هل كان هدف النبي (ص) إمبراطورية عربية أم رسالة سماوية؟

1446-01-05

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الكهف: 110]

صدق الله العلي العظيم

تحدث القرآن الكريم عن بشرية الرسول الأعظم فقال تبارك وتعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 93]

وقال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7]

لا إشكال أن الرسول بشر يعرضه الصحة والمرض والحياة والموت والتعب والراحة، وسائر ما يعرض الجسم البشري، وهناك عدة أقلام عربية حاولت أن تكرس العنصر البشري في شخصية النبي المصطفى وذلك من خلال التقاط بعض الشواهد التاريخية للتأكيد على أخطاء أو سقطات في مسيرة النبي الأعظم ، مثلاً كتاب «من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ» للعفيف الأخضر، أو كتاب «نبوة محمد الصناعة والتاريخ» مدخل لرؤية نقدية لمحمد محمود، أو كتاب «قريش من القبيلة إلى الدولة» لخليل عبد الكريم، أو كتاب «الشخصية المحمدية» لمعروف الرصافي.

بعض هذه الكتب انطلقت من أن النبي بشر إلى أن مشروع النبي لم يكن إلا مشروع بشري، وليس رسالة سماوية، بعض هذه الكتابات تريد أن تقول بأن مشروع الرسول هو امبراطورية قريشية عربية وليس رسالة سماوية، النبي قاتل وغزا وخاض الحروب لا من أجل السماء بل من أجل أن يحقق لقبيلته قريش امبراطورية عربية تسود الأمم، وتسيطر على المجتمعات، وذلك من خلال عدة مبررات تطرحها هذه الأقلام: مبرر تاريخي، مبرر اقتصادي، ومبرر شخصي.

ونحن عندنا عدة وقفات ومحطات مع هذه المبررات المزعومة التي تريد أن تقرر أن مشروع النبي امبراطورية قريشية عربية وليس رسالة سماوية.

المبرر الأول: المبرر التاريخي.

هناك عدة شواهد يذكرها هؤلاء على أن النبي كان يطمح للملك والسلطة:

الشاهد الأول:

أن قريش جاءت إلى أبي طالب عم النبي رضي الله عنه، وقالوا يا أبا طالب قل لابن أخيك يدعنا وديننا وندعه ودينه، وما يريد نعطيه. فقال أبو طالب للنبي ذلك  يذكره نور الدين الحلبي في كتابه نور العين في سيرة الأمين المأمون المسمى بالسيرة الحلبية، وابن هشام في سيرته وغيره من المصادر  فقال النبي: أرأيتكم إن أعطيتكم ما تسألون أن تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم؟ فقالوا: وما هي هذه الكلمة؟ فقال: لا إله إلا الله. قالوا: لا إلا هذه الكلمة.

فهنا نرى أن النبي يصر على الملك، ويطمع قبيلته قريشاً في الملك والسلطة.

الشاهد الثاني:

أن النبي لما هاجر إلى المدينة بعثت قريش خلفه من يمسك به، بعثت سراقة بن مالك وأعطته ووعدته بجائزة عظيمة إن ظفر بالنبي وأتى به، وفعلا ظفر سراقة بن مالك بالنبي لكن النبي أستطاع أن يتخلص منه بأسلوبه الساحر وقال له: يا سراقة كيف بك إذا تسورت سواري كسرى؟

قال سراقة: كسرى بن هرمز! قال: نعم ستتسور بسواري كسرى بن هرمز. فابتسم وفرح بهذا الوعد. وفعلا بعد أن فتحت بلاد فارس جيء بسواري كسرى فأقبل سراقة بن مالك إلى الخليفة الثاني وقال سوروني بسواري كسرى كما وعدني محمد رسول الله .

وهذا يعني أن النبي كان يطمح للملك والسيطرة على كسرى وكنوزه وأسورته.

الشاهد الثالث:

جاء للنبي وفد من بني عذرة الداريين، تميم الداري وأصحابه، فقال لهم: تؤمنون بي على أن... وعلى أن...؟ قالوا: نعم نؤمن بك. فكتب لهم كتاب قال فيه: هذا ما أعطى محمد رسول الله تميم الداري وأصحابه، بيت عينون، وجيرون، والمرتوم، وبيت إبراهيم، عطية بتت ونفدت.

بيت عينون قرية في القدس، جيرون باب من أبواب دمشق، وبيت إبراهيم مسجده عند المسجد الأقصى، أي أن النبي أقطع أراضي قبل أن تفتح بلاد الشام، أقطعها وملكها لتميم الداري وأصحابه، وهذا عبارة عن طموح للملك والسيطرة، طموح لتوسعة دائرة السلطة.

إذن من هذه الشواهد التاريخية يقرر مجموعة من الأقلام العربية أن مشروع النبي كان امبراطورية عربية قرشية، يريد أن يسيطر بها ويملك بها الجزيرة العربية وسائر المجتمعات.

نحن عندما نريد أن نناقش هذا المبرر التاريخي كما يُدعى نذكر عدة ملاحظات عليه:

الملاحظة الأولى:

إن أوثق مصدر يتحدث عن مشروع النبي المصطفى هو القرآن الكريم، هو أوثق مصدر صحب النبي في كل مشروعه خلال ثلاثاً وعشرين سنة، نرجع إلى القرآن الكريم ونرى كيف تحدث عن مشروع النبي ، ومشروعه بنظر القرآن الكريم يتلخص في حضارةٍ وليس ملك ولا سلطة، حضارة قائمة على عدة معالم:

  1. المعلم الأول: الإنتاج، القرآن يصر على موضوع الإنتاج ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105] ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2] وهو ما قاله أمير المؤمنين علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه.“ قيمة كل إنسان بنتاجه وعطائه. ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39]
     
  2. المعلم الثاني: الكرامة، القرآن أعطى الكرامة لكل إنسان في الأرض ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70]
     
  3. المعلم الثالث: العلم، القرآن يعظم العلم، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1» خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ «2» اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ «3» الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ «4» عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ «5» [العلق: 1 - 5]، ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9]
     
  4. المعلم الرابع: العبادة والاتصال بالله، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]
     
  5. المعلم الخامس: أن المجتمع الإنساني مجتمع مترابط اجتماعياً، لا كمثل المجتمعات الغربية مجتمعات متفككة، الحضارة التي ذكرها القرآن الكريم حضارة تقوم على مجتمع مترابط ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]
     
  6. المعلم السادس: الرقابة الاجتماعية ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110]

هذا هو مشروع النبي، حضارة قائمة على معالم عظيمة ذكرها القرآن وطرحها وليست مشروعاً سلطوياً امبراطورياً، جاء في رواية صحيحة معتبرة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق : جاء ملك إلى رسول الله وبيده مفاتيح خزائن الأرض، وقال: يا رسول الله إن الله يخيرك بين أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً أو تكون ملكاً رسولاً ولا ينقص من مكانك شيء؟

قال: بل أريد أن أكون عبداً متواضعاً رسولاً.

كان النبي يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويركب راحلته، ويجلس على التراب مع أصحابه، كان يعيش زمانه صائم النهار قائم الليل، يكتفي باللبن والتمر ليقيم به بدنه، وكان مظهراً للأخلاق والرحمة ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]

الملاحظة الثانية:

تلاحظ أن بعض الكتَّاب لديهم حكم مسبق ويريدون أن يبحثوا عن مبررات فقط، في ميزان النقد العلمي هناك فرق بين الدليل والمبرر، الدليل هو البرهان القائم على أصول موضوعية، بمعنى أن الكاتب جمع الشواهد التواريخية كلها وقام بغربلتها سنداً ومتناً ودلالة، ومن ثم يقارنها بالشواهد القرآنية والحديثية الأخرى ثم يستنتج الحكم، أما إذا كان الكاتب لديه حكم جاهز مسبق في رأسه، وينظر إلى النبي بنظرة معينة ويلتقط شواهداً غير كاملة ليثبت الحكم الذي في ذهنه فهذا يسمى مبرر وليس دليل؛ لأن المبرر هو شواهد تنحدر عن دوافع سيكولوجية ورواسب ثقافية معينة وليست أدلة مبنية على أصول موضوعية.

والشواهد التاريخية التي ذُكرت نقول عنها:

  • أولاً:

الاعتماد على السيرة الحلبية لا يصح؛ لأن نور الدين الحلبي من أعلام القرن الحادي عشر، وتوفي سنة 1044 هـ ، فلا يصلح أن يعد كتابه من المصادر بل يعد من المراجع.

وأما سيرة ابن هشام فما هو إلا تهذيب إلى كتاب ابن إسحاق في المغازي والأخبار، وكتاب ابن إسحاق كُتب بعد رحلة النبي بمئة سنة، أي في عهد المنصور العباسي، وكتابه لا يخلو من خلل في الأسناد والروايات، فهل يعتمد عليه في قراءة تاريخ الرسول ؟

  • ثانياً:

الخبر الأول وهو قول النبي لأبي طالب: هل يعطوني كلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم. هذا الخبر ذكره الشيخ المجلسي في البحار وقد نقله عن مناقب ابن شهر آشوب مناقب آل أبي طالب، وابن شهر آشوب ما نقل عن أهل البيت، نقل عن الطبري والبلاذري أي من أركان اتجاه آخر، هؤلاء نقلوا الخبر بلا سند معتبر أبداً، مضافاً إلى أن الطبري لم يذكر كلمة المُلك وإنما قال: هل تعطوني كلمة تدين بها العرب، ولم يقل تملكون بها العرب.

ولو افترضنا جدلاً أن النبي قال هذه الكلمة، فإنه قد يقولها لمجاراة ثقافة قومه لأن العرب في الجاهلية وقريش بالتحديد لا تفكر إلا بالملك والسلطة، فالنبي مجاراة لثقافة قومه قال لهم هذه الكلمة، ولكنه لم يكن يتحدث عن مشروعه وإنما يتحدث معهم بما يعيش في أفكارهم ويتغلل في خواطرهم، لا أنه من باب الحكاية عن مشروعه.

وأما الخبر الثاني وهو قول النبي لسراقة بن مالك: كيف بك إذا تسورت سواري كسرى؟ قال: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم. فإن أول من روى هذا الخبر هو الحسن البصري، والحسن البصري يقول عنه البيهقي في كتابه «دلائل النبوة»: لا يبالي عمن أخذ. فكيف يعتمد على روايته؟

وأما الخبر الثالث وهو قول النبي: هذا ما أعطى لتميم الداري وأصحابه.. أعطاهم أقطاعاً وأراضي حتى قبل أن تفتح الشام، أولاً هذا مخالف للفقه الإسلامي تماماً، لأن الفقه الإسلامي يقول: لا يجوز للقائد أن يقطع أراضي لأحد إلا إذا كانت من أراضي الموات مثل صحراء، أو من الأراضي التي هجرها أهلها وأعرضوا عنها، أو كانت هذه الأراضي من الفيء وهي الأراضي التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

أما البلاد التي فتحت بالقوة فهي ملك لجميع المسلمين الحي منهم والميت إلى يوم القيامة، وبيت عينون في القدس، وجيرون باب من أبواب دمشق، وبيت إبراهيم، كلها من البلدان التي فُتحت عنوة أي فتحت بالقوة لذلك لا يجوز لقائد الدولة أن يقطع أرضاً منها لأحد أبداً، فكيف يخالف النبي الفقه الإسلامي الثابت بالقرآن والسنة ويقطع أراضي إنما هي للمسلمين عامة وليس لقائد الدولة أن يتصرف فيها؟!

وهذا الخبر في طريقه يحيى بن عمارة أو يحيى بن عباد  على اختلاف النسخ  وهو ضعيف كما ذكر أهل الجرح والتعديل.

إذن هذا المبرر التاريخي ساقط ولا يعتمد عليه ولا يعول في الحكم على مشروع النبي محمد .

المبرر الثاني: المبرر الاقتصادي.

أي أن النبي رأى أن العرب تعيش طبقية، هناك فئة رأسمالية تمتلك الثروات نتيجة التجارة مع الشام واليمن، وهناك فئة عمالية كادحة تعيش الفقر المدقع، وهي الفئة الغالبة، فأراد أن يطمع العرب في دعوته ومشروعه ففتح لهم أبواباً للثروات وهي الغزوات، وكان أن قام بأمرين:

الأمر الأول: قال لهم أمامكم الغزوات، وقد كان العرب أهل حرب وقتال، فالنبي أطمعهم وقال لهم لكم ما تستحوذون عليه من الغنائم والسبايا، هي ثروة لكم، وفعلاً العرب نتيجة هذه الغزوات التي خاضوها اكتسبوا ثروات هائلة، ثروات الشام وكسرى وبلاد فارس، خصوصاً في العهد الأموي والعهد العباسي.

وحتى يحقق هذا الرافد الاقتصادي للعرب يحتاج لأن يحمس الناس على القتال فلذلك صار يحمس الناس على القتال بحجة الجنة والشهادة، كي يحقق هذه الثروة الاقتصادية الناشئة عن الحروب والغزوات فجاءت الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65]

ويقول: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41]

الأمر الثاني: الجزية، النبي أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي ضريبة مالية ضخمة تعد رافد كبير من روافد الثروة التي فتحها النبي على قريش وعلى العرب الذين معه حتى يحقق مشروعه الامبراطوري السلطوي. والبخاري يروي حديثاً  الحديث 4868  عن النبي يقول: بعثت بالسيف حتى يعبد الله، وجعل الله رزقي تحت رمحي.

عندنا عدة ملاحظات على هذا المبرر الاقتصادي نقول فيها:

الملاحظة الأولى:

أن كل غزوات النبي كانت دفاعية وليست هجومية، النبي ما بدأ بهجوم، ما بدأ بحرب، ما بدأ بقتال، كل حروب النبي كانت دفاعية عن ذلك الوطن الصغير وتلك المدينة الصغيرة التي رغب أهلها بالإسلام ورحبوا بالنبي ، وهذا ما يتبين من خلال آيات القرآن حيث يقول: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]

وقال تبارك وتعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39]

لأنهم قوتلوا سوغ لهم الإسلام الدفاع عن أنفسهم وحريمهم ووطنهم.

آية واضحة على أن مبدأ النبي هو مبدأ السلم ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8]

أي إنسان لم يقاتلك ولم يخرجك من بلادك تعامل معه بالبر والقسط، إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنفال: 61]

إذن ليس لدينا أن النبي فتح باب الغزوات، كل الغزوات كانت دفاعية ولم تكن هجومية.

الملاحظة الثانية:

غنائم الحروب التي حصل عليها النبي هل كانت تكديساً لثروة قرشية عربية؟

لم تكن كذلك، هذه الغنائم خضعت لنظام اقتصادي صارم من قِبَل النبي ، وهذا النظام ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر: 7]

أي أن النبي أراد أن يحرر المجتمع من الطبقية فوزع هذه الغنائم على هذه الموارد ليعيش المجتمع توازناً في الثروة كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما جاع فقير إلا بما متع به غني.“ وكان النبي ينفق كل ما يصل إليه على هذه الموارد التي تم ذكرها في الآية.

الملاحظة الثالثة:

الدولة الإسلامية المحمدية التي أقامها النبي أخذت ضريبة، كل دولة مقابل ما تقدمه من خدمات، توفير الأمن، توفير التعليم.. تأخذ ضرائب، وكذلك الدولة المحمدية أيضاً فرضت ضرائب، أخذت الجزية من أهل الكتاب وهم المسيحيون واليهود كما أخذت الزكاة من المسلمين، بل إن الزكاة أكثر من الجزية، لو لاحظت لوجدت بأن الضريبة التي فُرضت على المسلمين أكثر من الفريضة التي فرضت على أهل الكتاب المعبر عنها بالجزية.

وإنما أخذت الضريبة على المسيحيين واليهود مقابل حماية الدولة لهم وتوفير الأمن، وتوفير الاقتصاد، وتوفير السوق المالي لهم، من هذا المنطلق، ومن هذه الجهة أُخذت ضريبة الجزية عليهم، فإذن الجزية ليست رافد اقتصادي ضخم، الجزية والزكاة وكل الروافد المالية التي وصلت إلى النبي قام النبي بتوزيعها بما يحقق التوازن في المستوى المعيشي لأبناء المجتمع الإسلامي آنذاك، إذن هذا المبرر الاقتصادي مبرر واهٍ،

أما الحديث الذي رواه البخاري ففي طريقه عبد الرحمن بن ثوبان، وقد قال عنه يحيى بن معين وهو من علماء الجرح والتعديل أنه ضعيف، والحديث نفسه قال عنه أبو حاتم عن دحيم هذا الحديث ليس بشيء. إذن علماء الجرح والتعديل لا يقبلون مثل هذه الرواية التي تشوه صورة النبي محمد .

المبرر الثالث: المبرر الشخصي.

يقول بعض هؤلاء الأقلام: إذا كان النبي يدعو إلى التوحيد فلماذا قرن ذكره بذكر الله؟ لماذا لم يحافظ على كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، قل هو الله أحد؟ لماذا قرن ذكره بذكر الله في الأذان، في الإقامة، حتى في التشهد الصلاتي متى ما ذكر الله ذُكر النبي؟ فهو عندما قرن ذكره بذكر الله معناه أنه لديه طموح للملك والسلطة، ويبقى ذكره على الألسن.

ثانياً: إذا كان النبي يدعو إلى المساواة بين أبناء المجتمع المسلم ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] إذا كان يدعو للمساواة لماذا فضل قريش على سائر العرب؟

لماذا عندما دخل مكة فاتحاً كان معه سعد بن عبادة وهو من الأنصار من أهل المدينة فقال سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، اليوم أذل الله قريش. فالتفت إليه النبي وقال: قل اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة، أعز الله قريش.

ولما جمع قريش أمامه قال: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

لماذا فضل قريش على سائر العرب؟!

إذا كان النبي يدعو إلى المساواة بين أبناء الإنسانية لماذا فضل أهل بيته على غيرهم من الناس؟ لماذا جعل الخلافة والإمامة في أهل بيته دون الناس؟ أليس هذا توريق للملك والسلطان  حيث يرويها مسلم، ويروي شبيه لها البخاري قال: لا يزال أمر الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون فيكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

وقال: إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.

الملاحظات على هذا المبرر:

الملاحظة الأولى:

النبي عندما اقترن ذكره بذكر الله، الصلاة عبادة والعبادة روحها التسليم لله تبارك وتعالى ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 79] والتسليم يعتمد على دعائم ثلاث ذكرها القرآن الكريم:

  • الدعامة الأولى: ذكر الله، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14]
  • الدعامة الثانية: الإطاعة لله وللرسول، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [التغابن: 12]
  • الدعامة الثالثة: الدعاء للنبي، إنسان خدم الأمة وبذل جهوداً، ومقابل هذه الجهود يدعى له ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]

أولاً: الصلاة على النبي هي دعاء له كالدعاء للمؤمنين، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] الصلاة على النبي، الصلاة على المؤمن دعاء له.

ثانياً: الصلاة تمثل هذه الدعائم الثلاث، فهي من جهة ذكر الله، وهي من جهة أخرى إظهار للإطاعة لله وللرسول، وإظهار الإطاعة لله وللرسول تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59] هو بالشهادة الثانية للنبي «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله».

ثالثاً: الصلاة على النبي هي قول «اللهم صل على محمد وآل محمد»، فالنبي ما قرن ذكره بذكر الله، إنما الصلاة هي تمثيل لهذه الدعائم القرآنية الثلاث التي تجسد التسليم المطلق لله تبارك وتعالى.

الملاحظة الثانية:

النبي ما فضل قريش بل رحمهم، تعامل معهم بخلق الرحمة، باللطف، قريش هي أقوى قبيلة في العرب آنذاك، النبي تعامل معها باللطف والرحمة، يقول القرآن عن النبي: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]

وقال عنه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]

تعامل مع قريش بمنطق الرحمة، «ما ترون أني فاعل بكم؟» قاتلتموني وأخرجتموني من داري وسلبتم كل مالي «قالوا أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.»

وهذا النداء الذي قاله النبي: اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة، اليوم أعز الله قريشاً. هذه الجملة الثالثة لم نجدها في رواية معتبرة ولو صدقت فهي مجرد تعامل بالرحمة واللطف مع قريش.

الملاحظة الثالثة:

هل أن النبي هو الذي ورَّث أهل بيته؟ أو أن اصطفاء أهل بيته جاء من قبل وجود النبي؟ الله اصطفى محمد وآله، ذُكر في القرآن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ «33» ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ «34» [آل عمران: 33 - 34]

وآل إبراهيم هم آل محمد، محمد ينتمي إلى إسماعيل بن إبراهيم، فآل إبراهيم هم آل النبي محمد ، وقال في آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: 26] الله اصطفى هذه السلالة من الأول، جعل فيها العلم، جعل فيها الإمامة، جعل فيها الاصطفاء، جعل فيها العصمة، جعل فيها النبوة.

وكما يعلم أن الجينات الوراثية لها أثرها، فعندما تكون أسرة منحدرة من أنبياء وأوصياء وسلالات الأنبياء والأوصياء، بالتأكيد هذه الجينات الوراثية لها عوامل وبصمات مؤثرة وتخلق استعداداً، لا نقول هي علة تامة ولكنها تضع بصمات واستعدادات واقتضاءات لأجل أن يكون مؤهلاً لهذا الدور الرسالي السماوي العظيم.

يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]

يطرح هنا سؤال: لماذا اصطفى الله هؤلاء دون غيرهم؟ لماذا اختار الله من قريش بني هاشم؟ لماذا اختار الله من بني هاشم محمد؟ لماذا اختار الله من بني هاشم ومن أسرة النبي الحسن والحسين؟ لماذا اختار الله ذرية الحسين دون غيرهم؟ لماذا أختار الله أبناء الحسين دون البعض الآخر؟ ما هو سر الاصطفاء، ما هو سر الاختيار؟ لماذا هؤلاء دون غيرهم؟

اقرأ قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]

الإمامة ما أعطيت لشخص إلا لعلم الله أنه أقوى الناس إرادة، وأكثرهم صبراً، وأشدهم يقيناً، الله علم أن هذه السلالة سلالة النبي، سلالة الحسين، هذه السلالة المعينة علم الله أنها أقوى الناس إرادة، وأكثرهم صبراً، وأشدهم يقيناً، حتى لو لم يكونوا أنبياء ولا أئمة سيكونون أقوى الناس إرادة وأكثرهم صبراً وأشدهم يقيناً، لأن الله علم بهم ورآهم مؤهلين لمنصب الإمامة والنبوة فوهبهم الإمامة والنبوة والعلم والعصمة، لأنهم المحال المؤهلة لذلك «السلام على محال معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله

ورد في زيارة الزهراء : امتحنك الله قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك به صابرة، وكنا زاعمين بأنا لك أولياء.

هذه الفتاة الكريمة العظيمة فاطمة الزهراء، رآها بضعة كريمة طيبة لكنها قوية الإرادة والشكيمة، قوية الصبر، شديدة اليقين فجعلها في مقام الولاية، وفي مقام العصمة، وجعلها في مقام الحجية صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

وهذا ما ينعكس على النبي الذي قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه، وقال: ما أوذي نبي مثل ما أذيت.

والإمام أمير المؤمنين مثَّل الصبر وقوة الإرادة بأروع صوره وقال: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والله لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف والمال مال الله.

وهذا شبل علي على درب علي ، وهذا شبل علي يوم عاشوراء على نهج علي، تقرأ في زيارة الحسين: وجاهدهم فيك صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، حتى سفك في طاعتك دمه، واستبيح حريمه.