عدالة السماء حقيقة أم خيال

شبكة المنير

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحِيم

﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [1]

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في محاورَ ثلاثةٍ:

  • في تحليل مفهوم العدل.
  • وفي بيان أنّ التمايز بين الموجودات سرٌ من أسرار العدالة الإلهية.
  • وفي فلسفة ابتلاء الإنسان بالشرور والآفات.

المحور الأول: ما هو مفهوم العدالة؟

العدالة لها معنيان:

المعنى الأول: إعطاء كل ذي حق حقه، سواءً كان الحق ناشئًا عن عمل تكويني أو كان الحق ناشئًا عن اعتبار قانوني، يعني مثلاً: عندما يأتي الإنسان في المسجد أو في السوق ويستولي على مكان ويضع بضاعته فيه يصبح له حقٌ في المكان، ويسمّى بحق السبق، كما ورد عن النبي : ”مَنْ سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلمٌ فهو أحق به“، فإذا أصبح للشخص حقٌ في المكان الذي سبق إليه لا يجوز إزاحته منه، فلو جاء إنسانٌ وأزاحه منه فقد ضيّع حقه عليه، وتضييع حقه يكون ظلمًا، والعدل ألا يضيّع حقه، أن يعطيه حقه، أو كان الحق اعتبارًا قانونيًا، مثل حق النفقة، حق الزوجة على الزوج أن ينفق عليها، فلو لم ينفق عليها لكان ذلك ظلمًا لأنه لم يعطها حقها القانوني، وهو النفقة، فالعدل إعطاء كل ذي حق حقه، هذا المعنى الأول للعدل.

المعنى الثاني للعدل: إفاضة الوجود على الأشياء بحسب استعدادها.

هذا المعنى - الثاني - يختص بالله تبارك وتعالى، لماذا المعنى الثاني يختصّ بالله دون المعنى الأول؟ المعنى الأول للعدل لا يصح إطلاقه على الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأنّ العدل بمعنى إعطاء ذي الحق حقه يتوقف على وجود حق، حتى يقال بأنّ إعطاء ذي حق حقه لابد أن نفترض أنّ هناك حقًا، وليس للمخلوق حقٌ على الخالق، المخلوق ملكٌ محضٌ لله وليس له حقٌ على لله تبارك تعالى كي يقال: الله لم يعطني حقي! كيف؟! أنت ليس لك حقٌ على الله حتى يعطيك أو لا يعطيك.

يعين الآن مثلاً: الله أعطاك الحياة، وهي نعمة منه، وليست حقًا لك، أعطاك الصحة، وهي نعمة منه، وليست حقًا لك، فلو فرضنا أنه سلبك الصحة بعدما أعطاك إياها هذا ملكه سلمه إياك فترة ثم استرجعه، ليس هناك حقٌ، لا معنى لأن يقول الإنسانُ: ظلمني ربي لأنه سلبني صحتي وصحتي حقٌ لي! ليس لك حقٌ على خالقك، وجودك وصحتك وقدرتك وعلمك وكل طاقاتك هي نعمٌ تفضلية، ليس للمخلوق حقٌ على الخالق كي يقول: من حقي أن أبقى صحيحًا سليمًا، من حقي أن أبقى حيًا، فإن سلبي الحياة أو الصحة ظلمٌ لي!! ليس هناك حقٌ لك على خالقك، أنت ملكٌ محضٌ، والمالك المطلق جلّ وعلا ليس لمخلوقه حقٌ عليه.

موسى «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام» بعث اللهُ إليه: ”يا موسى، اشكرني حق شكري“ قال: ”وكيف أشكرك حق شكرك وكلما وصلتُ إلى شكر علمتُ أنّه نعمة منك؟!“ حتى الشكر هذا - الشكر اللساني - هو نعمة منك، أشكرك على أي شيء؟! كل شيء هو يرجع إليك، كل شيء هو منك، كل شيء هو ملكك، قال: ”الآن شكرتني حق شكري حيث علمتَ أن ذلك مني“.

أيضًا سيف الدولة الحمداني، هذا كان أميرًا شيعيًا أديبًا، الدولة الحمدانية كانت شيعية في الشام، يومًا من الأيام سيف الدولة الحمداني قال لمن معه: عندي بيتٌ من الشعر أنشأته لا أظنّ أنّ أحدًا ينشئ بيتًا يلتوه، قيل: ما هو؟ قال وهو يخاطب ربّه جلّ وعلا:

لك جسمي تعلهُ   فدمي  لا  iiتطلهُ

ما هو معنى هذا الكلام؟! يعني: أنت من حقك أن تمرضني وتعل جسمي لأن جسمي ملكك، فهذا من حقك، خلقتني وأعطيتني هذا الجسم فالجسم ملكك، أنت من حقك أن تعلني وتمرضني، تتصرف في ملكك، لكن ليس من حقك أن تميتني! مادمت قد خلقتني فمن حقي أن أبقى حيًا!

أجابه أبو فراس الهمداني - وكان جالسًا - قال:

إنْ كنتُ iiمالكًا   فليَ الأمرُ كلهُ

طيب إذا أنا المالك ما هو الفرق؟! ملكت جسمك وملكت روحك وملكت كل شيء فيك، فكما من حقي أن أعلك من حقي أن أقبض روحك، من حقي أن أبقيك معذبًا، أنت ملكي.

إذن العدل بين البشر هو بالمعنى الأول: إعطاء كل ذي حق حقه؛ لأنّ للبشر على بعضهم حقوقًا، أما العدل من الله ليس بمعنى إعطاء كل ذي حق حقه، إذ لا يوجد لمخلوق حقٌ على خالقه، إذن فالعدل الإلهي ليس معناه إعطاء كل ذي حق حقه، العدل الإلهي معناه إفاضة الوجود على الأشياء بحسب استعدادها، النملة عندها استعدادٌ لوجودٍ ضئيلٍ، يفاض عليها الوجودُ بحسب استعدادها، الإنسان عنده استعدادٌ لوجودٍ كبيرٍ، يفاض عليه الوجودُ بحسب استعداده، إفاضة الوجود على الأشياء بحسب استعدادها هو العدل الإلهي، وليس العدل الإلهي بمعنى إعطاء كل ذي حق حقه.

من هنا تأتينا بعض الأسئلة، أكيد في ذهنك هذه الأسئلة موجودة وذهن كل إنسان، أسلئة تنقدح نحو العدالة الإلهية:

السؤال الأول: لماذا خلقني الله؟! أليس هو غنيًا عن خلقي؟! فلماذا خلقني؟! لماذا خلق اللهُ الكافرَ وهو يعلم بأنه كافرٌ ومصيره إلى جهنم؟! لماذا خلق المحروم وهو يعلم أنّه سيعيش محرومًا؟! هل هذا من العدل الإلهي؟! أما يستحق المخلوقُ على خالقه ألا يخلقه إذا كان يعلم أنّه سيعيش كافرًا أو سيعيش محرومًا؟!

السؤال الثاني: إذا كان ليس من حقنا أن نُخْلَق أو لا نُخْلَق، ليس لنا حقٌ على الله أن نقول له: اخلقنا أو لا تخلقنا، المهم الآن خلقنا، حينما خلقنا فلماذا خلقنا متفاوتين؟! واحد أسمر وواحد أبيض، وواحد كريم وواحد بخيل، وواحد شجاع وواحد جبان، وواحد ابن فلان وواحد ابن فلان... لماذا لم يخلقنا متساوين؟! كلنا كرماء! كلنا بخلاء! كلنا جبناء! كلنا شجعان! متساوين حتى لا يقول أحدٌ: والله أنا أحسن منك!! خلاص الجميع متساوون، أليس من حقنا أن يخلقنا متساويين بدل أن يخلقنا متفاوتين؟! ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.

السؤال الثالث: خلقنا متفاوتين، قبلنا! ماذا نفعل في عمرنا؟! قبلنا أنّه خلقنا متفاوتين، هذا ذكيٌ وهذا غبيٌ، وهذا أسمر وهذا أبيض، وهذا ابن فلان وهذا ابن فلان... قبلنا بذلك، فلماذا قدّر علينا الشرورَ والآفاتِ فخلق لنا الحشراتِ وخلق لنا الأمراضَ وخلق لنا الزلازلَ والبراكينَ؟! فلماذا لم يتركنا نعيش برغدٍ وهناءٍ من دون شرورٍ ولا آفاتٍ؟! أما نستحق عليه أن نعيش بدون شرورٍ ولا آفاتٍ؟!

هذه ثلاثة أسئلة تنقدح في ذهن كل إنسان عندما يسمع كلمة العدالة الإلهية، أنّ الله عدلٌ، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [2]، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [3]، يقول: أين العدالة؟! العدالة هي حقيقية أم خيال؟! إذا العدالة حقيقية لماذا خلقنا؟! وإذا خلقنا لماذا خلقنا متفاوتين؟! وإذا خلقنا متفاوتين فلماذا قدّر علينا الآفاتِ والشرورَ والمصائبَ؟!

المحور الثاني:

في المحور الثاني نتعرّض إلى أنّ التمايز بين الموجودات سرٌ من أسرار العدالة وليس منافيًا للعدالة، يعني: نتعرّض إلى سؤالين في هذا المقام التفت إليهما:

السؤال الأول الذي ذكرناه: لماذا خلقني من الأصل؟!

لماذا لم يُرِحْني من الأصل فلم يخلقني؟! لماذا خلقني وهو يعلم أنّي سأعيش محرومًا، أو خلق فلانًا وهو يعلم أنّه سيعيش كافرًا، أبو العلاء المعرّي أوصى أن يُكْتَبَ على قبره هذا البيت:

هذا  جناه أبي iiعليّ   وما جنيتُ على أحد

يعني: أنا الآن متُ، وقعتُ في قبري، من الذي جنا عليّ وجعلني أموت؟! هو أبي! لو لم يلدني لم أمت! صح لو لا؟! فالذي جنا عليّ الموت هو أبي؛ لأنه أولدني فأسلمني للموت! أما أنا ما تزوجتُ ولم ألد أحدًا فما جنيتُ على أحدٍ.

هنا في الجواب عن هذا السؤال - لماذا خلقني وهو يعلم أنني سأعيش محرومًا؟! أفلا أستحق عليه ألا يخلقني؟! - هنا نذكر قاعدتين فلسفيتين:

القاعدة الأولى: أنّ الفاعل الناقص مستكملٌ بغايته، والفاعل الكامل غايته ظهور ذاته.

هذه قاعدة فلسفية، دعني أشرح لك معناها: يعني الآن مثلاً: أنا عندما أشعر بالجهل - أنّي إنسانٌ جاهلٌ - وأقوم بالتعلم، لماذا أتعلم؟! ما هي الغاية من التعلم؟! غايتي من التعلم رفع النقص وتكميل نفسي بالعلم لأنّ العلم كمالٌ، فأنا فاعلٌ ناقصٌ، والفاعل الناقص غايته من أفعاله هي أن يكمل ذاته، إذن الفاعل الناقص مستكملٌ بغايته، دائمًا غايته هي الاستكمال وطلب الكمال لأنّه فاعلٌ ناقصٌ، افترض إنسانًا جبانًا يريد أن يصير شجاعًا، يقوم بفعل بعض الأفعال حتى يدرّب نفسه على الشجاعة، فاعلٌ ناقصٌ يستكمل بغايته حتى يصبح شجاعًا.

أمّا الفاعل الكامل فلا يستكمل؛ لأنه كاملٌ، تأتي الآن مثلاً إلى إنسان كريم، مثل حاتم الطائي مثلاً، كريمٌ، هذا الكريم ينفق أمواله على الضيوف، لو سأله إنسانٌ: لماذا تصرف هذه الأموال على الضيوف؟! لا يقول له: حتى أصير كريمًا! هو كريمٌ فكيف حتى يصير كريمًا؟! ولا يقول له: حتى أستكمل، هو كاملٌ، من حيث الكرم هو كاملٌ وإن كان في صفات أخرى ناقصًا، لكن في الكرم كاملٌ، فليس له معنى أن يقول: غايتي من كرم الضيوف أن أكمل ذاتي! أنت كاملٌ من حيث ذاتك، إذن ما هي غايتك؟!

غايتي من إكرام الضيوف ظهور كمالي، كمالي يظهر من خلال هذا الكرم، أنا أعيش كمالاً في داخل نفسي، كيف يظهر هذا الكمال؟ أنا أعيش كمالاً داخل نفسي وهو الكرم، هذا الكمال كيف يظهر؟! يظهر بالفعل، فغايتي من فعلي - وهو إكرام الضيوف - ظهور ذاتي «ظهور كمالي» من خلال هذا العمل، الفاعل الكامل غايته ظهور ذاته.

نأتي إلى الله تبارك وتعالى: هو الكمال المطلق، لا يشوبه نقصٌ من أية جهة كانت، إذن لماذا خلق الكون؟ حتى يكمّل ذاته؟! لا يحتاج إلى الكون، هو كاملٌ، لا يحتاج إلى الخلق حتى يخلقهم، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [4]، إذن لماذا يخلقنا إذا هو لا يحتاج إلينا ولا يحتاج أن يكمّل نفسه؟! هو كاملٌ، غايته من خلق الوجود كله - ليس فقط نحن - غايته من خلق الوجود كله بسمائه وأرضه وإنسانه وملكه... غايته ظهور كماله، فإنّ هذا الوجود مظهرٌ لكماله جلّ وعلا، ولذلك هذا الوجود يسير إليه، خَلَقَه ليسير إليه، خَلَقَه ليرجع إليه ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [5]، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [6]، خلق الوجود لكي يكون الوجود مظهرًا لكماله تبارك وتعالى، ويعود إليه مرة أخرى.

وهذا المضمون موجودٌ في بعض الروايات إن صحّت: ”كنتُ كنزًا مخفيًا فأحببتُ أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعْرَف“ ما خلقتُ الخلق وأنا محتاجٌ لهم، خلقتُ الخلق من أجل أن يكون الخلق مظهرًا لكمالي وجمالي وجلالي، إذن تقول: لماذا الله خلق الكافرَ وهو يعلم أنه كافرٌ؟! خلقه ليكون يكون مظهرًا له، مظهرًا لكماله، خلقه ليكون مظهرًا لجماله وجلاله، لكنّ هذا الكافر وقع في الكفر، علمه عزّ وجلّ بأنّ الكافر يقع في الكفر ليس علة لوقوعه في الكفر.

القاعدة الفلسفية الثانية: «العلم ليس من سلسلة علل المعلوم»، كيف العلم ليس سلسلة من علل المعلوم؟!

أضرب لك مثالاً: يعني الآن أنا عندي ولدٌ أدخله المدرسة، وأوفر له الأستاذ الكُفْء، وأوفر له كل وسائل التعلم والمعرفة، الغرض من هذا ما هو؟! أن يكون الولد كاملاً بالعلم والمعرفة، لكن أنا أدري في داخل ذاتي أنّ هذا الولد مفلسٌ، هذا الولد سوف يختار الفشل وسوف يختار الإخفاق باختياره وإرادته، هل يلومني أحدٌ على إدخاله للمدرسة؟! لا يلومني أحدٌ، يقولون: أنت أبوه فمعنيٌ به، إدخالي له للمدرسة ليس ظلمًا له، وليس خلاف الحكمة، أدخلته، وفرت له كل وسائل التعلم، لكنني أعلم مع ذلك أنه باختياره وإرادته سيختار ماذا؟ سيختار الفشل والإخفاق، فعلمي بحاله لم يوقعه في الفشل، إنما الذي أوقعه في الفشل هو ماذا؟ اختياره وإرادته، وإلا أنا وفرت له كل وسائل العلم والمعرفة.

الله خلق الكافر والمؤمن على حدٍ سواء، كلاهما خلقه ليكون مظهرًا لكماله وهو يعلم بأنّ أحدهما سيقع في الكفر، لكن علمه ليس علة لوقوعه في الكفر، بل الذي أوقعه في الكفر اختياره وإرادته وليس خلق الله له، خلقه الله ليكون مظهرًا للكمال.

السؤال الثاني: عندما خلقنا لماذا ميّزنا؟!

جعل واحدًا أسمرَ وواحدًا أبيضَ، وواحدًا ابن فلان وواحدًا ابن فلان... لماذا لم يخلقنا بنسق متساوٍ؟! لماذا ميّزنا؟! أليس من حقنا عليه ألا يقع تمييزٌ بيننا؟!

الجواب عن هذا السؤال: التمييز غير التمايز، الظلم يحصل بالتمييز لا بالتمايز، كيف؟!

مثلاً: الآن أنت أستاذ في المدرسة، وعندك طالبان، تارة تفضّل طالبًا على آخر بدون سبب، هذا يسمّى تمييزًا، هذا ظلمٌ، تارة تجري لهما امتحانًا، وكلٌ بحسب جهده في الامتحان، فبعد أن أجريت الامتحان وكلٌ منهما أجاب بمقدار استعداده أعطيت لكلٍ منهما درجة بمقدار أجوبته، هذا يسمّى تمايزًا وليس تمييزًا، الظلم ينشأ من التمييز لا من التمايز.

نحن اختلافنا «هذا أسمر وهذا أبيض، وهذا ابن فلان وهذا ابن فلان» هذا ليس تمييزًا، هذا تمايزٌ، كيف تمايز؟!

الآن أشرح لك، هذا مطلبٌ فلسفيٌ دقيقٌ أشرحه لك الآن: تفاوت البشر في الصفات الذاتية اللازمة، أن هذا صار ابن فلان ولم يصر ابن فلان، واحدٌ يقول: أنا لماذا لم أصر سيدًا ابن رسول الله؟! لِمَ لَمْ يجعلني أصير سيّدًا! أو واحدٌ يقول: أنا لماذا لم أصر مثلاً ابن إنسانٍ أوروبي أشقر ولطيف؟! لماذا أنا صرتُ هنا حمدًا في حمد!؟ يعني ما هذه القصة هذه؟! لماذا أنا صرتُ ابن فلان ولم أصر ابن فلان!؟ لماذا صرتُ أنا من المكان الفلاني دون المكان الفلاني؟! لماذا؟!

هذا من باب التمايز وليس من باب التمييز، كيف؟! نرجع للفلسفة: هناك قاعدتان فلسفيتان نشرحهما:

القاعدة الأولى تقول: لكل موجود نظامٌ طوليٌ ونظامٌ عرضيٌ، ويعبّر عن هذه الأنظمة ب «السنخية بين العلة والمعلول»، دعني أضرب لك مثالاً: نحن الآن مثلاً عندنا تفاحة، كيف جاءت هذه التفاحة؟! هذه التفاحة لها ارتباطان: ارتباط بعلتها، وارتباط بمادتها، علة التفاحة النواة، البذرة، هذه علتها، سببها، فهناك ربط بين التفاحة وبين النواة، وأيضًا النواة لا توّلد تفاحة من دون تربة، تحتاج إلى تربة وماء وسماد، إذن التفاحة لها ارتباطان: ارتباط بنواتها، وارتباط بمادتها التي نشأت فيها.

ارتباط التفاحة بسببها - وهو النواة - يسمّونه نظامًا طوليًا، يعني: هذه جاءت بعد هذه، وارتباط التفاحة بمادتها يسمّى نظامًا عرضيًا، يعني: هي هذه التربة بالماء والسماد احتضنت هذه التفاحة فنشأت فيها، هذا نظامٌ عرضيٌ، التفاحة لا يمكن أن تتحقق بدون نظام طولي «يعني: بدون نواة قبلها» وبدون نظام عرضي «يعني: بدون مادة تنشأ فيها»، ارتباط التفاحة بهذين النظامين يسمّى بالسنخية بين العلة والمعلول، بين السبب «وهو النواة مثلاً» وبين المسبّب «وهو التفاحة».

الآن جاءتنا التفاحة، يأتي واحدٌ ويقول لك: لماذا لم تصبح برتقالة؟! تقول له: بابا هذه النواة لا تولد إلا تفاحة، طيّب صارت تفاحة، لماذا أصبحت هذه التفاحة؟! لماذا لم تصبح تفاحة ثانية؟! هذه النواة في هذه التربة لا تولد إلا هذه التفاحة، ذات كل شيء بوجوده في الموقع المعين، هذه التفاحة حقيقتها وماهيتها وذاتها من أين اكتسبتها؟ اكتسبتها من النواة ومن التربة، فالنواة والتربة عاملان أوجدا هذه التفاحة بهذه الصفات، أن التفاحة طلعت صفراء، طلعت صغيرة، طلعت مستديرة، خروج التفاحة بهذه الصفات جاء عن عاملين:

  1. عامل طولي، وهو: النواة.
  2. عامل عرضي، وهو: المادة.

لو تريد أن تغيّر، تنزع التفاحة وتضع غيرها ما يصير، حتى لو جئت بتفاحة ثانية ما يصير هذا معنى السنخية بين العلة والمعلول، لو أبدلت هذه لم تكن هذه، دعني أشرح لك بالمثال حتى يصير أوضح: الآن تأتي أنت إلى الأعداد مثلاً، عندنا العدد تسعة، العدد تسعة أين واقعٌ؟ بين الثمانية وبين العشرة، لو نزعت التسعة من هذا الموقع ووضعت الثلاثة يصير تسعة؟! ما يصير تسعة، هو هكذا، تقول: لماذا ما صارت التسعة ثلاثة؟! التسعة حقيقتها وذاتها أن تقع في هذا الموقع، لا يكون العدد تسعة حتى يقع بين الثمانية والعشرة، ولا يكون العدد ثلاثة حتى يقع بين اثنين وأربعة، لو أبدلت هذا مكان هذا لا يمكن، الثلاثة لا تصبح تسعة، والتسعة لا تصبح ثلاثة، لأن لكلٍ موقعًا، وموقعه هو الذي يحدّد حقيقته وماهيته.

أيضًا هذه التفاحة نفس الشيء، لو أتيتَ بفتاحة أخرى التفاحة الأخرى لا تخرج من هذه النواة ولا من هذه التربة، التربة والنواة لا تولد إلا هذه التفاحة، لا تولد غيرها، فلو أبدلتَ غيرها مكانها لم تكن هي نفس التفاحة، إذن حقيقة كل شيء بوجوده في موقع معين.

الآن آتي لك بمثال على الإنسان، ننتقل من المخلوقات الأخرى إلى الإنسان، نأتي للإنسان: نفترض مثلاً أبا طالب مؤمن قريش «رضي الله تعالى عنه» هذا الرجل العظيم الذي كان من أول المؤمنين برسول الله ، أبو طالب الذي قال للنبي :

واللهِ   لن  يصلوا  إليك  iiبجمعهم

ودعوتني  وعلمتُ  أنّك  iiناصحي

افصدع بأمرك ما عليك غضاضة

ولقد   علمتُ   بأنّ   دين   iiمحمّدٍ





 
حتى   أوسد   في   التراب  iiدفينًا

ولقد   صدقتَ   وكنتَ   ثمّ   iiأمينًا

وأبشر   بذاك   وقرّ  منك  iiعيونا

من    خير   أديان   البرية   iiدينًا

أبو طالب هذا وُلِدَ إنسانًا أبيضَ اللون، وكان إنسانًا شجاعًا وإنسانًا كريمًا، يعني وُلِدَ جامعًا لصفات، شجاعٌ كريمٌ، ومن بني هاشم، من ذرية عبد المطلب، لكنّ أبا طالب جاء في موقع معين، كيف؟ جاء بين عبد المطلب وعلي، قبله عبد المطلب، بعده علي، مثل العدد تسعة بين ثمانية وعشرة، أبو طالب جاء في هذا الموقع: بين عبد المطلب وعلي، وجاء في زمن محدد، في مكان محدد، بنطفة محددة، النطفة هي التي تحدّد شخصيتك، النطفة هذه التي تأتي تحدّد شخصيتك كلها، هذا الإنسان العظيم كله منطوٍ في تلك النطفة، أبو طالب جاء من تلك النطفة بين عبد المطلب وعلي في زمنٍ ومكانٍ معينٍ، لو جاء واحدٌ وقال: طيّب لماذا أبو طالب خلقه اللهُ هنا؟! لماذا لم يخلقه بعد الإمام الكاظم؟!

لو خلقه بعد الإمام الكاظم لما صار أبا طالب، صار شخصًا ثانيًا، حقيقة كل إنسان بموقعه الذي وُجِدَ فيه، لا يتغير، لو أبدلته لصار إنسانًا ثانيًا، لو تقول: لماذا لم يصبح أبو لهب مكان أبي طالب؟! لو يأتي أبو لهب لا يصير مكان أبي طالب، لِمَ؟ لآن تلك النطفة لا تولد إلا أبا طالب، ونطفة أبي لهب لا تولد إلا أبا لهب، لكل موجودٍ موقعه الوجودي المعيّن، وذاته متقوّمة بذلك الموقع، لو أبدلته لم يكن هو، بل كان غيره.

إذن لا معنى للسؤال بأن يقول الإنسان: لماذا خلقني أسمر وخلق فلانًا أبيض؟! لماذا خلقني غبيًا وخلق فلانًا ذكيًا؟! لماذا خلقني ابن فلان ولم يخلقني ابن فلان؟! لِمَ؟! كل هذه ال «لِمَ.. لِمَ.. لِمَ...» كلها لأنك جئت في موقع معين، ذلك الموقع الذي جئتَ فيه من علة ومن مادة فرض بأن تكون بهذه الحقيقة المعينة، حقيقتك نبعت من موقعك الذي أنت فيه، ولو غُيِّرَت وجعلوك من ابن آخر لا تصبح أنت، تصير إنسانًا آخر، أما واحد يقول: أنا أريد أن أصير أنا لا أتغير لكن أصير ابن فلان! ما يصير، بمجرد أن تصير ابن فلان ما صرتَ أنت، صرت إنسانًا آخر، أمّا أنا أظل أنا لكن أصير هاشميًا، لو أنت صرت هاشميًا لم تصر أنت، أنا أظل أنا لكن أصير مثلاً إنسانًا أوروبيًا! لو صرت إنسانًا أوروبيًا ما صرت أنت، فأنت وحقيقتك متقومة بوجودك في هذا الموقع المعين.

القاعدة الفلسفية الثانية المرتبطة بهذه النقطة: قد يقول قائلٌ: طيب لماذا أنا صرتُ في هذا الموقع؟! أنا إنما صرتُ فلانًا بن فلان لأنّي جئت في هذا الموقع، لكن لماذا أنا أراد الله خلقي في هذا الموقع؟! لماذا أراد اللهُ خلقي في هذا الموقع بالذات حتى أصير فلانًا؟!

هنا عندنا آية تجيب عن هذا السؤال: قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [7]، معنى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ هناك آية أخرى أيضًا تتحدث عن هذا المضمون وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [8] كلنا كنا في عالم الغيب، نزلنا إلى عالم المادة، نزلنا بقدر، ما هو هذا القدر؟ الأب حُدّد، الأم حُدّدت، النطفة حُدّدت، الزمن حُدّد، المكان حُدّد، هذا كله أقدار، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ هذا معنى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ.

نأتي للآية الثانية: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، ما هو معنى ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ؟ يعني: الله جلّ وعلا ليست له إرادات متعددة، له إرادة واحدة تعلقت بسلسلة الوجود كله من أسباب ومسبّبات، كيف؟

أضرب لك الآن مثالاً حيويًا واضحًا: عندك ماء موضوع على النار، هنا إذا تلاحظ أنت الظاهرة هذه ترى عدة أسباب وعدة مسببات، النار سببٌ لوصول درجة حرارة الماء إلى مئة، وصول درجة حرارة الماء إلى مئة سببٌ للغليان، الغليان سببٌ لتبخر الماء، تبخر الماء سببٌ لكثافة الجو، إذن عندك سلسلة أسباب ومسببات، النار سببٌ لبلوغ مئة، المئة سببٌ للغليان، الغليان سببٌ للبخار، البخار سببٌ للكثافة، إذن عندك سلسلة مكونة من أسباب ومسببات، صح؟! هنا الله تبارك وتعالى هل أراد كل سبب على حدى؟ يعني: أراد وجود النار، ثم أراد بلوغ درجة حرارة الماء مئة، ثم أراد الغليان، ثم أراد التبخر... لا، لا توجد إرادات متعددة، توجد إرادة واحدة، أراد هذه السلسلة كلها بإرادة واحدة، ليس لكل حلقة من السلسلة إرادة، ليس لكل جزء من السلسلة إرادة، أراد السلسلة كلها بإرادة واحدة، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ يعني: إرادتنا لسلسلة الوجود كله إرادة واحدة، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.

إذن عندما يأتي أبو طالب قبله من؟ عبد المطلب، قبله من؟ قبله هاشم، أبو طالب بعده من؟ بعده علي، بعده من؟ بعده الحسن، يأتي واحد ويقول: لماذا أراد خلق أبي طالب؟! هو ما أراد خلق أبي طالب وحده، أراد السلسلة بكاملها، هاشم فيأتي عبد المطلب، عبد المطلب فيأتي أبو طالب، أبو طالب فيأتي علي، علي فيأتي الحسن، هو أراد السلسلة كلها بإرادة واحدة لا أنه أراد كل حلقة منها بإرادة مستقلة حتى تقول: لماذا أراد أبا طالب في هذا الموقع؟! هو لم يرد أبا طالب في هذا الموقع، هو أراد هذا النظام كله المؤلف من أسباب ومسبّبات بإرادة واحدة.

المحور الثالث:

عندما خلقنا جلّ وعلا لماذا ابتلانا بالآفات والشرور والمصائب؟! لماذا لم يتركنا نعيش بهناء ورغد؟! لماذا؟!

الجواب عن ذلك نذكر وجهين تنبّه إليهما:

الوجه الأول:

كما يقول الفلاسفة: الشر أمرٌ نسبيٌ وليس أمرًا حقيقيًا، كيف الشر أمرٌ نسبيٌ وليس أمرًا حقيقيًا؟ الفلاسفة يقولون: الله خيرٌ مطلقٌ، ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا [9] فإذا كان الله خيرًا مطلقًا فلا يصدر عن الخير إلا الخير، مستحيل يصدر عن الله شرٌ، إذن الوجود كله خيرٌ ولا يوجد فيه شرٌ حقيقيٌ أبدًا، لأن مصدره الخير، وهو الله عزّ وجلّ، وهذا ما دلت عليه الآيات القرآنية بقوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [10] يعني: ما خلق خلقًا سيئًا، كل خلقه حسنٌ، ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فكل شيءٍ في الوجود خيرٌ، إذن من أين جاء الشر؟ الشر أمرٌ نسبيٌ وليس حقيقيًا، كيف؟

دعنا نأتي بمثال الذبابة: أنت تعتبر الذبابة شرًا، الذبابة في حد ذاتها طاقة، والطاقة في حد ذاتها خيرٌ، هذه الذبابة تساهم في تلقيح بعض الأشجار، تساهم في القضاء على بعض الحشرات، إذن الذبابة في حد ذاتها خيرٌ، من أين يأتي الشر؟ الشر يأتي من عدم انسجام الذبابة مع خلايا جسم الإنسان، فالشر أمرٌ نسبيٌ، يعني: إذا نسبت الذبابة لجسم الإنسان أصبحت الذبابة شرًا بالنسبة لجسم الإنسان، وإلا هي في حد ذاتها خيرٌ، يعني: لو لم يكن هناك إنسانٌ تصير الذبابة شرًا؟! لا، الذبابة تبقى خيرًا.

أنت الآن الإنسان تظنّ نفسك خيرًا يعني؟! أنت أيضًا شرٌ، كيف شر؟ شرٌ على الحيوانات التي تأكلها، صح لو لا؟! كما أنّك تنظر للذبابة أنّها شرٌ السمكة التي تأكلها في البحر تنظر لك على أنّك شرٌ، إذا دخل الإنسان في البحر يريد أن يصطاد السمكة نفس النظرة التي أنت تنظرها للذبابة السمكة تنظرها إليك وأنت تصطاد السمك من البحر، نفس الشيء، لماذا إذا جاءت بصوبك تصير خيرًا وإذا جاءت بصوب الذبابة تصير شرًا؟! ما يصير، كما أن الذبابة في حد ذاتها خيرٌ وأنت في حدّ ذاتك خيرٌ لكن بانتساب الذبابة لخلايا جسمك تعبّر عن ذلك بالشّرّ نتيجة عدم الانسجام، فالشر أمرٌ نسبيٌ ناتجٌ عن عدم الانسجام، ليس أمرًا حقيقيًا حتى يخلق، الله لم يخلق هذه النسبية لأنّها أمرٌ ليس حقيقيًا، كذلك الإنسان بالنسبة للسمك، كذلك الإنسان بالنسبة للنباتات التي يأكلها ويتلفها، إذا نسبت الإنسان للنبات الذي يأكله صار الإنسانُ شرًا بالنسبة للنبات وليس خيرًا، الشر دائمًا أمرٌ نسبيٌ.

المنصور العبّاسي كان جالسًا مع الإمام الصادق ، مرّت ذبابة على أنف المنصور، أبعدها، رجعت مرة ثانية، أبعدها رجعت مرة ثالثة، تأذى المنصور! قال: يا أبا عبد الله لماذا خلق الله الذبابَ؟! قال: ”ليذل به أنوفَ الجبابرة“، الإمام عندما هذه الكلمة هذا مستقى من الآية القرآنية: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [11]، ترى الإنسان وجبروته وعظمته لا يستطيع أن يقاوم ذبابة، يعني إذا أنت أمامك طعامٌ، تأتي الذبابة وتأخذ ذرة من الطعام، هل تستطيع أن ترجع هذه الذرة؟! لو تصعد السماء وتنزل الأرض لا تقدر! خلاص ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ إذن هذه الذبابة في حد ذاتها خيرٌ، الشر إنّما هو أمرٌ نسبيٌ وليس أمرًا حقيقيًا، هذا الوجه الأول في فلسفة الشرور.

الوجه الثاني:

أنت لماذا تنظر إلى الشر وحده؟! انظر إلى الشر كجزءٍ من لوحة الوجود، إذا نظرت إلى الشر كجزء من لوحة الوجود أصبح خيرًا، كيف؟ يعني الآن مثلاً أنت انظر إلى الحاجب والأنف، لو تنزع الأنف وتدع الحاجب وحده ماذا يصير؟! يصير قبيحًا، صح لو لا؟! لكن إذا نظرتَ للحاجب مع الأنف ووجدتَ أن الحاجب يشكّل خطًا متقوسًا والأنف يشكّل خطًا مستقيمًا ترى بأنّ أحدهما يكمل الآخر، فالأنف يكتسب جماله بوجود الحاجب، والحاجب يكتسب جماله بوجود الأنف.

الشرور إذا نظرت إليها نظرًا مستقلاً منفردًا تقول: نعم هذه شرور، أما إذا نظرتَ إليها كجزءٍ من لوحة الوجود، كجزءٍ من صفحة الوجود، وجدتَ أنّ كل موجود يكمل الآخر، لولا الألم لما عرفنا اللذة، صح لو لا؟! لو الحياة كلها لذة هل تستطيع أن تسمّيها لذة؟! لا تستطيع أن تسمّيها لذة، لو الحياة كلها ظلام ما عرفنا النور، لو الحياة كلها نور ما عرفنا الظلام، لو الحياة كلها ألم ما عرفنا اللذة، لو الحياة كلها لذة ما عرفنا الألم، إذن كل موجودٍ أظهر جمال الآخر، وكل موجودٍ أكمل الآخر لأنه أظهر حقيقته وأظهر كينونته وأظهر أسراره وخصائصه، فإذا نظرنا إلى الوجود لوحة واحدة وصفحة واحدة وجدنا الوجود جميلاً ومظهرًا لكمال الله تبارك وتعالى.

أنت الذي تعتبر نفسك شرًا، أو تعتبر الكافر شرًا، الكافر ليس شرًا، الكافر قطعة من الكمال، كل إنسانٍ قطعة من الكمال؛ لأنّ كل إنسان يملك حياة، ويملك قدرة، ويملك علمًا، والعلم والحياة والقدرة كمالٌ، كما أن المؤمن كمالٌ من حيث علمه وحياته وقدرته فهو مظهرٌ لكمال الله، الكافر أيضًا قطعة من الكامل وإن كان كافرًا في سلوكه، لكنّه من حيث حياته وقدرته وعلمه صفحة من الكمال، صورة من الكمال، كل موجودٍ فهو حصة من الكمال، وبما أنّ الله كمالٌ مطلقٌ فمقتضى كماله تبارك وتعالى أن يفيض الكمال، فقد أفاض البشرَ لأنّ كل بشرٍ هو حصة من الكمال التي تعبّر عن كماله جلّ وعلا، وإن كان هذا البشر سيئًا من حيث السلوك، لكن من حيث خصائصه البشرية هو صورة من الكمال ومظهرٌ للكمال.

هنا نقطة تربوية أشير إليها قبل الختام التفتوا إليها:

كثيرٌ من الناس ينعى حظه، صح؟! مثلاً: تصير زوجته زوجة سيئة، تقول له: لماذا زوجتك هكذا سيئة؟! يقول لك: حظي! ماذا أفعل أيضًا؟! حظي! وهي «المرأة» نفس الشيء إذا قعدت مع النسوان وقلنّ لها: لماذا زوجك هكذا معتوهٌ؟! قالت: حظي بعد ماذا أفعل؟! حظي ونصيبي! قسمة ونصيب! إنسانٌ مثلاً يُسْأل: لماذا ولدك هكذا طلع متمرّدًا عاصيًا؟! يقول: والله حظي ونصيبي! لماذا أنت أخفقت في الدراسة وأخوك نجح في الدراسة؟! والله حظي ونصيبي! لماذا أنت أخفقت في التجارة بينما ابن عمّك صار تاجرًا عظيمًا؟! والله حظي ونصيبي!... كلها كلمة سهلة تحوّل على الحظ، كل شيء حظ ونصيبٌ! هذه القضية ليس لها أساسٌ، لا يوجد شيءٌ اسمه حظ ونصيب أبدًا، كيف لا يوجد حظ ونصيبٌ؟

هذه الأمور والإخفاقات كلها ترجع لعنصرين:

العنصر الأول: عدم الدقة في السعي.

القرآن الكريم يأمرنا بالسعي، السعي المتقن، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [12] أنت مطلوبٌ بالعمل الحسن بأن تكون دقيقًا في سعيك، ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [13] إذا أردتَ أن تبحث عن زوجة فكن دقيقًا في الاختيار، لا تقل فيما بعد: حظي! إذا ربّيت ولدك فكن دقيقًا في التربية، لا تقل فيما بعد: حظي! إذا دخلتَ في الدراسة فكن دقيقًا في المذاكرة، لا تقل فيما بعد: حظي! كل ذلك يرجع إلى عدم الدقة وعدم الإتقان في السعي وليس راجعًا إلى الحظ والنصيب أبدًا، راجعٌ إلى مهارتك، راجعٌ إلى دقتك.

العنصر الثاني: عنصر الابتلاء.

أحيانًا الإنسان يبتلى من دون اختيار، افترض أنّ إنسانًا مرّ بمنطقةٍ وكان فيها غازاتٌ سامة فأصيب بمرضٍ خطيرٍ، هذا قهرًا عليه، هذا الإنسان مبتلى، لا هو حظ ولا هو راجع إلى عدم الدقة، ابتلاء، الابتلاء نعمة وليس نقمة، ورد عن النبي : ”إذا أحبّ اللهُ عبدًا غتّه بالبلاء غتًا“ البلاء نعمة وليس نقمة، وورد عنه : ”أكثر الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، فالذين يلونهم“، وكان يقول : ”ما أوذي نبيٌ مثلما أوذيت“ لماذا البلاء نعمة؟

لأن البلاء يصنع الإرادة، الإنسان محتاجٌ إلى إرادة، كيف الإنسان يستطيع أن يقاوم المعاصي إذا لم تكن عنده إرادة؟! كيف الإنسان يستطيع أن يقاوم مصاعب الحياة إذا لم تكن عنده إرادة؟! الإنسان يفتقر إلى إرادةٍ صامدةٍ ليقاوم بها المعاصي والشهوات وليدافع بها عن دينه ومبادئه، قوة الإرادة وصمود الإرادة يأتي عن طريق البلاء، إذا ابتلى اللهُ العبدَ محّص إرادته وقوّى إرادته وصقل إرادته فأصبح ذا إرادةٍ صامدةٍ يقاوم بها المعاصي ويدافع بها عن دينه ومبادئه، إذن الإنسان محتاجٌ إلى البلاء لأنّه محتاجٌ إلى الإرادة الصامدة، فالبلاء نعمة وليس نقمة.

ولذلك ورد عن الحسين قال: ”الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون“ الذي ليس عنده صبرٌ على البلاء يخرج خاسرًا من البلاء، والذي عنده صبرٌ تنصقل إرادته، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [14] ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [15] الإنسان يحتاج إلى صراع حتى تنصقل إرادته، ولذلك نرى أبطال التاريخ هم أبطال الإرادة الصامدة، الحسين عندما واجه البلاء واجهه بالرضا والتسليم لأنه يعتبره نعمة، قال: ”اللهم رضًا بقضائك وتسليمًا لأمرك يا غياث المستغيثين“.

مسلم بن عقيل رسول الحسين تصوّر هذا الإنسان ذهب إلى الكوفة وحده وخاض المخاطر وحده وتحمّل الآلام وحده وواجه الموت وحده وهو إلى آخر لحظة ما ضعف ولا استكان ولا استهان، إلى آخر لحظة هو صاحب إرادة صامدة وهو يقول: أميري حسينٌ ونعم الأمير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1]الزخرف: 32.
[2]فصلت: 46.
[3]النحل: 118.
[4]فاطر: 15.
[5]النجم: 42.
[6]الانشقاق: 6.
[7]القمر: 49 - 50.
[8]الحجر: 21.
[9]يوسف: 64.
[10]السجدة: 7.
[11]الحج: 73.
[12]الملك: 2.
[13]النجم: 39.
[14]البقرة: 155.
[15]البلد: 4.