المرجعية نظام للحياة

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

... الإحاطة بالدين بحقوله المختلفة هو التفقه في الدين، في صحيحة يعقوب بن شعيب يسأل الإمامَ الصادقَ ، يقول له: إذا حدث بالإمام حدثٌ ماذا يصنع الناسُ؟ قال: ”أينك عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ؟! هم في عذر ما داموا في الطلب وفي سعةٍ حتى يرجع إليهم أصحابُهم“، الإمام يريد أن يقول أنّ معرفة الإمام من التفقه في الدين، فإذا مات الإمامُ السابقُ فالتعرّف على الإمام اللاحق من التفقه في الدّين، معرفة الإمام تفقهٌ في الدين، معرفة الأصول تفقهٌ في الدين، معرفة الفروع تفقهٌ في الدين، أمّا التفقه في الدين كله فهو بهذه الإحاطة بهذا الدين أصولاً وفروعًا.

المحور الثاني «وهو المهم»: ما هو وجه الحاجة إلى الفقيه وإلى الفقه؟

ربما يظن البعضُ أنّ الفقه يشكّل زاوية من زوايا الحياة! أو أنّ الفقه يشكّل جانبًا من جوانب الحياة! فليست هناك حاجة شموليّة للفقه؛ لأنّ الفقه زاوية من زوايا الحياة! لأنّ الفقيه مصدرٌ للحلال والحرام والطهارة والنجاسة! إذن الحاجة إلى الفقيه حاجة في حقلٍ معيّنٍ وزاويةٍ معيّنةٍ!!

الأمر ليس، كذلك الحاجة إلى الفقيه هي الحاجة إلى نظام الحياة، الفقيه يضع نظامَ الحياة، الفقه هو الحياة، الفقه يمتدّ إلى كل شؤون الحياة التي نعيشها، التي نتحسّسها، التي نتلمّسها، لا يمكن أن ينفصل عنّا الفقهُ أو أن ينفك عنّا في زاويةٍ من الزوايا أو أي حقل من الحقول، لأضرب لك أمثلة لأبيّن لك امتدادَ الفقه إلى جميع الحقول التي نعيشها والتي تمسّ حياتنا مساسًا لصيقًا:

الحقل الأول: الحقل الاقتصادي.

الفقه له كلمة في الاقتصاد، الفقه نظامٌ اقتصاديٌ، نحن في هذا العالم نعيش بين نظامين:

1. نظام اشتراكي.

1. ونظام رأسمالي.

لكل نظام فلسفته الاقتصادية المعيّنة، والفقه أيضًا له فلسفته الاقتصاديّة المعيّنة بين هذه الأنظمة، لاحظوا مثلاً: هناك بحث في الاقتصاد: ما هي المشكلة الاقتصادية؟ لماذا يمرّ العالمُ بين منعطف وآخر بانهيار اقتصادي؟ ما هو سر المشكلة؟ أين تكمن المشكلة الاقتصادية؟ هذا بحثٌ.

- النظام الرأسمالي يرى أنّ المشكلة الاقتصادية تكمن في قلة الموارد الطبيعيّة، أي أنّ حجم حاجة الإنسان أكبر من الرّوافد الطبيعيّة، وكلما ازداد عددُ سكّان الأرض كانت الحاجة أكبر وأوسع من الرّوافد الطبيعية، وهذه هي المشكلة.

- النظام الاشتراكي يقول: لا، ليست المشكلة في روافد الطبيعة ولا في روافد الثروة، المشكلة في التوازن بين وسائل الإنتاج وعلاقات التوزيع، عندما يكون الإنتاجُ أكثر من التوزيع، عندما يكون العرضُ أكبر من الطلب، أو عندما تكون علاقاتُ التوزيع أدنى من وسائل الإنتاج، هنا يقع الخللُ الاقتصاديُ، فالمشكلة تكمن في عدم التوازن بين هذين الطرفين.

- الفقه له كلمة، الفقه ليس بعيدًا عن الحياة، الفقه له فلسفته في هذا المجال، الفقه يقول: المشكلة ليست في قلة روافد الثروة ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [2]  ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [3] ، ليست المشكلة في عدم التوازن بين مستوى الإنتاج ومستوى التوزيع، فقد يطغى الإنسانُ وراءَ النظام كله ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [4] ، المشكلة كل المشكلة في الإنسان نفسه، الإنسان هو المشكلة، الإنسان يعيش نزعة فردية تحثه على أن يتملك ما حوله، ويطغى على أشكال الملكية المتاحة له، وهو في نفس الوقت يعيش إحساسًا بالمصلحة العامة، عدم الانسجام بين النزعة الفردية التي تقود للتملك المفرط وبين المصلحة العامة التي تقتضي تهذيبَ الملكية وتشذيبَها، عدم الانسجام بينهما هو سرّ المشكلة، إذا استطعنا أن نحلّ هذه المشكلة، إذا استطعنا أن نربّي هذا الإنسان على أن هناك تواؤمًا بين غريزة التملك وبين المصالح العامة للمجتمع البشري نكون قد قضينا على الاختلال الاقتصادي، المشكلة من الإنسان نفسه.

إذن الفقه لابد أن يقول كلمته، الفقه ليس صامتًا، لا تتصور أنّ الفقه الإسلامي أو الفقه الإمامي صامتٌ، أو أنه يتحدّث في زوايا دون زوايا، بل الفقه يمتدّ إلى حقول المعرفة وحقول الحياة كلها، لاحظوا مثلاً: الطاقة، هل الطاقة تُمْلَك؟ هذا بحثٌ اقتصاديٌ، الطاقة بأي نوع من أنواعها هل تقع تحت المِلك؟ هل يترتب عليها آثار المِلك؟

مثلاً: أنت عندما تجلس في البيت وتشغل الجهاز وتتصل بالنت تنبعث ذبذباتٌ من جهازك إلى بيت جارك، جارك لو أراد أن يستفيد من هذه الذبذبات من دون أن يضرّك شيئًا، من دون أن ينقص منك شيئًا، هو يستفيد من هذه الذبذبات في وقت أنت تستفيد، ممكنٌ أم لا؟ هل الطاقة يمكن تملكها إذا لم تقع تحت الحيازة؟ يعني: هذه الطاقة - طاقة الذبذبات - مثلها مثل طاقة النور «الضوء»، أنا لو أشعلتُ نورًا في بيتي وامتد النورُ من بيتي إلى بيت جاري هل يمكن لجاري أن يستفيد من هذا النور ويقرأ كتابًا؟ أم نقول له: لا! لا يمكنك ذلك! أنا عندما أستمع للراديو والصوت يصل إلى بيت جاري وجاري يستمع إلى الأخبار استنادًا إلى الصوت الذي يصله، هل يمكن أن يُمْنَعَ من الاستفادة؟!

هنا يأتي البحث: أنت تملك الجهاز، لكن بمجرّد أن تفتح الجهاز تنبث الطاقة، تنبث الذبذبات، لا يمكنك السيطرة عليها إلا إذا كانت ضمن الجهاز، وإلا بمجرد أن تفتح الجهاز هذه الذبذبات تأخذ مسارها، هذه الذبذبات التي لا تقع تحت حوزتك وسيطرتك هل أنت تملكها حتى لك أن تمنع وأن تأذن؟! هل أنت تملك هذه الطاقة الضوئيّة التي تنبث من مصباحك؟! وهل وهل وهل...؟! وعلى فرض أنك تملك ذلك لو أنّ إنسانًا انتفع بهذا الضوء، هل يضمن لك؟! هل يعطيك مبلغًا على انتفاعه؟!

هناك فرقٌ بين التصرف والانتفاع، العمل الذي يوجب الضمانَ هو التصرّف، التصرف في مال الغير، أمّا الانتفاع بمال الغير إذا لم يكن تصرّفًا فهذا ليس موجبًا للضمان، إذن هذه البحوث الاقتصادية الفقه ليس غافلاً عنها، الفقه يتحدّث فيها، هذا الحقل الأول.

الحقل الثاني: حقل القضاء.

علم القضاء أصبح الآن في عصرنا الحاضر من أعقد العلوم، علم القضاء إثبات الأشياء، الآن في عصرنا الحاضر ما يُوجِبُ الوثوقَ بحسب الحسابات العلميّة هل يُعْتَبَرُ دليلاً في باب القضاء؟ مثلاً: لو أنّ إنسانًا لم ندرِ أنّ هذا والده حتى يرثه أم لا، توفي إنسانٌ ومعه طفلٌ ولا ندري أنّ هذا الطفل ولده حتى يرثه أم لا، وليس عندنا طريقٌ لإثبات أبوّة هذا الشخص إطلاقًا، هل يمكن أن نعتمد على حامض ال «DNA» لنثبت أنه أبوه ويكون دليلاً شرعي لإثبات الأبوّة ونحن ليس عندنا دليلٌ آخر؟

مثلاً: باب الاستنساخ فتح علينا فتوحاتٍ، لو استطعنا أن نستنسخ ولدَيْن من أم واحدة متشابهَيْن في كل الصفات، وأحدهما تزوّج والآخر لم يتزوّج، وتاهت المرأة، لا تدري من هو زوجها؛ لأنّهما متشابهان في تمام الصفات، أو أحدهما ارتكب جريمة ولا ندري المجرم من غيره وهما متشابهان بتمام الأوصاف، إذا اشتبه علينا الزوجُ من غيره والمجرمُ من غيره والوارث من غيره فما الحل؟! ما هو الفارق بين هذين؟!

الفارق: البصمة، تبقى فارقًا حتى مع اتحادهم في سائر الصفات، بصمة الإصبع تبقى فارقًا بينهما، القرآن الكريم يشير إلى أهمّيّة هذا الفارق: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [5]  تسوية البنان تختلف عن تسوية باقي الجسد، تسوية البنان إحداثٌ لهذه العلامة الفارقة.

القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [6]  ليست المسألة مسألة اختلاف في طريقة النطق أو اختلاف في لون البشرة، لا، الاختلاف في لون البشرة يكشف عن اختلاف أعمق منه، هناك غددٌ في هذا الجسم هي التي تفرز هذا اللون المعيّن، تلك الغدد هي المختلفة، اختلافها هو الذي أوجب اختلافَ الألوان، لو لم تختلف الألوانُ، لو لم تختلف الأجسامُ، لو كانا متحدَيْن في كل الصفات تلك الغدد تفرز الاختلافَ في البصمة، فهل يمكن أن نعتمدها دليلاً في باب القضاء؟

الفقه هنا ليس صامتًا، الفقه يتحدث بالقبول أو الرفض؛ لأنّ الفقه يواكب الحياة في مختلف حقولها، بعض فقهائنا كالسّيّد الشهيد السّعيد السّيّد محمّد باقر الصّدر «قدّس سرّه» يقول: نعم، هذه أدلة، هذه كلها تدخل تحت قول النبي محمّدٍ : ”إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان“، ليست البيّنة فقط شهادة رجلين عدلين، كل ما يوجب البيانَ والوضوح فهو بينة، البصمة بينة، كل ما يوجب الوثوقَ والوضوحَ فهو بيّنة.

الحقل الثالث: حقل علم النفس.

ربما يستغرب الإنسان، يقول: ما هي علاقة علم النفس بالفقه؟! الفقه هو ترجمان فِكْر آل البيت، وفِكْر آل البيت فِكْرٌ يتحدّث عن الحياة كلها بمختلف ألوانها، بمختلف حقولها، عندما نأتي إلى علم النفس: علماء النفس في المدرسة الاستبطانيّة في علم النفس يقولون: قوى الإنسان ثلاث: «هو»، و«أنا»، و«الأنا الأعلى».

1. هو: عبارة عن الذاكرة التي تختزن المعلوماتِ.

2. أنا: عبارة عن العقل الواعي الذي يقوم بالتحليل والاستنتاج.

3. أنا الأعلى: عبارة عن العقل الباطن.

هناك منطقة داخل الإنسان تسمّى ب «العقل الباطن»، هذه المنطقة تختزن الميول، تختزن النزوع النفسي، هذه المنطقة - منطقة العقل الباطن - فتحت بابًا كبيرًا في علم النفس، أصبحوا يستفيدون من هذه المنطقة، مثلاً: تستطيع أن تكتشف الجريمة من خلال منطقة العقل الباطن، أحيانًا الإنسان يعرف من هو المجرم لكنّه لا يصرح به، لكن لو قمنا بتنويم هذا الإنسان تنويمًا مغناطيسيًا واستنطقنا عقله الباطن سوف يصرّح لنا عمّن هو المجرم، استفادوا من هذا في هذا المجال، الإنسان لو كان مريضًا مرضًا نفسيًا، إنسانٌ يعيش الخوفَ، يعيش الهلعَ، وأردنا أن نغيّر شخصيته ونحوّله إلى شخصية مقدامة مبادرة، كيف؟ ننوّمه تنويمًا مغناطيسيًا ونبث معلوماتِ المبادرة والإقدام والشجاعة في نفسه حتى إذا وعى رأى نفسَه شخصًا متحرّكًا مبادرًا مقدامًا.

الفقه ماذا يقول؟

الفقه هل يصمت هنا؟! لا، كل ما يمسّ الحياة ويمسّ تنظيم حياة الإنسان ويمسّ تنظيم مسيرة الإنسان يتكلم فيه الفقه، يتحدث فيه الفقهُ، الفقه يقول: نعم، العقل الباطن منطقة مهمّة في كيان الإنسان أفصح عنها الإمامُ أميرُ المؤمنين عليٌ عندما قال: ”ما أضمر امرؤٌ في قلبه شيئًا إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، الإنسان قد تكون عنده ميولٌ لكنّه لا يستطيع أنْ يُبْرِزها، هناك بعض الأشخاص عنده مثلاً ميولٌ صوتيّة، يحبّ التلحين، لكنّه لا يبرز ميوله لأجل موانع شرعية أو لأجل ثقافة بيئية، هذا الإنسان تراه أحيانًا إذا هو غافلٌ ما يدري يفعل هكذا، هو ليس قاصدًا، إنّما الميول برزت من حيث لا يشعر، برزت عليه من حيث لا يدري، ”ما أضمر امرؤٌ في قلبه شيئًا إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، العقل الباطن لكنّ الفقه المستفاد من روايات آل محمّدٍ يقول: العقل الباطن ليس علة لحركة الإنسان، إنّما هو مقتضٍ فقط، كيف؟

هناك نقطة فلسفية: هل العلم سببٌ للإرادة أو توجد بين العلم والإرادة حلقة وسط؟ هل كل ما تعلم به يحرّك إرادتك أو لا تكفي المعلومة في حركة الإرادة بل لابدّ من واسطةٍ بينهما؟

مثلاً: لو جئنا بإنسانٍ في غرفةٍ ووضعنا أمامه جنازة وأطفأنا النورَ وأغلقنا البابَ وقلنا: في أمان الله! فإنّ هذا الإنسان لا يتحمل أن يبقى مع الجنازة، لِمَ؟! مع أنّه يعلم علمًا يقينيًا أنّ الجنازة لن تتحرك ولن تضر ولن تؤثر، لكنّ المعلومة شيءٌ والإرادة شيءٌ آخر، ليست المعلومة سببًا للإرادة، هناك واسطة بينهما تسمّى بعقد القلب، ما لم يقم الإنسان بعقد قلبه على ما علم، ما لم يقم الإنسانُ بعملية تلقينٍ واعٍ فإنّ الإرادة لا تتحرك، المعلومة مقتضٍ للحركة وليست علة تامّة للحركة.

إذن هذا الإنسان لو عبّأنا عقله الباطن بالمعلومات لا يكفي العقلُ الباطنُ في تحريكه ما لم يكن هناك واسطة تنقل هذه المعلومات إلى إطار الإرادة والتحريك ألا وهي عملية التلقين الواعي.

الحقل الرابع: علم الاجتماعي.

علماء الاجتماع يقولون: من عوامل التغيير في المجتمعات العقلُ الجمعيُ، العقل الجمعي سببٌ مؤثرٌ في حركة المجتمعات، لاحظوا الربيع العربي، الربيع العربي ساهم في عنفوانه الإعلامُ، الإعلام سببٌ مؤثرٌ في امتداد الربيع العربي؛ لأنّ الإعلام يشكّل عقلاً جمعيًا، الإعلام يخلق ثقافة، الثقافة تؤثر على مسيرة المجتمعات، العقل الجمعي مؤثرٌ.

الفقه ماذا يقول؟

الفقه أيضًا يقرّ بالعقل الجمعي لكنّه يقول: العقل الجمعي نوعان: عقلٌ انفعاليٌ، وعقلٌ فعليٌ.

1. العقل الانفعالي: لا قيمة له، العقل الانفعالي ما يسترسل وراءَه الإنسانُ دون درايةٍ، هذا لا قيمة له، القرآن الكريم يقول: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [7] ، العادات، التقاليد، عقلٌ جمعيٌ انفعاليٌ لا قيمة له.

2. وهناك عقلٌ جمعيٌ فعليٌ: وهو العقل المصوغ بوعي وهدفيةٍ، الإعلام المضوغ بوعي وهدفيةٍ عقلٌ جمعيٌ فعليٌ مؤثرٌ، القرآن الكريم يشير إلى هذا العقل الجمعي الفعلي: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ [8]  شعائر الله عقلٌ جمعيٌ لكنه عقلٌ جمعيٌ فعليٌ، صلاة الجماعة من شعائر الله، الحج من شعائر الله، المواكب الحسينية من شعائر الله، كلّ ذلك عقلٌ جمعيٌ ناشئٌ عن وعي وهدفيّةٍ، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.

الحقل الخامس: علم الإدارة.

في علم الإدارة يقال: القيادة، ما هي القيادة؟ هل القيادة منصبٌ؟ هل القيادة كفاءة؟ هل القيادة ترشيحٌ؟ لا، كل هذا لا، لو وضعنا شخصًا، قلنا: أنت مدير الشركة، المدير غير القائد، لو أنّ شخصًا يملك شهادة دكتوراه، هذا لا يعني أنّه قائدٌ، لو رشحنا شخصًا، الترشيح لا يعني أنّه قائدٌ، القيادة في علم الإدارة موقفٌ، الموقف يصنع القيادة، إذا جاء الموقفُ بالشكل المناسب في الوقت المناسب صنع القيادة، فالقيادة موقفٌ.

الفقه ماذا يقول؟ مادام الفقهُ نظامًا حياتيًا ممتدًا فماذا يقول؟

الفقه يقول: القيادة على نوعين:

1. قيادة متحوّلة: وهذه هي التي نعبّر عنها بأنّها موقفٌ؛ لأنّ المواقف تختلف باختلاف الظروف.

2. وقيادة ثابتة: والقيادة الثابتة تحتاج إلى عناصرَ، منها: الموقف، منها: تطابق السلوك، ورد عن الإمام الصادق : ”العالم من صدّق فعلُه قولَه“، هذا التطابق السلوكي عنصرٌ أساسٌ في القيادة، والعنصر الثالث: الانصهار بالمبادئ، القائد لا تشغله إلا المبادئ، لا ينشغل بالتوافه، لا ينشغل بالقضايا الثانوية، القائد مشغولٌ منحصرٌ همّه المبادئ التي ينادي بها، يقول الإمام الحسين: ”ولعمري ما الإمام - ليس كل شخصٍ قائدٌ - ولعمري ما الإمام إلا العاملُ بالكتاب الدائنُ بالحق القائمُ بالقسط الحابسُ نفسَه على ذات الله“، منصهرٌ بالمبادئ لا ينفكّ عنها ولا ينفصل عنها.

الحقل الأخير الذي أريد أنْ أتعرّض إليه: الحقل الفلسفي.

الفقيه لا يفهم الفلسفة؟! لا، كل فقيهٍ يفهم الفلسفة، لا يمكن أن يكون فقيهًا حتى يكون صاحبَ رأي ونظر، الفقيه حتى تنطبخ تجربته الفقهية وتنضج معلوماته الفقهيّة يحتاج أن يكون صاحبَ رأي في علم النحو، صاحبَ رأي في علم البلاغة، صاحبَ رأي في علم الكلام، صاحبَ رأي في علم الفلسفة، صاحبَ رأي في علم الرجال، صاحبَ رأي في علم الفقه، في علم الأصول، الفقيه هو الذي يُبْرِزُ الفكرَ الديني في كل هذه المجالات، وهكذا فقهاؤنا، فقهاؤنا يمتلكون القدرة على أن يضعوا الرّأيَ في كل حقلٍ من هذه الحقول المتعددة.

لاحظوا في مجال الفلسفة مثلاً: فقهاؤنا فلاسفة، لو راجعتم كتب سيّدنا الخوئي «قدّس سرّه» تروا أنّ هذا الرّجل ماهرٌ في الأصول، في الفقه، في الرجال، في التفسير، في الفلسفة أيضًا.

مثلاً من باب المثال: الفلاسفة يقولون: العالم قديمٌ، ليس العالم الذي نحن نعيشه، العالم الذي نعيشه هذا مرحلة من مراحل العالم، عالم المادة الذي نعيشه وقفة من وقفات هذا العالم، محطة من محطات هذا العالم، العالم الذي بدأ منذ عالم الجبروت، منذ عالم العقول، هذا العالم قديمٌ، ما معنى قديم؟ يعني: لم يسبقه عدمٌ، لم يكن معدومًا ثم صار موجودًا، هو قديمٌ أزليٌ، كيف قديم أزلي؟

يقولون: لأنّ نسبة العالم لله نسبة المعلول للعلة، والعلة والمعلول متعاصران زمنًا متفاوتان رتبة، دعني أضرب لك مثالاً: أنا عندما أفتح البابَ، فهنا حركتان: حركة اليد، وحركة المفتاح، حركة اليد علة، حركة المفتاح معلولٌ، حركة اليد لا تنفصل عن حركة المفتاح، إذا ما يتحرك المفتاح لا تتحرك اليدُ، وحركة المفتاح لا تنفكّ عن حركة اليد، فهما في زمنٍ واحدٍ، وإن كان إحداهما علة للأخرى، لكنهما في زمنٍ واحدٍ، بما أنّ العالم هذا معلولٌ لله والله هو علته إذن لا ينفك العالمُ عن الله، إذن العالم قديمٌ أزليٌ لم يمر عليه يومًا ما أنّه كان معدومًا، قديمٌ أزليٌ، لأنّه معلولٌ للقديم فلابدّ أن يكون قديمًا، هذه نظرة الفلاسفة.

ولكن الفقهاء - منهم: سيّدنا الخوئي - يقولون: لا، نحن لنا اتجاهٌ آخر، لنا نظرٌ آخر، ما هو؟

العلاقات على قسمين: علاقة معلول بعلة، وعلاقة فعل بفاعل.

ليست العلاقات كلها من باب علاقة المعلول بعلته، لا، قد تكون من باب علاقة الفعل بفاعله، مثلاً: أنا عندما أتكلم، علاقة الكلام بالمتكلم ليست علاقة معلول بعلةٍ، علاقة فعلٍ اختياري بفاعلٍ اختياري، علاقة الفعل بالفاعل تختلف عن علاقة المعلول بعلته، لذلك الفاعل متقدّمٌ زمانًا على فعله، المتكلم متقدّمٌ زمانًا على كلامه، علاقة هذا الوجود بالله جلّ وعلا علاقة الفعل بفاعله، هذا الوجود فعله، هذا الوجود إحداثه، كما ورد في الصّحيحة: ”إنّما إرادته إحداثه“، هذا الوجود إحداثه وفعله جلّ وعلا، إذن الفقهاء ليسوا مقلدين للفلاسفة، لهم رأيٌ ولهم نظرٌ.

فالذي نريد أن نخلص إليه: لا يمكننا الاستغناء عن الفقه، نحن نفتقر إلى الفقه في كل شيء، افتقارَنا للحياة، افتقارَنا لنظام الحياة، نحن نتلمّس الفقهَ في كل جنبةٍ من جنبات حياتنا، الفقه معنا في معارفنا، في شؤوننا، في تفاصيل حياتنا، من هنا يبدو لنا عظمة مقام الفقيه، الفقيه يحمل نظامًا للحياة، الفقيه يحمل نظامًا معرفيًا شموليًا للحياة.

المحور الثالث: الموقع القيادي للفقيه.

الفقيه له ثلاثة مناصب:

المنصب الأول: الفتوى.

الفتوى خطابٌ كليٌ على نحو القضيّة الحقيقيّة - كما يقولون - لا يختصّ بزمنٍ ولا بمجتمع، مثلاً: عندما يقول الفقيهُ: شرب العصير العنبي بعد غليانه قبل ذهاب ثلثيه حرامٌ، هذا فتوى، قضيّة عامّة.

هناك منصبٌ آخر للفقيه: القضاء.

القضاء من شؤون الفقيه، بل بعض الفقهاء يرى أنّه لا يمكن الوكالة في القضاء، القضاء خاصٌ بالفقيه، لا يمكن لغير الفقيه أن يكون قاضيًا، ”إنّما الحكومة للإمام العادل“.

المنصب الثالث «والذي نريد أن نتحدث عنه»: منصب الولاية.

الفقيه له الولاية، بعض الفقهاء - كالإمام الخميني «قدّس سرّه» - يرى أنّ الولاية عامّة، بعض الفقهاء يرى أنّ الولاية خاصّة بالأمور النظاميّة المعبّر عنها بالأمور الحسبيّة، كسيّدنا الخوئي «قدّس سرّه»، المهم قلنا بالعموم أو قلنا بالخصوص: المنصب الثالث منصب الولاية، ما يصدر من الفقيه من خلال وانطلاقًا من هذا المنصب ليس فتوى، يسمّى حكمًا ولايتيًا، الحكم الولايتي ليس خطابًا كليًا، خطابٌ يخصّ واقعية معيّنة، يخصّ جزئية معيّنة، مثلاً: عندما يقول الفقيهُ: يحرم شراء البضائع الدنماركية، هذا يسمّى حكمًا ولايتيًا، أصدره في ظرف معيّن لعلاج قضيّة معيّنة، الحكم الولايتي ما يصدر من الفقيه عند تشخيصه أنّ المصلحة العامّة تقتضي إصدارَ هذا الحكم الخاص.

من هذا الموقع ومن هذا المنصب - منصب الولاية - برز الدورُ القياديُ للفقيه، الفقيه له الكلمة الأولى في المجتمعات الإسلاميّة انطلاقًا من زعامته وقيادته التي تشكّلت من خلال هذا المنصب، عندما نلاحظ تاريخ فقهائنا نجد أنّ لهم الدور الأوّل والمؤثر في قيادة المجتمعات:

  1. السّيّد المجدّد الشيرازي قبل أكثر من مئة سنة عندما أفتى بحرمة التنباك عطل الشركاتِ الروسيّة والبريطانيّة وجعلها تفلس بفتوىً خلال أيام، الفقيه يقود المجتمع.
  2. الميرزا محمّد تقي الشيرازي الذي قاد ثورة العشرين.
  3. الإمام الحكيم - السّيّد محسن الحكيم «رحمه الله» - الذي قضى على الخط الشيوعي في العراق بكلمةٍ واحدةٍ: الشيوعيّة كفرٌ وإلحادٌ.
  4. الإمام الخميني «قدّس سرّه» أخرس الألسنَ بحركته الصامدة المباركة.
  5. السيد السيستاني «دام ظله» الذي بأبوّته وحكمته وحنكته وبُعْد نظره أوقف النزيفَ الطائفي في العراق وصار أبًا للجميع يحتضن الجميعَ.

الفقيه من موقع القيادة، من موقع الولاية تبرز زعامته ويبرز دورُه القياديُ، لذلك يحاول الاستعمارُ أن يبث بعضَ الشكوك ليفصل موقعَ المرجعيّة عن قاعدته الشعبيّة، يصوّر المرجع كأنّه لا يفهم! لا يعرف! يصوّر المرجعَ كأنّه لا يدري عن الأوضاع! يصوّر المرجعَ كأنّه غير نزيهٍ! غير أمين! كل هذه التشكيكات وهذه التهويلات ثق أنّها لن تؤثر شيئًا.

الموقعيّة للمرجعيّة صمام الأمان، هي حفظ للمجتمعات الإسلاميّة، هي الضّمان لحياة المجتمعات الإسلاميّة، هي العصب الحسّاس للمجتمعات الإسلاميّة، والمجتمعات الإسلاميّة واعية وعاقلة أنّ هذا المقام العظيم لا يمكن التفريط فيه، متى انفصل الشيعة عن مرجعيتهم انتهوا، صمّام الأمان الذي يحفظ القوّة، القوة المعرفيّة التي تحدثنا عنها في المحور الثاني، والقوّة القياديّة التي نتحدّث عنها في هذا المحور، القوّتان للفِكْر الإمامي وللمسيرة الإماميّة تتمثل في الفقيه، في المرجعيّة، هي صمّام الأمان، هي الباب الذي يحفظ هذا كله.

وهذه المرجعيّة امتدادٌ لقيادة آل البيت، ورد عن الإمام الحجّة «عجّل الله فرجه الشريف»: ”فأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله“، وورد عن الإمام العسكري : ”فأمّا من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه“، قيادة الفقهاء امتدادٌ للقيادة العلويّة، أمير المؤمنين عليٌ الذي كان يعيش عيشة الفقراء وبيده أزمّة الأمور كلها، وبيده المقاليد كلها، وهو يعيش عيشة الفقراء، وقال لبعض أصحابه: ”أنا لستُ كأنت، إنّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقرُه“.

مراجعنا كذلك يعيشون عيشة فقيرة، يعيشون عيشة مختصرة، ليس فيها من نعم الحياة ولا زخارفها شيءٌ، امتدادٌ للقيادة العلويّة، وامتدادٌ للقيادة الحسينيّة، الحسين الذي زرع حبّه في أنصاره، قيادة الحسين يوم كربلاء قيادة متميّزة، ما رُئِيَ لها مثيلٌ في التاريخ، الناس يتسابقون، يتبادرون فداءً للحسين، حبًا للحسين، ملأهم الحسينُ من قرنٍ إلى قدم، أحدهم يقول: حبّ الحسين أجنّني، والآخر يبرز ويقول:

أميري  حسينٌ  ونِعْم iiالأميرْ

له طلعة مثلُ شمسِ الضحى

 
سرور فؤادي البشيرُ iiالنذيرْ

له   غرة   مثلُ   بدرٍ   iiمنيرْ

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1] التوبة: 122.
[2] الجاثية: 13.
[3] النحل: 18.
[4] العلق: 6 - 7.
[5] القيامة: 3 - 4.
[6] الروم: 22.
[7] البقرة: 170.
[8] الحج: 32.