القداسة ضرورة للمجتمع الإنساني

شبكة المنير

بسم الله الرّحمن الرّحيم

﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

... الوحي، الوحي حياة، الوحي قسمٌ من الحياة؛ لأنّ الوحي تترتب عليه آثارُ الحياة، القرآن الكريم عندما يتحدّث عن الوحي يتعرّض لآثار حيّة تترتب على الوحي، يقول: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «ماذا ترتب على ذلك؟» لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.

الأثر الأول: الثبات، الثبات للمؤمنين أثرٌ حيويٌ من آثار الوحي، فالوحي حياة، ﴿إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [2] .

الأثر الثاني: الهداية، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [3] .

الأثر الثالث: البشارة.

هناك صنفٌ من الناس قد لا يعمل بالحقّ، ولا يتبع الحقّ، لكنّه يحبّ الحق، يفرح بانتشار الحق، يفرح بانتصار الحق، مثل هذا الشخص يكون الوحي بالنسبة إليه بشارة لأنّ بالوحي ينتشر الحق ويستتب الحق، ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [4] .

إذن الوحي حياة؛ لأنّه تترتب عليها آثارُ الحياة، ولأنّ الوحي حياة عبّر القرآنُ عن المفيض للوحي بأنّه روحٌ، الروح مبدأ الحياة، والوحي حياة، فمفيض الوحي أيضًا روح، قال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [5] ، وقال: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [6] .

إذن نفهم من هذه الآيات كلها أنّ الحياة بتمام أشكالها من حياة مادية أو حياة روحية أو حياة وحيانيّة... جميع هذه التفاصيل مبدؤها واحدٌ ألا وهو الرّوح، الروح مبدأ الحياة كلها بأشتاتها وتفاصيلها.

المحور الثاني: حول القداسة وصفة القداسة.

لاحظوا أنّ الآية وصفت الرّوح الذي ينزل بالوحي بأنّه روح القدس، ما معنى روح القدس؟ من أين أتت هذه الصفة صفة القداسة؟ القداسة هي عبارة عن النزاهة عن النقص والعيوب، كل وجودٍ يكون وجودًا منزهًا عن العيوب، وجودًا مبرّأ من النقص، يعبّر عن ذلك الوجود بأنّه وجودٌ قدسيٌ، القداسة تعني البراءة والنزاهة من العيوب والنقص، لذلك تنقسم القداسة إلى قسمين:  قداسة ذاتيّة، وقداسة عرضيّة.

1. القداسة الذاتية: لله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأنّ وجود الله وجودٌ مطلقٌ، الوجود المطلق الذي لا يحدّه عدمٌ ولا يقيّده قيدٌ مقتضى إطلاق الوجود ألا يشوبه عيبٌ؛ لأنّ العيب يأتي من العدم، وهذا وجودٌ لا يشوبه عدمٌ، منشأ العيب دائمًا هو العدم، منشأ العيب دائمًا هو النقص؛ لأنّ الوجود الإلهي لله عزّ وجلّ وجودٌ مطلقٌ لا يحدّه عدمٌ فهو وجودٌ لا يشوبه نقصٌ ولا يشوبه عيبٌ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [7] ، فهو الوجود الذي لا يشوبه نقصٌ ولا عدمٌ لذلك قداسته قداسة ذاتية نابعة من ذاته، نابعة من طبيعة وجوده، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ - يعني: من كانت له قداسة ذاتيّة - الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [8] .

2. القداسة العرضيّة: هي القداسة التي يفيضها جلّ وعلا على من يختار ومن يشاء من عباده، فإذا أعطى بعضَ عباده وجودًا طاهرًا بريئًا نزيهًا من العيوب «من النقص» كان ذلك الوجود وجودًا مقدّسًا، لذلك الحياة البشرية على قسمين:

- حياة ناقصة: وهي حياة غير المعصومين، غير المعصوم حياته مشوبة بالنقص؛ لأنّ حياته أسيرة للشهوات، أسيرة للغرائز، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [9] ، كلّ نفس لم تتعطر ولم تتطيّب بالعصمة فهي أسيرة للغريزة، أسيرة للشهوة، لذلك هذه الحياة حياة ناقصة، حياة غير قدسية.

أما إذا اقترنت الحياة بنور العصمة أصبحت:

- حياة قدسيّة: حياة لا يشوبها العيبُ ولا يشوبها الدرنُ، الإمام المعصوم حياة قدسية، القرآن الكريم أيضًا حياة قدسية؛ لأنّه كتابٌ معصومٌ ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ [10] ، لأنّ القرآن معصومٌ فهو حياة قدسية، فإذا كان القرآن حياة قدسية إذن مفيض القرآن لابدّ أن يكون قدسيًا أيضًا، فاقد الشيء لا يعطيه، إذا كان القرآن حياة قدسية لابدّ أن يكون منزلُ القرآن، مفيض القرآن لابدّ أن يكون وجودًا قدسيًا.

لذلك عبّر القرآنُ الكريمُ عن الروح الذي ينزل بالقرآن ويفيضه إلى قلب النبي المصطفى بأنّه روح القدس؛ لأنّه مبدأ حياة مقدّسة ألا وهي القرآن، فلابدّ أن يكون هو أيضًا قدسيًا، لذلك عبّر عنه بأنّه روح القدس الذي يقوم بالكشف الوجداني، كشف عالم الغيب كشفًا وجدانيًا لقلب النبي المصطفى ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

المحور الثالث: أصناف القداسة.

القداسة هي البراءة - النزاهة من العيب - لكنّ القداسة على أصناف ثلاثة:

الصنف الأول: القداسة الرمزية، ما معنى القداسية الرمزية؟

هناك بعض الأشياء لا قداسة لها في حدّ ذاتها وإنّما القداسة لما ترمز إليه وتشير إليه، مثلاً: العَلَم، كل دولة لها عَلَم، القانون الدولي يعتبر العلم صاحبَ قيمة لا لأنّه قطعة قماش، لكونه قطعة قماش لا قيمة له، لكن لما يرمز إليه، العَلَم قيمته قيمة رمزيّة بقيمة ما يرمز إليه، هذا العَلَم يرمز إلى دولةٍ ثابتةٍ ذات مكانة عالميّة معينة، إذن هذا العَلَم يكتسب قيمة بقيمة ما يرمز إليه، لذلك لو أنّ شخصًا مزق العَلَم أو داسه برجله يعتبر أهان الدولة التي تحمل هذا العلم فإنّه رمزها المعبّر عنها المشير إليها، إذن قداسة العلم قداسة رمزيّة وليست له قداسة نفسيّة.

نأتي مثلاً إلى جلد المصحف الشّريف، الجلد الذي يشتمل على المصحف الشريف، هذا الجلد جلدٌ كسائر أي جلدٍ آخر، لكنّه له قداسة رمزيّة لأنّه يرمز إلى النّور الإلهي الموجود بين الدّفتين، فهو يكتسب القداسة الرّمزيّة من هذه الجهة، مثلاً: عندما ننظر إلى العَلَم أو القبّة التي تحيط بقبر الحسين ، هذه القبة لها قداسة لكن قداسة رمزية ترمز إلى النور المتألق المتلألئ من تحتها ألا وهو نور الحسين ، هذه الأشياء مقدّسة قداسة رمزيّة.

حتى المؤمن العادي، أنت المؤمن العادي أنت إنسانٌ مقدّسٌ، كل مؤمن مقدّسٌ، لِمَ؟ قداسة رمزية؛ لأنّ المؤمن يرمز إلى الإيمان، قداسته بقداسة الإيمان، ولذلك ورد عن الإمام الصّادق عن جده رسول الله أنّه قال: ”إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمورَه كلها، ولم يفوّض إليه أنْ يذلّ نفسه“، كل شيء مفوّضٌ للمؤمن إلا الإذلال، ”ولم يفوّض إليه أنْ يذلّ نفسه“، لماذا؟ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [11] ، المؤمن عزيزٌ عزة رمزيّة، المؤمن عزيزٌ لعزة الإيمان الذي يحمله في روحه، المؤمن مقدّسٌ لقداسة الدّين الذي يتجلى في سلوكه وحركاته وسكناته، إذن قداسة المؤمن قداسة رمزية.

إذا كان المؤمنُ مقدّسًا قداسة رمزيّة فكيف إذا كان المؤمنُ عالمًا؟! فكيف إذا كان المؤمنُ فقيهًا؟! حينئذٍ تكون القداسة الرّمزيّة أجلى وأوضح وأوسع، فهو يشير إلى نورين: نور الإيمان، ونور العلم.

لأنّه يرمز إلى الإيمان وإلى علم آل محمّدٍ لذلك تكون قداسته الرّمزيّة أجلى وأوضح، من هنا نفهم الحديث الوارد عن الإمام الرّضا : ”إذا كان يومُ القيامة يقال للعابد: نِعْمَ العبدُ أنت، همّك نفسك، وكفيت الناسَ المؤونة، فادخل الجنة، ويقال للفقيه: أيها الكافلُ لأيتام آل محمّدٍ الهادي لضعفاء محبّيهم ومواليهم قِفْ حتى تشفع لكلّ مَنْ تعلم منك أو أخذ عنك“، إذن هناك قداسة رمزيّة للفقيه باعتبار ما يرمز إليه من العلم والإيمان، هذا الصّنف الأوّل من أصناف القداسة.

الصنف الثاني: القداسة المعرفيّة.

هل عندنا فكرٌ مقدّسٌ؟ هل عندنا معلوماتٌ مقدّسة؟ هل هناك قداسة للفكر والمعلومات أم لا؟

لا إشكال أنّ المعارف السّماويّة الإلهيّة التي نزلت على النبي الأعظم معلوماتٌ مقدّسة لأنّها نزلت من القدّوس، لكنّنا نتكلم عن الفكر البشري، الفكر الذي يطرحه الفقهاءُ مثلاً، الفكر الديني الذي يطرحه الفقهاء على مستوى الأصول أو مستوى الفروع، هل هذا الفكر الفقهي الدّيني فكرٌ مقدّسٌ؟ هل يمكن أنْ يقال بأنّ هذا الفكر فكرٌ مقدّسٌ مع أنّه فكرٌ بشريٌ؟! الفقيه بشرٌ، قد يخطئ، قد يصيب، لكن هل أنّ هذا الفكر الذي يصدر منه يعتبر فكرًا مقدّسًا أم لا؟

هناك مقالة يطرحها عدّة من المفكّرين: أنّه لا يمكن لنا أنْ نصف الفكرَ الفقهي أو الفكر الدّيني بأنّه فكرٌ مقدّسٌ، لا يمكن، لماذا؟

لأننا أذا أعطينا صفة القداسة لأي فكر بشري كان فإنّ معنى ذلك إلغاءٌ لكرامة الإنسان، لكل إنسان كرامة، خُلِقَ الإنسانُ وهو ذو كرامةٍ، والقرآن قد أقرّ بمبدأ الكرامة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [12] ، ابن آدم صاحب كرامةٍ، مقتضى كرامته أن يكون حرًا؛ لأنّ العبد ليس كريمًا، لا يمكن أنْ نقول: لك كرامة ولكن لابدّ أنْ تبقى عبدًا! الكرامة تعني الحرّيّة، فإذا كان للإنسان كرامة إذن للإنسان حرية، خلع حريته اصطدامٌ مع كرامته، فالكرامة تعني الحرّيّة، وإذا كان للإنسان حرّيّة التّعبير، حرّيّة النقد، حرّيّة الفكر، إذن ليس هناك فكرٌ مقدّسٌ، متى ما قلنا بأنّ فكرًا بشريًا مقدّسٌ يعني ألغينا باب حرّيّة النقد، وإذا ألغينا باب حرية النقد يعني ألغينا كرامة الإنسان، فإنّ كرامة الإنسان بأنْ تكون له حرّيّة في فكره، في تعبيره، في نقده، في مناقشته.

إذن بناءً على ذلك ليس هناك فكرٌ بشريٌ مقدّسٌ ولو كان هذا الفكر فكر الفقهاء، إذا كان فكرًا بشريًا فليس فكرًا مقدّسًا، قداسة الفكر مصادمة لحرّيّة الإنسان وكرامة الإنسان، هذه المقالة يطرحها عدّة من المفكّرين.

نحن نجيب عن هذه المقالة، نقول: وجود حدودٍ مقدّسةٍ أو وجود مقدّساتٍ ضرورة للمجتمع الإنساني، لا يمكن أن يقوم مجتمعٌ إنسانيٌ بدون مقدّساتٍ، المقدّسات «الخطوط الحمراء، الحدود» ضرورة لكل مجتمع إنساني، سواءً كان مجتمعًا مسلمًا أو مجتمعًا كافرًا، متدينًا أو غير متدين، القداسة ضرورة للمجتمع الإنساني، لماذا؟

الآن نفس هذا الاعتراض، يعني: عندما تقول لشخص: فكر الفقيه مقدّسٌ، يقول لك: لا، هذا يتعارض مع كرامتي ويتعارض مع حرّيتي، نفس قوله هذا إقرارٌ منه بأنّ الكرامة شيءٌ مقدّسٌ، لو لم يعتقد أنّ الكرامة شيءٌ مقدّسٌ لما دافع عن الكرامة، دفاعه عن الكرامة، عندما يقول: كرامتي لا تُمَسّ، كرامتي لا تُنْقَص، مقتضى كرامتي أن تكون ليّ الحرّيّة، لذلك لا يبقى فكرٌ مقدّسٌ أمامي...

فهو يضحّي بقدسية الفكر من أجل قدسية الكرامة، إذن هو يعترف أنّ هناك مقدّسًا لابدّ من رعايته ولابدّ من النظر إليه، هذا معناه أنّ المجتمع البشري لو بقي بدون مقدّساتٍ لأصبح مجتمعًا حيوانيًا، المجتمع حتى ينتج ويبدع ويعطي لابدّ له من نُظُم، لابدّ له من حدودٍ، لابدّ له من مقدّساتٍ، فالمقدّسات حدودٌ تبعث الاستقرار في المجتمع الإنساني من أجل العطاء والإنتاج، المقدّسات أقسام:

1. هناك مقدّسات قيميّة: بعض القيم قيمٌ مقدّسة، مثل قيمة الكرامة، الكرامة قيمة مقدّسة لدى المجتمع البشري ولدى القانون الدولي، الكرامة لا تُمَسّ ولا تُنْقَص، يعني مبدأ مقدّس.

2. هناك مقدّسات قانونيّة: مثل حرمة العدوان، جميع القوانين الوضعيّة في جميع الدّول تحرّم العدوان، يعني: حرمة العدوان قانونٌ مقدّسٌ، لا يمكن التنازل عنه، لا يمكن رفع اليد عنه، هذا يسمّى أيضًا مقدّسًا، لكنّه مقدّسٌ قانونيٌ.

3. وعندنا مقدّسات فكريّة: مثل ماذا؟ مثل حفظ النظام، لا يوجد مجتمعٌ، لا توجد دولة إلا وهي تؤمن بضرورة حفظ النظام، النظام الذي يحفظ الأنفس، يحفظ الأموال، يحفظ الأعراض عن الزوال والهتك والتلف، وجود النظام أمرٌ يقرّه المجتمعات البشريّة كلها، لذلك المجتمع العقلائي في زماننا هذا يرفض الفكر الإرهابي، لماذا؟ ويحارب الفكر الإرهابي ويدعو إلى تجفيف واجتثاث منابع الإرهاب، لماذا؟! لأنّ الفكر الإرهابي يصطدم مع مقدّس إنساني ألا وهو حفظ النظام، الفكر الإرهابي يعرّض الحياة للزوال وللخطر، سواءً كانت حياة إنسانية أو اقتصادية أو صناعية أو غيرها، لذلك المجتمع البشري لديه فكرة مقدّسة لا يتنازل عنها ألا وهي فكرة حفظ النظام، حفظ النظام هذه مقالة مقدّسة، فكرة مقدّسة.

إذن عندنا عدة مقدّسات، هناك مقدسات قيمية، هناك مقدسات قانونية، هناك مقدسات فكرية، يحترمها المجتمع البشري ويسرّ على ألا يتنازل عنها، لِمَ؟ لأنّ المجتمع الإنساني لا يمكن أن يعيش بدون حدودٍ وبدون مقدّساتٍ.

ومن المقدّسات الفكريّة لدى المجتمع البشري: رعاية الاختصاص، رعاية الاختصاص مبدأ مقدّسٌ، مثلاً: الطبيب له اختصاصٌ، لو تدخل عالمُ الفيزياء وتصدّى لعلاج المرضى لاعتبر عند الناس معتديًا، اعتدى على اختصاص لا يمتلكه، معنى ذلك أنّ رعاية الاختصاص واحترام الاختصاص مبدأ مقدّسٌ، كما أنّ لعالم الفيزياء ألا يتصدّى لعلاج المرضى، وليس للطبيب مثلاً أن يتصدّى لعلم الفلك، أيضًا الفكر الديني اختصاصٌ، الفقه اختصاصٌ له روّاده، له أهله، له عملاقته، عندما نقول بأنّ الفكر الديني مقدّسٌ وإن كان فكرًا بشريًا ليس المقصود بالقداسة أنّه فكرٌ مطابقٌ للواقع، لا، قد يخطئ وقد يصيب، نحن لا ندّعي أنّ الفكر الفقهي مصيبٌ للواقع دائمًا، قد يخطئ وقد يصيب، ولا نقول بأنّ هذا فكرٌ لا يقبل النقد، يقبل النقد من أهله وروّداه.

عندما يقال: الفكر الديني الفقهي فكرٌ مقدّسٌ المقصود بالقداسة رعاية الاختصاص، كما أنّ رعاية اختصاص الأطباء مبدأ مقدّسٌ لو فرّط به لذهب المجتمعُ إلى تلفٍ، لو فتحنا هذا الباب وقلنا: لكل شخصٍ حرية التعبير، أن يتدخل في الطب، أو يتدخل في الفيزياء، أو يتدخل في الفقه، أو يتدخل في الفلسفة... اختلطت المعلوماتُ على المجتمع الإنساني، وإذا اختلطت المعلومات على المجتمع الإنساني أصبح مجتمعًا مبعثرًا غير منتجٍ ولا معطاء، من أجل ضمان عطاء المجتمع وإنتاجه لابدّ من وضع حدٍ مقدّسٍ، وهذا الحد المقدّس رعاية الاختصاص، لكل اختصاصٍ أهله، لكلّ اختصاصٍ روّاده وعملاقته وأبطاله، إذن هذا معنى القداسة التي نسمّيها بالقداسة الفكريّة أو القداسة المعرفيّة.

الصنفالأخير: القداسة التكوينيّة، ما معنى القداسة التكوينيّة؟

هل يمكن أن يصبح شيءٌ ماديٌ مقدّسًا؟ هو شيءٌ ماديٌ، هل يمكن أن يتحوّل إلى شيءٍ مقدّسٍ وهو شيءٌ ماديٌ؟!

نعم، القرآن الكريم يقول: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [13]  وادٍ، وادي طور سيناء كسائر الوديان: ترابٌ ورملٌ وحجارة، لكنّ القرآن يقول: هذا وادٍ مقدّسٌ، لماذا؟ ما هو سرّ القداسة التكوينيّة التي اتّصف بها طورُ سيناء «وادي سيناء»؟ ما هو سرّ القداسة التكوينيّة؟

اتصال عالم الملك بعالم الملكوت هو منشأ القداسة، نحن لدينا عالمان:

1. عالم ملكٍ: أشار إليه القرآنُ الكريمُ بقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [14] .

2. وعندنا عالم ملكوتٍ: أشار إليه القرآن بقوله: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [15] .

عالم الملك عالم المادة الذي نرتع فيه ونعيش فيه، عالم الملكوت عالم العلل الغيبيّة التي لا ندرك عليّتها بالموازين والمقاييس الماديّة أبدًا، لأنّ عليّتها علة غيبيّة، مثلاً: ورد عن النبي : ”الصّدقة تدفع البلاءَ وقد أبْرِمَ إبرامًا“، كيف الصدقة تدفع البلاء؟! ما هي علاقة الصدقة بالبلاء؟! إذا كان البلاءُ مرضًا والصّدقة نقدٌ فكيف الصدقة تدفع البلاء؟!

عليّة الصّدقة وسببيتها سببية ملكوتية وليست سببية ملكية مادية، هذا من تأثير عالم الملكوت في عالم الملك، في عالم المادة، هناك تأثيرٌ، مثلاً: القرآن الكريم يقول: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [16]  كيف ينهار الجبلُ لأجل كلام؟! لأجل ألفاظ؟! كيف؟! تأثير القرآن في الجبل تأثيرٌ من عالم الملكوت في عالم الملك، تأثيرٌ من عالم الغيب في عالم المادة، كما حصل هذا للقرآن حصل في طور سيناء، يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [17] ، ما الذي حصل؟! نورٌ أفيض على الجبل فتأثر عالمُ الملك بعالم الملكوت، ولأجل اتصال عالم الملك بعالم الملكوت أصبح طورُ سيناء واديًا مقدّسًا، القداسة تعني أنّ هذه المادّة اتصلت بشيءٍ من عالم الغيب، اتصلت بشيءٍ من عالم الملكوت.

الكعبة مكانٌ مقدّسٌ، مهبط ملائكة الله، مصلى أنبياء الله، فيه ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [18]  هذا المكان الذي تعاقب عليه الأنبياءُ والرّسلُ، ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [19]  مكانٌ مقدّسٌ اتصل بعالم الغيب، اتصل بعالم الملكوت.

ليلة القدر زمانٌ كبقية الأزمنة لكنّه زمانٌ مقدّسٌ لأنّه وعاءٌ للملائكة المقرّبين ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [20] .

إذن كلّ هذه الأشياء وإن كانت ماديّة ملكوتيّة لكنّها مقدّسة قداسة تكوينيّة لاتصال عالم الملك بعالم الملكوت، من هنا كان قبرُ الحسين، بقعة الحسين، حائرُ الحسين، مكانًا مقدّسًا، مكانٌ يخيّر فيه الإنسانُ بين القصر والتّمام إذا لم يقم عشرة أيام، لِمَ؟ لِمَ هذا المكان مقدّسٌ؟! لِمَ هذه البقعة مقدّسة؟! لِمَ هذه التربة التي نصلي عليها تربة مقدّسة؟! لِمَ؟ ابن العرندس الحلي يقول متحدّثًا لنا عن منبع القداسة:

وفيه   رسولُ   الله   قال  iiوقولهُ

حُبِي   بثلاثٍ   ما   أحاط  iiبمثلها

له   تربة   فيها   الشفاءُ   iiوقبة

وذرّيّة     ذرّية     منه     iiتسعة





 
صحيحٌ صريحٌ ليس في ذلكم iiنكرُ

نبيٌ  فمن  زيدٌ هناك ومن عمرو

يجاب بها الدّاعي إذا مسّه الضّرُ

أئمة   حق  لا  ثمانٍ  ولا  iiعشرُ

منبع القداسة لتربة الحسين «لقبر الحسين» أنّ هذه التّربة ضمّت ذلك الدّمَ الطاهرَ الذي تدفق على التّراب وكل قطرةٍ منه تنادي:

إنْ كانَ دينُ محمّدٍ لم يستقمْ   إلا  بقتلي  يا سيوفُ iiخذيني

لأنّ هذه التّربة حملت بين ثناياها تلك العظامَ الممزقة، تلك الأشلاءَ المحطمة التي تبعثرت على أرض كربلاء وهي تنادي: ”لا أعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل، ولا أفرّ فرارَ العبيد“، أصبحت تلك التربة تربة مقدّسة لأنّها ضمّت هذه الأجساد الطاهرة، لأنّها ضمّت ذلك النحر الذي يفيض دمًا ويفيض حزنًا، يفيض دمًا ويفيض آنّاتٍ...

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين