وتَقتاتونَ القَدَّ، أذِلَّةً خاسِئينَ صاغِرينَ، تَخافونَ أن يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ مِن حَولِكُم، فَأَنقَذَكُمُ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى بِأَبي مُحَمَّدٍ» ويقول القرآن الكريم: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران: 103]

كان العرب قبائل متناحرة يقتتلون على الدابة والنعجة والفرس، كان العرب لا يفكرون إلا في الصراع والعنف لذلك لم يستطيعوا أن يبنوا حضارة قبل الإسلام، ولم يستطيعوا أن يبنوا مجداً شامخاً لهم قبل الإسلام، النبي الأعظم ألف بين قلوبهم، طوعهم، حولهم إلى إخوان، بنى لهم دولة، أقام لهم حضارة أصبحت شامخة قرون متمادية.

إذن المبدأ النبوي كان مبدأ السلم الاجتماعي، تأليف القلوب وجمع الطاقات حتى استطاع أن يجعل من السلم الاجتماعي دولة وحضارة في المجتمع العربي آنذاك.

وهذا هو المبدأ العلوي، الإمام أمير المؤمنين عليّ يقول: لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة.

فما قام به الإمام الحسن الزكي ما هو إلا امتداد للنهج النبوي والنهج العلوي في ترسيخ مبدأ السلم الاجتماعي، لذلك قال الإمام الحسن: والله إن الأمر الذي اختلف فيه أنا ومعاوية هو حق لي تركته لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها. أي التركيز على مبدأ السلم الاجتماعي.

3. الهدف الثالث: تقديم الجوهر على المظهر، المجتمع الإسلامي له مظهر وجوهر، المظهر هي المساجد، الآذن، الصلوات... إلخ، والجوهر هو وجود فئة صالحة مستميتة في الإسلام وفي تركيز مبادئ الإسلام وفي ترسيخ أسس الإسلام، فإذا دار الأمر بين الجوهر والمظهر فإن الجوهر مقدم على المظهر، يقول القرآن الكريم: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة: 19]، الجوهر هو الأساس الركين للمجتمع الإسلامي لذلك إذا دار الأمر بين المظهر والجوهر يكون الحفاظ على الجوهر مقدم، هكذا خضع الإمام الحسن للصراع، إما أن يحافظ على المظهر وإما أن يحافظ على الجوهر، فرأى أن الحفاظ على الجوهر وهو الثلة المؤمنة الصالحة من أصحاب أمير المؤمنين وأصحاب الإمام الحسن هو الأولى والأجدر من المحافظة على المظهر، اعترض عليه حجر بن عدي، واعترض عليه عمر بن الحمق الخزاعي في صلحه لمعاوية لكنه أجاب بكلمة واضحة: إني خشيت أن يُجتث المسلمون عن وجه الأرض فلا يبقى للدين ناعي. وقال: ما أردت بصلحي لمعاوية إلا أن أدفع عنكم القتل. لأن بقاء الإسلام ببقائكم وحفظه بحفظكم.

والكرم تحقق بما شهد به التاريخ من كرم الإمام الحسن الزكي ، جاءه رجل يطرق بابه فأخرج إليه الإمام الحسن صرة الدراهم والدنانير وناوله إياه، قال: سيدي هلا انتظرت مسألتي وعرفت حاجتي؟ قال:

نحن   أناس   نوالنا   خضل

تجود   قبل   السؤال  أنفسنا

لو  عرف  البحر فيض نائلنا



 
يرتع   فيه   الرجاء   iiوالأمل

خوفاً على ماء وجه من يسل

لغاض   جدباً   وإنه   iiخجل

وكان الإمام الحسن حليم آل البيت، طاقة من الصبر، طاقة من الحلم لا نظير لها، الإمام الحسن طُعن في فخذه من قِبَل جنوده وجيشه، اعتُدي على شخصيته بالعبارات البذيئة، تلقى اعتداءات لا نظير لها وكان طاقة من الصبر والحلم، رآه رجل شامي قال من هذا؟ قالوا له الحسن بن علي، فشتمه وشتم أباه أمير المؤمنين علي ، التفت إليه الإمام الحسن وقال: يا هذا أظنك غريباً ولعلك اشتبهت فينا، فإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عطشاً أرويناك فهلا حولت رحلك إلينا ونزلت ضيفاً علينا فإن لنا منزلاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً وفيراً، فما تمالك الرجل حتى انكب على يديه يقبلهما وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة.

وعندما صالح الإمام الحسن معاوية لم يصالحه من موقف الضعف والجبن، بل صالحه من موقف العزة والكرامة، وهذا ما تلاحظه في كلماته التي تنبئ عن ثقة في النفس والعزة والكرامة، قال له معاوية أمام الناس: يا أبا محمد أنا خير منك لأن الناس أجمعت عليّ ولم تجمع عليك. فقال له الإمام الحسن: إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فهو معذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاص لله، وأنا لا أقول أنا خير منك لأنه لا خير فيك فلقد برأني الله من الرذائل كما برأك من الفضائل.

ولا زال الإمام الحسن عزيزاً كريماً عظيماً مهاباً بين المسلمين كما يقول واصل بن عطاء: رأيت الحسن بن علي فرأيت عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك وكان إذا جلس على قارعة الطريق امتنع المارة عن قارعة الطريق هيبة له وإجلالاً، الإمام الحسن الزكي بهذه الشخصية العظيمة كان مهاباً عظيماً بين المسلمين، لذلك رأى معاوية أن وجوده يشكل خطراً عليه فدس إليه السم بالحيل وبأشكال مختلفة.