هل صدرت من النبي محمد (ص) اجتهادات خاطئة؟

1446-01-04

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159]

صدق الله العلي العظيم

موضوعنا في هذه الليلة حول اجتهاد النبي ، هل أن النبي كان يجتهد فيما لا نص فيه أم ليس لدى النبي فرصة للاجتهاد؟ وهل أن اجتهاد النبي كان معرضاً للخطأ والصواب كاجتهاد سائر المجتهدين أم لا؟

حتى نتناول هذه النقطة نتحدث في محورين:

  • حول العصمة.
  • حول اجتهاد النبي والأدلة التي أقيمت على ذلك.
المحور الأول: حول العصمة.

تعريف العصمة:

ما هي العصمة؟ وما هي مجالات العصمة؟ وما هو الدليل على هذه العصمة في هذه المجالات؟

العصمة لها تعريفات ثلاثة عند علمائنا:

1. التعريف الأول: أن العصمة هي الدرجة العالية من التقوى والنزاهة، ويعرف السيد المرتضى علم الهدى العصمة أنها لطف الله يفعله في العبد، إماماً، نبياً، فيمتنع العبد باختياره عن فعل القبيح. أي أن العصمة كمال روحي إذا حصل عليه النبي أو الإمام لا داعي عنده لفعل القبيح، بل الداعي دائماً لفعل الحسن.

والتعريف يتلاءم مع قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] قلوبهم طاهرة لا يوجد فيها أي رغبة وأي داعٍ نحو القبيح، بل الطهارة تدعو إلى الفعل الطاهر، وإلى الفعل الصادق.

2. التعريف الثاني: أن العصمة هي عبارة عن الاستغراق في الله، فالمعصوم لا يرى إلا الله ولا يفكر إلا في الله، ولا يلتفت إلى أمر خارجٍ عن الإطار الإلهي، هو مستغرق وفان في الله تبارك وتعالى، وهذا المعنى قد يعبر عنه ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“. أي كأنه يقول أنا مستغرق في الله في تمام أفعالي وحركاتي وسكناتي.

3. التعريف الثالث: أن العصمة نوع من العلم، العصمة عبارة عن انكشاف الواقع أمام الإنسان، أن ينكشف الواقع بكل أسراره وحقائقه ودقائقه، الواقع منكشف أمام هذا الإنسان، ولأن الواقع منكشف أمامه لا يصدر منه إلا ما هو مطابق للواقع، أيُّ فعل يفكر فيه تنكشف عواقبه وحقيقته، تنكشف أسراره، العصمة نوع من العلم وانكشاف الواقع بكل حقائقه. وهذا التعريف ذكره السيوري في اللوامع الإلهية وتبناه السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان قدس سره.

القرآن عندما يقول: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]

﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ أي أن علوم القرآن في قلب النبي، ﴿وَالْحِكْمَةَ أي أن النبي لا يفعل إلا الحكمة، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وأما العلم الزائد الذي لا هو الكتاب ولا هو الحكمة هو العصمة، انكشف له الواقع بأسراره وحقائقه، فلا يفعل إلا ما هو صواب وواقع، وهذه الآية يؤكدها قول آخر في القرآن وهو قوله تبارك وتعالى، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] الشهادة تقتضي العلم، ولا يمكن أن يكون شهيداً على كل أعمال الناس إلا إذا كان له علم بأعمال الناس، على علم بحقائق الأعمال وحقائق القلوب حتى يكون شهيداً عليهم، إذن الآيات القرآنية ترشد إلى أن العصمة نوع من العلم.

وأما في الروايات الشريفة عندما نقرأ روايات صحيحة عن الأئمة الطاهرين ، مثلاً قولهم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]

﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52] الإمام الصادق في صحيحة أبي بصير يقول: الروح خلْقٌ أعظم من جبرائيل وميكائيل. هو مع النبي يخبره ويسدده، ولا ينفك عن النبي، الواقع دائماً منكشف إلى النبي لأن الروح معه يخبره ويسدده وهو مع الإمام من بعده، الإمام على نسق النبي محمد .

ولدينا أيضاً رواية أخرى صحيحة عن الإمام الصادق يتحدث عن ما أعطي للحجة من نبي أو إمام، يقول بأن السابقون السابقون هم رسول الله وخاصة الله من خلقه، قد جعل الله فيهم  في الحجج  خمسة أرواح منها أنه أيدهم بروح القدس، وبه عرفوا الأشياء، روح القدس يطلعهم ويكشف لهم الواقع، إذن هناك نوع من العلم اقترن معهم ولازمهم تنكشف به الحقائق والأشياء.

مجالات العصمة:

متى يكون النبي معصوماً؟ وهل النبي معصوم عصمة مطلقة أم معصوم عصمة جزئية، معصوم في بعض الموارد دون البعض الآخر؟

لدينا عدة مجالات:

المجال الأول: التبليغ.

النبي معصوم في تلقي الوحي، وفي تبليغه لا يخطئ لا ينسى، هو معصوم في تلقي الوحي وتبليغه، وهذا مما يحكم به العقل بالضرورة، لابد أن يكون النبي معصوم في تلقي الوحي وتبليغه لأن الهدف من البعثة أن يصل الدين إلى الناس ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] فإذا كان الهدف هو وصول الدين، فكيف نضمن وصوله إذا لم يكن النبي معصوماً!

لا يمكن ضمان وصول الدين للناس إلا إذا كانت الوسيلة وسيلة لا تخطئ ولا تنسى، إذا كانت الوسيلة معصومة فهناك ضمان لوصول الدين إلى الناس، إذن لابد أن يكون النبي معصوماً في تلقي الوحي وتبليغه حتى يضمن وصول الدين إلى الأمة، لذلك جاءت الآية المباركة وقالت: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا «26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «27» لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «28» [الجن: 26 - 28]

لا يستطيع الرسول أن يتخلف أبداً، خلفه وأمامه رصد يرصدون فهمه وتبليغه، تلقيه وتبليغه، فهو معصوم في مجال التبليغ ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ «46» [الحاقة: 44 - 46]

المجال الثاني: مجال فعل المعصية.

كما أنه معصوم في تلقي الوحي وتبليغه هو معصوم عصمة سلوكية، لا يصدر منه الذنب لا صغير ولا كبير، معصوم في مطلق سلوكه، بلا معصية صغيرة ولا كبيرة، لأنه لو كان النبي ممن تصدر منه المعصية لانتقض الهدف من بعثته، والهدف من بعثة النبي أن تنقاد الناس إليه وأن تستجيب له وأن تثق بشخصيته حتى يستطيع من خلال ذلك أن يطبق العدالة وأن ينشر الدين، لو كان النبي ممن يعصي لسقط محله في القلوب ولم تنقاد الناس إلى شخصيته، ولم تركن إلى دعوته وهذا يعني أن الهدف من بعثته ينتقض، ونقض الهدف من البعثة قبيح على الله تبارك وتعالى، بما أنه بعثه وكان هدفه من البعثة أن تنقاد الناس فلابد أن يهبه العصمة السلوكية حتى يحقق انقياد الناس إليه ووثوقهم بشخصيته لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 87]

وقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2]

المجال الثالث: ما يسمى بالقضايا التدبيرية.

هل النبي معصوم في تدبير الدولة؟ النبي يقضي بين الناس، النبي يُصدر قرار السلم وقرار الحرب، النبي يبرم معاهدات مع المشركين واليهود، النبي يقوم بتفريق الزكاة على الأسهم الثمانية، هل النبي معصوم في مجال الإدارة؟ هل هو معصوم أو يمكن أن يخطئ في إدارة الدولة؟

الجواب: كما هو معصوم في التبليغ، وكما هو معصوم في سلوكه فهو معصوم في إدارة الدولة، معصوم في مجال القيادة لأن القيادة هي تطبيق للدين، النبي لا يستطيع أن يقرر سلم وحرب ومعاهدات وعمل إلا أن يكون ذلك تطبيقاً للدين، وأوضح مورد لتطبيق الدين هو القضايا الإدارية، أوضح مورد لتطبيق التشريع السماوي هو القضايا الإدارية، إذن المسألة مسألة حساسة أن يكون النبي في القضايا الإدارية مخطئاً مع أن القضايا الإدارية تحتاج إلى تطبيق للدين بحذافيره.

عندما تقرأ قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] الهدف من بعثة الأنبياء تحقيق العدالة، وتحقيق العدالة يتوقف على الإدارة العادلة، لا تستطيع أن تحقق عدالة بدون إدارة عادلة، إذن القضايا الإدارية التي تصدر من النبي هي تحقيق للهدف من بعثته وهي إقامة القسط وتحقيق العدالة فلا يمكن أن يحقق هذا الهدف وهو العدالة مع كونه ممن يخطئ وينسى، ويزل ويسهو وإلى غير ذلك، لا يمكن أن تتحقق العدالة إلا إذا كان معصوماً في القضايا الإدارة لذلك القرآن الكريم عندما يأمر بطاعة النبي يأمر بها مطلقاً ولا يفصّل ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة: 92]

ويقول: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 71] ويقول: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132]

يقال من البعض في تفسيرهم للآية أطيعوا الله وأطيعوا الرسول في الأوامر، إذا صدر من النبي أمر يطاع، أما إذا لم يصدر منه أمر مجرد فعل فعله أو تقرير صدر منه لا يجب إطاعته، ولكن هذا التفسير غير صحيح لأن الآية مطلقة تريد أن تقول أن على المؤمنين اتباع الرسول فيما يصدر منه، قول، فعل، تقرير، أمر، نهي، في مجال التبليغ، في القضايا الإدارية، في كل ما يصدر منه على المؤمنين اتباعه، ويتضح ذلك من خلال عدة قرائن:

  • القرينة الأولى: إذا لاحظت الآية قرنت طاعة النبي بطاعة الله، كل ما يصدر من الله من قول أو أمر أو إخبار فهو حق وواقع يتبع، كما أن طاعة الله مطلقة طاعة النبي مطلقة.
     
  • القرينة الثانية: تلاحظ أن الآية عندما فرضت التنازع ما فرضت تنازعاً مع النبي بل جعلت النبي دائماً مرجعاً وليس طرفاً في النزاع ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59]
    أي أن الرسول ليس طرف نزاع بل هو دائما مرجع وهو الحكم، ومعنى ذلك أن الرسول دائماً على صواب، ولا يصدر منه إلا الصواب، فلذلك لا يدخل طرفاً في النزاع وإنما يكون مرجعاً وحكماً عن النزاع.
     
  • القرينة الثالثة: إذا رأيت ذيل الآيات كلها تفرض الفوز ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 71] ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران: 132]
    كل ذلك يدل على أن الآية مطلقة أي أن من يتبع الرسول فاز فوزاً عظيماً، من يتبع الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم بدون تفصيل، هناك فرق بين الأمر بإطاعة العلماء وبين الأمر بإطاعة الرسول، الأمر بإطاعة العلماء محدود، لا يطاع العالم مطلقاً، ما ورد عن الإمام الصادق : مجاري الأمور بيد العلماء أمناء الله على حلاله حرامه. ليس أي عالم بل العالم الذي هو أمين لله على حلاله وحرامه.

إذن إطاعة العالم مقيدة بأن يكون عالماً أميناً على حلال الله وحرامه، بينما الله أمر بإطاعة الرسول مطلقاً بلا قيد وهذا معناه أن الرسول على صواب فيما يصدر منه من قول أو فعل أو تقرير في مجال تبليغ الدين أو في مجال القضايا الإدارية.

المجال الرابع: القضايا الشخصية.

تعامل الرسول مع زوجته هل يخطئ معها؟ هذه قضية شخصية لا هي قضية سماوية ولا هي قضية إدارية، يتعامل الرسول مع زوجته في البيت هل يخطئ؟ هل يخطئ الرسول في تشخيص القبلة؟ هل يخطئ الرسول ويظن أنه مدين وهو ليس مدين؟ هل يخطئ الرسول في حديثه عن القضايا الطبية؟ مثلاً الرسول يقول: تناولوا الحبة السوداء فإنها شفاء، ويقول تناولوا العسل فإنه شفاء فهل هو يخطئ في ذلك؟

هذه كلها تسمى بالقضايا الشخصية، فهل أن الرسول كما هو معصوم في مجال التبليغ وفي مجال القضايا الإدارية هو معصوم في القضايا الشخصية أيضاً؟

المعروف بين علماء الإمامية أن الرسول معصوم عصمة مطلقة حتى في القضايا الشخصية، العقل والنقل يرشدان إلى ذلك، أما من جهة العقل فالعقل يقول لو لا أن الرسول معصوم عصمة مطلقة حتى في القضايا الشخصية لسقط اعتباره في نظر الناس، لأمرين:

الأمر الأول: الناس إذا رأوا هذا الرسول يغلط على زوجته أو يخطئ في تشخيص الأمور فسوف يقولون أنه من المحتمل كما أخطأ في تعامله مع زوجته، من المحتمل أنه أخطأ عندما قال لنا صلوا هكذا وحجوا هكذا وصوموا هكذا، طبيعة الإنسان يشكك في ذلك، طبيعة الإنسان أن المرتكز الوجداني لديه إذا رأى إنساناً يخطئ في تعامله مع زوجته، يخطئ في تعامله مع الناس يحتمل أنه يخطئ أيضاً حتى في مجال تبليغ الوحي، حتى في مجال تبليغ تعاليم السماء، أي أن احتمال الخطأ ينسحب حتى إلى مجال التبليغ، وإذا انسحب الاحتمال حتى إلى مجال التبليغ سقط اعتباره كرسول، الهدف من بعثته أن يصل الدين إلى الناس ولا يصل الدين إلى الناس إلا إذا وثقوا وثوقاً تاماً بأنه لا يخطئ، فإنه رأوه أنه أخطأ في القضايا الشخصية انسحب احتمال الخطأ حتى في الأمور الدينية، وإذا احتملوا خطأه في الأمور الدينية لم يصل إليهم الدين على واقعه لأنهم لا يثقون بالرسول وثوقاً تاماً.

الأمر الثاني: النفور، الشخص المخطئ موجب لنفرة الناس منه وعدم انقيادهم إليه، وعدم التفافهم حول رايته، والنفور منهم يمنع من تحقيق الهدف من الرسالة، والهدف من الرسالة هو إقامة العدالة، وإقامة العدالة تتوقف على رصيد شعبي، إلى وثوق تام ممن حوله وهذا الوثوق لا يحصل إذا كانوا يرون الرسول الأعظم ممن يخطئ في القضايا الشخصية التي هي محل التفات ومرأى من الناس.

وأما الدليل النقلي ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى «3» إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى «4» [النجم: 3 - 4] بداية سورة النجم تتحدث عن المشركين، وفي وسطها تتحدث عن معراج النبي ولقائه بجبرئيل ، ولكن هذا لا يعني أنه هاتين الآيتين خاصتين بالخطاب مع المشركين، بل هما ناظرتين لتبليغ الوحي، هذه السورة أخبرت عدة إخبارات:

الإخبار الأول: خطاب مع المشركين ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى «1» مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى «2» [النجم: 1 - 2] والإخبار الثاني: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى «3» والإخبار الثالث: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى «4» هذا إخبار عام لا موجب لتقييده وتخصيصه، يعني إن هو إلا وحي يوحى فقط في تبليغ الدين، فقط في القضايا الإدارية بل هي آية عامة مطلقة لا موجب ولا داعي لتخصيصها، أي أن هذا الإنسان صاغه الله كما أراده هو، يقول الأزري: قلب الخافقين ظهراً لبطن فرأى ذات أحمد فاصطفاها *** لم يكن أشرف النبيين حتى علم الله أنه أزكاها

نحن نقول أن الله خلق الإنسان إلى الكمال ومن ثم يكون أكمل الناس وهو الرسول يخطئ وينسى ويضل! الله خلق الإنسان لكي يصل إلى الكمال إذن لابد أن يعطينا أنموذج وصل إلى أعلى درجات الكمال وأسمى دراجته، ولا يوجد أنموذج أولى وأجلى وأوضح من النبي محمد ، صاغه الله كما أراد طاهراً نزيهاً مرآة لله، مرآة للواقع، لذلك أمر بإطاعته طاعة مطلقة وقال: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59]

المحور الثاني: حول اجتهاد النبي والأدلة التي أقيمت على ذلك.

إذا قلنا أن العصمة نوع من العلم وأن العصمة معناها انكشاف الواقع بحقائقه وأسراره إذن من الطبيعي أن الرسول لا يخطئ لأن من كان لديه العلم بالواقع وبأسراره وحقائقه لن يخطئ، فإذا كانت العصمة نوع من العلم إذن لا معنى من البحث عن اجتهاد النبي، لأن من كان عالماً وقد انكشف الواقع له فلا مانع لأن يجتهد، ولا يتصور ثمرة لهذا البحث في أنه مجتهد أو غير مجتهد.

ولكن هذا البحث يطرح عند من ينكر أن النبي معصوم عصمة مطلقة، الذي لا يقول بأن النبي معصوم عصمة مطلقة كما في الفرق غير الإمامية، أو من يقول أن النبي معصوم لكن ليس لديه علم مطلق، هو من سوف يبحث هل أن النبي يجتهد أو لا يجتهد، لأن من يقول أنه لديه علم مطلق إذن بالنتيجة لا معنى لهذا البحث ولا ثمرة فيه.

لو افترضنا أن النبي ليس بمعصوم عصمة مطلقة فهل كان النبي يجتهد فيخطئ أم لا؟

هناك فكرة أن النبي له شخصيتان: شخصية سماوية وهي أنه رسول، وشخصية بشرية ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف: 110] وبما أنه بشر إذن فيما لا نص فيه يكون مجتهد، كل شيء لا يرى الرسول نصاً من السماء فيه يقوم بعملية الاجتهاد فيدرس المصلحة العامة وعلى ضوء دراسته للمصلحة العامة يجتهد، والاجتهاد معرض للخطأ والصواب، فهو كسائر المجتهدين.

ترى بعض المسلمين يروي هذه الرواية أن النبي لما جاء إلى بدر قبل معركة بدر ووصل إلى منطقتها نزل في مكان، فقال له الحباب بن المنذر: يا نبي الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته، أهو منزل أنزلك الله إياه أم هو الحرب والمكيدة؟ قال النبي: بل هو الحرب والمكيدة. قال له الحباب بن المنذر: إذن ليس هذا بمنزل لك انهض وانزل في قليب أدنى من القوم. فقال النبي: أشرت بالرأي. وقام النبي وغير المكان. إذن معناه أن النبي اجتهد وأخطأ، وحين تبين أن المنزل الذي نزل فيه ليس بمنزل صالح للحرب انتقل منه لما نبهه الحباب بن المنذر إلى منزل آخر.

هذه الرواية مروية في كتب أهل السنة، ويرويها ابن إسحاق في سيرته بدون سند أصلاً، أي رواية مرسلة، وابن إسحاق ما أدرك النبي فكيف يروي رواية بدون سند ولا واسطة؟ إذن هي رواية لا قيمة لها عندنا.

أو في رواية أخرى أن النبي لما هاجر من مكة إلى المدينة رآهم يلقحون النخل فقال لهم: لو لم تلقحوه لكان صالحاً. فتركوا التلقيح والنخل لم يثمر بل خرج شيصاً فجاؤوا إلى النبي وقالوا: يا رسول الله نحن اتبعناك وما أنتج النخل ولا أثمر. قال: أنتم أعرف بأمور دنياكم.

هذه الرواية وإن رواها مسلم في صحيحة وبسند صحيح عند إخواننا أهل السنة ولكن نحن كموقف منها أبداً لا نقبل هذه الرواية، أولاً الرسول معصوم، ثانياً حتى لو افترضنا أنه ليس بمعصوم فهو لن يتدخل فيما لا يعنيه، يتدخل في أمور الناس وهو لا يعلم بها ثم يتراجع ويقول أنتم أعلم بأمور دنياكم!

ثالثاً الرسول عندما ذهب إلى المدينة كان عمره خمسين سنة فهل يعقل أنه بهذا العمر ولا يعرف أبسط ثقافة يعرفها أهل الحجاز! أهل الحجاز أبسط ثقافة يعرفونها أن النخل لا يثمر حتى يُلقح، مثل هذا الموضوع البسيط كان يجهله وعمره خمسون سنة؟! هذا شيء غير متصور.

إذن مثل هذه الروايات التي لم يروها أئمتنا صلوات الله عليهم أجمعين روايات لا تتناسب مع عظمة شخصية النبي محمد ، ولكن من يرى أن النبي كان يجتهد ويخطئ يستدل ببعض الآيات القرآنية:

منها قوله تعالى:

الآية الأولى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159]

البعض يقول أن شاورهم في الأمر أي أن الرسول كان يحتاج إلى المشورة والمشورة نوع من الاجتهاد، أي أن الرسول كان يجتهد عبر المشورة فإذا وصل إلى الرأي الصائب نتيجة الاجتهاد عزم وتوكل على الله، ولكن في الواقع ليس هذا هو معنى الآية، الرسول أمر بالمشورة لكن ما أمر بالمشورة لأنه يحتاج إلى المشورة، إنما أمر بالمشورة كمظهر من مظاهر الرحمة، كمظهر من مظاهر اللطف لأمرين:

1. الأمر الأول: هذه الآية لا تقصد خصوص المؤمنين وأهل الرأي والحذاقة حتى يقال أن الآية دالة على أن النبي يحتاج إلى المشورة، الآية تتكلم عن معاملة الرسول مع سائر المسلمين، الآيات التي قبلها تتحدث عن كل المسلمين، وهذه الآية أيضاً تتحدث عن كل المسلمين.

2. الأمر الثاني: أن الآية تصدرت بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي أنك بعثت رحمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] أنت بعثت رحمة، ولأنك بعثت رحمة لابد أن تتحلى بمظاهر الرحمة دائماً، ومن مظاهرها اعفو عنهم، استغفر لهم، شاورهم في الأمر.

إذن الأمر بالمشورة لا لحاجة النبي إلى المشورة بل لأن المشورة مظهر من مظاهر الرحمة ولأجل ذلك قال: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ ما قال فإذا اقتنعت بالرأي، لو كان محتاجاً للمشورة لقالت الآية فإذا اقتنعت بالرأي فتوكل على الله، ولكنها قالت فإذا عزمت فتوكل على الله.

الآية الثانية: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43]

النبي لما أراد أن يخرج إلى غزوة تبوك قال مجموعة من المسلمين: يا رسول ائذن لنا أن لا نخرج معك. فأذن لهم، فنزلت هذه الآية، والتفسير الموجود عند إخواننا أهل السنة أن النبي اجتهد فأخطأ، اجتهد ورأى أن الإذن صواب فأذن، ثم عاتبه الله وقال ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي أن هذا اجتهاد خاطئ منه، ولكن هذا التفسير غير صحيح، هذه الكلمة ﴿لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ظاهرها البدوي العتاب لكن واقعها المرادي الجدي هو التحذير من وجود فئة المنافقين، وقد جاء القرآن بمعنى مشابه له في آية أخرى عندما خاطب الله سبحانه عيسى بن مريم : ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116]

ألا يعلم الله ما قاله عيسى؟ الله يعلم أن عيسى ما قال ذلك، فإذا كان الله يعلم أن عيسى لم يقل ذلك فلماذا يقول له أأنت قلت للناس.. يقال أن معناها ظاهره الاستفهام، ولكن واقعه ليس الاستفهام بل بيان للحقيقة، أراد الله أن يبين أن ما نسبه هؤلاء لعيسى أنه يقول أنا وأمي إلهان نسبة غير صحيحة، أراد أن يبين أن النسبة غير صحيحة فصاغها بصيغة الاستفهام، أيضاً هنا أراد الله أن يبين أن في المسلمين فئة من المنافقين، فئة ضارة، وقد بينها بصيغة العتاب.

ودليلنا على أن هذا مجرد تحذير وليس عتاب، ودليلنا على أن إذن الرسول كان صواب وما كان خطأ، لأن الرسول لو لم يأذن لهم وخرج هؤلاء مع الرسول ستكون المعركة فاشلة، لأنهم منافقون سيبثون الفتن والأراجيف، سيخسرون المعركة، النبي كان صائباً في الإذن لهم بالرجوع، كان يريد الحفاظ على وحدة الصف، ويريد الحفاظ على الروح القتالية للمسلمين والمؤمنين فأذن لفئة المنافقين بأن يتراجعوا عن المعركة حتى لا يخسر المعركة، والدليل على أن إذن الرسول صائب هو القرآن نفسه، القرآن بعد هذه الآية صوب كلام النبي وقال: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة: 46] ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ «47» لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ «48» [التوبة: 47 - 48] القرآن بنفسه يقرر أن فعل النبي في محله، فكيف يعاتب على أمر صائب ويوبخ! إذن هذه الكلمة ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ صيغة عتاب ولكن واقعها تحذير من وجود فئة المنافقين كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101]

الآية الثالثة: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى «1» أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى «2» وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «3» أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى «4» أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى «5» فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى «6» وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى «7» وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى «8» وَهُوَ يَخْشَى «9» فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى «10» [عبس: 1 - 10]

والرواية التي يرويها إخواننا أهل السنة أن رجلاً اسمه ابن أم مكتوم مكفوف البصر يسأله مسائل شرعية ويطلب الهداية والنبي أعرض عنه وذهب إلى مجموعة من أغنياء المشركين ليتحدث معهم، فنزلت السورة توبيخاً على ما صنع.

إذا جئت إلى هذا اللسان لا يحتمل أنه خطاب للرسول لأنه ليس عتاب ولا إشفاق بل هو توبيخ وتقريع، هذا اللسان ليس لسان عتاب بل توبيخ وتقريع، والعمل الذي صدر عمل يتنافى مع أهداف الدعوة، ومن أعظم أهدافها هو التصدي للفقراء وهدايتهم، من أعظم أهداف الدعوة اللطف بالمؤمنين والإقبال عليهم، فلو كان هذا العمل صادر من النبي لكان ذنباً وليس خطأ فقط، هذا العمل وهو الإعراض عن المؤمنين والتصدي للأغنياء بلا مبالاة لتزكيتهم هذا العمل ذنب لأنه مناف لأهم أهداف الدعوة المحمدية، وهي آية لا تلتقي مع قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]

أين الحرص وأين العزة وأين الرأفة والرحمة وهو يعرض عن المؤمنين ويتجه لبعض الأغنياء من المشركين؟!

أو مع قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]

إذن نحن نقول هذه الآية لم تنزل في الرسول الأعظم، بل نزلت في بعض صحابته، لأنهم كانوا أيضاً يتصدون لتبليغ الأحكام ولهداية الناس، أحد الصحابة هو الذي صد عن المؤمن وأقبل على الغني المشرك فجاءت هذه السورة توبيخاً والدليل على أنها ليست توبيخاً للنبي أنها جاءت بصيغة الغائب، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى «1» أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى «2» قل له يا رسول الله ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى «3»

ما نعتقده نحن هو أن النبي معصوم والمعصوم لا يحتاج إلى الاجتهاد وإذا اجتهد لا يتصور فيه الخطأ، موضوع الاجتهاد منفي عندنا، ولكن لو لم نقل ذلك فإذن النبي لا يصدر منه اجتهاد أو اجتهاد خاطئ والأدلة التي أقيمت على ذلك هي أدلة غير تامة، ولذلك ترى عند علماء الإمامية موقف حتى من الروايات الصحيحة التي تسيء لشخصية النبي، مثلاً لدينا رواية صحيحة في كتب الشيعة رواها الشيخ الصدوق رحمه الله وغيره، وهذه الصحيحة أن النبي صلى ركعتين فلما انصرف قال له ذو الشمالين: يا رسول الله أحدث بالصلاة شيء أم أنت نسيت؟ فقال رسول الله لمن حوله: أصدق ذو الشمالين؟ قالوا: بلى يا رسول الله فأقام وأكمل الصلاة.

هذه الرواية صحيحة السند وموجودة عند الشيعة ولكن علماءنا يقفون منها موقف الرفض، ولا يقبلوها وإن كانت صحيحة السند أولاً لأن الرسول معصوم، ثانياً هل من المعقول أن أكمل البشر وأقربهم إلى الله يسهو في صلاته؟ أقرب البشر إلى الله لا يدري كم صلى ويسأل فيقال له أنك اشتبهت في عددها؟ هل ينسجم هذا العمل مع من هو منصهر بالصلاة حتى قال أحب من دنياكم ثلاثا: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة؟ هل ينسجم هذا مع قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2» [المؤمنون: 1 - 2]؟ هل النبي يدخل تحت قوله تعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ «4» الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ «5» [الماعون: 4 - 5]؟ هل هذا ينسجم مع النبي وقد كان النبي قطعة من الصلاة، فانياً في الصلاة، ذائباً في الصلاة، وإذا أقبل شهر رمضان ربط الحزام على بطنه وانشغل بالصلاة ليله فيُقال يا رسول الله أنت أشرف الخلق سيد أهل الجنة لك الشفاعة الكبرى فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً!

لذلك لابد من الاهتمام بالصلاة، نبهوا أبناءكم على الصلاة، ورد عن الرسول الله : مروا أبناءكم بالصلاة لسبع. وورد عن الإمام الصادق : إنا لنأمر أبناءنا بالصلاة لخمس فمروا أبناءكم بالصلاة لسبع. اصحبوا أطفالكم إلى المسجد، اصحبوهم إلى المراكز حتى يتعلموا على أجواء الصلاة ويعيشوا مع الصلاة، الإمام أمير المؤمنين كان يصلي والحرب قائمة على قدم وساق، والسهام تنفذ إلى جسده فلا يبالي بها، فيقال يا أبا الحسن أهذا وقت صلاة؟ فيقول: وعلام نقاتلهم؟ إنما نقاتلهم لأجل الصلاة.

الصلاة انصهر بها الأئمة صلوات الله عليهم ولذلك ترى سيد الشهداء في حرارة القتال يوم عاشوراء وعلى لهيب الرمال وهو يقول: اطلبوا من هؤلاء القوم بعض الوقت لنصلي لربنا، يقول له أبو ثمامة الصيداوي إني لا أريد أن أخرج من هذه الدنيا حتى أصلي معك، قام الحسين يصلي يوم عاشوراء في وقت الحرب، وفي سعر القتال والسهام تترى عليه كرش المطر، الحسين ما ترك الصلاة وما ترك التنفس في الصلاة ولذلك تقرأ في زيارة الحسين: أشهد أنك قد أقمت الصلاة.