المهدي (عج) نبع الهداية

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ

﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ الآية المباركة تتضمن وعدًا إلهيًا للمؤمنين بظهور الدين الإسلامي على الأرض كلها، وهذا الوعد لم يتحقق إلى يومنا هذا، وبما أن الله لا يخلف وعده إذاً فمقتضى حكمته أن يكون هناك يوم يحقق الله فيه وعده فيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، وهذا لا ينطبق إلا على يوم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولذلك ورد في الرواية عن الصادق عندما قرئت عليه هذه الآية قال: «إنها لم ينزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها إلا حينما يخرج قائم آل محمد».

وهناك سؤال يتبادر لذهن الإنسان عندما يقرأ الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ما هو الفرق بين الهدى ودين الحق؟ أليس دين الحق هو الهدى؟ أليس الهدى دين الحق؟ فما هو الفرق بين الهدى ودين الحق؟

دين الحق هو عبارة عن المعتقدات التي يعتقد بها الإنسان، أما الهدى فهو الوجود الرابط بين المعتقد وبين الإرادة، كيف الوجود الرابط بين المعتقد وبين الإرادة؟

كما يقول الفلاسفة، يقولون: الوجود على ثلاثة أقسام:

  1. وجود جوهري.
  2. وجود عرضي.
  3. وجود رابط.

مثلاً: الجسم له وجود وهو «الوجود الجوهري»، القيام والقعود هذا وجود آخر يعبر عنه ب «الوجود العرضي»، وهناك وجود ثالث يربط بين الجسم وبين القيام لولا هذا الوجود الثالث لما أمكن للجسم أن يتلبس بالقيام والقعود، إذاً هناك وجود جوهر وهو الجسم، ووجود للصفة والعرض وهو القيام، ووجود رابط بين الوجودين.

نظير ذلك في محل كلامنا، الإنسان يحمل معتقدات وهي معتقدات الدين المعبر عنها بدين الحق، لكن هل إرادة الإنسان على طبق معتقداته أم أن إرادة الإنسان تعاكس وتخالف معتقداته؟ كثير منا في مرحلة العمل ينفصل عن معتقداته، في مرحلة السلوك ينفصل عن معتقداته، فتكون إرادته مخالفة لمعتقداته.

مثلاً: الإنسان - والعياذ بالله - حين يسرق وهو يعتقد أن السرقة جريمة، أو حين يزني وهو يعتقد أن الزنا جريمة، هنا تتعاكس إرادته مع معتقداته، تتخالف إرادته مع معتقداته، إذاً هذا الإنسان الذي يقوم بالجريمة، جريمة الزنا أو السرقة أو أي جريمة أخرى، هذا الإنسان له معتقد، عنده دين الحق، لكن عنده حلقة مفقودة بين المعتقد وبين الإرادة، هناك حلقة مفقودة بين المعتقد وبين الإرادة، هذه الحلقة المفقودة بين المعتقد وبين الإرادة هي التي تسمى ب «الهدى»، «الهدى» هو الوجود الرابط الذي يؤلف بين المعتقد وبين الإرادة بحيث تكون إرادة الإنسان على طبق معتقده.

ولذلك ورد عن النبي محمد : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» يعني أن السارق والزاني عنده معتقد، عنده دين الحق، لكن ليس عنده الرابط بين المعتقد وبين الإرادة، وهذا الرابط هو الهدى.

إذاً بالنتيجة ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ الدين هو المعتقدات والهدى هي الحلقة الروحية الرابطة بين المعتقد وبين الإرادة في مجال السلوك ومجال العمل.

من هنا ننطلق في الحديث حول هذه الحلقة المسماة بالهدى في ثلاثة محاور:

  • المحور الأول: في الهداية وأقسامها.
  • المحور الثاني: في انتساب الهداية إلى الله تبارك وتعالى.
  • المحور الثالث: في دور المهدي في عالم الهداية.

المحور الأول: الهداية تنقسم إلى قسمين رئيسين:

1. هداية خلقية.

2. وهداية روحية.

الهداية الخلقية لكل مخلوق، القرآن الكريم يقول: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى فلا يوجد مخلوق إلا وقد هُدِي إلى هدفه، هُدِي إلى غايته، البذرة هديت إلى أن تكون شجرة، والحيوان هدي إلى أن يتعلم كيف يأكل وكيف يشرب، كل مخلوق هدي إلى غايته، ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ كل هدي إلى طريقه، هذه تسمى هداية تكوينية، هداية خلقية، وهي عامة.

وهناك هداية روحية خاصة بالإنسان، ليست لغير الإنسان، هذه الهداية الروحية أيضًا تنقسم إلى قسمين: هداية استحقاقية. وهداية تفضلية.

الهداية الاستحقاقية:

هي التي استحقها كل إنسان منذ ولادته وهي ما تسمى بالفطرة، لاحظوا قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًالاحظوا قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا كل إنسان استحق حين خلقه أن يلهم الدلالة على ربه، كل إنسان زرع في قلبه أن يهتدي إلى ربه، أن يهتدي إلى خالقه، فهذه هداية فطرية عامة لكل إنسان ونسميها بالهداية الاستحقاقية.

الهداية التفضلية:

الهداية الخاصة ببعض المؤمنين وليست لكل المؤمنين، هذه الهداية التي يتفضل بها الله على عبده المؤمن تسمى هداية تفضلية، الهداية التفضلية ما هي؟

الهداية التفضلية لها ثلاث درجات:

  1. الانشراح.
  2. الاستقامة.
  3. اليقين المؤدي للرؤية الملكوتية.
المرتبة الأولى من الهداية التفضلية: الانشراح.

بحسب تعبير القرآن الكريم: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ هذه أول درجة من درجات الهداية التفضيلة، ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ما معنى الانشراح؟

الانشراح بمعنى لين القلب مقابل قسوة القلب، القرآن الكريم يصف هذا النوع من الانشراح يقول: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ لين، لين القلب مقابل قسوة القلب، مقابل جفاف القلب، مقابل يبوسة القلب، لين القلب هو المعبر عنه بالانشراح، هو المرتبة الأولى من مراتب الهداية التفضلية.

ولكي يعرف الإنسان نفسه أنه حصل على هذه المرتبة أم لم يحصل فليختبر الإنسان نفسه إذا قرأ الدعاء، إذا قرأ الإنسان دعاء ورأى نفسه أنه يلتذ بالدعاء، يتعظ بالدعاء، نفسه تحلق مع مضامين الدعاء، إذاً هو يعيش لينًا في قلبه، يعيش انشراحًا في صدره، يعيش المرتبة الأولى من مراتب الهداية، أما إذا رأى نفسه جافة يابسة، تقرأ الدعاء لكن لا تتفاعل معه، تقرأ الدعاء لكن لا تلتفت إلى الاتعاظ والاعتبار بفقرات الدعاء، إذاً هذا الشخص مبتلى بمرض قسوة القلب، لم يحصل على المرتبة الأولى من مراتب الهداية، ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ، هذه المرتبة الأولى من مراتب الهداية.

المرتبة الثانية: المرتبة الثانية الاستقامة، ما معنى الاستقامة؟

لاحظوا قوله تبارك وتعالى: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ يعني بعدما اجتبيناهم أعطيناهم هذه الدرجة الثانية من الهداية، ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ما معنى هذا الكلام؟

هنا سؤال يتبادر لذهن الإنسان، عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا يتبين لنا أن هناك سبل وليس سبيل واحد، قال «سبلنا» بينما في آية أخرى يقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وقال في آية أخرى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى إذاً السبيل واحد بينما هذه الآية تقول «سبلنا»: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا كيف نجمع بين الآيتين؟

هذا مطلب في علم العرفان، الإنسان يظن في بداية الطريق أن السبل متعددة، لكنه إذا استمر في الطريق سينكشف له أن السبيل واحد، أضرب لك مثال: إنسان حديث عهد بالدين، هذا الإنسان الحديث عهد بالدين ماذا يظن؟ كثير من الناس حتى يظن هذا الظن، يظن إن الشرائع السماوية أديان مختلفة، يعني المسيحية دين، اليهودية دين، الإسلام دين، هذه أديان مختلفة.

وهذا ليس صحيحًا، لا يوجد عندنا أديان مختلفة، الدين واحد، ما في أديان مختلفة، الدين الذي جاء به إبراهيم هو الإسلام، ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ إبراهيم قال: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، إبراهيم قال: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ إبراهيم دينه دين الإسلام، المسيحية واليهودية كلها تشترك في دين واحد وهو دين الإسلام، فالقرآن عندما يقول: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ أو يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ يقصد ما يجمع الأديان كلها، جميع الأديان تشترك في دين الإسلام، وإنما هي تفترق في الشريعة لا في الدين، لاحظوا هاتين الآيتين:

قوله تبارك وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا يعني ما قلناه لنوح قلناه لكم وليس عندكم دين جديد، ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ يعني هو دين واحد، وقال في آية أخرى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا إذًا الفرق بين الملل ليس في الدين وإنما هو في الشريعة، أي طريقة العبادة فقط، طريقة العبادة تختلف من دين إلى دين، الطقوس العبادية تختلف من دين إلى دين، وإلا جميع الملل دين واحد يعبر عنه بدين الإسلام.

أيضًا الإنسان الحديث عهدٍ بالتدين يظن أن الطرق إلى الله مختلفة، الصلاة طريق، الصوم طريق، الصدقة طريق، يرى أن الطرق إلى الله مختلفة متعددة متباينة، وهذا ليس صحيحًا، لماذا؟

أنت في أول التدين تفكر أن هذه الطرق مختلفة، ولكنك إذا تأملت تجد أن هذه العبادات كلها طريق واحد، ما هو ذلك الطريق؟

قوله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ الخشوع، الخشوع هو يجمع العبادات كلها، الخشوع روح واحدة تجمع الصلاة والصوم والحج والصدقة وجميع العبادات تلتئم بعنصر واحد اسمه عنصر الخشوع.

الإمام أمير المؤمنين نظر إلى رجل يصلي وهو يعبث في صلاته «يعبث في يده، يعبث في لحيته» قال: ”لو خشع قلبه لخضعت جوارحه“ الخشوع هو قوام الصوم والصلاة والحج وسائر العبادات.

إذًا فهمنا الجمع بين الآيتين، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا يعني الإنسان في أول درجة من درجات الهداية يعتقد أن السبل متعددة «الصلاة سبيل، والصوم سبيل، والحج سبيل» ولكنه إذا رزق الدرجة الثانية من الهداية سيصل إلى الاستقامة، ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ إذا وصل إلى الدرجة الثانية سيرى أن السبل سبيل واحد وأن الطرق طريق واحد وأنه لا يوجد إلا خيط واحد وهو خيط الخشوع إلى الله تبارك وتعالى. هذه الدرجة الثانية من درجات الهداية التفضلية.

المرتبة الثالثة: درجة اليقين المؤدي لرؤية الملكوت.

كيف يعني درجة اليقين المؤدي لرؤية الملكوت؟

الإنسان إذا تسامى في الهداية سيصل إلى درجة يرى حقيقة عمله وهو في الدنيا، العمل الذي أنت تراه، العمل الذي تقوم به، الصلاة التي تقوم بها، سترى حقيقتها وأنت في الدنيا، سترى حقيقة المعصية وأنت في الدنيا، إذا وصل الإنسان إلى رؤية حقائق الأعمال، وصل الإنسان إلى رؤية عالم الملكوت، وصل الإنسان إلى الدرجة الثالثة من الهداية التفضلية ألا وهي درجة اليقين «رؤية حقائق الأعمال».

مثلاً أضرب لك مثال:

تقرأ في الدعاء «إحدى المناجاة للإمام زين العابدين »: ”اللهم ظلل على ذنوبي غمام رحمتك وأرسل على عيوبي سحاب رأفتك“ نحن الآن نريد نتأمل في هذه الفقرة الأولى ”ظلل على ذنوبي غمام“ ما معناها؟

يعني الإمام يقول: أنا وصلت إلى درجة أشعر بحرارة الذنوب مثل ما أشعر بحرارة النار، نحن ما وصلنا إلى هذه الدرجة «أن نرى حقائق الأعمال»، ترى حقيقة الأعمال يعني ماذا؟

يعني الذنوب تراها نارًا لا ترى الذنوب ذنوبًا، ترى المعصية قطعة من النار، ترى الصلاة قطعة من الجنة، ”اللهم ظلل على ذنوبي غمام رحمتك“ اللهيب يحتاج إلى غمام، الحرارة تحتاج إلى غمام، ”ظلل على ذنوبي غمام رحمتك“ يعني أنا وصلت إلى درجة أن أشعر أن الذنب الذي أصنعه كاللهيب الذي يحيط بجسمي، كالحريق الذي يحيط بأعضائي، هذا وصول إلى الدرجة الثالث من الهداية وهي رؤية حقائق الأعمال، رؤية عالم الملكوت.

وهي رؤية تلازم اليقين، أي إنسان يصل إلى عالم الملكوت يعني وصل إلى اليقين، القرآن الكريم يقول: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وقال في آية أخرى: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لو أنتم وصلتم إلى اليقين لرأيتم النار أمامكم، لرأيتم النار متجسدة في الكذب، في الغيبة، في السرقة، في الزنا، في أي معصية ستتجسد النار أمامكم، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ وقال في آية ثالثة: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ يعني الذنوب تحولت إلى رين يحجبنا عن رؤية حقائق أعمالنا، ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ.

إذًا عندنا الهداية التفضلية ثلاث درجات شرحناها: درجة الانشراح ودرجة الاستقامة ودرجة اليقين المؤدية للرؤية الملكوتية «لرؤية حقائق الأعمال».

الإمام، كل إمام من الأئمة، القرآن الكريم يقول: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا كل إمام من الأئمة يقدر يوصلك الدرجات الثلاث «كل إنسان بحسب رتبته»، هناك إنسان يعطيه درجة الانشراح «الأولى»، هناك إنسان يعطيه درجة الاستقامة «الثانية»، هناك إنسان ككميل ابن زياد الذي أوصله الإمام علي إلى رؤية حقائق الأعمال، سلمان، أبي ذر، هؤلاء أوصلهم علي إلى الدرجة الثالثة من درجات الهداية ألا وهي درجة رؤية حقائق الأعمال، إلى درجة اليقين الملازمة لرؤية حقائق الأعمال.

هذا لا يعني أن الإمام إله، الإمام واسطة، واسطة في الفيض ليس إلا، مثله مثل الملائكة وسائط في الفيض، يعني الآن الملائكة ما هو دورهم؟ وسائط في الفيض، الذي يفيض هو الله، لكن الواسطة في الفيض ملك من الملائكة، الله يفيض الحياة على الجنين في بطن أمه بواسطة ملك من الملائكة، الله يفيض الرزق علينا بواسطة ملك من الملائكة، إذاً الله يفيض الهداية علينا بواسطة الإمام المعصوم أو النبي الإمام، فهم واسطة في الفيض وليست الإفاضة منهم بل هي من الله تبارك وتعالى.

المحور الثاني: في نسبة الهدى والضلال إلى الله.

لاحظوا القرآن الكريم ينسب الهدى إلى الله وينسب الضلال إلى الله، يقول: ﴿مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ويقول في آية أخرى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء إذاً الهدى منه والضلال منه، وهنا يثار سؤال لدى ذهن الإنسان:

إذا كان الله هو الذي يضلنا فما هو ذنبنا ولماذا يعاقبنا على ضلال هو مصدره وهو منشؤه؟ كيف ينتسب الضلال إلى الله تبارك وتعالى؟

أشرح لك هذا المعنى:

يقول الفلاسفة «لكل عمل صور قبل تحقق العمل» يسموها علة صورية، هذه الصورة من يخلقها؟ يعني الآن أنا عندما أريد أجي للمأتم، أتصور، ما أقدر أجي من دون صورة، أتصور المأتم، أتصور الطريق، أتصور المكان ثم أشرع في العمل، لا يعقل أن يقوم الإنسان بعمل ما لم يتصور صورته قبل دخوله العمل، السؤال: هذه الصورة التي ترد على ذهنك قبل العمل، هل أنت خلقتها؟ لا، طبعًا هذه الصورة وجود والوجود دائمًا مصدره الله تبارك وتعالى، ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ما في، هذه الصورة نوع من الوجود والوجود مصدره الله إذاً هذه الصورة مصدرها الله، هنا يأتي الإنسان ويقول: طيب، إذا أنا أردت أن أعمل عملاً صالحًا كالصلاة تصورت صورتها والله هو الذي خلق هذه الصورة، وإذا أردت أن أعمل معصية أيضًا تصورت صورة المعصية والله هو الذي خلق هذه الصورة، إذاً هو مصدر صورة الهدى وهو مصدر صورة الضلال.

لكن... خلق هذه صورة في ذهن الإنسان بإرادة الإنسان وليست منفصلاً عن إرادته، كما يقول الفلاسفة: «كل وجود يحتاج لعنصرين حتى يوجد: مفيض وشرط» المفيض هو الله والشرط إرادة الإنسان، أنت عندما تريد أن تكتب «تكتب قصيدة أو تكتب موضوع» هنا مفيض وهنا شرط، من هو المفيض؟ إرادتك، ما هو الشرط؟ القلم، لولا حركة القلم لما استطعت أن تكتب، إذًا هناك مفيض للكتابة وهناك واسطة وشرط في الإفاضة ألا وهو حركة القلم.

أيضًا خلق الهدى في عقلك مشروط بشرط وهو إرادتك لذلك، إذا أردت الهدى خلق الله صور الهدى في عقلك، وإذا أردت الضلال خلق الله صور الضلال في عقلك، هو الخالق لصور الهدى وهو الخالق لصور الضلال، ولكن هذا الخلق مشروط بإرادة الإنسان نفسه، لهذا القرآن الكريم يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا... هم أرادوا، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وقال في آية أخرى: ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ وقال في آية ثالثة واضحة جدًا: ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ... يريد الدنيا، نعطيه ما نبخل عليه، نحن دورنا أن نفيض ودور الإنسان أن يريد، ﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا.

إذاً هذا هو السر في انتساب الهدى والضلال إلى الله تبارك وتعالى.

المحور الأخير: المهدي عجل الله تعالى فرجه وعالم الهداية.

هناك أمور ثلاثة علينا أن نلتفت إليها:

1 - الأمر الأول: لِمَ سمي المهدي مهديًا وكل أهل البيت مهديون؟

وهذا السؤال أيضًا يرد: لِمَ سمي جعفر الصادق وكل أهل البيت صادقون؟ ولِمَ سمي الحسين شهيدًا وكل أهل البيت شهداء؟

الجواب:

الإمام يسمى بأي اسم.. إنما يسمى الإمام باسم الدور الذي كلف به، كل إمام من الأئمة أحاطت به ظروف ولأجل تلك الظروف كلف بدور ينسجم مع تلك الظروف فيسمى باسم الدور الذي كلف به؟

مثلاً نضرب مثال: الإمام الحسين، هبطت إرادة الأمة الإسلامية وتقهقرت عزيمتها إلى حد أصبحت الأمة الإسلامية محتاجة إلى دم يراق على الأرض حتى يحرك إرادتها ويبعث عزيمتها ويوقظها من سباتها، فجاء دور الحسين ، كان دور الحسين هو دور الشهادة، كان دور الحسين هو دور بعث ضمير الأمة وإيقاظها من غفلتها وهذا يتوقف على الشهادة، فبما أن دوره دور الشهادة سمي باسم الشهيد وهو حي، يعني الحسين منذ صغره كان يلقب بالشهيد، لماذا؟ لأن دوره الذي أنيط به هو الشهادة التي ستغير الواقع الموضوعي الذي أحاط به.

الإمام الصادق كذلك، في عصر الإمام الصادق تعددت المدارس الفكرية، على مستوى الفقه هناك مدرسة أبي حنيفة، هناك مدرسة مالك بن أنس، على مستوى الكلام «علم الكلام» هناك الجهمية، هناك القدرية، هناك المرجئة، تعددت المدارس الكلامية والفقهية في عصر الإمام جعفر، هذه المدارس مدارس اجتهادية، ما معنى اجتهادية؟ يعني قد تخطئ وقد تصيب، ما نقدر نسمي مدرسة الشافعي مدرسة صادقة، كيف صادقة وهي قد تخطئ وقد تصيب؟ لعلها أخطأت فكيف تكون صادقة؟ ما نقدر نسمي مدرسة مالك مدرسة صادقة لأنها قد تخطئ.

إذاً من بين هذه المدارس الفكرية وضع الله مدرسة صادقة، يعني مدرسة لا تخضع للاجتهاد، مدرسة لا تخضع إلا للرواية عن النبي محمد ، من هنا جاء دور الإمام الصادق أن يؤسس مدرسة صادقة، يعني الإمام الصادق أتى بمدرسة لا تعتمد على الاجتهاد، مدرسة تعتمد على «حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث رسول الله » ليس عندنا اجتهاد حتى نخطئ أو نصيب، مدرستنا صادقة لأنها رواية مباشرة عن النبي محمد .

أوالي أناسًا ذكرهم وحديثهم روى   جدنا   عن   جبرئيل  عن  iiالباري

الإمام الصادق يقول في رواية معتبرة: «إن عندنا الجفر الأحمر، قيل: وما الجفر الأحمر؟ قال: سلاح رسول الله لا يخرج حتى يظهر قائمنا، وإن عندنا الجفر الأبيض، قيل: وما الجفر الأبيض؟ قال: صحف إبراهيم وزبور داوود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وفرقان محمد ، وكل ذلك لا يظهر إلا على يدي قائمنا، وإن عندنا مصحف فاطمة، قيل: وما مصحف فاطمة؟ قال: كتاب فيه أنباء ما كان وما يكون وأسماء الملوك الذين يحكمون الدنيا، وإن عندنا الجامعة، قيل: وما الجامعة؟ قال: كتاب طوله سبعون ذراعًا بإملاء رسول الله وخط علي فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة».

إذاً هذه مواريث الأنبياء والمرسلين تناقلت وصلت إلى جعفر لذلك سمي الصادق لأن مدرسته تقابل هذه المدارس الأخرى لا باجتهاد وإنما بوراثة للعلم عن جده النبي .

نأتي للمهدي، لماذا سمي المهدي؟

هذا الأمر الأول:

لأن دور آبائه وإن كان الهداية لكن دور كل واحد من آبائه الهداية الخاصة أما دوره هو فهو الهداية العامة، لا يبقى جزء من الأرض إلا وتغمره الهداية، ولا يبقى إنسان إلا وتشرف عليه الهداية، فلأن دوره دور الهداية العامة ونشرها على الأرض كلها لذلك سمي بالمهدي.

وفي الرواية عن الإمام الصادق : «لم سمي المهدي مهديًا؟ قال: لأنه يهدي لكل أمر خفي» أي أمر لا تعرفه الناس ستهتدي له عند ظهور الإمام، وخصوصًا تأويل القرآن الكريم وبيان مغازي آياته ومضامين متشابهاته، تظهر على يد المهدي عجل الله فرجه الشريف.

الأمر الثاني:

عصر ظهور المهدي عصر وضوح الحقيقة فلا يوجد مستضعف في دولة المهدي، القرآن الكريم يقول: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً المستضعف هو الذي لا يصل إلى الحق، افترض ناس في زماننا هذا يعيشون في جزر بعيدة لا يصلون إلى نور الحق، في عصر المهدي لا، في عصر المهدي يتضح الحق وتنكشف كل الأدلة والبراهين فلا يبقى عذر لأحد في أن ينكر ربًا أو دينًا أو نبيًا أو إمامًا، إمامة علي وأبنائه الطاهرين تتضح لكل أحد على الأرض بحيث لا يبقى لأحد عذر في إنكارها أو مجال في التشكيك فيها، يومه يوم وضوح الحق وظهوره.

المفضل سمع من الإمام الصادق أنه قال: «تخرج اثنتا عشر راية متشابهة قبل راية المهدي لا يُدْرَى أي من أي، فلما سمع المفضل هذا الكلام بكى، قال له الإمام الصادق : ما يبكيك يا مفضل؟ قال: أنت تقول تخرج اثنتا عشر راية متشابهة لا يدرى أي من أي فإذاً ماذا نصنع؟ [يعني نحن سنعيش حيرة وقلق] قال: لا، يا مفضل انظر، فنظرت فإذا الشمس دخلت إلى الدار، قال: إن أمرنا لأبين من الشمس».

إذًا هناك هالة من وضوح الحق والحقيقة في زمانه بحيث يكون أمرهم وأمر إمامتهم واضحًا لكل أحد يعيش على كوكب الأرض فلا مجال لإنكاره أو الشك أو التردد فيه.

الأمر الثالث:

ذكرنا في ليلة سابقة أن عصر المهدي عصر الحضارة الكونية وسيطرة الإنسان على الكون كله، وهذا يتوقف على معرفة الإنسان بعالم الملائكة؛ لأن الملائكة دخيلون في إدارة الكون، دخيلون في تدبير أمر الوجود، لا يمكن إقامة الحضارة الكونية إلا بالإحاطة بعالم الملائكة، وإلا بالمعرفة بأدوار الملائكة، فعصر المهدي عصر يتصل فيه الإنسان بالملائكة، يتصل فيه الإنسان بالملك ليعرف مدى دور الملك في تدبير أمر الوجود.

وقد تحدثت عن هذا روايات متعددة ونحن نقرأ في دعاء ليلة النصف من شعبان، من جملة الدعاء: «نورك المتألق وضياؤك المشرق والعَلَم النور في طخياء الديجور جَلَّ مولدك وكرم محفلك والملائكة شهده» يعني الملائكة محيطة به صلوات الله وسلامه عليه بحيث لا يخفى على أحد دور هؤلاء الملائكة، «والملائكة شهده والله ناصره ومؤيده»، ونقرأ أيضًا في الزيارة: «السلام على ناظر شجرة طوبى وسدرة المنتهى» إذاً دور الملائكة ينكشف للإنسان في زمان ظهوره.

من هنا أختم بهذه الرواية: رواية معتبرة تقول:

هبط من السماء أربعة آلاف ملك لنصرة الحسين فلم يُؤْذَن لهم في القتال، الله اختار للإمام الحسين طريق الشهادة فلم يأذن لهم في القتال فبقوا عند قبره شعثًا غبرًا يبكونه إلى يوم القيامة فلا يزوره زائر إلا واستقبلوه ولا يودعه مودع إلا وشيعوه ولا يمرض مريض إلا وعاذوه ولا يموت ميت - أي زيارته أو عند زيارته - إلا وشيعوا جنازته وإنهم عند قبره باكون حتى يخرج قائمنا فيرفعون رايته ”يا لثارات الحسين“...

وصلى الله على محمد وآل الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين