النقد بين الضرورة والإشكالية

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

الآية المباركة صرحت بأن الدعوة إلى الله لها ثلاثة أساليب: الحكمة والموعظة والجدال..

أما الحكمة فهي عبارة عن البرهان الذي يوصل إلى اليقين، كما إذا أردنا أن نثبت إمامة الإمام علي فإنه لا يفيد إثباتها بالموعظة ولا بالجدال بل يحتاج إثباتها إلى الحكمة بمعنى البرهان الذي يؤدي إلى اليقين، بأن نستخدم الأحاديث المتواترة تواترًا معنويًا عن النبي كحديث الغدير وحديث الدار وحديث المنزلة وغيرها من الأحاديث الدالة على إمامة الإمام أمير المؤمنين ..

وأما الموعظة فهي الأسلوب الذي يؤدي إلى ترقيق الروح ويؤدي إلى جنوح القلب كما لو رأيت شابًا من أصدقائك يصر على استماع الغناء مثلاً فإنك تحتاج إلى أن تتخذ معه أسلوب الموعظة، بأن تذكر له الأحاديث التي تشدد على حرمة الغناء كما ورد علن النبي ”بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تدخله الملائكة ولا تهجره الشياطين“..

وأما الجدال فهو أن تفحم من تخاطبه بما يسلَّم به، الجدال يختلف عن الحكمة فالحكمة برهان يؤدي إلى اليقين، أما الجدال فهو أن تفحم مَن تتخاطب معه بما يُسلِّم به بحسب معتقده، مثلاً الإمام أمير المؤمنين كتب إلى معاوية بن أبي سفيان بعد أن بويع بالخلافة ”أما بعد فقد بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للحاضر أن يرد وللغائب أن يختار“ هذا الخطاب من الإمام علي لمعاوية ليس برهانًا لأن الإمام لا يعتقد بالشورى وقد تظلم من الشورى وقال ”فيَا لله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتى صرتُ أقرن بهذه النظائر“ مع أنه لا يعتقد بالشورى ولكنه احتج على معاوية بالشورى، احتجاجه على معاوية بالشورى ليس من البرهان وإنما هو من الجدال لأن الجدال أن تُفحم المُخاطَب بما يعتقد به، لأن معاوية يعتقد بالشورى أراد الإمام علي أن يفحمه بما يعتقد به فلذلك احتج عليه بأمر يعتقد به وإن كان عليٌ لا يقر بذلك الأمر وهذا يسمى جدال وليس حكمة لأن الحكمة برهان والجدال أسلوب لإفحام الطرف المخاطَب بما يعتقد به..

انطلاقًا من الآية المباركة التي تتحدث عن الجدال وتقول بأن الجدال أسلوب من أساليب الدعوة، نتحدث عن النقد لأن النقد صورة من صور الجدال ونتحدث عن النقد من عدة محاور:

المحور الأول: هل الجدلية في الإنسان نزعة ذاتية أم نزعة مكتسبة

العلماء يقولون أن الجاذبية في الإنسان نزعة متأصلة نزعة ذاتية وليست مكتسبة، لماذا؟ العلماء يقولون أن الإنسان إما فاعل أو منفعل، هناك أناس لا يحتاجون لإثارة هم يقومون بأفعالهم ابتداءً فلا يحتاج أن يثيرهم الآخرون، هناك شخص فاعل بمعنى أنه يبدأ مشاريعه ويبدأ دربه من دون حاجة لإثارة من دون حاجة إلى محرك من قِبل الآخرين وهذا إنسان فاعل، وهناك إنسان لا يتحرك حتى يُحرَّك، لا يتحرك ولا يقيم مشروعًا حتى يحتاج إلى مُثير ومُحرك له وهذا إنسان منفعل..

الإنسان المنفعل على ثلاثة أقسام ونوضح ذلك بمثال، لو عُرضت عليك قضية مريبة غير طبيعية، كما لو عُرضت عليك رشوة وقيل لك خالف النظام ونحن نعطيك رشوة، أنت عندما تُعرض عليك هذه القضية كيف تنفعل معها؟ الانفعال هنا له أقسام ثلاثة:

القسم الأول:

أن تقوم بالتفكير والتأمل هل أن هذا العمل صحيح أم أن هذا العمل مُفسد؟ وهنا يأتي دور القوة العاقلة والقوة العاقلة هي التي تفرض عليك أن تفكر وأن تتأمل قبل أن تتخذ أي خطوة، كما ورد عن النبي في وصية لأبي ذر: ”إذا هممتَ بأمرٍ فتدبر عاقبته فإن يكُ خيرًا فأمضه وإن يكُ شرًا فانتهِ عنه“ فالتفكير والتأمل هو القسم الأفضل من الانفعال أن تفكر..

القسم الثاني:

أن تستجيب بأنه لا مانع، وهنا إذا استجبت لهذا العرض فالقوة التي تدفعك للاستجابة والتفاعل مع هذا العرض تسمى بالقوة الشهوية، عُرضت عليك الرشوة فسال لعابك لأجل المال فاستجبت لها كما لو أثارتك امرأة أجنبية فاستجبت لإثارتها أو عُرض عليك طعامًا شهيًا فاستجبت العرض وأكلت الطعام، القوة التي تدفعك للاستجابة تسمى بالقوة الشهوية..

القسم الثالث:

الثأر، بمعنى أنك تأخذ ردة فعل معاكس حيث عندما تُعرض عليك الرشوة تغضب وتقول أنا لا آخذ رشوة وإياكم أن تطرحوا عليَّ هذا الأمر مرةً أخرى، يصير الانفعال بردة فعل بثأر، القوة التي تدفعك إلى أن تأخذ رد فعلٍ معاكس تسمى بالقوة السبُعية والقوة الغضبية..

إذن انفعال الإنسان دائمًا يكون إما بالتفكير من خلال القوة العاقلة أو بالاستجابة من خلال القوة الشهوية أو برد الفعل المعاكس من خلال القوة السبُعية..

الجدل يدخل تحت القوة السبُعية القوة الغضبية، إذا أُثير الإنسان فإنه يجادل، ويجادل إما دفاعًا عن نفسه أو هجومًا على غيره، فإن الجدال دفاعًا عن النفس أو هجومًا على الغير فالجدال صورة من صور القوة السبُعية القوة الغضبية لدى الإنسان ولأجل ذلك قلنا بأن الجدال نزعة ذاتية عند الإنسان، لأن الجدال ينشأ من القوة السبُعية والقوة السبُعية قوة متأصلة لدى الإنسان فلذلك يكون الجدل المتفرع عليها والنابع منها نزعة متأصلة لدى الإنسان ولهذا القرآن يشير إلى هذا المعنى عندما يقول: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا الإنسان بطبيعته يجادل، بل يجادل حتى في آخر لحظة فإذا جاء الإنسان يوم القيامة وهو مغمور بالذنوب ومملوءٌ بالمعاصي ويقال له هذه ذنوبك وهذه معاصيك فيجادل ويناقش حتى في تلك اللحظة، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا إذن القوة الجدلية والروح الجدلية لدى الإنسان نزعة متأصلة في داخل الإنسان وليست أمرًا مكتسبًا من المجتمع..

المحور الثاني: الفرق بين التربية التلقينية والنقدية

بما أن الجدل قوة موجودة لدى كل إنسان فكيف نهذب هذه القوة وكيف نُرشِّدها وكيف نُقومها، وهنا كلمة مهمة للمعلمين والمعلمات والآباء والأمهات لأن هذه النقطة تهم كل مُربِّي سواء كان المُربِّي معلم أو معلمة أبًا أو أمًا، علماء التربية يقولون أن التربية على قسمين:

القسم الأول: التربية التلقينية

عقل الإنسان لديه ملكتان ملكة الذاكرة وملكة البحث، الذاكرة هي التي تختزن المعلومات وملكة البحث هي التي تحلل المعلومات وتستنتجها..

كيف تتعامل مع الطفل في البيت أو مع الطالب في المدرسة؟ هل تتعامل معه من خلال قوة الذاكرة أو تتعامل معه من خلال قوة البحث والتأمل؟ هناك نوعان من التربية، هناك أب يتعامل مع أبنائه دائمًا بالتربية التلقينية حتى لو كبر ولده وأصبح في الثانوية أو في الجامعة وأصبح عاقلاً رشيدًا مفكرًا، لكن الأب يقول له لا تناقشي واسمع كلامي فقط فكل ما أقوله لك فهو صحيح فلا تناقشني ولا تنقد كلامي ولا تسجل ملاحظات على كلامي فقط خذ مني، هذا يريد أن يربي ولده تربية تلقينية بحيث يختصر شخصية ولده في قوة الذاكرة وكأنه لا يمتلك قوة اسمها قوة البحث والتأمل، يختصر شخصية ولده في قوة واحدة وهي قوة الذاكرة فعلى ولده أن يختزن المعلومات وأن يتلقن المعلومات من دون أن تكون له قوة البحث وقوة التأمل..

وكذلك المدرس في الفصل، التلميذ للأسف في مدارسنا لا يناقش ولا يبحث بل يحفظ الكتاب من الجلدة للجلدة، الأستاذ عندما يتعامل مع الطلاب والمعلمة عندما تتعامل مع الطالبات من خلال التربية التلقينية فهي تختصر عقولهم وشخصياتهم في قوة الذاكرة وتحولهم إلى أشرطة كاسيت وأقراص سي دي يحفظون المعلومات من دون أن يتدبروها..

القسم الثاني: التربية النقدية

هناك أباء يربون أبناءهم على النقد، بمجرد أن يفهم الابن يقول له الأب تكلم، قلْ ما عندك، فكر، انقد كلامي، انقد ما تقرأ من كتب، انقد ما تسمع، عندما تصطحبه معك للاستماع للخطيب قل له بعد ذلك: ابدِ رأيك فيه انقد ما سمعته منه، فكر فيه، ما رأيك فيه، سجل ملاحظاتك عليه..

هذا الأب عندما يربي ولده على قوة البحث لا قوة الذاكرة فهو يغذي في ولده قدرة البحث وملكة البحث لا أن يختزل ولده في قوة الذاكرة، فهو يثير في ولده الروح الاستقلالية، أن يكون شخصًا مستقلاً برأيه مستقلاً بنظره مستقلاً بأفكاره وآرائه وهذه تسمى بالتربية النقدية ونحن نحتاج إلى التربية النقدية فالتربية التلقينية لا تفيدنا..

من أسباب فشل مجتمعاتنا التربية التلقينية، لماذا مجتمعاتنا العربية وبالذات مجتمعاتنا الخليجية ليس فيها إبداع وليس فيها عبقريات إلا ما شذ وندر فلماذا؟ من أسباب تضاؤل ظاهرة الإبداع والعبقرية في مجتمعاتنا أن التربية السائدة هي التربية التلقينية التي تركز على قوة الذاكرة وتلغي قوة البحث والتأمل، بينما نحن نحتاج إلى أن نُستخرج وأن نستثمر طاقات ومواهب أبنائنا وبناتنا من خلال التربية النقدية كما حثنا القرآن الكريم على ذلك ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ..

المحور الثالث: أهمية النقد وعناصر النقد البناء

عرفنا أننا نحتاج إلى التربية النقدية وأن النقد ضرورة لا بد منها، لا بد أن تكون عقلياتنا عقليات ناقدة وليست عقليات مقلِّدة وعقليات مقرِّرة، عقلية تنقد كلام المُحاضر كلام الخطيب كلام الجريدة كلام القناة، أي كلام أي فكر نسمعه من أي مصدر إعلامي نكون قادرين على نقده والتأمل فيه، ضرورة النقد من أين تنشأ ة ومن أين تنبع، ضرورة النقد تنشأ من جهتين:

الجهة الأولى: الوصول إلى الحقيقة

علماء الكلام يقولون المرجعية الأولى للعقل لا للشرع، نحن لدينا خلاف بين الإمامية والأشاعرة فالأشاعرة يقولون أن المرجعية الأولى للشرع والإمامية يقولون أن المرجعية الأولى للعقل لا للشرع، لولا مرجعية العقل لما عرفنا مرجعية الشرع، لولا العقل لما استطعنا أن نحكم بأن الشرع مرجع، إذن الذي أرشدنا وأوصلنا إلى مرجعية الشرع هو العقل فبالعقل ثبت التوحيد وبالعقل ثبتت الأصول الخمسة وبالعقل عرفنا مرجعية الشرع فالمرجعية الأولى للعقل التي منها توصلنا إلى مرجعية الشرع ولهذا يقول علماء الإمامية ”الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل“ لا أن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع لا فالعقل هو أولاً في هذا المجال وبناء على هذا نعود للعقل حيث هو المرجعية الأولى..

العقل يُقرر أن الإنسان ليس له أن يقتنع بفكرة أو بسلوك إلا بحجة والعقل يقول هكذا إذا رجعت له، عقلك يقول لك عليك أن لا تقبل أي فكرة وأي سلوك إلا بحجة في سائر المجالات سواء في مجالات العقائد أو في مجالات الفروع..

أما في مجالات العقائد فلا يجوز لك التقليد في العقائد، ليس لك أن تقتنع أو تقبل فكرةً أو سلوكًا إلا بحجة والحجة هي البرهان الذي يوصل إلى اليقين أو الاطمئنان الحاصل من تبانِ العلماء واطمئنانهم، وكذلك في مجال الفروع ليس لك أن تقوم بأي عمل إلا بحجة والحجة فتوى الفقيه الجامع للشرائط، فأنت ترجع للفقيه الجامع للشرائط بحكم العقل لأن غير ذوي الاختصاص يرجع إلى ذوي الاختصاص وهذا حكم عقلي..

إذن العقل بالنتيجة يقول ليس لك أن تقبل أي فكرةٍ أو أي سلوكٍ إلا بحجة وإما الحجة برهانًا أو الحجة فتوى فقيه جامع للشرائط وإلا فلا، فالعقل يفرض عليك أن تكون عقلية ناقدة لا تقبل أي فكرة إلا بحجة وهذا يعني أن عليك أن تكون إنسانًا ناقدًا، عليك أن تكون صاحب عقلية ناقدة، فإن الوصول إلى الحقيقة والوصول إلى الصواب يفتقر إلى العقلية الناقدة..

الجهة الثانية: التطوير فرع النقد

كل إنسان يطمح إلى التطوير وكل مجتمع يطمح إلى التغيير، لكن الوصول للتطوير والتغيير يفتقر إلى نقد من لم ينقد ذاته لن يطور ذاته، كل مجتمع لا ينقد ذاته فإن هذا المجتمع سيبقى متخلفًا متقهقرًا وكل شخصٍ لا ينقد ذاته لن يستطيع أن يتغير أو أن يتطور ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ التغيير يأتي من الداخل لا يأتي من الخارج..

إذا عاش الإنسان ثقافة التغيير وعاش إرادة التغيير وعاش عزم التغيير استطاع أن يغير، إذن التغيير فرع النقد فرع الذات فرع قراءة التجربة ولذلك قلنا سابقًا أنه كل إنسان صاحب مشروع لا بد أن ينقد تجربته ولابد أن يقرأ تجربته وإلا فلن يتطور، المأتم مثلاً مشروع والقائمون على المأتم إذا لم يقرؤوا تجربتهم وينقدوا أوضاعهم ولم يقرؤوا إيجابياتهم وسلبياتهم فلن يستطيعوا أن يتطوروا..

خطيب المنبر عنده مشروع لا بد أن يقرأ تجربته بين سنة وأخرى، إمام المسجد صاحب مشروع عليه أن يقرأ تجربته بين فترة وأخرى، كل صاحب مشروع خطيب رجل، دين، أستاذ، أب، حتى الأب في البيت صاحب مشروع ومشروعه تربية الأبناء، عليك أن تقرأ تجربتك وأن تقرأ مشرعك لتنقد ذاتك فمن لم ينقد ذاته فلن يتغير ولن يتطور أبدًا وهذا ما ورد عن النبي محمد : ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا“ ليست المحاسبة على الذنوب فقط بل حتى على التجارب والمشاريع والمسارات التي ندخلها ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا“، عليك أن تقرأ تجربتك وأن تنقد ذاتك حتى تتغير وتتطور، إذن النقد ضروري لجهتين لجهة البحث عن الحقيقة وجهة التطوير والتغيير..

المحور الرابع: ما هي مساحة النقد؟

نحن الآن نشجع على النقد ونحث على العقلية الناقدة والعقلية الباحثة، فما هي مساحة النقد وما هي الحدود التي يُسمح فيها للإنسان بالنقد بأن ينقد وأن يتكلم؟ نحن نذكر حدين لمساحة النقد:

الحد الأول: أن لا ينقد الإنسان الضروريات من الدين أو الضروريات من المذهب

لماذا؟ لأنه إذا نقد الضروري وكان صاحب شبهة فهو يُعتبر جاهل لأنه مشى على الشبهة وإن كان ملتفتًا إلى أن الأمر ضروري من ضروريات الدين أو من ضروريات المذهب ومع ذلك نقده خرج عن الدين أو خرج عن المذهب، كل من أنكر ضروريًا من ضروريات الدين أو المذهب وكان ملتفتًا إلى أنه ضروري بمعنى ليس لديه شبهة يخرج عن الدين أو عن المذهب..

إذن حد النقد أن لا تنقد الضروري عن التفاتٍ إلى أنه ضروري وإلا سيكون حكمك الخروج عن الدين أو المذهب فليكن نقدك في مساحة أرحب وأوسع فيما دون ذلك، يوجد قضايا كثيرة هي محل بحث هي محل تأمل هي محل خلاف هي محل نظر وباب الاجتهاد واسع ومفتوح..

الحد الثاني: أن لا يكون النقد مصدرًا للفتنة الفكرية

لماذا يركز القرآن الكريم يركز على نقطتين حيث يقول: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ أو يقول القرآن الكريم: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ما المقصود من الفتنة؟ المقصود من الفتنة الفتنةُ الفكرية والفتنة الفكرية منشأ الفتنة الاجتماعية والفتنة الاجتماعية تكون منشأ للحروب أي نوع من أنواع الحروب ليس فقط الحروب بالأسلحة..

الحروب الناشئة عن الاختلاف الديني أشد ضراوة من الحروب الناشئة عن الاختلاف السياسي، ربما تختلف دولتان على حدود أو على آبار نفط أو على آبار غاز وتنشب حرب بينهما لكن هذا أهون من الحروب التي تنشأ بين طائفتين لأجل دوافع دينية، الحروب الدينية اشد ضررًا وفتكًا على المجتمع البشري من الحروب السياسية لذلك القرآن يولي أهمية للفتنة الفكرية ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ لذلك أنت مسموح لك بالنقد بشرط أن لا يتحول نقدك إلى مصدرٍ للفتنة الفكرية، فإذا ما تحول نقدك مصدرًا للفتنة الفكرية قد يحول المجتمع إلى فتنة اجتماعية وبالتالي قد يحول المجتمع إلى مجتمع متحارب دينيًا وكما قلنا بأن الحرب الدينية أشد ضراوة من أي نوع ولون من ألوان الحروب الأخرى..

لذلك نحن ننصح بعض الأخوة الباحثين الذين ينقدون بعض المسلَّمات الدينية وينقدون بعض القضايا الدينية في الانترنت أو ينقدها في القنوات الفضائية فهذا الأسلوب ليس أسلوبًا صحيحًا، لأنك إذا كنت تريد نقد قضية دينية فالحوزة موجودة فبإمكانك أن ترسل نقدك وأبحاثك إلى علماء الحوزة لترى ردهم، إذا عجزوا عن الرد وضعفوا فحينئذٍ تكون لك حجة أنك سجلت ملاحظاتك ونقدك فلم تجد جوابًا فبإمكانك حينئذٍ نشره في أي موقع وفي أي مصدر إعلامي، أما أن تبدأ نشر نقدك لقضايا دينية من خلال مواقع الانترنت أو من خلال القنوات الفضائية ويكون نقدك مصدرًا لاختلاف المجتمع أو يكون نقدك مصدرًا لفتنة فكرية لا نعلم حدودها ولا نعلم مداها، هذا الأسلوب مضافًا ليس أسلوبًا حكيمًا ليس أسلوبًا عقلانيًا، لذلك تجنبًا للفتن الفكرية ينبغي أن نختار الأسلوب الأمثل لنقد القضايا الدينية كما شرحنا وبيَّنا..

المحور الخامس: عناصر النقد البناء

نحن عندما ندعو للنقد ونشجع النقد فإننا ندعو للنقد البناء، فما هي عناصر وركائز النقد البناء؟

العنصر الأول: الكفاءة

الناقد يجب أن يكون ذا كفاءة علمية حتى يكون قادرًا على النقد وإلا كانت مفسدة النقد أكثر من مصلحته والقرآن يركز على الكفاءة عندما يقول: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ويقول القرآن الكريم وهو يحث على التسلح بالكفاءة: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ويقول: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ المهم أن تكون لك حجة المهم أن تكون لديك كفاءة علمية حتى تكون أهلاً للنقد، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ويقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ..

العنصر الثاني: الاستقامة

دائما الناس تلاحظ الخط، ما هو دربك؟ هل هو مستقيم أم لا؟ أنت تخرج وتنقد والناس تقرأ سيرتك هل هي سيرة مستقيمة أم لا، إذا كان الناقد مستقيم السيرة أثَّر نقده وأما إذا كان الناقد غير نزيه وغير مستقيم لم يكن لنقده أثر ولا لكلامه أثر..

إذن من شرائط فاعلية النقد وتأثير النقد هو الاستقامة في السلوك، لاحظ القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا ليس فقط دعا إلى الله بل وعمل صالحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الاستقامة عنصر مهم في فاعلية النقد وفي تأثيره..

العنصر الثالث: ألا يتحول النقد إلى مرض

لدينا بعض الفئات الاجتماعية لديها مرض اسمه مرض النقد، هناك أشخاص ينقدون كل شي، كل ما حوله خطأ، كل ما حوله غير صحيح، كل ما حوله في نقد، هذه الفئة التي تَحول النقد عندها إلى مرض أو تَحول النقد عندها إلى هواية لا تستحسن شيء ولا يعجبها شيء هذه الفئة هي فئة تقتل المجتمع تقتل المشاريع الاجتماعية تقتل الإبداع الاجتماعي تقتل المواهب المتفتحة تقتل الملكات المتوقدة، لنكن موضوعيين وصريحين، نحن إذا قرأنا مجتمعنا الخليجي فهو ليس أقل من المجتمعات الأخرى ليس أقل من المجتمع اللبناني ولا من المجتمع العراقي، في طاقاته في قدراته الذهنية في قدراته الخبروية ليس أقل، إذن لماذا الإبداع لدينا قليل؟ لماذا ظهور العبقريات في مجتمعاتنا الخليجية أمر نادر؟ من أسباب تضاؤل الإبداع وتراجع العبقريات الفئة الناقدة، هناك فئات في المجتمع لا ترحم أحدًا، أي مشروع تقتله بالنقد أي شخص عندنا مثلاً لديه عبقرية، عبقرية في الشعر عبقرية في الفكر عبقرية في الفقه عبقرية في الفلسفة عبقرية في الفن في أي مجال، كل من لديه عبقرية أو موهبة أو ملكة تقتله هذه الفئة المريضة التي لا تعرف إلا لغة النقد ولغة التحبيط ولغة التجريح، فهذه الفئة المريضة عامل من عوامل تقهقر الإبداع في مجتمعاتنا، فالنقد مطلوب ولكن لا يتحول إلى مرض ولا يتحول إلى سيف يقتل كل إبداع ويقتل كل بروز..

العنصر الرابع: أدب النقد

النقد يحتاج إلى أدب النقد يحتاج إلى أسلوب حسن، لاحظوا القرآن الكريم يقول: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أهل الكتاب في نظرنا غير مسلمين ومع ذلك التزموا بالأدب معهم  إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ  إلا المحاربين كالإسرائليين مثلاً  إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، حتى الكتابي غير المسلم عليك أن تلتزم بالأدب في مجال نقده وفي مجال مناقشته..

الإمام الصادق كان يستقبل الملحدين، كان يستقبل أبا شاكر الديصاني وكان يستقبل غيره من الملحدين المعروفين كان يستمع إلى نقدهم ويجيبهم ويناقشهم ولذلك لما يذكر الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج أنه حصل حوار حاد بين هشام بن الحكم تلميذ الإمام الصادق وبين أبي شاكر الديصاني، فقال له أبو شاكر ”ما لقينا من سيدك ما لقينا منك“ يريد أن يقول أن إمامك إذا جلسنا عنده لا يعاملنا كما تعاملنا أنت لا يتلقانا بحدة وإنما يتلقانا بالأدب يستمع إلى كلامنا ثم يدحض شبهاتنا، الإمام الصادق تعامل مع الملحدين بأدب النقد، فكيف مع المؤمنين فكيف مع الملتزمين فكيف مع من هم من جلدتنا ومن ديننا ومن مذهبنا ومن دربنا..

الاختلاف في الرأي لأجل أننا نختلف في أسلوب من أساليب العمل أو لأجل أننا نختلف في فكرة ليست من الضروريات في المذهب أو ليست من المسلّمات في المذهب أو لأجل أننا نختلف في قضايا صغيرة، هذا الاختلاف مبرر للنقد من حقنا أن ننقد لكن ليس من حقنا أن نتجاوز الآداب وليس من حقنا أن نهتك الحرمات وأن نعتدي على المقامات والشخصيات لأجل أننا نختلف في قضية معينة، النقد حق لكنه ليس مبررًا لتجاوز الآداب ولهتك الحرمات، ولذلك ورد عن الإمام الصادق سلام الله عليه: «من بهَّت مؤمنًا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله يوم القيامة على تلٍ من النار حتى يخرج مما قاله فيه، ومن روى على مؤمنٍ رواية يريد بها شينه وهدم مروّته بمعنى أنه ليس قصده النقد بل قصده أن يشين هذا الإنسان ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان ثم لا يقبله الشيطان» فالنقد يفتقر إلى الأدب، نعم لو فرضنا أن الشخص مبتدع في الدين صاحب بدع في دين الله أو شخص مروج للفسق والمعاصي فهنا لا بد أن يُتخذ معه أسلوب شديد لأجل ردع المجتمع عن الانصياع إلى منكراته ومبتدعاته، من أجل صيانة المجتمع عن منكراته ومبتدعاته يتخذ معه أسلوب الحدة..

من هنا مثلاً نرى أن فقهاءنا حرموا قراءة كتب الضلال على الشخص غير القادر على مناقشتها ونقدها، هذا التحريم لماذا؟ ما هي فلسفته؟ فلسفة هذا التحريم صيانة المجتمع من الفكر الخطر، نحن نرى الدول المتحضرة الآن تحارب الإرهاب فكرًا وعملاً، يقولون أن الفكر الإرهابي يجب محاربته ولكن لماذا تحاربونه لماذا لا تفتحون المجال للفكر الإرهابي لماذا لا تفتحون المجال لفكر القاعدة وأن تكون له قنوات وأن تكون له مساجد وأن تكون له وسائل، إعلام أليس من حق القاعدة أن تعبر عن أفكارها؟ أليس من حق القاعدة أن تعبِّر عن معتقداتها ومتبنياتها من خلال وسائل الإعلام من خلال المساجد من خلال القنوات؟

تقول الدول المتحضرة لا، بل يجب سد الأبواب كلها أمام الفكر الإرهابي لأن الفكر الإرهابي خطر على المجتمع البشري، فمن أجل الحفاظ على سلامة المجتمع البشري ومن أجل الحفاظ على أمان المجتمع البشري يجب سدّ الأبواب أمام الإرهاب فكرًا وتمويلاً وعملاً وسلوكًا، وهذا أيضًا رأي فقهاؤنا حيث يقولون إذا كان الكتب كتب ضلال والفكر فكر ضال فهذا فكر خطر على المجتمع الإسلامي، يُثير فتنة اجتماعية لا يُعلم مداها، من باب ذلك ولأجل الحفاظ على سلامة مجتمعنا وتجنيبه فتنة نحرم قراءة كتب الضلال أو ترويجها أو بيعها أو حفظها إلا لمن يقدر على الرد والمناقشة، فالمبتدع في الدين أو المروج للفسق هم الذين يُتَّبع معهم أسلوب الشدة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..

ولذلك نجد أن القرآن الكريم تختلف لغته، القرآن الكريم عندما يتكلم في بعض الآيات يقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ويقول أيضًا: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، بينما في آيات أخرى نجد القرآن شديد في الرد على بعض الفئات ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ لماذا هذه الشدة؟ لأن الأمر يختلف لأن هذه الفئة مروّجة للفسق مروّجة للمنكرات فيجب أن يُتخذ معها أسلوب الشدة لمنع تأثر المجتمع بخطرها الفكري أو السلوكي..

ولذلك تجد أن الأئمة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين اختلفت أساليبهم مع الفئات تبعًا لاختلاف الفئات، الإمام الحسين الذي استقبل وهَب واحتضنه وجعله من أنصاره مع أنه كان عثمانيّ الهوى، هذا الحسين عندما يتحدث عن يزيد يتحدث بشدة وبدون مداراة وبدون مجاملة يقول: ”إنا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“ هذا الحديث الشديد عن يزيد لماذا؟ لأن الإمام الحسين يقول بأن هذا الشخص خطر على الأمة وبما أنه خطر على الأمة فلابد من وصفه وصفًا واقعيًا حتى تأخذ الأمة حذرها من مثل هذه الفئة ومن مثل هذه السلطة الأموية..

ولأجل ذلك خاض الإمام الحسين مشروعه بكل شهامة وبكل إرادة وقال: ”ومثلي لا يبايع مثله، ألا وإنَّ الدعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون“..

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..