موعظة بعنوان الذنب وأثره على النفس

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [1] 

صدق الله العلي العظيم

الذنب الذي يصدر من الإنسان هو عبارةٌ عن مخالفة الأمر الشرعي، ولكنّ هذا الذنب الذي يتصوّر الإنسانُ أنّه أمرٌ بسيط وأمرٌ عابرٌ وأمرٌ يمكن تداركُه والتغلبُ عليه هو في حدّ ذاته ظاهرةٌ خَطِرَةٌ، الذنب ظاهرةٌ خطيرةٌ ينبغي للإنسان أن يتأمّل في آثارها الوخيمة، وفي عواقبها السّيّئة، فهناك عدّة آثارٍ تترتّب على الذّنب الذي نتصوّر أنّه أمرٌ عابرٌ وأمرٌ لا أهمّيّة له:

الأثر الأوّل: أنّ الذّنب يُوجِبَ ظلمة الرّوح واسودادَ القلب.

الذنب حتى لو استغفر منه الإنسانُ وتاب إلى الله منه ربّما يجعل له وصمةً على النفس، وهي الظلمة، كما أنّ الطاعة تنشر النورَ في النفس فإنّ الذنب ينشر الظلمة، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [2] ، الصلاة التي نصليها تنشر النورَ في النفس، تشرح الصدرَ، تبعث في الإنسان الاستقرارَ والاطمئنانَ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [3] ، بينما الذنب «الكذب، الغيبة، عقوق الوالدين...» الذنب يعكس أثرًا آخر، ينشر الظلمة، ينشر الضيقَ في النفس، هذا الضيق الذي عبّر عنه الإمامُ الصادقُ : ”إنّ العبد إذا أذنب خرج في قلبه نكتةٌ سوداء، فإنْ تاب انمحت، وإنْ عاد عادت، حتى تغلبَ على قلبه فلا يفلح بعدها أبدًا“.

إذا أصرّ على ممارسة الذنب تحوّل هذا القلب الذي فطره اللهُ على التوحيد، تحوّل إلى قطعةٍ فحمةٍ سوداءَ لا حياة فيها ولا نبضَ فيها ولا شعور فيها، وهذا ما قاله سبحانه وتعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ الرين هو الصبغ الذي يتسم به القلبُ نتيجة إصراره على الذنوب، القلب يصطبغ بالذنوب فيتحوّل إلى قطعةٍ من الظلام، وبالتالي لا يشعر الإنسانُ بأي لذةٍ للعبادة، عندما يصبح القلبُ أسود لا يشعر الإنسانُ بلذة العبادة، لا يشعر الإنسانُ بطعم للصلاة، لا يشعر الإنسانُ بطعم للدعاء، لا يشعر الإنسانُ بطعم لقراءة القرآن، لأنّ قلبه مغلفٌ بالذنوب، مغلفٌ بالمعاصي، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.

الأثر الثاني: الاستدراج.

الذنب يجرّ ذنبًا، المعصية تجرّ معصية، لأنّ المعصية جرأة، ومتى ما اعتاد الإنسانُ على الجرأة أصبحت المخالفة وأصبح التمردُ أمرًا سهلاً، الإنسان عندما يتمرد على أبيه أول مرّة ربّما يشعر بوخز التمرد، ولكن بمجرّد أن يكرّر التمرّد يصبح التمرّد أمرًا طبيعيًا عنده، حتى لو وبّخ نفسه، حتى لو لام نفسه، لكنّه يراه أمرًا بسيطًا وعاديًا، الذنب من خطره أنّه يوجب الاسترسالَ والاستدراجَ للإنسان وراء شَرَك هذا الذنب، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [4] ، النفس أمّارة، يعني: ليست فقط تحبّ السوء، وليست فقط ترغب في السوء، بل تأمر بالسوء، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ بمعنى أنّها تلحّ على الإنسان وتصرّ عليه أن يتمادى مع المعصية، أن يتماشى مع المعصية، الذنب يستدرج الذنبَ.

ورد في الحديث عن النبي : ”أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبُه“، عندما نستحقر الذنبَ ونعتبره أمرًا عابرًا فهذا أخطر الذنوب لأنّه سيعوّدنا على الاسترسال والاستدراج، وورد في الرواية عن الصّادق : ”إنّ المؤمن إذا أذنب كان ذنبُه كجبل أبي قبيس على صدره“ لأنّ إيمانه لا يسمح له بهذه الجرأة، لا يسمح له بهذه المخالفة، فمتى ما أذنب شعر كأنّ صخرة ثقيلة على صدره يريد أن يتخلص منه، ”وإنّ المنافق إذا أذنب كان ذنبُه كذبابةٍ مرّت على أنفه فأطارها“ اعتاد على أن يذنب، اعتاد على أن يعصي، فهو كذبابة مرّت على أنفه فأطارها.

وورد عن الإمام زين العابدين قال: ”يا بَنِيّ، إياكم والكذب، الصّغير منه والكبير، في كلّ جدٍ وهزلٍ، فإنّ الرّجل إذا كذب في الصّغير اجترأ على الكبير“، إذن من الطبيعة السيئة للذنب أنّه يستدرج الإنسانَ ويجعل الإنسانَ مسترسلاً ميّالاً وراءَ شهوته ووراء غريزته، وهنا تكمن خطورة الذنب وخطورة المعصية.

الأثر الثالث: أنّ هذا الذنب يتحوّل إلى قطعةٍ من النار.

نحن لا نشعر بذلك، نحن في هذه الدنيا نبني جنّتنا أو نبني نارنا، نحن نبنيها من حيث لا نشعر، الإنسان من الصباح إلى الغروب يمارس أعمالاً كثيرةً، وهو في هذه الممارسة إمّا أن يبني جنة أو يبني نارًا، يأتينا الغروبُ ونحن إما أعددنا لنا شجرة يانعة مثمرة من أشجار الجنة وإما أننا أعددنا لنا صخرة حارة تلفح أجسامنا، الإمام السجاد في دعائه يصوّر لنا كيف يتحوّل الذنبُ إلى قطعةٍ من جهنم، إلى قطعةٍ من النار، يقول: ”اللهم ظلّل على ذنوبي غمامَ رحمتك“ ما معنى هذا الكلام؟

يعني: أنا أعيش بين نيران، لأنّني أعيش بين ذنوب، الذنوب التي أمارسها تحوّلت إلى نيران محيطة بجسمي، وهذه النيران الحارقة، هذه النيران المصطلية تحتاج إلى ما يطفئها، تحتاج إلى ما يبرّدها، ”اللهم ظلّل على ذنوبي غمامَ رحمتك“، لاحظوا إنسانًا جالسًا في الصحراء في حر الظهيرة، كلما مسّ بيده الترابَ رآه ترابًا يلتهب من الحرارة، كلما جلس على الأرض رأى الأرض تلتهب حرارة، هذا الإنسان وهو في وسط الظهيرة في حرارة الصحراء يحتاج لماذا؟! يحتاج إلى غمام يظلّله، يبرّد عليه، يخفّف منه وعليه غلواءَ هذه الحرارة.

اللهم ظلّل على ذنوبي غمامَ رحمتك، وأرسل على عيوبي سحابَ رأفتك“ هناك حرائقُ مشتغلة، تصوّر أنّ إنسانًا بيته فيه حرائقُ مشتعلة، كيف يتصرّف؟! يريد الخلاص من هذه الحرائق المشتعلة المستعرة، الذنوب حرائق قبلنا وبعدنا وفوقنا وتحتنا، نحن نعيش في لجّة وغمرة الحرائق المشتعلة، ”وأرسل على عيوبي سحابَ رأفتك“ السحاب يطفئ النيران، وأنا أعيش في لجّة النيران، لجّة الذنوب.

الذنب يتجسّد إلى قطعةٍ من النار، ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [5] ، نفس هذه ذنوبنا هي أغلالنا، هي سعيرنا، هي الحميم الذي يغلي الوجوهَ ويغلي الأبدانَ، هل يستطيع أحدٌ منّا أن يمسّ بإصبعه عودَ كبريت مشتعل؟! لا يستطيع، لو كان هناك عودُ كبريت صغيرٌ مشتعلٌ لا يمكن أن تضع إصبعك عليه؛ لأنّه حارقٌ، فكيف بذنوبٍ أثقلت ظهورنَا؟! فكيف بأخطاء ملأت دروبَنا؟! فكيف بمعاصٍ نصرّ عليها يوميًا ونقترفها يوميًا؟! إنّها أطنانٌ وأطنانٌ من النيران الهائلة التي تحتاج إلى ما يطفئها، وتحتاج إلى ما يبرّدها.

وأنت تعلم ضعفي عن قليلٍ من بلاء الدنيا وعقوباتها، وما يجري فيها من المكاره على أهلها، على أنّ ذلك بلاءٌ ومكروهٌ، قليلٌ مكثره، يسيرٌ بقاؤه، قصيرٌ مدّته، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة، وجليل وقوع المكاره فيها، وهو بلاءٌ تطول مدّته، ويدوم مقامُه، ولا يخفّف عن أهله، لأنّه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك، وهذا ما لا تقوم له السّماواتُ والأرضُ“ كلّ السّماوات لا تتحمّل ذرّة من غضب الله، هذه السّماوات والأرضون لا تتحمّل ذرّة من سخط الله، ”وهذا ما لا تقوم له السّماواتُ والأرضُ، فكيف بي وأنا عبدك الضّعيفُ الذليلُ الحقيرُ؟!“ الذليل ماذا؟! الذليل أمام نفسي، الذليل أمام شهواتي، أنا أتعالى على الناس، أتعالى على مجتمعي، أجعل نفسي متغطرسًا متعاليًا على الناس، لكنّني أمام شهواتي ذليلٌ، شهواتي تأسرني، غريزتي تسيطر عليّ، النوازع الشيطانيّة تحرّكني، ذليلٌ أمام شهواتي، ذليلٌ أمام غرائزي، ”فكيف بي وأنا عبدك الضّعيفُ الذليلُ الحقيرُ المسكينُ المستكينُ؟!“.

اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم نبّهنا من نومة الغافلين، نحن نعيش غفلة، غفلة عن الآخرة، غفلة عن المصير، اللهم نبّهنا من نومة الغافلين، واجعلنا لك من الذاكرين القانطين، واجعلنا من المرحومين، والحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّدٍ وآله الطّيّبين الطّاهرين.

[1] المطففين: 14.
[2] الأنعام: 125.
[3] الرعد: 28.
[4] يوسف: 53.
[5] الطور: 16.