التجديد في الخطاب الديني، هدف أم وسيلة؟

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

هناك كثيرٌ من الأقلام التي دعت لتجديد الخطاب الإسلامي، مع أنّ المشكلة ليست في التّجديد بما هو تجديدٌ، وإنّما المهمّ أن يكون الخطاب الإسلامي خطابًا مواكبًا لمسيرة الإنسان الحضاريّة، وخطابًا منسجمًا مع اختلاف التغيّرات والتحوّلات في المسيرة الاجتماعية، سواءً كان الخطاب خطابًا تجديدًا أو كان الخطاب خطابًا تقليديًا، فليس الحسن في التّجديد نفسه، وإنّما الحسن في كون الخطاب خطابًا منسجمًا مع مسيرة الإنسان ومواكبًا لمسيرة الإنسان، لذلك الآية المباركة التي قرأناها تبيّن لنا معالم الخطاب الإسلامي، كيف يكون الخطاب الإسلامي خطابًا منسجمًا مع مسيرة الإنسان ومتفاعلاً مع التغيّرات والتحوّلات التي تطرأ على مسيرة الإنسان، الخطاب الإسلامي بيّنت الآية المباركة أنّه يتشكّل من عناصر ثلاثة:

  1. تزكية.
  2. وتعليم كتاب.
  3. وتعليم حكمة.

﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ متى ما كان الخطاب مشتملاً على لغة الرّوح التي تخاطب النّفس من أجل تهذيبها وتزكيتها، هذا هو العنصر الأوّل، وكان مشتملاً على لغة السّماء بمعنى أنّه يتكفّل بيان المضامين العامّة والخاصّة للقرآن والسّنّة كما قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ، ومتى ما كان مشتملاً على لغة العقل مضافًا للغة الرّوح ولغة السّماء يكون متضمنًا للغة العقل كما قال: ﴿وَالْحِكْمَةَ، لأنّ المقصود بالحكمة هي تربية المجتمع على استخدام البراهين العقليّة، على استخدام الأسس العقليّة في مجال التّفكير وفي مجال الوصول إلى النتائج، فالخطاب الذي يتضمّن هذه العناصر الثلاثة: لغة روحيّة ولغة سماويّة ولغة عقليّة فهو الخطاب الإسلامي الفاعل والمنسجم مع المسيرة الحضاريّة للإنسان والمواكب لمختلف التغيّرات بالنسبة إلى المسيرة الاجتماعيّة، لذلك انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محورين:

المحور الأوّل: في تقسيم الحكم الشّرعي إلى الثّابت والمتغيّر.

هل الشّريعة كلّها ثابتة أو تنقسم إلى ثابتٍ ومتغيّرٍ؟

الصحيح أنّ الشّريعة الإسلاميّة وكلّ شريعة تنقسم إلى ثابت ومتغيّر، ما هو الفرق بينهما؟

الشّريعة الإسلاميّة إنّما وُضِعَت لأجل حفظ المصالح الإنسانيّة العامّة، هناك مصالح إنسانيّة دائمة وثابتة، فالتّشريع إنّما وُضِعَ لحفظ هذه المصالح الإنسانيّة الثّابتة والدّائمة، وإلا لكان التّشريع لغوًا، إذا لم يكن التّشريع مبنيًا على رعاية وحفظ المصالح الثابتة فالتّشريع لغوٌ وقبيحٌ، واللّغو لا يصدر عن المقنّن الحكيم تبارك وتعالى.

إذن عندنا عنصرٌ نسمّيه: «عنصر المصالح»، «عنصر المصالح الدّائمة» هذا العنصر هو العنصر الثّابت في الشّريعة الإسلاميّة، المصالح لا يتخطّاها التّشريع الإسلامي، المصالح هي الخط الثابت في التّشريع الإسلامي، طبعًا لا نقصد بالمصالح ما يتوصّل إليه العقل البشري، العقل البشري محدودٌ لا يستطيع أن يحدّد المصلحة الدائمة، العقل البشري يقدر يحدّد المصلحة في زمن معيّن، يقدر يقول لك العقل البشري: المصلحة في زماننا هذا تقتضي كذا، أو المصلحة في النّظام الرأسمالي تقتضي كذا، المصلحة في النّظام الاشتراكي تقتضي كذا، العقل البشري لأنّه محدودٌ لا يمكن أن يصل إلى تحديد المصالح الدائمة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل مهما تغيّرت الحضارات ومهما اختلفت الأزمنة، وإنّما نقصد بالمصالح ما أفصح عنه القرآن الكريم، ما أفصح عنه القرآنُ الكريمُ والسّنّة القطعيّة فهذه المصالح تُعْتَبَرُ عنصرً ثابتًا، مثل ماذا؟

مثلاً: نأتي إلى القرآن الكريم، قوله عزّ وجلّ: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ هذه مصلحة ثابتة، بمعنى أنّ الإسلام دائمًا يركّز في قوانين الاقتصاديّة ألا تجتمع الثروة في فئةٍ من المجتمع، لابدّ أن تكون الثروة منتشرة بين أبناء المجتمع، لا أن تكون حكرًا على فئةٍ معيّنةٍ، ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء، هذا يولّد طبقيّة اجتماعيّة، هذه مصلحة ثابتة، عنصر ثابت.

مثلاً: قوله عزّ وجلّ في آية تحريم الربا: ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ يعني ماذا؟

يعني أخذ فائدة وربح على الآخر من دون جهد ومن دون تعب هذا يُعْتَبَرُ ظلمًا، هذه مصلحة ثابتة، يعني تجنّب هذا الظلم مصلحة ثابتة ودائمة لا يرفع التّشريع يده عنها، دائمًا يراعي هذه المصلحة.

مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا - لماذا؟ - أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ يعني رعاية حرمات النّاس «من تسمع كلمة عن واحد تصدّقها وترتّب عليها أثر»، لا، للنّاس حرمة، للنّاس كرامة، رعاية حرمات الآخرين وكرامتهم أيضًا خط ثابتٌ في الشّريعة الإسلاميّة، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

إذن هناك مصالح أفصح القرآن والسنّة عن أنّها مصالح ثابتة، ولا يمكن للتّشريع أن يتجاوزها وأن يتخطّاها، هذه تسمّى العنصر الثابت في الشّريعة الإسلاميّة.

أمّا العنصر المتغيّر فهو الحكم، الحكم نفسه، الحكم الشّرعي «حرام، حلال، واجب..» هذا ليس عنصرًا ثابتًا، هذا عنصرٌ متغيّرٌ، كيف عنصر متغيّر؟

لأنّ الحكم قانونٌ، والصياغة القانونيّة دورها حماية المصالح، القانون لا يؤسّس مصلحةً، القانون يحمي المصلحة، هناك مصالح ثابتة وظيفة القانون أن يحميها، وظيفة القانون أن يحافِظ عليها، إذن الصياغة القانونيّة هي مجرّد عنصرٍ حافظٍ وحامٍ للمصالح الثّابتة والدّائمة، لذلك الصياغة القانونيّة تُعْتَبَرُ عنصرًا متغيّرًا وليس عنصرًا ثابتًا، يعني ليس عندنا حكمٌ في الشّريعة لا يتغيّر، لا يوجد، كلّ حكم قابل للتغيّر، كيف؟

مثلاً: يأتيك إنسانٌ ويقول لك: «وجوب الصلاة»، «وجوب الصلاة» لا يتغيّر، الصلاة لا تسقط عن الإنسان كما ورد في الرواية: ”ولا تدع الصلاةَ بحالٍ“، الصلاة لا تسقط حتّى في حالات المرض، حتى في حالات العجز.

لا، الصلاة قد تسقط، كيف؟

المرأة، المرأة إذا طرقها الحيض أو النّفاس يسقط عنها الأمر بالصلاة مدّة حيضها ونفاسها لا أداءً ولا قضاءً، مع أنّ الصلاة عمود الدّين في هذه الحالة تسقط، بعض الفقهاء أيضًا يرى أنّ الوجوب الأدائي للصّلاة يسقط في حال فقدان الطهورين، الطهورين يعني: التّراب والماء، لو أنّ الإنسان فقد كلا الطهورين، سُجِنَ في مكانٍ ليس فيه ماءٌ ولا ترابٌ ولا صعيدٌ ولا شيء، ما هو حكمه؟ بعض الفقهاء يقول: يسقط عنه الوجوب الأدائي للصّلاة، تصبح وظيفته القضاء، متى ما تمكن من أحد الطهورين قضى الصّلاة، أمّا الأداء يسقط عنه، لماذا؟ لأنّه فاقدٌ للطهورين.

تأتي مثلاً إلى «حرمة النّفس»، «قتل النّفس» من أعظم المحرّمات في الشّريعة الإسلاميّة، ربّما يقول قائلٌ: هذا الحكم ثابتٌ لا يتغيّر؛ لأنّ هذا الحكم في طليعة الأحكام الشّرعيّة، «حرمة قتل النّفس» هذا الحكم لا يتغيّر، ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا، هذا الحكم لا يتغيّر.

لا، هذا الحكم يتغيّر، كيف يتغيّر؟

إذا دار الأمر بين حرمة الدّين وحرمة النّفس حرمة الدّين أهمّ من حرمة النّفس، ولذلك الفقهاء يضربون مثالاً يقول لك: لو تترّس المشركون بالمسلمين، يعني صار قتال بين المسلمين وبين طرفٍ محاربٍ، طرفٍ كافرٍ ولكن محارب، والطرف الكافر أخذ أسرى من المسلمين وتترّس بهم «جعلهم في مقدّمة المعركة» بحيث متى ما صعّد المسلمون القتالَ يُقْتَلُ هؤلاء الأسرى، هنا الأمر يدور بين حرمة نفس المسلم «هذا الأسير» وبين حرمة الدّين، لذلك يقول الفقهاء: إذا توقّف حفظ بيضة الإسلام، توقّف حفظ الكيان الإسلامي على قتل النّفس المحترمة تُقْتَل النّفس المحترمة في سبيل حفظ بيضة الإسلام، حفظ الكيان الإسلامي.

إذن الأحكام قابلةٌ للتّغيّر مهما بلغت خطورتها، مهما بلغت أهمّيتها هي قابلة للتغيّر، الحكم كما يقول فقهاؤنا يتغيّر لأحد عوامل ثلاثة: إمّا العنوان الثانوي، وإمّا المزاحمة، وإمّا تغيّر الموضوع.

1 - العنوان الثانوي: مثلاً: الصوم، صوم شهر رمضان واجبٌ، لكن صوم شهر رمضان إذا كان ضررًا يسقط الوجوب، يتغيّر الحكم، قد يكون حرامًا أصلاً، إذا كان الضرر بليغًا يكون الصوم حرامًا، يتغيّر من الوجوب إلى الحرمة لأجل عنوانٍ ثانويٍّ وهو عنوان الضرر.

2 - أو لأجل المزاحمة: مثلاً: تشريح جسد المسلم، تشريح جسد المسلم لا يجوز؛ لأنّ تشريح جسد المسلم تصرّفٌ في جسده، وهذا يتنافى مع حرمته، وقد ورد عن النبي محمدٍ : ”المؤمن حرمته ميتًا كحرمته حيًا“، التصرّف في جسده لا يجوز، لو فرضنا أنّ إنقاذ نفسٍ محترمةٍ توقّف على تشريح جسد الميّت المسلم، يعني جريمة اُرْتُكِبَت لا نستطيع اكتشاف الجريمة إلا بهذا التّشريح، وباكتشاف الجريمة سوف تُنْقَذُ نفسٌ محترمةٌ، هنا يقع تزاحمٌ بين حرمة التّشريح وبين وجوب إنقاذ النّفس المحترمة يُقَدّم الأهمّ على المهمّ فيقال: التّشريح جائزٌ.

3 - وأحيانًا يتغيّر الحكم لتغيّر الموضوع: كيف يتغيّر الحكم لتغيّر الموضوع؟

لاحظ مثلاً الدّم، الدّم هذا قبل 200 سنة لم يكن يباع، لماذا؟ لأنّ النّاس لم تكن تلتفت إلى أهمية حفظ الدّم، لم تكن تلتفت لذلك قبل 200 سنة كان بيع الدّم، لو كان واحد يبيع دمًا يضعه في إناء معيّن يعتبروا هذا البيع بيع باطل فاشل، لماذا؟ لأنّه يُعْتَبَرُ في صحّة البيع أن يكون المبيع مالاً، ما يصير تبيع تراب، التّراب ليس مالاً، ما يصير تروح البحر مثلاً وتأخذ منه ماءً وتبيعه! ماء البحر عند البحر ليس مالاً، لابدّ أن يكون المبيع مالاً، يعني لابدّ أن يكون المبيع ممّا يتنافس عليه النّاس لأنّ فيه منفعة، الدّم قبل 20 سنة لم يكن بنظر المجتمع مالاً لأنّهم لم يكونوا ملتفتين إلى منفعته، فكان بيعه بيعًا باطلاً، بعد 200 سنة التفت البشرُ إلى أهمّية الدّم، تحوّل الدّم إلى كونه مالاً، أصبح مالاً مهمًا فأصبح بيعه بيعًا جائزً ونافذًا، إذن الحكم قد يتغيّر لتغيّر الموضوع.

عمومًا:

1. عندنا عنصر ثابت: وهو المصالح.

2. وعندنا عنصر متغيّر: وهو الأحكام التي قد تتغيّر لعنوان ثانوي أو للمزاحمة أو لتغيّر الموضوع.

المحور الثّاني:

بعد الحداثيّين كتب أطروحةً وهي أنّ الخطاب الفقهي الإسلامي ليس خطابًا ناجحًا وليس خطابًا مثمرًا، لماذا؟

لأنّه خطابٌ لا يفرز العنصر الشكلي من الشّريعة عن العنصر الجوهري، يعني الشّريعة لها لبّ ولها قشور، إذا أنت لم تفرز القشور عن اللّب يعتبر خطابك خطابًا فاشلاً؛ لأنّك تخلط بين القشور واللّب، تخلط بين السطحي والأصيل، تخلط بين العرضي والذّاتي، لكي يكون الخطاب الفقهي الإسلامي خطابًا مثمرًا لابدّ أن يفرز القشور عن اللّب، يفرز العنصر الشكلي عن العنصر الجوهري، ما هو المقصود بهذا الكلام؟

العنصر الجوهري هو المضمون، مضمون الشّريعة هذا عنصر جوهري، وأمّا العنصر الشكلي فهو يرجع إلى:

  1. اللّغة.
  2. الصياغة.
  3. التّاريخ.

عوامل ثلاثة تؤلّف العنصر الشكلي، أضرب مثالاً لكلّ عامل:

عامل اللّغة: كيف اللّغة عامل شكلي؟

يعني الآن مثلاً: الفقهاء يقولون لك.. - هذا الكاتب هكذا يقول - أنّ الفقهاء يقولون: يُعْتَبَر في صيغة عقد الزّواج أن تكون صيغة عربيّة، يُعْتَبَر في صيغة الطلاق أن تكون صيغة عربية، طيب ما هي قيمة اللّغة العربيّة يعني؟! لماذا أنتم متنعصرون للعروبة؟! اللّغة عنصرٌ شكليٌ ليس إلا، يعني المضمون واحد وهو الزّواج، هذا المضمون واحدٌ وهو الزّواج سواءً صار باللّغة الإنجليزيّة أو صار باللّغة العربيّة أو صار باللّغة الفارسيّة، بما أنّ المضمون واحدٌ فاللّغة مجرّد عنصر شكلي، اللّغة مجرّد عبارة، فلذلك الفقه عندما يقول: «يُشْتَرَطُ في الزّواج اللّغة العربيّة» هذا تركيزٌ على العنصر الشكلي وإهمالٌ للعنصر الجوهري وهو المعنى والمضمون، هذا عاملٌ.

عامل الصياغة: الصياغة يعني صيغة المعاملة.

لاحظ مثلاً: يوجد بابٌ في الفقه يُسَمَّى باب الحيل الشّرعيّة، ما معنى الحيل الشّرعيّة؟!

يعني كيف تفرّ من الحكم الشّرعي، توجد حيلٌ يضعها الفقهاءُ لكي تتخلّص من الحكم الشّرعي، أضرب لك مثال لبعض الحيل، يعني أنت الآن مثلاً: القرض الربوي حرامٌ، أنا أقرضك 100 ألف ريال بمائة وخمسة، هذا حرامٌ، دعنا نبدّل صياغة المعاملة، بدل أن أقول: «أقرضك 100 بمائة وخمسة» دعني أبدّل الصياغة فأقول: «أبيعك 100 ألف ريال بخمسة وثلاثين ألف دولار» صحيحة! ما هو الفرق؟! النتيجة واحدةٌ، يعني بالنتيجة أن حصلت على ربح، ما دخل من جيبي أكثر ممّا خرج منه جعلته بصيغة القرض أو جعلته بصيغة البيع فما هو الفرق؟! عندما يقول الفقيه: القرض حرامٌ لكن البيع بهذه الطريقة حلالٌ فهذا إذن تركيزٌ على العنصر الشكلي وإغفالٌ للعنصر الجوهري، العنصر الجوهري يقول لك: المضمون واحدٌ، إذا المضمون حرامٌ فهو حرامٌ في كليهما، إذا المضمون حلالٌ فهو حلالٌ في كليهما، فما هذه الخرصة «على كذا يكون حلال وعلى كذا يكون حرام»؟! هذا من ناحية العنصر الشكلي من ناحية الصياغة.

التّاريخ: بعض الأحكام لها جذورٌ تاريخيّة.

 يعني ما نبعت من الشّريعة الإسلاميّة نفسها، وإنّما نبعت من الظروف التاريخيّة التي كانت تحيط بمسيرة الإسلام، مثلاً: القرآن الكريم ينقل عن النبي يعقوب عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصّلاة والسّلام: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ من هو إسرائيل؟! هو النبي يعقوب، وأنتم رأيتم مسلسل يوزرسيف فعلمتهم بأنّ النبي يعقوب هو المسمّى بإسرائيل! يعني هو أب هذه السلاسة، أب هذه العائلة والشجرة، النبي يعقوب بعدما مرض أبنائه نذر لئن شوفي أبناؤه ليمتنعنّ عن لحم الإبل وألبانها، ثم شُفِيَ أبناؤه وبالفعل امتنع، هذا الامتناع تحوّل إلى سيرة، ومشى عليها النّاس قرونًا من الزّمن، لحم الإبل لا يجوز أكلها لا هو ولا ألبانه، واعتبروا ذلك جزءًا من الشّريعة إلى أن جاء النبي محمدٌ فأباح لحم الإبل وألبانها، فقالوا له: كيف أنت تخالف التوراة؟! لأنّ التوراة حرّم لحم الإبل وألبانها، قال لهم: لا، التوراة لم يحرّمها، هذا الحكم ليس دينيًا وإنّما هو التزامٌ من النبي يعقوب، ولذلك قال: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ يعني هذا الحكم ليس موجودًا في التوراة، هذا الحكم جاء من يعقوب ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

إذن بعض الأحكام لها مناشئُ بشريّةٌ وليست مناشئها دينيّة خالصة، بعض الكتّاب يمثّل لذلك بالدّية والخمس، يقول لك: في الجاهليّة كانت الديّة عشر نياق، عبد المطّلب رضي الله عنه جدّ النبي هو الذي حوّل الدية إلى مئة ناقة، عشر لا تكفي فجعلها مئة ناقة حمراء «دية الإنسان المقتول»، لمّا جاء الإسلامُ أمضى حكمَ عبد المطّلب، صار الحكم الإسلامي مطابقًا لما شرّعه عبد المطّلب، إذن هذا الحكم ليس منشؤه الشرّيعة، منشؤه ظروفٌ تاريخيّةٌ.

تأتي مثلاً للخمس، يقول لك: الخمس ما هي قضيّته؟!

في الجاهليّة إذا غزت قبيلةٌ قبيلةً أخرى طبعًا الطبيعة الغازية تغتنم - تأخذ غنائم - من القبيلة المنهزمة، الغنائم أين تذهب؟ ربع الغنيمة للقائد، القائد يحصّل ربع الغنيمة، الإسلام أتى ونفس الحكم أبقاه ولكن خفّفه من الربع إلى الخمس، إذن هذا الحكم لم يأتِ من منائش دينيّة، جاء من تاريخ مجتمع عربي، الإسلام أمضاه لكن حوّل الربع إلى خمسه، حوّله من 25% إلى 20%، ولذلك في الجاهليّة كان يقال:

لك  المرباعُ  منها iiوالصفايا   وحكمك والنشيطةُ والفضولُ

بما أنّك قائدٌ لك المرباعُ، يعني الربع، والصفايا أيضًا لك، يعني إذا في أشياء ثمينة أيضًا هي لك، أنت تأخذها، «لك المرباعُ منها والصفايا، وحكمك...» يعني ما تحكمه عليه تأخذه أيضًا، «والنشيطة» ماذا بقي للبقيّة؟! لم يبقَ لهم شيءٌ! كلّ شيءٍ هو يأخذه بعنوان القيادة.

من هنا يذكر بعض الباحثين أنّ الأحكام ذات المناشئ التاريخيّة على الفقهاء فرزها وإخراجها عن حريم الفقه؛ لأنّها ذات مناشئ تاريخيّة فإذن هي تخضع للتغيّرات التاريخيّة والاجتماعيّة، لذلك دية قتل الخطأ، القتل إذا كان عمدي فإنّ القاتل يُقْتَل إلا أن يعفو عنه وليّ المقتول ويطالِب بالدّية، أمّا إذا كان القتلُ قتلاً خطئيًا تثبت الدية، الدية على من؟ الدية ليست على القاتل وحده، الدية على العاقلة، «العاقلة» يعني ماذا؟ يعني العشيرة، يقال لعشيرة القاتل: هيّا تبرّعوا بالدية! بعض الكتّاب يقول: هذا لا علاقة له بالإسلام، لماذا؟

هذا له علاقة بالمجتمع العربي، المجتمع العربي هو مجتمعٌ عشائريٌ لأنّ المجتمع العربي مجتمع عشائري يقول بالولاء للقبيلة لذلك الإسلام وضع هذا الحكم: دية القتل الخطئي على العاقلة، يعني على العشيرة، لا نستطيع تعميم هذا الحكم على كلّ المجتمعات حتى المجتمع الإنجليزي الذي لا يتعرف باللّغة العشائريّة لأنّ هذا الحكم له جذورٌ تاريخيّةٌ اجتماعيّةٌ.

بالنتيجة ملخّص هذه الأطروحة أنّ الفقه الفاعل هو الفقه الذي يفرز الجانب الشكلي من الشّريعة عن الجانب الجوهري، نحن الآن نريد أن نجيب عن هذه الأطروحة، نحن قلنا أنّ الفقه الإسلامي إذا كان يحمل العناصر الثلاثة المذكورة بالآية التي بدأنا بها: ﴿يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فهو الخطاب الفاعل الناجح المنسجم مع الأزمنة والأمكنة، مع مسيرة الإنسان وحضارة الإنسان، ومسألة عدم فرز الشكلي عن الجوهري هذه مسألة غير صحيحة، ليس عندنا في الفقه «عنصر شكلي وعنصر جوهري، ولازم نفرز العنصر الشكلي عن العنصر الجوهري» لماذا؟

نمرّ على جميع العوامل الثلاثة:

العامل الأوّل: ألا وهو عامل اللّغة.

ربّما يقال: «اللّغة» هذه شكلٌ فلماذا تركّزون على اللّغة؟!

هذا الكلام مدفوعٌ بالنقض والحلّ، كيف؟

أمّا النقض: إذا اللّغة مجرّد عنصر شكلي إذن الصّلاة أيضًا ينبغي أن نبدّلها، صح لو لا؟! نقول: صلاة العربي باللّغة العربيّة، أمّا إذا المسلم إنجليزي يصلي بماذا؟! باللّغة الإنجليزيّة، وإذا هو هندي يصلّي باللّغة الهنديّة، والفاتحة ليس لها خصوصيّة، المهمّ هو المعنى، معاني صورة الفاتحة هو المهمّ بأيّ لغة كانت، لماذا؟! لأنّ اللّغة مجرّد ماذا؟! عصر شكلي، نأتي إلى الذبح أيضًا ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، نقول له: لا داعي إلى أن تقول: «بسم الله»، يصح أن تقول: «بنابي خوذا»! المهمّ هو المعنى نفسه والمضمون وما اللّغة سوى عنصر شكلي تستطيع أنت أن تبدله بعنصر آخر وانتهى الموضوع!

بل القضيّة أعمق من هذا، يعني نحن إذا أخذنا بهذا المنظار - أنّ اللّغة عنصرٌ شكليٌ - سوف تتحوّل القضيّة إلى أعمق من ذلك، حتى القرآن الكريم، القرآن ليس هو هذا الألفاظ، هذا ليس سوى قشر! عنصر شكلي! القرآن هو المعنى! فإذا أنت ترجمت إلى لغة إنجليزيّة تُعْتَبَرُ الترجمة قرآنًا أيضًا لا يجوز مسّه إلا بطهارة ويحرم هتكه! يعني سوف نعتبر القرآن ليس هو الألفاظ التي وردت وإنّما هو المضامين والمعاني بأيّ لغةٍ كانت! إذن القضيّة أنّ اللّغة العربيّة أين محلّها وأين موقعها؟! هذا هو النقض.

أمّا الحلّ: ما هو الحلّ؟

الحلّ يا أخي بغض النظر عن المسألة التي مُثّلَ بها وهي أنّ عقد الزّواج يُشْتَرَطُ فيه اللّغة العربيّة والطلاق يُشْتَرَطُ فيه.. هذا ليس حكمًا مسلّمًا، هذا محلّ خلافٍ فقهيٍّ، هذه مسألة فقهيّة خلافيّة، بعض الفقهاء يرى أنّ الزّواج يقع بأيّ لغة، الطلاق يقع بأيّ اللّغة، هي ليست مسألة فقهيّة إجماعيّة كي نبني عليها ونقول الفقه الإسلامي يركّز على العنصر الشكلي دون العنصر الجوهري، دعنا من هذا المثال ولنذهب إلى أمثلةٍ أخرى ثابتةٍ.

لماذا اللّغة العربيّة؟! لماذا القرآن يقول: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ؟ هل المسألة تعنصرٌ للّغة العربيّة؟! يعني لأنّ النبي عربي لازم تصير اللّغة عربيّة؟!

لا، في علم النقد الأدبي، إذا ترجع إلى علم النقد الأدبي يقال: اللّغة ثقافة، اللّغة ليست مجرّد ألفاظ، اللّغة العربيّة تعبّر عن ثقافة، اللّغة الفارسيّة تعبّر عن ثقافة أخرى، اللّغة الإنجليزيّة تعبّر عن لغةٍ ثالثةٍ، خصائص الألفاظ تعني خصائص في المعنى، اختلاف اللّغة يعني اختلاف المعنى، كيف؟

الآن مسألة «النسبة»، أمثّل لك بمثال بسيط: «النسبة»، إذا تريد تنسب شيئًا لشيءٍ مثلاً تقول: «محمد عالمٌ» تنسب العلمَ إلى محمدٍ، أو مثلاً: «عبد الله صادقٌ» تريد تنسب الصدق إليه، يسمّوها «نسبة»، «النسبة» كيف يتصوّرها العربي في ثقافتها وكيف يتصوّرها الفارسي في ثقافته؟

«النسبة» بحسب الثقافة العربيّة ذات عنصرين فقط: موضوعٌ ومحمولٌ «محمدٌ عالمٌ»، بينما «النسبة» في اللّغة الفارسيّة ثلاثة أطراف: محمد، والعلم، والرابط بين محمد والعلم! مع أنّ هي القضيّة بسيطة، «نسبة العلم إلى محمد» كيف يتصوّرها العربي وكيف يتصوّرها الفارسي؟! هذه المسألة البسيطة يختلفان في تصوّرها، العربي يتصوّرها ذات عنصرين، لذلك ليس عنده سوى كلمتين: «محمدٌ عالمٌ»، الفارسي يتصوّرها ذات ثلاثة، يقول: ما يصير كيف أربط العلم بمحمد؟! العلم شيءٌ ومحمد شيءٌ فلابدّ من وجوب رابطٍ يربطهما، يقول لك مثلاً: «عالمست» لازم يضع إضافة، هذه الإضافة رابطٌ يربط الموضوع بالمحمول، إذن الاختلاف اللغوي ليس اختلافًا في الألفاظ، بل اختلافٌ يعكس اختلاف في خصوصيّة المعاني، كلّ ثقافةٍ تتصوّر المعاني بنحوٍ من الأنحاء.

لذلك بما أنّ اللّغة العربيّة في نظر المشرّع نفسه محمدٌ عن الله جلّ جلاله ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى بما أنّ اللّغة العربيّة أقرب لغةٍ للمعنى الشّرعي نفسه، بمعنى أنّها في تحديد المعنى الشّرعي تكون أكثر دقةً وفرزًا للمعنى من لغةٍ أخرى لذلك اُعْتُبِرَتْ اللّغة العربيّة في الصّلاة، في الذباحة، في أيّ مسألةٍ أخرى، لا للتعنصر، لا، لأن هذه اللّغة رآها المشرّع أنّها أقرب لغةٍ إلى بيان مقصوده وتحديد المعاني التي يريد أن يوصلها إلى المجتمع البشري فاختارها في مجال الصياغة، فالمسألة ليست مسألة عنصر شكلي وعنصر جوهري، لا، بل هي عنصرٌ مهمٌ لأنّها أقرب اللّغات لتحديد المعنى.

العامل الثّاني: عامل الصياغة.

ومثّلنا له بالقرض والبيع، إذا أقرضك مئة بمائة وخمسة حرامٌ مع اختلاف العملة، خمسة وثلاثين بألف دولار حلال، لماذا؟!

طبعًا نحن عندنا مدرستان في الفقه لا مدرسة واحدة، الفقه الإسلامي لا تمثّله مدرسةٌ واحدةٌ، عندنا مدرستان في الفقه: المدرسة النّصّيّة، والمدرسة المضمونيّة.

1 - المدرسة النّصّيّة: أنا أجيب أمثلة للفقهاء باعتبار ارتباطهم بهذه المدارس، مثلاً: المدرسة النّصّيّة السيّد الخوئي، سيدنا الخوئي قدّس سرّه يرى المدرسة النّصّيّة، أغلب فتاواه مبنيةٌ على هذا المنهج، على رأي السيّد الخوئي يقول لك: نعم، هذه المعاملة إذا قرض حرام، إذا بيع حلال، لماذا؟

يقول لك: هذا ليس اختلافٌ في الصياغة، بل اختلافٌ في الحقيقة، القرض معاملة، والبيع معاملة أخرى، وإن اتّحدا في النتيجة، لكنّهما معاملتان متغايرتان معنىً ولفظًا، ولأجل ذلك لكلّ معاملةٍ آثارٌ تختلفُ عن المعاملة الأخرى، يعني الآن مثلاً: إذا «قرض» القرضُ له آثارٌ، إذا «بيع» البيعُ له آثارٌ أخرى، افترض مثلاً: أنت أقرضتني مئة بمائة وخمسة، ثم مات المقترض، يبقى يملك المقرِض على ذمّة المقترض مئة ألف، وهذه المئة ألف يجب إخراجها من أصل التركة، هذا حكمٌ، هذا لا يأتي في البيع، يأتي في القرض، كلّ معاملةٍ لها أحكامٌ تخصّها، كلّ معاملةٍ لها آثارٌ تخصّها، إذن لماذا هذا التغيير من معاملة إلى معاملة مع أنّ النتيجة واحدة؟

هذا مبنيٌ عند الفقهاء على تزاحم المصالح الترخيصيّة مع المصالح الإلزاميّة، هناك مصالح تقتضي أن يُلْزَم بالحكم، هناك مصالح تقتضي أن يُرَخَّص لك في الحكم، وهذا ما يسمّى بالمصلحة التسهيليّة، يعني الشّرع الشّريف ليس دائمًا إلزام، الشّرع الشّريف أحيانًا يكون دوره دور التسهيل، أحيانًا يكون دوره دور الإلزام، أحيانًا يكون دوره دور التّسهيل والتّرخيص، الشّرع الشّريف يقول: إذا تزاحمت المصالح الإلزاميّة مع المصالح التسهيليّة أحيانًا تراعى وتقدّم المصلحة التسهيليّة على المصلحة الإلزاميّة، من باب تقديم المصلحة التسهيليّة على المصلحة الإلزاميّة نقول: لا مانع، بدّل المعاملة وتكون المعاملة حلالاً، وهذا موجودٌ في بعض الروايات أنّ الإمام الباقر بدّل معاملة مكان معاملة والنتيجة واحدةٌ، فقال له أهل المدينة: هذا فرار! أنت قاعد تفرّ! قال: ”نعم الفرار من الحرام إلى الحلال“ إذا الله يريد يسهّل عليّ من جهة أخرى فأنا أقدّم الجانب التسهيلي على الجانب الإلزامي، هذه المدرسة النّصّيّة.

2 - المدرسة المضمونيّة: من أقطابها الإمام الخميني قدّس سرّه، هو يلاحِظ المضامين والنتائج، ولهذا هو في هذا المثال يقول: حرام، سواءً سمّيته قرضًا أو سمّيته بيعًا لا يتغيّر، الحكم حرامٌ حرامٌ، يعني إذا جعلته بيعًا يبقى حرامًا، الحكم لا يتغيّر، يرى أنّ المدار على روح المعاملة، وإن كانت المعاملتان مختلفتين لفظًا ومعنىً ولكلّ معاملة آثار لكنّهما تشتركان في روح واحدة، روح المعاملتين روحٌ واحدةٌ وهي الظلم بنظره، يقول الظلم واحدٌ، هنا ظلمٌ إذن هنا ظلمٌ أيضًا، ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ.

فإذن أنت عندما تأتي وتعترض على الفقه الإسلامي أنّه يركّز على الجانب الشكلي دون الجانب الجوهري، لا، هناك مدرستان في الفقه، ولكلّ مدرسةٍ أفقها المعيّن، أنت لازم تدرس مبرّرات أفق هذه المدرسة ومبرّرات أفق تلك المدرسة؛ لكي يلاحَظ أنّ الفقه هل يركّز على العنصر الشكلي ويهمل العنصر الجوهري أم لا؟ هذا أمرٌ لابدّ من دراسته.

العامل الثالث: مسألة الأحكام ذات الجذور التاريخيّة.

هذا الكلام ليس عندنا، وإن طرحه بعض الكتّاب لكن ليس له أساسٌ، لماذا ليس له أساسٌ؟!

يعني الأحكام لم تنشأ عن ظروفٍ تاريخيّةٍ معيّنةٍ والإسلام مشى عليها وجرى عليها، لا أبدًا، الإسلام وضع أحكامًا ونسخًا أحكامًا أخرى، صحّح وخطّأ، أمّا أنّ الإسلام يتبنّى حكمًا له مناشئ تاريخيّةٍ معيّنةٍ يتبنّاه كحكم قانونيٍّ لا، ليس عندنا هذا الشيء، كيف؟

أذكر لك هناك أمرين:

الأمر الأوّل: أنا ذكرتُ في العام الماضي أنّ هناك فرقًا بين الخطاب القانوني والخطاب التدبيري، كلّ خطابٍ لازم نقرؤه، ندرسه، ندرس سياق الخطاب، ليس عندنا شيءٌُ عامٌ، إذا كان سياق الخاطب في أنّه قانونٌ للبشريّة نأخذ به كقانونٍ عامٍ، مثلاً: قوله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ، هذا حكمٌ قانونيٌ، وأحيانًا سياق الخطاب يُظْهِر بأنّه خطابٌ تدبيريٌ، يعني جاء لتدبير مصلحةٍ وقتيّةٍ، مثلاً: صحيحة محمد بن مسلم يسأل الإمام الصادق : سألتك عن لحوم الأضاحي تُخْرَج من منى «إذا ذُبِحَت الأضحية أو الهدي في منى تقدر تُخْرِجَ اللّحمَ إلى خارج منى؟»، قال: ”كنّا..“ الإمام يقول: ”كنّا ننهى عن ذلك“ كنّا نقول: لا، لا تطلّعوها، ”كنّا ننهى عن ذلك لحاجة النّاس، أمّا اليوم وقد كثر النّاس فلا بأس به“ إذن الخطاب لم يكن خطابًا قانونيًا، كان خطابًا تدبيريًا، كل لأجل مصلحةٍ وقتيّةٍ تغيّر الوقت فتغيّر الخطاب، لابد ندرس كلّ خطابٍ بإزائه: هل سياقه سياق الخطاب القانوني أو سياقه سياق الخطاب القانوني؟ هذا أوّلاً.

ثانيًا: ليس عندنا مثالٌ لحكم أقرّه الإسلامُ وهو ناشئٌ عن ظروفٍ تاريخيّةٍ معيّنةٍ، ليس عندنا، الآن أضرب لك أمثلة:

المثال الذي ذُكِر: وهو مثال الدية «والله عبد المطّلب جعل الدية مئة ناقة والإسلامُ أمضاها»! لا، عبد المطّلب لا يشرّع من رأسه كيفما شاء، عبد المطّلب كان على ملّة إبراهيم الخليل، عبد المطّلب لم ينطق بالحكم من عنده، وإنّما نطق بالحكم على أنّه من ملّة إبراهيم الخليل، الإسلام أمضى الحكم يعني ماذا؟! يعني مشى على ما كان في ملّة إبراهيم الخليل لا لخصوصيّةٍ لعبد المطّلب، نعم عبد المطّلب ليس إنسانًا عاديًا، عبد المطّلب إنسانٌ مقدّسٌ، عبد المطّلب جدّ النبي ما عبد صنمًا ولا سجد لصنم، وكان من الأولياء الصالحين، ولذلك في روايات كثيرة تمدح عبد المطّلب وتعتبره وصيًا من أوصياء عيسى بن مريم، يعني الإنجيل وصل إليه غير محرّفٍ وكان بيده.

متى نحاك الدهرُ بالأمرِ العطبْ

وصيِّ   عيسى   وأمينِ   iiسرّهِ

وكونهُ  جدًا لسيّدِ الرسلْ iiأعظمْ

فيه  التقى النوران منه iiافترقا

نورٌ   لعبد   الله  نورُ  iiالمُرْسَلِ







 
اقسم  على  اللهِ  بعبدِ  iiالمطّلبْ

على    عمومِ    نهيهِ    وأمرهِ

بذا    فخرًا    فما   شئتَ   iiفقلْ

أعظم   بذاك   الافتراق  واللقا

وفي   أبي   طالب   نورٌ  iiلعلي

عبد المطّلب مجمع النورين.

وكذلك مثال الخمس: فرقٌ بين الحكم الذي في الجاهليّة والحكم الذي في الإسلام، في الجاهليّة: القائد له ربع الغنيمة، في الإسلام: الخمس ليس للقائد، الخمس ينقسم إلى سهمين:

  1. سهمٌ للسّادة الفقراء لا للقائد.
  2. والسهم الآخر للقائد بحيثيّة الإمامة لا لأنّه قائدٌ، بل بحيثيّة الإمامة، ولذلك لا يُورَث.

لو أنّ النبي مثلاً أو الإمام علي، الإمام علي مات، نصف الخمس الذي كان عند الإمام علي هل ينتقل بالوراثة إلى أولاده؟! لا، لا ينتقل لأولاده، هذا السهم يثبت له من حيث كونه إمامًا، يُصْرَفُ في شؤون الإمامة، لا أنّه يملكه كشخصٍ من الأشخاص، إذن نحن لم نمض الحكمَ الجاهلي وقلنا بأنّ الربع كان في الجاهليّة للقائد والإسلامُ جعله خمسًا! لا، لا لا، الخمس نصفٌ للسّادة الفقراء ونصفٌ للنبي أو الإمام لكونه إمامًا لا لكونه شخصًا بحيث ينتقل سهمه بالميراث.

وأمّا مسألة دية القتل الخطئي:

يأتيك إنسانٌ ويقول لك: هذه ديّة القتل الخطئي لإسلامُ يقول: دية القتل الخطئي على العاقلة وليست على القاتل، هذا يتناسب مع طبيعة المجتمع العشائري!

لا، ليس له علاقةٌ بالمجتمع العشائري، هذا الحكم شرّعه الإسلام لأجل رعاية الأرحام، هناك أحكامٌ شرّعها الإسلام لتقوية صلة الرّحم، لا علاقة له بالمجتمع العشائري، حتى لو مجتمع لا يعترف بالعشيرة مثل المجتمع الإنجليزي، لكنّه إذا كان مسلمًا عليه أن ينسجم مع المبادئ الإسلاميّة العامّة ومنها: صلة الأرحام، الإسلام لكي يؤكّد صلة الرحم قال: «دية القتل الخطئي تتحمّلها العشيرة» لكي يكون صورةً لصلة الرّحم ورعاية هذه اللّحمة الاجتماعيّة المهمّة ألا وهي لحمة الرّحم، ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ، وورد عن النبي : ”إنّ للرّحم لسانًا طلقًا دلقًا يوم القيامة يقول: يا رب! صل من وصلني واقطع من قطعني“ ولذلك ترى الإمام الحسين يركّز على مسألة صلة الرّحم، يقول لعمر بن سعد: ”قطع اللهُ رحمَك كما قطعتَ رحمي وسلّط اللهُ عليك من يذبحُك على فراشِكَ“ لماذا؟ لأنّ عمر بن سعد قطع الرّحم، عمر بن سعد ابن خالة علي الأكبر، مع أنّهم أبناء خالة، له وجاشة بالبيت الهاشمي لكنّه أقبل على الجريمة البشعة في حقّ أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين، لذلك قال له: ”قطع اللهُ رحمك“، تلك الجريمة البشعة، تلك المذبحة العظيمة...