كيف أكون حكيمًا؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقاً من الآية المباركة عن مفردة الحكمة التي نعت الله بها رسوله النبي في قوله ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ

ونتناول مفردة الحكمة في محاور ثلاثة:

  • تعريف الحكمة.
  • بيان دعائم الحكمة وأدواتها.
  • بيان تجليات الحكمة في شخصية الرسول الأعظم .
 المحور الأول: تعريف الحكمة.

هنا مدارس ثلاث، ولكل مدرسة تعريف للحكمة ينسجم مع مبادئ هذه المدرسة: الحكمة في الفلسفة الشرقية، والحكمة في الفلسفة الغربية، والحكمة في مدرسة علم النفس الاجتماعي.

 المدرسة الأولى: الفلسفة الشرقية.

عندما يتناول ابن سينا مفردة الحكمة ويقوم بتعريفها يقول: الحكمة هي الانتقال من المرتبة الترابية إلى المرتبة الملكوتية. شخصية الإنسان لها مرتبتان: مرتبة ترابية، ومرتبة ملكوتية.

المرتبة الترابية هي عبارة عن الجسم وشهواته وغرائزه، محاط بزمن ومكان، هذا الجسم يعبر عن المرتبة الترابية لشخصية الإنسان باعتبار أنه نشأ من التراب وولد في التراب ويعود إلى التراب.

إذن المرتبة الترابية هي الجسم، هي الشهوات، هي الغرائز التي تشبع هذا الجسم، شهوة الإنسان نحو الطعام، شهوة الإنسان نحو الثروة والمال، شهوة الإنسان نحو الجنس. مجموع الشهوات التي تشبع الجسم هي المرتبة الترابية في شخصية الإنسان، يقول القرآن الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14]

والمرتبة الملكوتية هي الفطرة، الإنسان ولد ولديه فطرة، وهذه الفطرة هي وعاء القيم، وعاء الصدق، وعاء الأمانة، وعاء العدالة، وعاء المروءة... كل هذه القيم تجتمع في الفطرة، وهي التي تحدث عنها القرآن الكريم في قوله عز وجل: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8» [الشمس: 7 - 8]

هناك فطرة أصيلة في داخل الإنسان تحثه على الصدق، تحثه على الأمانة، تحثه على العدالة، تحثه على المروءة، هذه الفطرة هي حقيقة الإنسان، هي التي يتميز بها الإنسان على الحيوانات والمخلوقات الأخرى، هذه الفطرة هي المرتبة الملكوتية لدى الإنسان.

إذن الحكمة في تعريف ابن سينا هي أن تنتقل من المرتبة الترابية إلى المرتبة الملكوتية، الحكمة أن تفكر كيف تكون صادقاً أميناً عادلاً، الحكمة أن تفكر كيف تكون مظهراً للقيم لا أن تفكر كيف تشبع شهواتك، لا أن تفكر كيف تشبع غرائزك، التفكير في إشباع الشهوات والغرائز يعني أنك ما زلت متقوقعاً في المرتبة الترابية، أما عندما تفكر كيف تكون إنساناً عادلاً صادقاً أميناً فقد انتقلت إلى مرتبة أعلى، انتقلت إلى المرتبة الملكوتية.

إذن الحكمة عبارة عن الانتقال من المرتبة الترابية التي أنت مع الحيوانات فيها على حد سواء إلى المرتبة الملكوتية التي بها تفعيل الفطرة وتجسيد قيمها ومُثُلها ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 30]

 المدرسة الثانية: الفلسفة الغربية.

عندما نرجع إلى الفيلسوف الألماني كانت نجد بأنه يُعرِّف الحكمة بأنها الإحساس بالمسؤولية، إذا امتلكت الإحساس بالمسؤولية وتصدر عنك الأفعال بدافع الواجب والإحساس بالمسؤولية فأنت إنسان حكيم؛ لأن الحكمة هي الشعور والإحساس بالمسؤولية.

الإنسان له عدة أنفس: له النفس الأمارة ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف: 53]، وله النفس اللوامة ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: 2]، وله النفس الملهمة ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8» [الشمس: 7 - 8]، وله النفس المطمئنة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «27» ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً «28» [الفجر: 27 - 28]

أين دور الحكمة؟ دور الحكمة في النفس اللوامة، مثلاً إنسان يريد أن يتزوج، فإذا قال هدفي من الزواج هو أن أشبع شهواتي وأن أعيش إنساناً مرتاحاً من خلال اللذة وإشباع الشهوات فهو إنسان لا يعيش الشعور بالمسؤولية بل هو يعيش المرتبة الترابية كما في الشرح السابق، أما عندما يكون هدفه من الزواج أن ينشئ أسرة صالحة، أن يسهم في بناء المجتمع من خلال إنشاء الأسرة الصالحة، هدفه من الزواج ما تدعوه إليه المسؤولية، والنفس اللوامة هي الضمير الذي يحسسه بأنه مسؤول عن إيجاد أسرة صالحة وبنائها.

قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد: 20] هذه الآية تعبر عن مسيرة حقيقية يمر بها كل إنسان، المرحلة الأولى مرحلة الطفولة المبكرة وهي مرحلة ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ، والمرحلة الثانية المرحلة المتأخرة هي مرحلة اللهو ينشغل بالقضايا التافهة عن القضايا الأساسية ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، عندما يصبح شاب وفي عهد المراهقة يبدأ بالتفكير في الزينة، في شكله وفي شعره وفي هندامه، كيف يبدو للناس بمنظر جميل، يفكر في الزينة ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وإذا دخل سن الأربعين بدأ بالتفكير في حياته وتجربته فيدخل في مرحلة التفاخر، تجربتي أعلى من تجربة فلان، ممارستي أسمى من ممارسة فلان، هذا مبدأ التفاخر﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ، ثم إذا بلغ سن الكهولة ورأى لديه كثرة من الأموال والأولاد، رأى أنه قد امتد من خلال أمواله وأولاده ﴿وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ

إذن هذه الآية تعبر عن مسيرة الإنسان، أما مسيرة الحكمة أو منهج الحكمة في مسيرة الإنسان فتعبر عنه آية أخرى وهي آية تعبر عن الإحساس بالمسؤولية ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا «63» وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا «64» [الفرقان: 63 - 64] إلى أن قال ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا «74» [الفرقان: 74] نحن هدفنا من الحياة ليس إشباع الشهوات واللذات هدفنا هو بناء أسرة صالحة.

إذن الشعور بالمسؤولية هو الحكمة بحسب نظرة الفيلسوف كانت.

 المدرسة الثالثة: مدرسة علم النفس الاجتماعي.

شوارتز وكينيث شارب مفكران غربيان ألفا كتاباً حول الحكمة العملية، وهذان المفكران يقولان بأن الحكمة هي مهارة ونوع من الفن، الأدب مهارة، الخطابة مهارة، كل شيء يحتاج إلى فن فهو يحتاج إلى مهارة، والحكمة أيضاً مهارة، في علم النفس الاجتماعي الحكمة هي عبارة عن مهارة التوازن، الإنسان له نزعتان: نزعة الاستئثار، ونزعة الإيثار، والإنسان بين هاتين النزعتين، غريزة حب الذات تدعوه إلى الاستئثار، أن يحوز الأموال، أن يتفوق على الآخرين، أن يكون هو الأول.

والنزعة الأخرى وهي نزعة الإيثار والإعطاء، تدعوه إلى العون والمساعدة، يحب الآخرين ويحب أن يساعدهم، يحب أن ينقذهم ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]

الإنسان بين هاتين النزعتين، بين الاستئثار أن يحوز الأشياء وبين الإيثار أن يعطي ويقدم، التوازن بين الإيثار والاستئثار لا يطغى الإيثار على الاستئثار ويصبح مجرد معطي بلا أن يدخر شيء لنفسه، ولا الاستئثار على الإيثار ويصبح إنساناً أنانياً لا يفكر إلا في نفسه وبطنه وجيبه، التوازن بين الإيثار والاستئثار هو الحكمة ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]

مثلاً الطبيب يدخل عليه المريض فيفحصه، يشخص أن هذا الإنسان لديه مرض خطير لكن إذا أخبره ينهار هذا الإنسان، وربما إخباره يعجل بموته، فيصبح الطبيب بين نارين، بين أن يخبره بمرضه ويعجل بنهايته، وبين أن يسكت عنه وربما المريض يتمادى وبعد ذلك ينهي حياته من حيث لا يشعر، هنا الطبيب يحتاج إلى مهارة الحكمة والتوازن كيف يستدرج المريض بطريقة غير مباشرة لإيصال مرضه إليه بطريقة لبقة بحيث لا تؤدي به إلى الانهيار.

أيضاً الزواج مهارة وفن، كيف تدير الأسرة والعلاقة، إدارة العلاقة بالحلم وضبط الأعصاب والاستقواء على المشاعر تحتاج إلى فن ومهارة، وليس كل إنسان يستطيع أن يدير الحياة الزوجية، الحياة الزوجية فعلا تحتاج إلى تضحية وتنازل، ضبط للأعصاب والمشاعر حتى تعيش التوازن بين العلاقة العاطفية والعلاقة الإنتاجية، تريد من هذا الزواج أن تنتج أسرة صالحة، أن تنتج مجتمعاً ناجحاً، وفي نفس الوقت تحتاج إلى علاقة عاطفية بينك وبين الزوجة، أو بين الزوجة والزوج، كيف تحقق التوازن بين العلاقة العاطفية وبين العلاقة الهدفية وهي بناء الأسرة الصالحة، هذا التوازن حكمة ومهارة.

حتى العبادة تحتاج إلى فن، العبادة تحتاج إلى مهارة الحكمة، هناك كم وهناك كيف، مثلاً في ليلة القدر يستحب أن تقرأ فيها ألف مرة «﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] فترى البعض يركز على الكم، صحيح هو مستحب وله ثواب جزيل لكن هناك ما هو أولى وأفضل. مثلاً إنسان يريد أن يصلي نوافل اليوم، فيكون المهم عنده أن يحقق في اليوم 51 ركعة، ولكن المسألة تحتاج إلى مهارة، مهارة التوازن بين الكم والكيف، يقول القرآن الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2» [المؤمنون: 1 - 2] كيف أحقق الخشوع، كيف أشعر وأنا في الصلاة أنني في عالم الخضوع لله، في عالم الاتصال بالله، في عالم العروج والتقرب إلى الله تبارك وتعالى، كيف أشعر أن صلاتي ربطتني بالله عز وجل فأصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]

التوازن بين الكم والكيف هو عبارة عن الحكمة، إذن الحكمة هي مهارة التوازن.

 المحور الثاني: دعائم الحكمة وأدواتها.

وهي ثلاث:

الدعامة الأولى: رسم الأهداف وتحديد الأولويات

لابد للإنسان من أهداف، وتحديد الأولويات قبل أن يتحرك، الرسول محمد يوصي أبا ذر: يا أبا ذر إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فإن يك خيرا فامضه وإن يك شراً فانتهي عنه.

الدعامة الثانية: قراءة الظروف.

عن الإمام أمير المؤمنين علي : من الحكمة أن لا تنازع من فوقك، ولا تستذل من دونك، ولا تتعاطى ما ليس قدرتك.

لا تضيع أوقاتك في منازعة من فوقك، ولا تستذل من هم دونك، احترم الآخرين ولا تتعاطى ما ليس في قدرتك حاول أن ترسم مشاريعك على مقدار الظروف، تريد إنشاء مشروع اقتصادي اقرأ المستوى الاقتصادي للبلد الذي أنت فيه هل المستوى الاقتصادي يشجع على هذا المشروع بحيث يكون مشروعاً منتجاً؟!

تريد مثلاً أن تؤسس مركز ثقافي هل هذا المجتمع يهضم هذه المعلومات وهذه الأهداف؟ يتفاعل معها؟ قراءة الظروف المحيطة بك دعامة أخرى من عائم الحكمة.

الدعامة الثالثة: الانسجام مع المصالح العامة.

كثير منا بمجرد أن يمتلك تجارة وثروة يكون تفكيره في تنمية الثروة، كلما حصل على ثروة يريد أن يحصل على مقدار أكبر، كلما حصل على ثروة طمح لما هو أكثر منها، هدفه أن يجمع الثروات بينما لو سئل ماذا تنتج ثروتك للمجتمع؟ هل يستفيد مجتمعك من ثروتك؟ هل حولت أموالك إلى شركات منتجة؟ هل حولت أموالك إلى شركات تستوعب هذه الطاقات البشرية لتثمرها ولتحركها؟ ماذا يستفيد مجتمعك من ثروتك وأموالك؟ «قيمة كل امرئ ما يحسنه» ويقول القرآن الكريم: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39] سعيك إنتاجك ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [النجم: 40] إذن انسجام مصالحك مع المصالح العامة دعامة أساسية في الحكمة.

أدوات الحكمة: ما هي الأدوات التي من خلالها أتحول إلى إنسان حكيم؟

الحكمة ليست بالمعلومات قد تراه بروفيسور، ولكنه سفيه لا يعرف كيف يدير أموره، تراه إنسان عالم يحمل من المعلومات ما لا عدد لها وهو لا يستطيع أن يدير علاقته مع أصدقائه أو مع أسرته، الحكمة شيء والثقافة والعلم شيء آخر، الحكمة تحتاج إلى أدوات معينة وهي:

الأداة الأولى: الخبرة.

كلما قرأت تجارب الآخرين اكتسبت خبرة، وكلما اكتسبت خبرة اتقد ذهنك واتسع أفقك، وإذا اتسع أفقك استطعت أن تضع الأشياء في مواضعها، الخبرة تقود إلى الحكمة ووضع الأشياء في مواضعها، والقرآن يمدح الخبير عندما يقول: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ [الأحقاف: 15]

الأداة الثانية: قوة الإرادة.

الحياة تحتاج إلى صمود، تحتاج إلى تحدي، تحدي في طلب الرزق، تحدي في الدراسة وطلب العلم، تحدي في العلاقات الصالحة، تحدي كيف تواجه الشهوات والإغراءات والتيارات المتلونة، كل ذلك يحتاج إلى إرادة صامدة، ويحتاج إلى تحدي شامخ، حياتك وشخصيتك بقوة إرادتك، ليست شخصية الإنسان في نسبه ولا في شكله ولا في علمه، شخصيته بقوة إرادته، ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : المرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه. ليس المهم هو الشكل والطيلسان، المهم ماذا ينتج، ماذا يقدم تحت طي لسانه، كما يقول الشاعر:

مبدأي   ديني  وكنيتي  iiأدبي

إن  الفتى من يقول ها أنا iiذا

 
من  عجم  كنت أم من iiالعرب

ليس الفتى من يقول كان أبي

قيمتك ليست بنسبك بل بأدبك، قيمتك ليست بعلمك ولا بأموالك، قيمتك بإنتاجك، قيمتك بقوة إرادتك، بأن تقول «لا» أمام الإغراءات والإثارات، أن تقول «لا» أمام الانهيارات، أن تقول «لا» أمام كل ما يضعف من شخصيتك ومن عزيمتك، أن تمتلك الإرادة البطلة.

إنسان مفتول العضلات وقوي البدن ولكنه ينهار أمام الشهوات والغرائز، هذا البطل بجسمه ينهار أمام الشهوة الجسدية، وترى هذا الإنسان الضعيف النحيف قوي الإرادة، صامد، شخصيتك في قوة إرادتك:

ليس من يطوي طريقاً بطلاً

فاتقي  الله  فتقوى  الله  ما

 
إنما  من  يتقي  الله iiالبطل

جاورت قلب امرئ إلا وصل

«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

 الأداة الثالثة: الوعي.

لو أردت أن تصبح حكيماً لابد أن تمتلك الوعي، أن تعي ما حولك، مثلاً معلم يدخل إلى قاعة التدريس لابد أن يعي من هؤلاء، ما هي مستوياتهم الذهنية، ما هي حاجاتهم ما هي متطلباتهم، لابد أن يمتلك المعلم الوعي بمن في القاعة حتى يؤدي التعليم بمهارة وأداء صحيح، كذلك المؤلف، والخطيب، والمثقف... إلخ ما لم يمتلك الوعي بزمانه، ما لم يمتلك الوعي بمحيطه، ما لك يمتلك الوعي بحاجات الناس وأفهامهم وتطلعاتهم لا يستطيع أن يكون حكيماً ولا يستطيع أن يضع الأشياء في مواضعها.

 المحور الثالث: تجليات الحكمة في شخصية الرسول الأعظم محمد .

يقول القرآن الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]

الأميون ليست بمعنى أنهم لا يقرأون ولا يكتبون بل هم الفطريون، كان في مكة كثير ممن يقرأ ويكتب، الأميون أي الذين لم يتلقوا بثقافات دخيلة، ولم يتلوثوا بتيارات طارئة، ما زالوا على فطرتهم وأخلاقهم وقيمهم الأولى، هؤلاء يقال لهم أميون، الرسول أيضاً هو أمي، إنسان فطري، هو إنسان يعيش بفطرته.

يعلمهم الكتاب أي يفسر لهم القرآن، ويعلمهم الحكمة أنه يعطيهم من حكمته لأنه حكيم، يفرغ عليهم من حكمته فينهلون منه الحكمة، وهناك عدة تجليات لحكمة الرسول الأعظم :

 التجلي الأول: بناء القاعدة.

الرسول كأي إنسان عنده مشروع، لابد أن يؤسس القاعدة أولاً ومن ثم ينطلق، فالرسول عليه الصلاة والسلام أسس القاعدة أولاً ثم انطلق لبناء المشروع، أسسها من خلال قوله تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]

أسس القاعدة من بني هاشم، جعفر وحمزه وعلي، هؤلاء هم الأركان لدعوته، هم القاعدة التي انطلق منها النبي ، فهذه أول مظهر من مظاهر حكمته وهو بناء القاعدة التي انطلق منها في مشروعه النبوي المحمدي.

 التجلي الثاني: محو الطبقية.

الرسول منذ أول يوم أطلق صرخته: «كلكم من آدم وآدم من تراب»، «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» بدأ بتحرير العبيد والرقيق، أنقذهم وحولوهم إلى سادة عمالقة كأمثال بلال بن رباح الحبشي، عمار بن ياسر، سلمان الفارسي، حولهم من رقيق أذلاء إلى قادة قادوا المجتمع الإسلامي، إذن محو الطبقية كان مظهراً رائعاً من مظاهر حكمة النبي .

 التجلي الثالث: اختيار الموقع المناسب للمشروع الأكبر.

دعوة النبي مرت بمرحلتين: مرحلة الدعوة، ثلاثة عشر سنة منها عاشها في مكة. ومرحلة بناء الدولة، مكة ما كانت صالحة لبناء الدولة لذلك انتقل إلى المدينة، اختيار المدينة لتكون منطلقاً لبناء الدولة هو مظهر من مظاهر حكمته رأى في المدينة ثلة من الأنصار تعينه على بناء الدولة «لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا» انتقل إلى المدينة من أجل بناء الدولة.

 التجلي الرابع: استيعاب المختلف.

كم يصعب علينا نحن أن نستوعب من يختلف معنا، كم هو صعب علينا أن نتعامل مع من يختلف معنا في الفكر، في الإيديولوجية، نتعامل معه بالحسنى، بالإنسانية، بالقيم، بالمثل، هو مظهر من مظاهر الحكمة أن تستوعب من يختلف معك.

يقول القرآن الكريم عن الرسول : ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] عبد الله بن أبي سلول كان منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر، أتى إلى الرسول فقال له الرسول: يا ابن أبي سلول أخبرني الله أنك كافر وأنك تجتمع مع المشركين. فقال: هذا اشتباه من الله. الرسول أظهر له أنه صدق كلامه، فخرج ابن أبي سلول وقال للناس: انظروا لمحمد الله يقول له شيء فيصدقه، وأنا أقول له شيء آخر ويصدقني، محمد مجرد أذن يصدق كل ما يقال، فنزلت الآية المباركة، احتواء المختلفين واستيعابهم، وكيفية احتضانهم مظهر من مظاهر الحكمة.

لاحظ اختلاف التعبير عندما ذكر الله في الآية قال: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ولكن عندما تكلم عن المؤمنين لم يستخدم الباء بل اللام ﴿وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ اختلاف الحرف يعني اختلاف نوع التصديق، يؤمن بالله التعبير بالباء أي أن إيمانه بالله إيمان حقيقي صادق تام، بينما إيمانه للمؤمنين هو إيمان ظاهري، يظهر لهم أنه يصدقهم ويؤمن بهم، هذا هو الاختلاف في التصديقين، ولأجل ذلك وُضع سهماً من الزكاة وهو سهم المؤلفة قلوبهم.

 التجلي الخامس: الجمع بين التزكية والتعليم.

أن الرسول كان يجمع بين التزكية والتعليم، ولذلك الآية المباركة قالت: ﴿يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164]

التزكية هي تهذيب الأخلاق، والتعليم تهذيب المعارف، فكان يجمع بين تهذيب الأخلاق وتهذيب المعارف، الجمع بين الأمرين يحتاج إلى جهد ومؤنة، يحتاج إلى مخطط، يحتاج إلى استراتيجية، وقد وضعها الرسول انطلاقاً من مبدأ الحكمة.

 التجلي السادس: تنوع التربية.

النبي كان له تربية عامة لجميع المسلمين، وتربية خاصة للصفوة من أصحابه، التربية العامة أشار إليها القرآن الكريم في قوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157]

والتربية الخاصة خصها بصحابته المنتجبين أبي ذر، سلمان، المقداد، عمار... هؤلاء الصفوة المنتخبين الذي انتخبهم وقوم شخصياتهم قال عنهم القرآن الكريم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23]

وقال عنهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] هؤلاء كانوا يشكلون حكمة النبي .

وهكذا كان الإمام أمير المؤمنين، كانت له تربية عامة من خلال خطبه وأحاديثه، وتربية خاصة من خلال الصفوة الذين انتخبهم وقوم شخصياتهم، كميل بن زياد، رشيد الهجري، حجر بن عدي، مالك الأشتر، حبيب بن مظاهر الأسدي... كلهم أصحاب الإمام أمير المؤمنين علي ومن هذا المنطلق بناء الصحبة واختيار الصفوة، وانتخاب الثلة المؤمنة انطلق الإمام الحسين حينما قال: إني لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي.

وفعلاً هؤلاء الذين فدوا الحسين بأنفسهم، والذين جاهدوا بين يدي أبي عبد الله مثلوا البطولة والفداء والنضال والتضحية على أرض كربلاء، لذلك خصتهم كل الزيارات الواردة عن الإمام الصادق بمقطع من الزيارة لما بذلوا وفدوا وضحوا: السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين

أصحاب الحسين شكلوا عظمة وصورة رائعة من صور كربلاء، وهؤلاء يوم عاشوراء عندما قال لهم الحسين هذا جدي رسول الله ينتظركم، هذه منازلكم في الجنان، عرفهم منازلهم واحداً بعد آخر فقوموا بارك الله فيكم، تسابقوا بين يدي الحسين فرحين مسرورين يبذلون أنفسهم في سبيل الله وفي سبيل فداء الحسين.