النص وَتعدد القراءات

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث حول نظرية تعدد القراءات، هل أن النص الواحد يقبل القراءاتِ المتعددة بحيث تكون جميع القراءات صحيحة أم لا؟ نضرب مثالاً على ذلك: عندما نقرأ الآية المباركة: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى هذا النص القرآني له قراءة فقهية مشهورة، وهي أن مفاد الآية قانونٌ ثابتٌ لا يتغير، وهو أن شهادة امرأتين تعد شهادة واحدة بإزاء شهادة رجل، هناك قراءة أخرى لهذا النص، وهي أن هذا القانون انتهى زمانه، هذا القانون - وهو اعتبار شهادة امرأتين شهادة واحدة - كان في زمن كانت المرأة فيه لا تملك ثقافة ولا وعيًا كالرجل، أما الآن وقد ملكت المرأة ما ملكه الرجل من الثقافة والوعي فهذا القانون قد انتهى زمانه وانتفى موضوعه، هل بإمكاننا أن نقبل هاتين القراءتين فنقول بأن من قرأ النص القرآني على أنه قانونٌ ثابتٌ لا يتغير إلى يوم القيامة ومن قرأ النص القرآني على أنه قانونٌ انقضى موضوعه كلاهما قراءتهما صحيحة؟ هل نقبل تعدد القراءات ونصفها بالصحة مع أنها لنصٍ واحدٍ وخطابٍ واحدٍ أم لا؟

وعندما نريد أن نبحث عن نظرية تعدد القراءات المعبر عنها ب «لبلولارية»، لبلولارية يعني تعدد القراءة للنص الواحد، عندما نريد أن نتحدث عن هذه النظرية أمامنا ثلاثة محاور:

المحور الأول: ما هو المنشأ المعرفي لهذه النظرية؟ من أين نشأت هذه النظرية «نظرية تعدد القراءات»؟

هناك نظرية تسبق هذه النظرية يُعَبّر عنها ب «نظرية البسط والقبض في المعرفة»، ما هو المقصود بالبسط والقبض في المعرفة؟ هناك فيلسوفان غربيان: بيكن وكَانْت، أحدهما يقول بأن المعارف مستقلة لا ترابط بينها، يعني: كل علم مستقلٌ عن العلم الآخر، علم الرياضيات مستقلٌ عن الفلسفة، الفلسفة مستقلٌ عن علم النفس، العلوم مستقلة، وهناك اتجاهٌ آخر لكَانْت، وهو أن العلوم مترابطة متداخلة، فجميع العلوم والمعارف تشكّل أسرة واحدة مترابطة، لذلك أي تغير في أي علم يؤثر على بقية العلوم، وأي تبدل في أي زاوية من زوايا المعارف يؤثر على المعارف الأخرى؛ لأن العلوم مترابطة ومتداخلة، ولأجل أن العلوم مترابطة ومتداخلة متى ما حصل تغيرٌ في علم من هذه العلوم تغيّرت القراءة لعلم آخر، فتعددت القراءات نتيجة أن العلوم مترابطة، فالمنشأ العلمي لتعدد القراءات هو ترابط العلوم، فمتى ما حصل تغيرٌ في أي علم تولدت قراءاتٌ جديدة في العلم الآخر.

مثالاً: القائلون بهذه النظرية - نظرية البسط والقبض في المعرفة وأن العلوم دائمًا تتغير بتغير بعضها - يقول لك: الآن مثلاً: علم الكلام الإسلامي وعلم الفلسفة مترابطان، أي تغير يحصل في علم الفلسفة سينعكس على علم العقيدة، يعني: العقائد قد تتغير نتيجة تغير النظريات في علم الفلسفة، لأن علم العقائد - المعبّر عنه بعلم الكلام - مترابط مع علم الفلسفة ترابطًا إنتاجيًا، ترابطًا عضويًا، ولذلك يقال بأن العلم الديني - يعني: المعرفة الدينية - هي معرفة مستهلِكة، يعني: تعتمد على العلوم الأخرى، دائمًا المعلومات الدينية تعتمد على العلوم الأخرى، فأي تغير في العلوم الأخرى ينتج تغيرًا في المعلومات الدينية، فالعلم الديني والمعرفة الدينية معرفة مستهلِكة معتمدة على معلومات ومعارفَ أخرى.

أضرب مثالاً أوضح: الآن نحن نأتي إلى مسألة المعاد، نحن ماذا نعتقد في المعاد؟ نعتقد أن الجسم يعود، يعني: المعاد يوم القيامة ليس عودًا للروح بل هو عودٌ أيضًا للجسم، الجسم أيضًا يعود، كيف يعود الجسم؟ كيف الجسم نفسه يعود مرة أخرى؟ كيف؟!

الفلاسفة يطرحون شبهة، يقولون لك: أنت كيف تستطيع أن تخرج من هذه الشبهة؟! الجسم أنت الآن مثلاً تعيش خمسين سنة، أتدري كم جسم يصير عندك؟! يمكن خلال هذه الخمسين سنة تحمل ألف جسم، لِمَ؟ لأن الجسم في كل دقيقة تموت منه ملايين الخلايا وتحيا ملايين الخلايا، يعني: الآن أنت في كل آنٍ جسم جديد، وإذا لم يكن في كل آن فعلى الأقل في كل سنة أنت تحمل جسمًا جديدًا، فالآن إذا نحن نقول: يوم القيامة يعود نفس الجسم، أي جسم؟! أي جسم الذي يعود: جسمك عندما كان عمرك أربع سنوات، أم جسمك عندما كان عمرك عشرين سنة، أم جسمك عندما كان عمرك ثلاثين سنة، أم جسمك عندما كان عمرك خمسين... أي جسم؟! أنت خلال هذه الحياة لبستَ ألف جسم، لبستَ مئة ألف جسم، كل جسم يبلى ويتجدد جسمٌ آخر، فأي الأجسام هو الذي يعود يوم القيامة؟! ولو أردنا أن نعيد الجسم نفسَه فإن هذا الجسم مرتبط بفترة زمنية معينة، كيف يعود؟! يعني: جسمك سنة ألفين لا تستطيع أن ترجعه إلا إذا أرجعت زمن ألفين أيضًا، لأن الجسم مرتبط بعواملَ وبزمن معين، فلكي تعيد الجسم لابد أن تعيد الزمن، والزمن لا يعود، إذن كيف يرجع الجسم نفسه؟!

إذن هنا شبهة، هنا إشكالٌ، أنّ المعاد هو أن يعود نفس الجسم، وكيف يعود نفس الجسم والحال بأن الجسم كان مرتبطًا بفترة زمنيّة معيّنة والزمن لا يعود؟! من هنا عندما يأتي الإنسان ويريد أن يستدل على المعاد الجسماني، القرآن يقول: الجسم يعود، وهذا العقل يقول: لا يعود، كيف يصير يعني؟! يعني: عندما نقرأ القرآن: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، القرآن يقول: الجسم نفسه يعود، الفيلسوف يقول: ما يصير، الجسم لا يعود لأن الجسم مرتبط بزمن والزمن لا يعود، كيف؟! هنا يتأثر علم الكلام بعلم الفلسفة، تتأثر المعتقدات بالفلسفة، وهذا ما يسمّى بالبسط والقبض، إذا تتغير نظرية فلسفية يتغير علم المعتقد، إذا يتوسع علم الفلسفة تتوسع المعتقدات.

يأتيك فيلسوف ويقول لك: شيئية الشيء بصورته لا بمادته، ما هو معنى هذا الكلام؟

يعني الآن أنت عندما تأخذ مادة خشبية، تصنع من هذه المادة الخشبية منبرًا وتصنع منها صندوقًا، ما هو الفرق بين الصندوق والمنبر؟ لا يوجد فرقٌ في المادة لأن كليهما من مادة واحدة، كلاهما من نفس الخشب، فلا فرق بين الصندوق والمنبر، كلاهما من مادة خشبية واحدة، إذن الفرق بينهما أين؟ في الصورة، في الشكل، لا في المادة، شيئية الشيء بماذا؟ بصورته لا بمادته، المادة مشتركة بينه وبين الأشياء الأخرى، لكن شيئيته بصورته لا بمادته، إذن طبقًا لهذه القاعدة الفلسفية يأتي العالم في علم الكلام، يقول: المقصود بأن الجسم يعود بنفسه لا يعني أن المادة نفسها تعود، لا، تعود الصورة، وإلا المادة مادة جديدة، هذا الجسم سوف ينشأ من مادة جديدة يوم القيامة، لكن لأن الصورة هي الصورة والشكل هو الشكل فلذلك قيل بأن الجسم يعود بنفسه، وإلا هو لا يعود بنفسه، يعود بصورته لا بمادته لأن شيئية الشيء بماذا؟ بصورته لا بمادته.

فإذا واحد يقبل هذه القاعدة الفلسفية - أن شيئية الشيء بصورته لا بمادته - سوف تكون نظرته للمعاد الجسماني بنظرة معينة، الذي لا يقبل هذه القاعدة الفلسفية سوف يفهم المعاد الجسماني بنظرة أخرى، إذن تأثر علم الكلام بعلم الفلسفة، وهذا معنى أن بعض العلوم تؤثر على بعضها الآخر، وهذا معنى نظرية القبض والبسط في المعرفة، لو اُخْتُزِلَت قُبِضَت، لو توسّعت انبَسَطت، إذن هناك ترابط معرفيٌ، وهذا الترابط المعرفي هو منشأ تعدد القراءات.

هذا الاتجاه الذي ذهب له بعضُ المفكّرين نحن في مقابل هذا الاتجاه ماذا نقول؟

نحن لدينا ملاحظتان على هذا الاتجاه:

الملاحظة الأولى:

نعم هناك بين العلوم ترابط، لكن ليست كل العلوم، فنحن لا نقول باستقلال العلوم كلها، ولا نقول بترابط العلوم كلها، بل نقول: بعض العلوم تترابط وبعض العلوم مستقلة، أضرب لك مثالاً: الآن ما هي علاقة الرياضيات بالفلسفة؟ ليس له علاقة، يعني: علم الرياضيات وعلم الفلسفة ليس له علاقة، الرياضيات معادلات ثابتة تغير علم الفلسفة أو لم يتغير، المعادلات الرياضية لا تتغير، علم الرياضيات لا ربط له بعلم الفلسفة، لا ربط له بعلم النفس، لا ربط له بعلم الاجتماع، علم الرياضيات معادلات ثابتة تغيرت العلوم الأخرى أم لم تتغير، إذن علم الرياضيات علمٌ مستقلٌ، بينما تأتي إلى علم الفقه، علم الفقه مرتبط بعلم الأصول لا ينفصل عنه ولا ينفك عنه.

دعني أشرح لك هذا المعنى: الترابط بين العلوم تارة يكون ترابطًا منهجيًا، مثل الرياضيات والفيزياء، الفيزياء ما تصير بدون الرياضيات، منهج العلمين منهجٌ واحدٌ، لذلك بين الفيزياء والرياضيات ترابط منهجيٌ.

وأحيانًا يكون الترابط ترابطًا واقعيًا، بمعنى أنت لا تستطيع أن تفكر في علم من دون أن تفهم علمًا آخر، هذا يسمّى ترابطًا واقعيًا، مثل ماذا؟ مثل علم التفسير وعلم اللغة، ما تقدر أنت أن تفسر القرآن من دون أن تفهم اللغة العربية، هذا كتابٌ عربيٌ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، تأتي مثلاً الآن إلى قوله عز وجل: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، ما هي «أنى» هذه: زمانية أم مكانية؟ يعني: ائتوا حرثكم في أي زمن أو ائتوا حرثكم في أي موقع «في أي مكان»؟ هل أن «أنى» زمانية أو مكانية؟ ما تقدر أن تفسر الآية من دون أن يكون لديك معلوماتٌ لغوية، إذن علم التفسير مرتبط بعلم اللغة ارتباطًا واقعيًا.

وعندنا قسمٌ ثالثٌ من الارتباط، وهو الارتباط الإنتاجي، ما هو معنى الارتباط الإنتاجي؟ يعني: هناك علمٌ يشكّل أداة لعلم آخر، علم الفقه هو علمٌ تطبيقيٌ يحتاج إلى أدوات، من أين يأخذ أدواته الفقيهُ؟ مثل الجرّاح، الجراحة علمٌ تطبيقيٌ يحتاج إلى أدوات، علم الفقه أيضًا علمٌ تطبيقيٌ يحتاج إلى أدوات، من أين يأخذ الفقيهُ الأدوات؟ يأخذها من علم الأصول، فعلم الأصول يهيّئ الأدوات، وعلم الفقه تطبيقٌ لتلك الأدوات، واستخدامٌ لتلك الأدوات، إذن بين علم الأصول وبين علم الفقه علاقة إنتاجية، الأصول تنتج الفقه.

مثلاً: الآن عندما نأتي إلى مسألة في الفقه: حجية فتوى المرأة، المرأة لو أصبحت فقيهة، أصبحت المرأة إنسانًا فقيهًا عادلاً، وصدرت من سماحة العلامة فلانة مثلاً أو سماحة آية الله فلانة بنت فلان، صدرت منها فتوى، هل فتوى المرأة حجة على غيرها من رجل وامرأة أم لا؟ فتواها حجة عليها، هي إذا أفتت خلاص فتواها حجة عليها، يجب عليها أن تعمل بفتواها، لكن هل فتواها حجة في حق غيرها أم لا؟ عندما تأتي، ترى، تنقب، أين الدليل؟ تجد الدليل رواياتٍ ضعيفة، إذن ما هو الدليل؟

يقول لك: الدليل هو الإجماع، عندنا إجماعٌ من الفقهاء من زمن الكليني ونازل إلى زماننا هذا: أن فتوى المرأة ليست حجة، فأنت لازم أن ترجع لعلم الأصول، علم الأصول هو الذي يحدد لك: هل الإجماع دليلٌ أو ليس بدليل؟ علم الأصول يبحث الأدوات: هل الإجماع دليلٌ على الحكم الشرعي أم ليس بدليل؟ إذا اخترنا في علم الأصول أنه دليل نأتي لعلم الفقه، نطبق هذا الدليل، نقول: فتوى المرأة ليست حجة لأن الدليل على ذلك هو الإجماع، من أين دليل؟ نقول: ثبت في علم الأصول أنه دليلٌ، إذا في علم الأصول ثبت أن الإجماع ليس دليلاً: والله أنا ما عندي دليل، ما أقدر أن أفتي أن فتوى المرأة ليست حجة، ما عندي دليل، الدليل هو الإجماع والإجماع ليس عندي دليلاً... إذن علم الأصول يؤثر على علم الفقه.

بالنتيجة: هناك ترابط بين العلوم، لا ننكر، لكن ليست كل العلوم مترابطة، هذا التعليقة الأولى، الملاحظة الأولى.

الملاحظة الثانية:

المعارف الدينية على قسمين:

  1. هناك معارف قطعية «وصلت إلينا عبر التواتر».
  2. وهناك معارف ظنية.

المعارف القطعية لا تقبل التغير، تغيرت العلوم أو ما تغيرت لا يؤثر، توحيد الله معرفة قطعية، العدل، يعني الأصول: التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، هذه الأصول معارف قطعية، هذه المعارف التي ثبتت بحكم العقل القطعي لا تتغير، تغيرت الفلسفة، تغير علم النفس، تغير علم الاجتماع... ما تتغير، المعارف الدينية القطعية لا تتغير، لِمَ؟ لأنها قائمة على أدلة عقلية بديهية فلا تتغير، ولا تتأثر بتغير العلوم أصلاً، حتى الفروع: وجوب الصلاة، وجوب الصوم، وجوب الحج، هذه معارف قطعية ضرورية ثبتت إلينا بالتواتر، لا تتغير وإن تغيرت سائر العلوم، إذن المعرفة الدينية ليست معرفة مستهلكة بمعنى أنها تعتمد على العلوم الأخرى «إن تغيرت تغيرت المعرفة الدينية وإلا فلا»، لا، المعارف القطعية من الدين لا تتغير وإن تغيرت العلوم الأخرى.

نعم قد يتغير الدليل أو يتغير الوجه، كيف؟

نرجع إلى مسألة المعاد الجسماني مرة أخرى: نحن نؤمن أن الجسم يعود يوم القيامة، كيف يعود؟ منهم من يقول: يعود بصورته لا بمادته، والمادة تكون جديدة لكن الصورة هي هي، لذلك الجسم يعود، نحن لو لم نؤمن بهذه القاعدة، لو ما آمنا بها، القاعدة الفلسفية التي تقول: شيئية الشيء بصورته لا بمادته، لو لم نؤمن بهذه القاعدة الفلسفية يعني خلاص ما نؤمن بالمعاد الجسماني لأن دليلنا وعكازنا هو هذه القاعدة الفلسفية إذا تغيرت تتغير العقيدة بالمعاد الجسماني؟! لا، هذه القاعدة الفلسفية صحت أم أخطأت هناك أدلة أخرى، الأدلة قد تتغير لكن المعتقد لا يتغير، معتقدٌ واحدٌ: أن الجسم يعود.

دعني أشرح لك: الآن نحن إذا ما نؤمن بهذه النظرية - أن شيئية الشيء بصورته لا بمادته - مع ذلك نقول: المعاد جسمانيٌ، سأقرأ لك الآية وأنت بفهمك البسيط سوف تفهم، الآية تقول: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ نطفة، حيوان منوي صغير جدًا مجهري، حيوان مجهري، ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ هذا الحيوان المنوي المجهري الذي كوّن جسمك هذا الطويل العريض، جسمك هذا قد يبلى، يذهب في التراب، لكن ذلك الحيوان المنوي الذي ولّد جسمك لا يفنى، يبقى، وهو هذه المادة يسمّونها: المادة الهيولائية بحسب التعبير الفلسفي، هذه المادة الهيولائية مثلما أوجدت جسمك يومًا من الأيام توجد جسمًا آخر يومًا من الأيام، نفس هذه المادة البسيطة، لاحظ الآية، اقرأها: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ نفس هذه المادة المنوية هذه تبقى، ويرجعها اللهُ مرة أخرى لتحيي جسمًا جديدًا، ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ تفنى العظام، وتفنى الأجسام، وتبقى هذه المواد الصغيرة المجهرية، تبقى مادة لأجسام جديدة، إذن الجسم يعود، ما معنى يعود؟ ليس يعود بصورته فقط، بل يعود أيضًا بمادته المنوية الأولى، بمادته الهيولائية الأولى، بنفس تلك المادة يعود، ﴿إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ إذن صار تغيرٌ في الوجوه، آمنّا بالقاعدة الفلسفية أو ما آمنّا تغيّرت الوجوهُ لكن المعتقد نفسه - وهو المعاد الجسماني - لم يتغيّر، إذن المعرفة الدينية لا تتغير بتغير المعارف الأخرى، بل المعرفة الدينية القطعية لا تتغير بتغير المعارف الأخرى.

المحور الثاني:

نظرية تعدد القراءات لها أدلة لابد أن نرجع إلى هذه الأدلة لنرى أنها تامة أم غير تامة، أهم تلك الأدلة دليلان:

الدليل الأول:

يقول بأن النص - مثل القرآن - صامتٌ لا يتحدث، النص لا يفسّر نفسه بنفسه وإنما تفسيره بحسب ثقافة القارئ، النص لا يفسر نفسه بنفسه، النص صامتٌ، لكن تفسير النص يعتمد على ثقافة من يقرأ النص، فإذا تعددت الثقافات تعددت القراءات، فليس للنص تفسيرٌ واحدٌ وليس للنص معنىً واحدٌ؛ لأن النص لا يفسر نفسه بنفسه، إنما النص يعتمد على ثقافة من يقرؤه، فإذا كانت ثقافة من يقرؤه متعددة إذن من الطبيعي أن تتعدد التفسيرات والقراءات، يسمونه بحسب الاصطلاح: هرمنوطيقا، هرمنوطيقا يعني ماذا؟ كلمة يونانية أصلها: هرمونتيك، يعني: التفسير، يعني: عملية التفسير، عملية التفسير تتعدد نتيجة تعدد ثقافة من يقرأ النص ومن يفسر النص، دعني أضرب لك مثالاً يتضح منه المقصود، البحث قليلاً جافٌ لكن أنت ساعدني بالتركيز.

نأتي مثلاً إلى آية قرآنية، قوله عزّ وجلّ: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، الفيلسوف - مثل صاحب الميزان السيد الطباطبائي - كيف يقرأ الآية؟ واللغوي - مثل الشيخ الطبرسي في مجمع البيان - كيف يقرأ الآية؟ والفقيه كيف يقرأ الآية؟ كلٌ يقرأ الآية من خلال ثقافته، من خلال منظوره، يأتي مثلاً الفيلسوف يقول: الآية قالت: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ الموت لا يُخْلَق، الموت شيءٌ عدم، ليس وجودًا حتى يُخْلَق، الحياة تُخْلَق، أما الموت لا يُخْلَق، فكيف الله قال: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ؟! هو فيلسوف يتجه بهذا الاتجاه للآية: الموت لا يُخْلَق، إذن ما معنى ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ؟! إذن معنى الخلق يعني التقدير لا الصنع، ليس يعني: صنع الموت، الموت لا يُصْنَع، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ يعني: قدّر الموت والحياة، الخلق هنا بمعنى التقدير، هذه قراءة فيلسوف.

يأتيك اللغوي - مثل الشيخ الطبرسي في مجمع البيان - شخصٌ يحمل ثقافة لغوية، ليس عنده ثقافة فلسفية، كيف يقرأ النص القرآني؟ يقول لك: هذا النص قال: وَ، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ هل الواو تفيد الترتيب أم لا تفيد الترتيب؟ يعني: خلق الموت أولاً ثم خلق الحياة أو أنه خلقهما معًا؟ هل الواو تفيد الترتيب أو لا تفيد الترتيب؟ لأنه لغويٌ أقحم ثقافته اللغوية في تفسير النص، هذه قراءة أخرى.

إذن القراءة قد تتعدد نتيجة تعدد ثقافة القارئ، وإلا النص نفسه صامتٌ لا يفسر نفسه بنفسه، وإنما تتعدد تفسيراته بتعدد ماذا؟ بتعدد ثقافة من يقرؤه... نحن هل نقبل هذا الكلام أم لا؟ نحن نقول:

أولاً: النص يعتمد على ميثاق لغوي، ما هو معنى يعتمد على ميثاق لغوي؟

في علم الاجتماع يقال: اللغة ميثاقٌ اجتماعيٌ، ما معنى أن اللغة ميثاقٌ اجتماعيٌ؟

يعني المجتمع.. افترضوا المجتمع العربي مثلاً، المجتمع العربي عنده ميثاقٌ وعقدٌ على أن اللفظ الفلاني يعني المعنى الفلاني، لا تستطيع أن تقول: والله أنا عندي قراءة ثانية! أنت ألستَ عربيًا؟! هذا اللفظ الفلاني يعني المعنى الفلاني، لو قال واحدٌ: أنا شربتُ الماء، قالوا له: زين الحمد لله! قال: لا، ما أقصد الماء يعني الماء هذا الماء الجسم السائل، أقصد الماء يعني شربتُ البخار! أو شربتُ مثلاً العصير! ما يصير، أنت عربيٌ قلتَ الماء يعني الجسم السائل، هناك ميثاقٌ، كل لغة لها ميثاقٌ، لها عقدٌ اجتماعيٌ، اللغة الفارسية لها عقدٌ اجتماعيٌ، اللغة الإنجليزية لها عقدٌ اجتماعيٌ، اللغة العربية لها عقدٌ اجتماعيٌ، هناك ميثاقٌ بين أبناء اللغة على أن كل لفظ له معنىً محدّدٌ، تأتي أنت وتقول: أنا أقصد معنى آخر، لا يقبل منك أهلُ اللغة لأنك خرجتَ عن الميثاق الاجتماعي، إذن النص لا يتحمل قراءاتٍ متعدّدة، لأن لكل نص معانٍ لغوية ثابتة عند أهل اللغة لا يحاد عنها.

وإلا لبطلت الأقارير والأوقاف والوصايا، لو وجدنا وصية من مئتين سنة مثلاً، رأينا هذه الوصية منذ مئتين سنة مكتوبٌ فيها: أوصيتُ بثلث أموالي لفلان، الإنسان له حق أن يوصي بثلث أمواله، أزيد من ثلث ليس له حق، أزيد من الثلث يصير للورثة، ما له حق أن يوصي بأكثر من ثلث، لكن ثلث أمواله له حق أن يوصي بها لمن يشاء، لو واحد قال: والله أنا أوصيتُ بثلث أموالي للسائق الذي يسوق سيارتي! كما يشاء، براحته، أو قال: أنا أوصيتُ بثلث أموالي أن تعطى مثلاً لفلان الكافر، لا بأس، كافر أو مسلم، هو بحقه أن يوصي بثلث أمواله بحسب ما يريد، كما يشاء، لو قال لنا: جاءتنا وصية، أنا أوصيتُ بثلث أموالي لفلان، هل هذا يقبل قراءاتٍ متعددة أيضًا؟! لا يقبل قراءاتٍ متعددة، لا محالة له قراءة واحدة، لأن هذا لفظ عربيٌ، والميثاق العربي يحدّد معنىً معينًا.

أو يأتينا وقفٌ، وقف قبل مئتين سنة، قبل ألف سنة، واحد واقف دارَه، يقول: داري الكائنة في المحل الفلاني وقفتُها على الحسين ، أنستطيع نحن بعد ألف سنة أن نقول: لا والله الآن قراءة ثانية عندنا؟! كيف قراءة ثانية وهو يقول: داري في المكان الفلاني وقفتُها على الحسين؟! هذا لا يقبل قراءاتٍ متعددة، لِمَ؟ لأنّ هذا لفظ عربيٌ فيندرج ضمن الميثاق العربي، ما يقبل قراءاتٍ متعددة.

وإلا لو فتحنا باب القراءات المتعددة لما بقي وقفٌ ولما بقيت وصية ولما بقي بيعٌ ولما بقي قضاءٌ، هذا القاضي كيف يحكم إذا قراءات متعددة؟! والله قاضٍ جاؤوا له بصكٍ: باع فلانٌ دارَه لفلان، وأراد أن يحكم القاضي على هذا الصك، قال له: مهلاً مهلاً! هناك قراءاتٌ متعددة بابا! كيف أنت تحكم على هذا الصك؟! توجد قراءات أخرى! يقول: أي قراءات؟! إذا فتحنا الباب للقراءات المتعددة ما بقي قضاءٌ ولا محاكم ولا وقفٌ ولا إقرارٌ ولا وصية ولا ولا... إلى آخره، إذن بالنتيجة: اللفظ له تفسيرٌ بمقتضى الميثاق اللغوي لا أنه يعتمد على ثقافة من يقرؤه، لا، هذا أولاً.

ثانيًا: أي إنسان يأتي ويقول: أنا أفهم الآية أو أفهم النص بكذا، نقول له: لابد أن تقيم دليلاً على معرفتك، قيمة كل معرفة بدليلها، وليس قيمتها بمنشئها، الفيلسوف عندما يقرأ الآية قراءة فلسفية لا تقبل قراءته إلا إذا أقام دليلاً على صحة معلوماته الفلسفية، اللغوي عندما يقرأ الآية بثقافته اللغوية لا تقبل منه حتى يقيم دليلاً مقنعًا على معلوماته اللغوية، كل قراءة قيمتها بدليلها وليست قيمتها بمنشئها وبدوافعها، فلأجل ذلك ورد عن النبي محمّدٍ : ”من فسّر القرآنَ برأيه فليتبوأ مقعده من النار“ يعني: الذي يعتمد على ثقافته بدون دليل هذا يعتبر تفسيرًا بالرأي، ”فليتبوأ مقعده من النار“.

الدليل الثاني على نظرية تعدد القراءات:

ما ورد عن النبي : ”إن للقرآن سبعين بطنًا“، طيب إذا للقرآن سبعين بطنًا إذن القرآن له قراءات متعددة، لا نستطيع أن نعتمد على قراءة واحدة، لعل القراءات الأخرى بطونٌ للقرآن، فإذا آمنا بنظرية تعدد البطون إذن نؤمن بنظرية تعدد القراءات، وورد عن النبي : ”ربّ حامل فقهٍ لمن هو أفقه منه“ يعني: الذي حمل الآية يفهمها بفهم والذي تلقاها يفهمها بفهم آخر، فالقراءات متعددة.

هذا الاستدلال ليس صحيحًا، ما هو المقصود ببطون القرآن؟ يعني: كل واحد يأتي ويضع نظرية في القرآن تعتبر من بطون القرآن؟! لا، بطون القرآن هي المعاني الطولية، والمقصود بالمعاني الطولية المعاني التي يستلزم بعضها بعضًا، بينها تلازمٌ، دعني أحضر لك مثالاً: مثلاً عندما نقرأ قوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ الآية تدل على مَنْ؟ على ولاية الإمام أمير المؤمنين ، هو الولي بعد الله والرسول، هذا المعنى الظاهر، المعنى الظاهر أن الثالث الذي تصدق وهو راكعٌ له الولاية، هذا المعنى الظاهر، لكن المعنى الباطن يعني ماذا؟

إذا ثبتت الولاية العامة للإمام أمير المؤمنين ثبت أنه معصومٌ، لأن الولاية تعني العصمة، لا يمكن أن يصبح شخصٌ وليًا على الأنفس وعلى الدماء وعلى الأعراض وعلى الأموال ولاية عامة وليس بمعصوم، إذا قلنا بأن الإمام علي كالنبي له الولاية العامة على الأنفس والأعراض والأموال، إذا قلنا بأن له الولاية العامة إذن لا محالة لابد أن يكون معصومًا، الولاية تلازم العصمة، إذن الآية عندما تدل بظاهرها على الولاية العامة فهي تدل بباطنها على العصمة، هذه يسمونها: العصمة من بطون القرآن، يعني: يستلزمها معنى الآية، فبينهما تلازمٌ، هذا يسمّى من بطون القرآن.

بطون القرآن المعاني المتلازمة، وليس بطون القرآن المعاني المتفككة التي ينقض بعضُها بعضًا، هذه ليست بطون القرآن، هذه آراء في القرآن، وهذه الآراء ما لم يقم عليها دليلٌ لا حجيّة لها ولا اعتبار بها.

المحور الثالث: ما هو المنهج العلمي لتعدد القراءات؟

يعني: متى نقبل تعدد القراءات؟ هل نحن نرفض تعدد القراءات مطلقًا أو نقبل النظرية بشروطٍ؟

لا، نقبل النظرية بشروط، متى نقبل نظرية تعدد القراءات؟ نقبلها ضمن شروط، ما هي الشروط؟

الشرط الأول: أن يكون على كل قراءة دليلٌ.

إذا وُجِدَ دليلٌ نقول: نعم هذه القراءة اقتنعنا بها أو ما اقتنعنا بها لكن عليها دليلاً، الآن نحن لماذا نقبل القراءات الفقهية؟ الفقهاء يختلفون في قراءة النص ونحن نقبل كلا القراءتين، دعني أضرب لك مثالاً: عندما نأتي لقوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ما هو معنى نجس؟ القراءة الفقهية المعروفة: نَجَس يعني ماذا؟ يعني نَجِس، النجس، يعني: هناك نجاسة جسمية ظاهرية، يعني: من لامست يده مشركًا بالله برطوبة مسرية فعليه أن يطهّر يده، تنجست يده، هذا معنى نَجَس، إذن الآية تدل على نجاسة المشركين، هذه القراءة الفقهية المعروفة حتى عند علماء أهل السنة.

يأتي بعض فقهائنا، يقول: لا، ليست هذه القراءة، مثل ماذا؟ مثل السيد الصدر قدّس سرّه، السيد الصدر يقول: لا، النجاسة هنا النجاسة الباطنية لا الظاهرية، يعني: الشرك يلوّث الباطن، فالشرك نجاسة داخلية، نجاسة روحية، الشرك سببٌ لتلوث الروح، لتلوث الباطن، وخبثها، إذن ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يعني: إنما المشركون يحملون خبثًا باطنيًا، لذلك أبعدوهم عن المسجد الحرام، لأن من يهزأ بالمسجد الحرام لا يستحق أن يدخل المسجد الحرام، هو يحمل خبثًا باطنيًا، فلا يستحق أن يدخل المسجد الحرام، هذا تفسيرٌ آخر، قراءة أخرى.

نحن نقبل كلتا القراءتين، ما هو معنى نقبل كلتا القراءتين؟ باعتبار أن لكلتا القراءتين دليلاً، إذا القراءة ذات دليل يُعْتَمد نقول: نعم هذه قراءة ذات دليل، تُعْتَمد، أما إذا الفقيه ليس عنده دليلٌ، لو جاءنا فقيهٌ وأفتى لنا على طبق الرؤيا في النوم، أو أفتى لنا على طبق الاستخارة، هذه لا يؤخذ بها، متى يكون رأي الفقيه حجة؟ متى يعتمد على قراءة الفقيه؟ إذا كانت قراءة الفقيه مستندة إلى الكتاب، أو مستندة إلى سنة النبي، أو مستندة لحديث المعصوم، أو مستندة إلى حكم العقل القطعي، أما لو استندت إلى دليل غير هذه الأدلة، جاءنا فقيهٌ، قال: والله أنا ما أدري هل غسل الجمعة يجزي عن الوضوء أم لا يجزي، سأستخير وسأرى! واستخار بالسبحة، وجاءت الاستخارة أنه يجزي، هذا رأيه ليس حجة لأن الاستخارة ليست دليلاً من أدلة الأحكام الشرعية.

أو مثلاً فقيهٌ قال: أنا رأيتُ في النوم أحد الأئمة وقال لي هذا الإمام: غسل الجمعة يجزي عن الوضوء، نقول له: أنت لو تقول في اليقظة ما نقبل بكلامك فضلاً عن النوم! أنت لو تقول: رأيتُ الإمام، أنت الآن في اليقظة فضلاً عن النوم، واحد يأتينا، يقول: أنا رأيتُ الإمام، ذاك هو قاعدٌ وراء الجدار مثلاً، لا يؤخذ بكلامه، فكيف يقول وهو في النوم؟! إذن الرؤيا ليست دليلاً على الحكم الشرعي حتى يؤخذ بها، فتوى الفقيه وقراءة الفقيه إنما تعتبر قراءة دينية إذا اعتمدت على الدليل - أحد الأدلة الأربعة - أما إذا خرجت عن ذلك فلا يعتد بهذه القراءة ولا يقبل بها لأن قيمة القراءة بدليلها.

الشرط الثاني: ألا نعتبر جميع القراءات صحيحة.

هذه ذكرتها الليلة البارحة، قلتُ: إذا اختلف الفقهاء فهذا لا يعني أن كل القراءات صحيحة، لا، بعضها صحيحٌ، وبعضها خطأ، فقيهٌ يقول: غسل الجمعة يجزي عن الوضوء، فقيهٌ يقول: لا يجزي عن الوضوء، واحدٌ منهم صحٌ والثاني خطأ، نحن لا نعتقد بصحة القراءات، نعم نقول: كل قراءة حجة، حجة يعني ماذا؟ يعني: لو عمل بها المقلد لكانت معذرة له أمام الله، هذا معنى حجة، لا أننا نقول بصحة كل القراءات الفقهية، بل بعضها صحيحٌ وبعضها خطأ، لأن الواقع واحدٌ ولا يتعدد.

الشرط الثالث: ألا تكون القراءة مخالفة لضرورة من ضرورات الدين أو لضرورة من ضرورات المذهب.

سمعتم أنتم بعض علماء المملكة العربية السعودية يقول لك أنه لا يوجد مهدي آخر الزمان، شيء اسمه مهدي لا يوجد، هاهم الناس يتقاتلون، يتنحارون، إلى أن يموتوا ومع السلامة! أما يوجد مهدي آخر الزمان يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا لا يوجد هكذا.

يعني هل يقبل هذا الرأي؟! لا، لا يقبل، لماذا؟ لأن من ضرورات الإسلام - لا من ضرورات التشيع - من ضرورات الإسلام ظهور المهدي آخر الزمان، من ينكر ذلك ينكر ضرورة من ضرورات الإسلام، أما المهدي وُلِدَ أو ما وُلِدَ هذا خلافٌ بين المسلمين، لكن ظهوره آخر الزمان لا إشكال فيه، ضرورة، مئات الأحاديث المتواترة تواترًا لفظيًا ومعنويًا عن النبي بظهور المهدي آخر الزمان لدى المسلمين كلهم، هذا نعتبره منكر ضرورة، هذا لا تقبل قراءته.

أو يأتيك واحدٌ من الشيعة، يقول لك: المهدي نعم يظهر لكن ما وُلِدَ إلى الآن، نقول: هذا أنكر ضرورة من ضرورات التشيع، صحيح ما أنكر ضرورة من ضرورات الإسلام لكن أنكر ضرورة من ضرورات التشيع، هذا لا يعتبر شيعيًا، لأنه أنكر ضرورة من ضرورات التشيع، وإن كان مسلمًا لكنه ليس إماميًا، يعتبر في صحة القراءة ألا تنافي ضرورة من الضرورات.

الآن أضرب لك مثالاً وأنتهي بهذا المثال: ثورة الحسين، كيف نقرأ حركة الحسين سبط رسول الله سيد شباب أهل الجنة بإجماع المسلمين؟

  1. منهم من يقرأ ثورة الحسين على أنها مشروعٌ إصلاحيٌ، لأن الحسين قال: ”إنما خرجتُ لطلب الإصلاح“ نقبل هذه القراءة لأنها تعتمد على نص.
  2. منهم من يقرأ حركة الحسين على أنها ثورة لرفض الذل، لرفض المهانة، أيضًا نحن نقبل هذه القراءة لأنها تعتمد على النص: ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة“.
  3. منهم من يقرأ حركة الحسين على أنها حركة استشهاد، يعني: الحسين قدّم نفسه للشهادة، نحن أيضًا نقبل هذه القراءة، لِمَ؟ لأنها تعتمد على نص: ”ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برمًا“، ”ألا وإني متقدمٌ بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر“، نقبل هذه القراءة.

أما يأتيك واحدٌ من علماء المملكة، يقول لك: لا، هذا الحسين كان مغرّرًا به! وخرج على إمام زمانه! هذا كان مغرّرًا به! هذا يعني: بيعة يزيد بيعة شرعية! والخروج على يزيد خروجٌ على ولي الأمر الشرعي! إذن الحسين ارتكب معصية! إذا تقول: بيعة يزيد بيعة شرعية، يعني الحسين ماذا؟ ارتكب المعصية، هذا ينتج هذا، هذا يساوي هذا، من قال بأن بيعة يزيد شرعية وأنه ولي أمر شرعي يعني قال بأن الحسين ارتكب معصية، لأنه خرج على الولي الشرعي، وإن الحسين كان مغرّرًا به! طيب هذه هل أيضًا تقبلها في تعدد القراءات أنت؟! تقول: والله مادام نحن نسمح بتعدد القراءات أيضًا هذه قراءة من القراءات نسمح بها! نقول: لا، هذه القراءة تتنافى مع ضرورة ما ورد عن النبي: ”الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة“، سيد شباب أهل الجنة يخالف الولي الشرعي؟! لا يُعْقَل طبعًا.

ولذلك الحسين يوم العاشر استدل بنفس الحديث مقابل هذا الإعلام الأموي، يوم عاشر الحسين لا قال: أنا إمام، لا قال: أنا مفترض الطاعة، أبدًا أبدًا، تحدث بحديث حتى لا ينكره أحدٌ، حتى لا أحد يقول: والله أنت لستَ معلومًا إمامًا، لستَ معلومًا مفترضَ الطاعة، أتى بحديث لا يختلف فيه المسلمون كلهم، فقال: سلوا زيد بن أرقم، سلوا أبا سعيد الخدري، سلوا سهل بن سعد الساعدي، سلوهم: أما سمعوا من جدي رسول الله أنه قال: ”الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة“؟! اسألوا، إذن الحسين متنبهٌ لهذا الفكر، وهذا الفكر منذ ذلك اليوم لا أنه للتو اليوم جاء، وشريح القاضي من ذلك اليوم قال أن الحسين خرج على إمام زمانه، فيجب قتله، والحسين قُتِلَ بسيف جده لأنه شقّ عصا المسلمين وخرق الطاعة وخرج على الولي الشرعي، هذا الفكر من ذلك اليوم، فكر شريح، الفكر الأموي هو ممتدٌ إلى يومنا هذا، الحسين مغرّرٌ به! الحسين خرج على الولي الشرعي! هذه القراءة لا نقبلها، تتنافى تمامًا مع كون الحسين سيدَ شباب أهل الجنة.

بنو أمية ما حاربوا الحسين جسمًا فقط، حاربوا الثورة فكرًا، حاربوها حربًا شنيعة، حربًا فكرية وإعلامية قبل أن تكون حربًا جسدية وجسمية، صوّروا الحسين للناس أنه رجلٌ صاحب فتنة، وقد شقّ عصا المسلمين، ولكن الحسين بقي مصرًا على كلماته، قال: ”يا أمير، إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ويزيد رجلٌ فاسقٌ - يريد أن يقول: هذا ليس وليًا شرعيًا - ويزيد رجلٌ فاسقٌ، شاربٌ للخمر، قاتلٌ للنفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله“.

وأبى  أن  يعيش  إلا iiعزيزًا

كيف يلوي على الدنية iiجيدًا

 
أو تجلى الكفاح وهو صريعُ

لسوى الله ما لواه iiالخضوعُ

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين