الشعائر بين النقد والقبول

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ

هناكَ مجموعةٌ من الإستفهامات تطرحُ حول الشعائر الحسينية، ما هي الشعيرة؟؟

وما هو المدركُ والدليل على مشروعية الشعيرة؟؟

وما هي الأدوار والمراحل التي مرّت بِها الشعيرة الحسينية؟؟

وما هي فلسفة الشعائر الحسينية وهل أنّ الشعائر الحسينية قابلة للتطوير والتغيير أم لا؟؟

فأمامنا مجموعةٌ من الأسئلة والإستفهامات نسلّط الضوء عليها...

السؤال الأول ما هي الشعيرة؟؟

الشعيرة كل عملٍ يقوم بها الإنسان إعلاناً لقضية معينة، فهو يعدُ شعارا للقضية وشعيرةً لها مثلا ما يصنعه المسيحيون من رفع الصليب، الصليب شعيرة وشعار لأن الصليب إعلانٌ لقضيةٍ يعتقدون بها، وهو صلب المسيح وإن كنا لا نوافقهم في هذا المعتقد.

مثلاً: الأذان في الشريعة الإسلامية شعيرة لأنهُ إعلان لقضية أساسية بين المسلمين ألا وهي أهميةُ المبادرة إلى العبادة، مثلا نحر الهدي في منى أيام الحج شعيرةُ كما ذكر القرآن الكريم «وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ» نحر الهدي شعار للتقوى شعار للتضحية بالمال في سبيل الله عزّ وجل إنهُ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينالهُ التقوى منكم فذبح الهدي شعار للتقوى شعار للتضحية في سبيل الله بالأموال بل بما هو أثمن وأنفس من الأموال، إذاً الشعيرةُ هي كل عمل يعد مظهرا وإعلانا لقضية من القضايا التي يؤمن بها الإنسان.

السؤال الثاني ما هو مدرك وما هو الدليل على مشروعية الشعائر وخصوصا الشعائر الحسينية؟؟

هناك عناوين ثلاثة تندرج ضمنها وتحت إطارها الشعائر:

العنوان الأول عنوان تكريم النبي محمد .
العنوان الثاني عنوان إبرازُ محبة أهل البيت .
العنوان الثالث عنوان إعلاء ذكر الله عز وجل فعندنا عناوين ثلاثة.

العنوان الأول:

ألا وهو تكريم النبي وتمجيدهُ الآية القرآنية تقول «َالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ»، آمنوا به أي اعتقدوا بنبوته، نصروه أي جاهدوا بين يديه بألسنتهم بأموالهم بأنفسهم، إذا ما معنى عزّروه: معنى عزّروه يعني مجّدوه وكرموه التعزير بمعنى التمجيد والتكريم فالمؤمن من خصائصِ إيمانه ومن خصائص كونهِ مؤمناً الإيمان بالنبي ونصرةُ النبي ومن خصائص كونه مؤمناً تكريم النبي وتمجيده فالتكريم والتمجيد من خصائص الإيمان ”آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ“ التعزير هو التمجيد والتكريم، تمجيد النبي بالصلاة عليه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»، تمجيد النبي بالاحتفال بمولده ووفاته، تمجيد النبي بتمجيدِ أهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامهُ عليهم أجمعين فإنّ الاحتفال بأهل البيت في مواليدهم ووفياتهم تمجيدٌ وتكريم للنبي باعتبار أنّهم بنّص النبي امتداد له وشموليةٌ له حيث قال: ”إنّي مُخَلِفٌ فيكم الثقلينِ كتاب الله وعِترتي أهل بيتي فانظروا كيفَ تخّلفُونّني فيهما“.

العنوان الثاني:

عنوان إبراز محبةِ أهل البيت ، قال تبارك وتعالى «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»، العلماء يقولون فرقٌ بين المودة والمحبة، المحبة هي الميل النفساني، الإنسان عندما تكونُ لهُ ميولٌ نفسانيةُ تجاه شخصٌ فهذا الميل يسمى محبة لكن لا يسمّى مودة، المودة هي إظهار، ما لم يظهر الإنسان حُبه فلا يقال عندهُ مودة، المودة هي إظهار المحبة المودة هي إبراز المحبة، الميل النفساني لو لم يُظهر يسمى محبة ولكن إذا أُظهِر وأبرز وأُعلن كان إظهارهُ مودة فالمودة هي إبراز المحبة وإظهارها، لذلك «قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» يعني أنا لا أريد مكافأةً على تضحياتي وعلى جهودي وعلى ما بذلتهُ في سبيل نشر هذهِ الدعوة التامة، لا أريد أيّ مكافأةًٍ على ذلك إلا مكافأةً واحدة وهي مودةُ أهل البيت يعني إبراز محبتهم وإظهارُ مودتهم ”قل لا أسألكم عليه أجراً ما قال إلا المحبة قال إلا المودة“.

فإذًا المودة يعني إبراز المحبة، فلا يكفي المسلم أن يقول أنا محبٌ لأهل البيت من دون أن يبرز محبتهُ بطريقةٍ معينة بطقسٍ معين بلونٍ من ألوان التعامل فإنه ما لم يبرز المحبة لم يظهر منهُ أيُّ مودة ولم يقم بأيُ مودة، مضافا لما ذكرهُ العلماء من أنّ مقتضى مناسبة الحكم للموضوع كما يعبِرون أنّ ظاهر الآية هو إبرازُ المحبة لا مجَرد المحبة النفسانية فإنّه الرسول الأعظم الذي قام بهذه الجهود الضخمة الكبيرة في سبيلِ الدعوةِ المحمدية لا يُحتَمل أن يكون جزاؤه ومكافأته مجرد محبةٍ نفسيةٍ في القلب لا يعلمُ بها أحد، المناسب لتضحياتهِ وجهوده أن تكون مكافأته هي إبراز المودة وإبراز المحبة وإعلانها فإنّ هذا الذي يتناسب أن يكون مكافأةً وأجراً لما بذلهُ النبيُ محمدٌ صل الله عليه وآله في سبيل نشرِِ هذه الدعوة.

العنوان الثالث:

هو عنوان إعلاء ذكر الله كما قال تبارك وتعالى «ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» صحيحٌ أن الآية وردت في سياق شعائر الحج ولكن كما يقول العلماء خصوص المورد لا يخصص الوارد، الآية وإن كانت واردةً في سياق آيات الحج إلا أنها تتكلم عن كبرى وعن قاعدة وعن قانون كلي، ”ذلك ومن يعظّم شعائر الله“ يعني أيّ شعيرةٍ تظهر ذكر الله، تحيي ذكر الله عزّ وجل فحقيق بالمسلم أن يعّظمها وأن يشيدَ بها، ومن أوضح الشعائر التي تعلي ذكر الله وتحقق المبادئ السماوية الشعائر الحسينية التي هي تفاعلٌ مع مبادئ الحسين ومع قضية الحسين ومع صرخة الحسين صلوات الله وسلامه عليه، إذاً هذهِ العناوين القرآنية الثلاثة هي الدلائل والمدارك على مشروعية إقامة الشعائر الحسينية.

السؤال الثالث: ما هي المراحل التي مرّت بها الشعائر الحسينية؟؟

هناك مراحل ثلاث، مرحلة التخطيط ومرحلة الترويج ومرحلة الترسيخ.

المرحلة الأولى:

هي مرحلة التخطيط، كلٌ حجة وكل إمام ٍ قام بمرحلةٍ من المراحل، المرحلةُ الأولى مرحلة التخطيط من الذي خطط لهذه الشعائر التي نمارسها ونسير عليها؟؟ أولُ من خططّ لهذه الشعائر الحسين نفسه، الإمام الحسين نفسه هو الذي خططّ لهذهِ الشعائر، عندما قال: ”شاء الله أن يراني قتيلا، وأن يرى النساء سبايا“، أنتم تعرفون أنّ الإنسان العاقل الحكيم هو الذي إذا انشأ مشروع معين، ينشأ ضمانات لهذا المشروع، الإنسان العاقل لا يكتفي بأن ينشأ المشروع ثم يترك المشروع تحت رحمة الزمن أو تحت رحمة المجتمع أو تحت رحمة الأعاصير، هذا ليس إنساناً حكيماً، ليس إنساناً بعيد النظر، الإنسان الحكيم بعيدُ النظر هو الذي إذا أسس مشروعا أيضا يؤسس معه الضمانات التي تتكفل باستمرار المشروع وبقاء المشروع، الحسين أسس مشروعه، ألا وهو مشروع الإصلاح، ”ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح“ مشروع الحسين هو مشروع الإصلاح، لكن ما هي الضمانات التي وضعها الحسين لاستمرار مشروعه ولبقاء صرخته ولبقاء صوته، الضمانات هي الوسائل الإعلامية التي اتخذها الحسين في سبيل إبلاغ صوته وصرخته لأكبر عدد ممكن، والوسائل الإعلامية هي السبايا هي صوت زينب هي صرخة زينب ، شاء الله أن يراني قتيلا، هذا هو المشروع وأما الضمانات والوسيلة الإعلامية التي تتكفل ببقاء مشروعي، فهي الجملة الثانية ”وشاء الله أن يرى النساء سبايا“ خروج النساء سبايا هو الوسيلة الإعلامية التي تكفلت ببقاء هذا المشروع، لولا سبي زينب ولولا أنّ زينب تعرضت لهذه الصورة من السبي ومن الألم ومن الصراخ ومن الصوت لما بقيت ثورة الحسين ولتبخرت أدراج الرياح، إذاً صوت زينب لأنهُ صوت امرأة وصوت المرأة مؤثرا في القلوب، خصوصا إذا كان مشفوعاً بالحزن ومشفوعاً بالأسى ومشفوعاً بالمظلومية، صوت المرأة عندما يمتزج بالمظلوميةِ والأسى من أعظم الوسائل الإعلامية التي تؤكد القضية وترسّخها في النفوس، إذاً سبي زينب وصوت زينب كان وسيلة إعلامية ضمِنت مشروع الحسين في أن يبقى مستمرًا وأن يبقى صامداً وأن يبقى شامخاَ، فالحسين هو الذي خطط لمشروعه عندما قال ”شاء الله أن يراني قتيلا وأن يرى النساء سبايا“.

المرحلة الثانية:

مرحلة الترويج زين العابدين أول من روّج لمعركة كربلاء حينما بكى على أبيهِ عشرين سنة، الباقر ، الصادق ، الرضا ، حينما كانوا يستدعون الشعراء والنادبين الذين ينشدون الشعر في رثاء الحسين .

امرر على جدث الحسين وقل لأعظمه الزكية
يا  أعظماً  لازلتِ  من  وطفاء  ساكبةً  iiروية
وإذا   مررت  بقبره  فأطل  بهِ  وقف  iiالمطية
وابكِ   المطهر   للمطهر   والمطهرة   النقية
كبكاء   معولةٍ   دنت   يوماً  لواحدها  iiالمنية

هذه كانت مرحلة الترويج، الإمام الصادق يقول أوصاني أبي الباقر أن استأجر لهُ عشر جواري يندبنهُ في مِنى، أيام مِنى، وكان الصادق يستأجر الجواري يجلسن على قارعة الطريق أيام مِنى بين الحجاج بين الملل المتفرقة يندبنَ الحسين ويذكّرن الناس بمبادئ الحسين وبقضية الحسين ، المرحلةُ الثالثة مرحلة الترسيخ والتي قام بها علمائنا رضوان الله تعالى عليهم منذ عصر الإمام الهادي والعسكري إلى يومنا هذا رسّخوا هذه الشعائر وثّبتوها وأكّدوا عليها وتواصلوا معها جيلاً بعد جيل، حتى أصبحت هذه الشعائر من ركائز المذهب الإمامي، المذهب الإمامي صار يركز على ثلاث ركائز.

ركيزة العقيدة بأنّ أهل البيت أئمة معصومون، وركيزة التراث حيث أنّ هذا المذهب هو الوحيد الذي يعتمد على تراث أهل البيت وأحاديث أهل البيت، والركيزة الثالثة هي ركيزة الشعائر، فإنّ هذه الركائز الثلاث تمّيز بها المذهبُ الإمامي عن بقية المذاهب الإسلامية الأخرى، هذه هي المراحل التي مرّت به الشعائر الحسينية.

السؤال الرابع:

ما هي فلسفةُ الشعائر الحسينية، ما هي الحكمة ولماذا نحنُ نقيم الشعائر، لماذا لا نكتفي بأن نقرأ تاريخ الحسين ونقرأ معركة الحسين ونستلهم العظة والعبِرة من مبادئ الحسين من دون أن نمارس هذه الطقوس من البكاء ومن المأتم ومن المواكب العزائية ومن غيرها من الشعائر، لماذا لا نحصر التفاعل مع الحسين في التفاعل الفكري فقط من دون أن يكون هناك تفاعلٌ عاطفي ٌمع الحسين عِبر هذه الصور وعِبر هذه الشعائر، ما هي فلسفةُ الإصرار والثبات على هذهِ الشعائر وعلى هذهِ الألوان، نحنُ عندما نريد أن نّسلط الضوء على فلسفة الشعائر الحسينية نتّعرض لأمرين:

الأمر الأول: الإنسان يمتلك قوتين قوة العقل وقوة القلب وما لم تتفاعل هاتان القوتان فإنّ الإنسان لا يؤمن بأيّ قضيةٍ إيماناً فاعلاً وإيماناً حياً، الإيمان بأي قضية يتوقف على تفاعل هاتين القوتين يتوقف على تفاعل هاتين القوتين قوة العقل وقوة القلب، قوة العقل تدرك وتحلل وقوة القلب تذعن وتتفاعل وتحزن وتفرح وتصدق وتكذب وتشكك وتتّيقن، فهناك قوّتان لابد من تفاعلهما، لاحظوا مثلاً القرآن الكريم يقول «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ» يشير إلى عدم تفاعل القوتين، المشركون كانوا يؤمنون بعقولهم لكن ما كانت تتفاعل قلوبهم، قوة العقل كانت تدرك، ”وَاسْتَيْقَنَتْهَا“ أنفسهم يعني كان المتفاعل منهم قوة واحدة وهي قوة العقل، كانت عقولهم تدرك أنّ التوحيد هو المنهج الصحيح، كانت عقولهم تدرك وجود الله ووحدانيته وصفاته، كانوا يدركون ذلك بعقولهم لكن قلوبهم ما كانت تتفاعل مع عقولهم، قلوبهم كانت تشكك كانت تنهج منهجا آخر، ”جَحَدُوا“ يعني بقلوبهم ”وَاسْتَيْقَنَتْهَا“ عقولهم فالقلب لم يتفاعل مع العقل لذلك لم تتحول القضية إلى قضية إيمانية راسخة لأن القوّتين لم تتفاعلا.

الإنسان عندما يوضع أمامه إنسان ميت في ظلام الليل يجعل أمامي إنسان ميت، أنا ابدأ أتخوف مع انه إنسان ميت أبدأ أتخوف منه أتخوف من شكله أتخوف من النظر إليه لماذا؟؟ لأن القلب هنا لا يتفاعل مع العقل، العقل يقول شيء والقلب يقول شيئاِ آخر، العقل يقول هذا ميّت صخرة لا يتحرك لا تخف منه، لكن القلب لا يطاوع العقل، العقل يقرر أنّ هذا جسدٌ صخرةٌ لا تتحرك ولا تقوم بأيّ محاولةٍ مخيفة ولكن القلب مع ذلك لا يطاوع العقل يظلُ القلب متردداً يظل القلب مشككاً يظل القلب قلقاً متخوفاً، إذاً قد يؤمن العقل بشيء لكن القلب لا يتفاعل معه فتتخلف قوة القلب عن قوة العقل، لذلك لا يتحول الإيمان إلى إيمان حي إيمان راسخ إلى إيمان فاعل، لأن القلب لم يطاوع العقل، لذلك من هذا المنطلق جاءت فكرة الشعائر الحسينية من أجل تفاعل القلب مع العقل.

من أجل أن تتعاطف كلا القوتين في التفاعل مع مبادئ الحسين، الحسين مجموعة من المبادئ ”كرامة حرية إصلاح“، الحسين يختصر المبادئ الإنسانية والحقوق الإنسانية، حق الإنسانية في الحرية، حق الإنسانية في الكرامة، حق الإنسانية في الإصلاح، الحسين لخّص الحقوق الإنسانية في قضيته لكنّ هذه المبادئ لا يمكن أن تتحول إلى إيمان راسخ إذا تفاعل العقل وحده، إذا آمن بها العقل وحده، لذلك احتجنا إلى شعائر حسينية وألوان وطقوس نمارسها من أجل أن يتفاعل القلبُ مع العقل، ومن أجل أن تشترك كلا القوتين في الإيمان بهذهِ القضية حتى تتحول إلى إيمان راسخ وإلى إيمان حيٍ فاعل، واعتقدوا لولا هذهِ الشعائر لما بقيت قضية الحسين كأصلٍ لا يتزلزل ولا يطرق إليه الشك إلى يومنا هذا، إن بقاء صرخة الحسين حيةً إلى يومنا هذا كان ببركة هذه الشعائر التي ضمنت لنا تجاوب القلب مع العقل وتفاعل القلب مع العقل.

الأمر الثاني: الإنسان بطبعه كما ذكرنا عدة مرات مخلوقُ إحساسي لا مخلوقٌ عقلاني، يعني الإنسان يفكر بإحساسه أكثر مما يفكر بعقله لما؟؟ لأن العقل يسترفد معلوماته من الإحساس، الإنسان عنده عقل لكن عندهُ حواس خمس، تصل إليه المعلومات ببركة الحواس الخمس، الحواس الخمس هي الروافد والعقل هو الذي يستقبل المعلومات، فبلحاظ أن الإنسان محاط بالحواس ولا يستطيع أن يقتنص المعلومات إلا من خلال الحواس لذلك يكون هذا الإنسان إنساناً إحساسياً، لا ينطلق عقله بأكثر من الأفق الحسي وبأكثر من المحيط الحسي، دائما تفكيره ممتزج بالحواس تفكير إحساسي لا عقلاني محض، لاحظوا حتى الأمور المجردة إذا أراد أن يتصورها الإنسان لا يستطيع أن يتّصورها بدون حروف، حتى الأمور المجردة، لاحظوا هذا الإنسان لو قلت له تصّور أن الله قوةٌ لا حدّ لها ولا قيد لها، قوة مجرد من أيّ مادة من وأي قيد، ماذا يتصوّر الإنسان؟؟ يتصّور صورة مكونة من مجموعة من الكلمات ومن مجموعة من الحروف، إذاً لا يستطيع هذا الإنسان أن يتصور صورة إلا وهي حسية إلا وهي مأطّرة بإطار حسّي، لأنهُ مخلوقٌ إحساسي وليس مخلوقاً عقلانياً محض.

لأجل ذلك ومن هذا المنطلق احتاج هذا الإنسان إلى أن يجّسد الأفكار التجريدية والمعاني التجريدية التي يؤمن بها إلى صور حسّية حتى يتفاعل معها، الإنسان يؤمن إلى أنّ محور الوجود هو الله عزّ وجل، فسبحان الذي بيده ملكوتُ كل شيء وإليهِ تُرجعون، هو المبدأ وهو المنتهى، الإنسان يؤمن بذلك لكن عندما يريد أن يتصّور هذه المحورية تصّوراً فاعلاً يتصّور الكعبة المشرفة، أنّ هناك كعبة والحجاج يطوفون بها فيكون طوافُ الحجاج بالكعبة رمز إلى محوّرية الله تبارك وتعالى لجميع هذا الكون ولجميع هذا الوجود، فالمعاني التجريدية ما لم يتصّورها الإنسان تصّوراً حسيا وفي ضمن طقوس حسيّة لا يؤمن بها إيمانا فاعلاً وحياً، من هذا المنطلق جاءت الشعائر الحسينية فالحسين ليس مجرد مبادئ تقال في الذهن وتتبخر، الحسين طقوسٌ أيضاً، الحسين دمعة الحسين مأتم الحسين موكب الحسين صرخة الحسين صدى، هذهِ الطقوس الحسّية صوّرت لنا قضية الحسين ومعركة الحسين ومبادئ الحسين وسائر المعاني التجريدية صورّتها لنا تصوير حسّي حتى تقترب من أذهاننا وتقترب من أفقنا وتقترب من تفكيرنا فنؤمن بها ونتفاعل معها ونتجاوب معها، هذا هو السر وهذا هو المغزى في الشعائر الحسينية.

السؤال الأخير: هل أنّ الشعائر الحسينية أمورُ قابلة ٌ للتطوير وقابلة للتغيير أم لا؟؟

نحنُ نتعّرض هنا إلى أمرين:

الأمر الأول: الشعيرة الحسينية متى تكون شعيرةً مشروعة؟؟ إنما تكون شعيرةً مشروعة إذا استجمعت شروط ثلاثة.

الشرط الأول: أن تكونُ مظهراً للجزع أو للفداء أو للاحتجاج، لاحظوا مثلا اللطم على الصدر الإنسان عندما يلطم على صدره هذا اللطم رمز، رمزٌ لعدة قضايا رمزُ للجزع فإنّ الإنسان إذا تأثّر بمصيبة معينة يظهر هذا التأثّر على جسده فقد يلطم على صدره وقد يلطم على رأسه وقد يلطم على وجهه، اللطم على الصدر مظهرُ من مظاهر الجزع فهو يرمز إلى المأساة، ثانياً اللطم على الصدر يرمز إلى الفداء، الذي يلطم على صدره يريد أن يقول للعالم كله إنّ صدري فداء لصدر الحسين، ووجودي فداءٌ لوجود الحسين وكياني فداءٌ لكيان الحسين، أنا ألطم على صدري لا بدافع المأساة والمظلومية فقط وإنما ألطم على صدري لأرمز إلى أن هذا الصدر وهذا الجسد وهذا البدن وهذهِ النفس وهذهِ الروح كلها فداءٌ للحسين ولمبادئ الحسين ، وثالثً بأنّ اللطم على الصدر رمزٌ للاحتجاج، حيث لم تقترف الأمة جريمة أكبر من جريمة يوم كربلاء التي فيها أبيدت عترة النبي المصطفى صلوات الله وسلامهُ عليهم أجمعين فأنا من أجل الاحتجاج على تلك الجريمة الشنعاء وأمثالها من الجرائم في حق الإنسانية منذ ذلك اليوم إلى يوم القيامة هذا اللطم على الصدر أرمز به للاحتجاج على تلك الجريمة الشنعاء، إذاً الشرط الأول في الشعيرة أن يكون رمزاً إما للجزع أما للاحتجاج إما للفداء.

الشرط الثاني: أن لا يكون موجباً لضررٍ بليغٍ على الجسد، بحيث يعُد جناية على النفس وإلقاءاً بالنفس إلى التهلكة، إذا بلغ التصرف بالجسد إلى حدّ الضرر البليغ الذي يعد ظلماً للنفس وجنايةً على النفس ومصداقاً لقوله تعالى «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» فهو شعيرةٌ محرمة وليس شعيرةً مشروعة.

الشرط الثالث: أن لا تكون هذهِ الشعيرة موجبةً لهتك المذهب ولوهن الطائفة الإمامية، فإنّ المذهب الإمامي هو صورة معبرةً عن أهل البيت ، لذلك يجب أن تكون وسائلنا الإعلامية التي نريد أن نظهر بها مبادئ أهل البيت صورةً نقية صورةً سليمة لا تعدُّ ممارستها هتكاً لحرمة الأئمة ووهناً لهذا المذهب العقلاني العظيم القائم على أصول وجذور عقلانية محكمة، هذه الشروط الثلاثة إذا توّفرت في الشعيرة كانت شعيرة مشروعةً جائزة.

الأمر الثاني: الشعائر على قسمين، شعائر ثابتة وشعائر متغيرة.

 الشعائر الثابتة هي الشعائر التي ورد النص بها عن أهل البيت ، شعيرة البكاء ورد النص عليها ”من ذكرنا عندهُ فسال من عينه مقدار جناح ذبابة غفر الله لهُ ذنوبه“ شعيرة الندبة شعيرة اللطم شعيرة الاحتفال، وردت النصوص بها ورد عن الباقر ”يا فضيلُ أتجلسون وتتحدثون، قلتُ: بلى سيدي، قال: إنّي أحبُ تلك المجالس فأحيوا فيها أمرنا“، الإمام الصادق يسأل أحد الأصحاب، يقول "كيف رأيت الناس عند قبر جدي الحسين، هذا الراوي يصف للإمام كيف رأى الناس، قال:

رأيتهم بين نادبٍ يندب وبين قاصٍ يقص ولاطمٍ يلطم، قال: «الحمد لله الذي جعل من شيعتنا من يفد إلينا ويندبنا» هذهِ الشعائر مورست وأهل البيت حضور، أهل البيت لطموا عند جسم الحسين وعند قبر الحسين بمرأىً وبمسمعٍ من زين العابدين وأقروّا وأمضوا هذهِ الشعائر، إذاً هذهِ الشعائر ورد النص بها فهي شعائر ثابتة لا تقبل التغيّر ولا التبديل.

وهناك شعائر متغيرة وهي الشعائر التي تختلف باختلاف المجتمعات لأن المجتمعات تختلفُ في ثقافتها، اختلاف الثقافات يفرض أحيانا اختلاف طريقة الشعائر وطريقة التعبير، مثلاً عندنا تنظرون إلى الهند وباكستان، الهند وباكستان أيام عاشوراء يمشون على الجمر، يجعلون الجمر بأعداد هائلة ويمشون عليها من دون مبالاة ومن دون تأّلم، هذه الشعيرة يمارسها المسلمون في الهند وفي باكستان، لكنها شعيرة لم يرد النص بها شعيرة متغيرة لماذا؟؟

لأنها شعيرة تنبع من ثقافة معينة، ثقافة المجتمع الهندي هي ثقافة تسخير الجسد لأغراض معينة، لذلك تلاحظون في هذا المجتمع تنتشر الرياضات البدنية الشاقة والرياضات الروحية الشاقة، ثقافة المجتمع الهندي تفرض هذا اللون من الطقوس وهذا اللون من الممارسات لأنها تنسجم مع طبيعة المجتمع وطبيعة ثقافة المجتمع، هذه الثقافات هذهِ شعائر متغيرة وليست شعائر ثابتة من هنا نقول بأنّ الشعائر المتغيرة قابلة للتطوير وقابلة للتجديد لأننا دائما نقصد أفضل وسيلة إعلامية نظهر بها مبادئنا ونظهر بها تاريخ أئمتنا .

فنحنُ نحتاج إلى قناة الحسين فنحنُ نحتاج إلى وقف الحسين نحنُ نحتاج إلى مسرح الحسين نحنُ نحتاج في هذا العصر إلى ألوان جديدة من الشعائر إلى مظاهر جديدة من الشعائر، نحنُ نحتاج إلى قناة الحسين قناة خاصة بالحسين قناة فضائية لا تتكلمُ إلا عن الحسين وكربلاء وذكر الحسين ومظاهر الحسين وقضية الحسين حتى يصل صوت الحسين إلى كل سمع وإلى كل قلب وإلى كل عقل، نحنُ نحتاج إلى مسرح الحسين، المسلمون يمتلكون طاقات فنية يمتلكون مواهب فنية ويمتلكون إمكانات مادية هائلة جداً فباستطاعتهم إنشاء مسرح باسم الحسين يصّور لنا كربلاء بألوانها المأساوية المفجعة حتى تصل إلى كل إنسان، لاحظوا عمر المختار كان قصة وفكرة لو لم تمثل لما وصلت قضية عمر المختار إلى ملايين من البشر، عمر المختار إنسان ثائر قضيتهُ لم تنتشر ولم تصبح مبدأ من المبادئ إلا حينما تحولت إلى مسرح حينما تحوّلت إلى قصة متجسدة ملونة حيّة، أيضا قضية الحسين إذا أردناها أن تغزوا القلوب وأن تحترف مليارات المشاعر علينا أن نحوّلها إلى مسرح متحرك يخدم قضية الحسين وانتشار صدى الحسين ، ونحنُ نحتاج أيضاً إلى وقف الحسين.

هذهِ الوقوفات المتفرقة المتبعثرة في شتى بقاع المسلمين غير كافية لأن توصل صوت الحسين نحنٌ نحتاج إلى وقف الحسين مؤسسة اسمها وقف الحسين، هذهِ المؤسسة تمتلك فروع في جميع بقاع الأرض حتى في المجتمعات المسيحية حتى في المجتمعات البوذية حتى في المجتمعات اليهودية، تمتلك فروع في جميع البقاع وتستغل أيام عاشوراء في إعطاء الهدايا في توزيع الهدايا في توزيع باقات الزهور والورود في توزيع كتيبات في توزيع كلمات الحسين وصوت الحسين ، عندما تتكفل مؤسسة اسمها وقف الحسين باستغلال أيام عاشوراء في كل سنة وفي كل مجتمع مسلمٍ أو غير مسلم، في أن تهدي باقة وردٍ ملونة باسم الحسين، ملونة بكلمة من كلمات الحسين، ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد“ فإنها تخدم قضية الحسين وترسّخ مبادئ الحسين أكثر من أي ّ وسيلة إعلامية أخرى.