الإبداع في الفكر الإمامي

شبكة المنير

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[1] 

صدق الله العلي العظيم

الآية المباركة تتحدث عن أن التفاعل من المستمع للفكرة يتفاوت من شخص لآخر، فإذا طرحت فكرة على مجتمع من المجتمعات فهناك من يكون غافلاً عن هذه الفكرة، وهناك من يتفاعل مع هذه الفكرة تفاعلاً جزئياً أو مؤقتاً، وهناك من يلتقط الفكرة ويحولها إلى مسار عملي، أو يحولها إلى قاعدة سيالة، وهذه الفئة الثالثة هي التي عبر عنها القرآن الكريم ب ”العالِمين“ ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاس، لكن من الذي يتفاعل معها؟ من الذي يلتقطها ويتفاعل معها فكراً وسلوكاً؟ هم فئة معينة ﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، فالعالِم هو الذي يلتقط الفكرة ويبلورها ويحولها إلى منهج عملي، وهذه القدرة على الالتقاط والتحويل إلى منهج عملي تسمى ب «الإبداع».

الإبداع: هو أن يمتلك الإنسان القدرة على بلورة الأفكار، أو تحويلها إلى قواعد ومناهج عملية. من هنا ننطلق لنتحدث عن هذا البعد من أبعاد الفكر الإمامي، ألا وهو فكر الإبداع في الفكر الإمامي، ونتحدث عن هذا البعد من خلال محورين:

  • المحور الأول: في تعريف الإبداع وعناصره، وبيان بصمات علماء الإمامية وأدبائهم على الحضارة الإسلامية.
  • المحور الثاني: في ذكر بعض النظريات التي أبدعها علماء الإمامية على مستوى الثقافة والفكر الإسلامي.

المحور الأول: ما هو تعريف الإبداع؟ ما هي عناصر الإبداع؟

هنا تكلم فلاسفة من الشرق والغرب حول مفهوم الإبداع، وتحديد عناصره، فطرحت هنا عناصر ثلاثة للإبداع:

العنصر الأول: التجديد.

الإبداع أن تعطي الجديد، سواء كان جديداً في الفكر، أو جديداً في البلورة، هناك من يبتكر الفكر، وهناك من يبلور الأفكار ويقوم بإعدادها وقولبتها في قالب جديد لها، وكلاهما إبداع.

أما التأليف؛ فليس بإبداعٍ، كثيرٌ من الشيعة كتب وألف وربما بعضهم له أَلْف مؤلَّفٍ، أو سبعون مؤلَّفٍ، أو مئة مؤلَّفٍ، لكن هذا ليس إبداعاً. التأليف: هو جمع الأفكار المطروحة في الكتب، وتصنيفها، وترتيبها، وإظهارها للناس، هذا كله ليس إبداعاً. الإبداع أن تقدم الجديد، أن تقدم المبتكر، سواء في الفكر، أو في البلورة والإعداد، وإلا فإن مجرد التأليف وجمع الأفكار ليس إبداعاً، لقد اتخمت المكتبة الإسلامية بكثرة المؤلفات والأقلام والعناوين، ولكن ما يحتاجه العالم الإسلامي، وما يحتاجه الفكر الإمامي؛ هو «الإبداع»، أي هبة الجديد، وإعطاء الجديد، فالعنصر الأول من عناصر الإبداع «التجديد» كما ذكر شتاين[2] .

العنصر الثاني: الفائدة.

«إدوارد دي بونو» من منظري عالم الإبداع في كتابه «الإبداع الجاد» يقول: لا يمكن أن نعتبر إشاعة الفوضى إبداعاً، شخصٌ يأتي ويشيع فوضى قد أتى بشيء جديد، وهو أنه عمل فوضى للناس مثلاً، ليس كل جديدٍ إبداعاً، ولا يمكن أن نعتبر إشاعة الفوضى إبداعاً، بل الإبداع أن يكون للعطاء فائدة، وأن هذا الجديد يشكل فائدةً، ويشكل نتاجاً على مستوى الثقافة، وعلى مستوى الفكر، وليس كل جديد إبداعاً، ولو كان شعوذةً، أو سحراً، أو أشياء لا فائدة لها[3] .

العنصر الثالث: عملية الإبداع

هناك فرق كما يذكر «ادوارد» بين الإبداع وعملية الإبداع[4] ، الإبداع: هو القدرة على أن تقدم الجديد المفيد، ولكن عملية الإبداع لابد أن يكون لها آليات علمية، لو أن إنساناً طرح فكرة جديدة لكن مرتبكةً، من دون آليات علمية، ومن دون أطر علمية، فهذه لا تسمى عملية إبداع، وإن كان هذا الشخص يمتلك إبداعاً، فالعملية الإبداعية ما كانت ضمن منهج علمي، وما كنت ضمن أسس علمية، حتى يترتب عليها الفائدة والنتائج في مجال الفكر والثقافة.

عندما نلقي نظرة على التاريخ الإمامي منذ أيام الأئمة الطاهرين المعصومين ، إلى يومنا هذا، نتساءل: هل للإمامية - من علماء، وأدباء، ومفكرين - بصماتٌ واضحةٌ على الفكر الإسلامي، والحضارة الإسلامية، كي نقول: بأن من أبعاد الفكر الإمامي الإبداع، لأنَّ علماءَهُ وأدباءَه مبدعون؟

الجواب:

نعم؛ أي مجال فكري تطرقه تجد الإمامية في المقدمة، وتجدهم في الطليعة، تجد علماء الإمامية ومفكريهم في الطليعة في النجوم اللامعة، وهذا يعني أنَّ لهم غزارة في الإنتاج، ولهم وفرة في الإبداع.

- عندما نأتي لمجال الشعر والأدب، نجد الأسماء اللامعة: المتنبي، الشريف الرضي، الفرزدق، أبا نواس، وكلهم من الإمامية وهم نجوم الأدب.

- عندما نأتي على مجال علم الكلام؛ يتحدث المؤرخون - شيعة أو سنة، بلا فرق - عن علماء الكلام، نجد: هشام بن الحكم، هشام بن سالم، مؤمن الطاق، وهم من فقهاء الإمامية وعلمائهم.

- عندما نتحدث عن الفلسفة؛ نجد أن أبطالها وروادها من علماء الإمامية: صدر المتألهين الشيرازي، المحقق الداماد، المحقق السبزواري، ابن سينا.

- عندما نأتي إلى مجال الطب؛ في الطب القديم نجد ابن سينا رقماً بارزاً، وهو من علماء الإمامية.

- عندما نأتي على علم الكيمياء؛ نجد: جابر بن حيان، هو النجم البارز في علم الكيمياء، وهو من تلامذة الإمام الصادق .

- عندما نأتي إلى علم تفسير القرآن، وعلوم القرآن؛ نجد علماء الإمامية أسماء لامعة وبارزة، كالسيد صاحب الميزان «أعلى الله تعالى مقامه» السيد محمد حسين الطباطبائي.

- على مستوى أصول الفقه؛ نجد أن أصول الفقه تطور على يد علماء الإمامية بما لم يكتب بمثله علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، كما أبدعه الشيخ الأنصاري، والمحقق النائيني، والمحقق الأصفهاني، وغيرهم من علماء الإمامية.

علماء الإمامية في الطليعة، طليعة أي علم، وأي مجال فكري، وهذا يعني أنهم وضعوا بصمات واضحة على الفكر والحضارة الإسلامية.

المحور الثاني:

ما هي النظريات التي أبدعها علماء الإمامية؟

نحن لا نقصد أن علماء الإمامية أبدعوا للمذهب، لا؛ الإمامية أبدعوا للإسلام، فما طرحه علماء الإمامية من نظريات إبداعية قصدوا بها خدمة الفكر الإسلامي، قصدوا بها خدمة الحضارة الإسلامية، فالمُبدِع هو إمامي شيعي، لكنَّ ما أبدعه ليس فكراً مذهبياً، وإنما هو فكر إسلامي يصب في شموخ الحضارة الإسلامية، يصب في شموخ ورفعة الفكر الإسلامي، وهناك مجالات عديدة وكثيرة أبدعوا فيها علماء الإمامية، لا يمكن التعرض لها ولكن نقتصر على محور واحدٍ أبدع فيها علماء الإمامية بشكل لافت ألا وهو «مفهوم الشخصية الإنسانية».

مفهوم الشخصية الإنسانية:

لما يترتب عليه من آثار في علم الاجتماع، وفي علم النفس، وفي علم الفلسفة، كان هذا المحور ميداناً لإبداع علماء الإمامية ونحن نتناول هذا المحور على ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة الإدراك.

هو عبارة عن الصورة التي تنتقش في ذهن الإنسان، فأنا أدركك؛ يعني لك صورة في ذهني، أنا أدرك مكة؛ يعني لها صورة في ذهني، هذا الإدراك هل هو ظاهرة مادية؟ أم أن الإدراك وجود مجرد عن عالم المادة؟ هذا ما ركز عليه علماء الإمامية في فلسفتهم.

الإدراك تناولته عدة علوم: الفيزياء، الكيمياء، الفسيولوجيا، علم النفس، هذه علوم أربعة تناولت الإدراك لكنها لم تصل إلى حقيقة الإدراك، ولم تصل إلى كنه الإدراك، لم تقدم لنا هذه العلوم الأربعة ما هي حقيقة الإدراك؟ هل هي حقيقة مادية؟ أو هي حقيقة تجرديه؟

أوضح لك بالأمثلة: علماء الكيمياء والفيزياء بحثوا، فقالوا الإدراك البصري يتم نتيجة انعكاس الأشعة من الجسم المرئي على العدسة الباصرة، ثم تتفاعل العدسة الباصرة مع هذه الموجات الكهرومغناطيسية، ويتم خلالها وعبرها ارتسام صورة في ذهن الإنسان عما رآه، ومطابقة لما رآه[5] .

هل الذي طرحه علماء الفيزياء في هذا المجال هو للإدراك؟ أم هذه مقدمات للإدراك؟

انعكاس الأشعة من المرئي على الرائي، وتفاعل العين الباصرة مع هذه الموجات الكهرومغناطيسية، هذه كلها أحداث تمهد للإدراك، وليست هي الإدراك، نحن نبحث ما هو الإدراك؟ لا ما هي الأحداث المادية التي تمهد لعملية الإدراك؟

نأتي مثلاً إلى الفزيولوجيا كيف تناولت الإدراك؟ فزيولوجيون قالوا: الدماغ ينقسم إلى أربعة فصوص: فص جبهي، وفص جداري، وفص صدغي، وفص مؤخري، ولكل فص من فصوص الدماغ وظيفة:

  • الفص الجبهي: يتضمن مراكز الحركة - كيف يتحرك الإنسان؟ -.
  • الفص الجداري: يتضمن المراكز الحسية لاستقبال الرسائل من الجسم.
  • الفص الصدغي: يتضمن مراكز الشم والذوق والسمع.
  • الفص المؤخري: يتضمن مراكز الرؤية البصرية.

إذاً لكل فص وظيفة، ولكل فص من فصوص الدماغ مهمة[6] .

هذا أيضاً ليس حديثاً عن الإدراك، هذا حديث عن عمليات جسمية ومادية تمهد للإدراك، وتهيئ للإدراك، ويبقى سؤالنا ما هو الإدراك؟ وما هو حقيقته؟ يبقى هذا السؤال قائم.

عندما نأتي إلى علم النفس، في علم النفس مدرستان مشهورتان:

  1. المدرسة الاستبطانية.
  2. المدرسة السلوكية.

لكل مدرسة منهج.

  1. المدرسة الاستبطانية: تعني بالتجربة الوجدانية، وموضوعها الشعور الإنساني، فكل جهود هذه المدرسة تنصب على تحليل الشعور الإنساني.
  2. المدرسة السلوكي: موضوعها السلوك البشري، وتدرس السلوك: دوافعه، عوائقه، محبطاته، فالسلوك البشري هو موضوع هذه المدرسة، وسبيلها التجربة الحسية، وليست التجربة الوجدانية.

كلتا هاتين المدرستين في علم النفس لم تضع لنا إلى الآن تفسيراً لحقيقة الإدراك، وهل أن الإدراك ظاهرة مادية؟ أم أن الإدراك ظاهرة تجريدية؟ [7] 

اضرب لك مثالاً: النفس لها عدة قوى، من قواها قوة الذاكرة، ومن قواها قوة الخيال، ومن قواها قوة الفكر، ومن قواها قوة الإرادة، هذه القوى الأربع: الفكر، والإرادة، والخيال، والذاكرة، هل هي واحدة؟ أم متعددة؟ ما هو الحد والتعريف لكل قوة من هذه القوى الأربع؟

يقف علم النفس ساكتاً وصامتاً أمام ذلك، علم النفس يقول: هناك قوى، أما هل هي واحدة أو متعددة؟ ما حقيقة كل منها؟ لا يمكنني إقامة التجربة لإثبات ذلك ولتحديد ذلك، علم النفس يقول: أن من الممكن أن أقيم تدريباً أختبر فيه الذاكرة، هل الذاكرة نشطة أم ضعيفة؟ وأستطيع أن أثبت ذلك، هل - مثلاً - قوة الفكر لهذا الإنسان نشطة أم ضعيفة؟ أستطيع أن أثبت ذلك، أما هل هذه القوى واحدةٌ أو متعددة؟ وما حقيقة كل منها؟ هنا يقف علم النفس صامتاً.

إذن هنا ينفسح المجال أمام الإبداع الإمامي، فلاسفة الإمامية في مجال فلسفة علم النفس ماذا يقولون؟

هنا يتحدث علماء النفس الفلاسفة الإمامية؛ يقولون: الإدراك ظاهرة تجريدية، وليست ظاهرة مادية، الإدراك ليس صورة فوتوغرافية، الصورة الفوتوغرافية شيء مادي، لماذا؟ لأنه ينطبع على الورق، والورق شيءٌ مادي، أما الصور التي في ذهنك فليست ظاهرة مادية، الصور الذهنية صور تجريدية، لماذا تجريدية؟

لوجهين:

الوجه الأول: أن الإدراك لا ينحصر بعالم المادة، فأنت - أحيانا - تدرك أشياءً ماديةً، وأحيانا تدرك أشياءً غير مادية، لو كان الإدراك مادياً لانحصر بعالم المادة، بينما الإنسان قد يدرك أشياءً غير مادية، مثلاً: قاعدة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، هذه قاعدة عقلية، وليست مادية، مثلاً: الإرادة هي الاختيار أم إعمال القدرة؟ هذا بحث تحليلي عقلي، وليس بحثاً مادياً، إذن هذه البحوث التي لا ترتبط، والتي لا تتقوقع في عالم المادة، إذا أدركها الإنسان وقام بتحليلها؛ فهل يمكن أن نعتبر الإدراك مادياً؟ مع أنه تعلق بأشياء غير مادية، وغير خاضعة لعالم المادة، هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: كل مادي يتغير طبيعياً، فعالم المادة عالم التغير، ومن قوانين عالم المادة: أن كل مادة تخضع للتغير، فإذا نحن نريد أن نعرف الصور التي في أذهاننا مادية أم لا؟ فلنسأل هل الصور التي في أذهاننا تتغير بتغير المادة أم لا تتغير؟ إن كانت تتغير؛ إذن هي مادية، وإن كانت ثابتة؛ إذن هي غير مادية، التغير من سمات المادة، والثبات من سمات الوجودات المجردة، أي التي ليست مادية.

مثلاً؛ لنفترض أن أحد آبائنا ذهب إلى مكة قبل خمسين سنة، فانعكست في ذهنه صورة لمكة، هذا الأب بعد خمسين سنة عندما تسأله: ذهبت إلى مكة؟ يقول لك: نعم، كيف رأيتها؟ يذكر الصورة هي هي، الصورة التي رآها قبل خمسين سنة ما زالت في ذهنه ثابتة ولم تتغير، مع أن مكة تغيرت، ومع أن نفسه - هو - تغير، ومع أن المتصور تغير، لكن الصورة لم تتغير، هو نفسه - كإنسان - تغير، كان طفلاً فأصبح شاباً، أو أصبح كهلاً، أو أصبح شيخاً، مع أنه تغير، ومن الواضح أن الجسم في كل آن يتغير، جسم الإنسان في كل آن يخلع مئات الخلايا، ويلبس مئات الخلايا، فمع أن جسم الإنسان في كل آن يتغير، لكن الصورة التي ترتسم في ذهنك لمكة قبل خمسين سنة تبقى ثابتة في ذهنك لم تتغير.

إذن؛ الصور الذهنية تعني الثبات، والثبات من سمات المجردات، لا من سمات الماديات، لذلك أثبت فلاسفة الإمامية على مستوى علم النفس الفلسفي أن الإدراك ظاهرة مجردة، وليست ظاهرة مادية.

المرحلة الثانية: سر الإنسان.

سؤال يطرحه الفلاسفة وعلماء النفس: ما هو سر الإنسان؟ ما هو السر الذي يجعل الإنسان إنساناً؟ نحن موجودات، والموجودات على أقسام: موجودات حيوانية، موجودات نباتية، موجودات جامدة، فالموجودات مختلفة، والإنسان موجود من الموجودات، ما هو سر هذا الموجود؟ وما هو سر الشخصية الإنسانية؟ وما هو قوام الشخصية الإنسانية؟ هذا سؤال ملح في علم الفلسفة، وفي علم النفس.

ما هو قوام الشخصية الإنسانية التي يتميز بها عن سائر الموجودات؟

عندنا اتجاهانا: الاتجاه المادي، والاتجاه الإسلامي الذي أبدعه علماء الإمامية.

الاتجاه المادي:

يقول: الإنسان قابلٌ وليس بفاعل، ما معنى ”الإنسان قابل وليس بفاعل“؟ يعني الإنسان مادة خام، وعجينة هذه المادة الخام تتشكل عبر التفاعل مع البيئة، ومع المحيط، ومع عالم المادة، إذا تفاعل الإنسان مع العالم الذي حوله، وإذا تفاعل الإنسان مع الطبيعة تشكلت شخصيته، قبل أن يتفاعل مع أي شخصية، شخصية الإنسان تتشكل وتتكون عبر التفاعل مع عالم المادة، فالأصيل هو عالم المادة، وشخصية الإنسان شخصية مستوردة ومستقاة مما حوله من عالم المادة، فهو منفعل لا فاعل، فهو قابل لا فاعل، لأن شخصيته ترتكز على التفاعل مع عالم المادة، فإذا تفاعل مع عالم المادة تشكلت شخصيته.

ما هو سر الشخصية؟

هنا يأتينا ديكارت، يأتينا سارتر، يأتينا ماركس، كل شخص يحلل التفاعل، إلى ماذا يحلل شخصية الإنسان نتيجة التفاعل؟

ديكارت يقول: أنا أفكر، إذن أنا موجود، نتيجة التفاعل مع عالم المادة انطلقت عملية التفكير، الإنسان بالتفكير، وبدون التفكير فليس بإنسانٍ، فسر الشخصية هو «التفكير» [8] .

سارتر يقول: نتيجة تفاعل الإنسان مع عالم المادة؛ اكتسب سرّاً، وهو «الحرية»، تمرُّد الإنسان وعصيانه تُحَرِّره من القيود، وهذه الطاقة - طاقة التحرر - والتمرد هي سر الإنسانية، فالإنسان بهذه الطاقة التمردية، أنا أتمرد، إذن أنا إنسان[9] .

ماركس يقول: نتيجة التفاعل مع عالم المادة؛ سر الشخصية الإنسانية هو «الإنتاج»، الإنسان يعني الإنتاج. الشيوعيون يحللون الأشياء كلها تحليلاً اقتصادياً، يقولون: وسائل الإنتاج، وعلاقات الإنتاج، مفردتان:

المفردة الأولى: وسائل الإنتاج.

يعني علاقة الإنسان مع الطبيعة يسمونها وسائل الإنتاج، وعلاقة الإنسان مع المستثمرين والمستهلكين يسمونها علاقات الإنتاج، ونتيجة هاتين المفردتين: وسائل الإنتاج، وعلاقات الإنتاج، تتشكل شخصية الإنسان، فشخصية الإنسان تتشكل بالعامل الاقتصادي؛ ألا وهو عامل الإنتاج، بل ذهب ماركس إلى أن المحرك للتاريخ هو الاقتصاد، ثورات الأنبياء المحرك لها الاقتصاد، ثورات المصلحين المحرك لها الاقتصاد، فإذا قرأت مسيرة التاريخ وجدت أن المحرك لعجلة التاريخ - كله من يوم نوح إلى يومنا هذا - هو «العوامل الاقتصادية» ليس إلا، فهو يقرأ التاريخ قراءة اقتصادية، فضلاً عن قراءته لشخصية الإنسان[10] .

إذن نستنتج من هذا: أن الاتجاه المادي يرى أن السرَّ والقوام لشخصية الإنسان هو ما يتفاعل به مع عالم المادة، وما يتفاعل به مع عالم المادة إما: ”التفكير“ على رأي ديكارت، أو ”الحرية“ على رأي سارتر، أو ”الإنتاج“ على رأي ماركس.

نأتي إلى الاتجاه الإسلامي: أو بعبارة أخص علماء الإمامية الفلاسفة، ماذا يقولون في هذا المجال؟ ماذا أبدع علماء الإمامية في هذا المجال؟ عندما يريدون أن يجيبوا عن هذا السؤال: ما هو سر الشخصية الإنسانية؟

نذكر هنا ملامح للنظرية التي أبدعها علماء الإمامية وفلاسفتهم في هذا المجال ”مجال سر الشخصية الإنسانية“:

الملمح الأول:

أن الإنسان ليس فقط قابلاً، «لا» الإنسان فاعلٌ، النظرية الإمامية تقول: الإنسان فاعلٌ وقابلٌ، مؤثِّرٌ ومتأثِّرٌ، علاقة الإنسان بعالم المادة علاقة تبادل، ليس الإنسان مادة خام تتأثر بعالم المادة فقط، بل الإنسان صانع لحركة المادة، ومؤثر في حركة المادة، فهو ليس قابلاً، بل هو فاعلٌ أيضاً، ليس متأثِّراً، بل هو مؤثِّرٌ أيضاً، كيف؟

ذكرنا في الليلة السابقة هذا المعنى؛ قلنا لا تستطيع - أنت - أن تخوض أي تجربة ما لم تكن لك مبادئٌ فطريةٌ قبل التجربة، أنت الآن - مثلاً - تقيم تجربة تريد أن تثبت من خلالها أن الحديد يتمدد بالحرارة، الحديد إذا خضع لدرجة معينة من الحرارة يتمدد، لن تستطيع - حتى لو أجريت التجربة مليار مرة - أن تثبت أن الحديد يتمدد إذا تلقى هذه الدرجة من الحرارة، التجربة غير منتجة، لماذا غير منتجة؟ لابد أن تؤمن بمبدئيين فطريين سابقين قبل أن تخوض التجربة، ما هما المبدآن؟

  1. مبدأ العلية.
  2. مبدأ أن النقيضين لا يجتمعان.

مبدأ العلية أن لكل مُسَبَّبٍ سببٌ، التمدد مُسَبَّبٌ، إذن لابد له من سبب، لمّا أقمنا التجربة مليون مرة؛ اكتشفنا أن السبب وراء تمدد الحديد درجة معينة من الحرارة، إذن لو لم نؤمن بمبدأ السببية لما استطعنا أن نقرر أن هذه الظاهرة سبب لهذه الظاهرة.

لو جاءنا شخص وقال: «لا» الحرارة سبب للتمدد، وليست سبباً للتمدد. أيعقل أن تكون الحرارة في وقت واحد هي سببٌ، وهي غير سبب؟ نقول له: «لا»، لماذا؟ لأن النقيضين لا يجتمعان، لأن النفي والإثبات لا يجتمعان، إذن؛ احتجنا إلى مبدأ نؤمن به قبل التجربة، وهو مبدأ أن النقيضين لا يجتمعان.

من هنا يأتي الفكر الإمامي يقول: هذا الإنسان ولد وهو يمتلك معلوماتٍ، ولد وهو يمتلك معارف فطرية، هذه المعارف الفطرية تشكلت مع الإنسان بحركة دينامكية - لا بحركة اكتسابية - [11] ، الإنسان لم يكتسب هذه المعلومات من المادة، هذه المعلومات غرست في فطرة الإنسان منذ ولادته، ووهبت للإنسان منذ ولادته، وتحرك معها الإنسان حركة طبيعية دينامكية، وليست حركة اكتسابية واسترفادية.

إذن؛ الإنسان قبل عالم المادة - يعني قبل أن يتفاعل مع عالم المادة - يحمل معلومات قبلية، وبهذه المعلومات أصبح الإنسان فاعلاً في عالم المادة، ومؤثراً في عالم المادة، وليس مجرد متأثِّر. نعم عالم المادة مُثيرٌ، والإنسان يستجيب للإثارة، اضرب لك مثالاً:

2X2=4، 4X2=8، 8+2=10، هل هذه اكتسبها الإنسان من عالم المادة؟

«لا»؛ الذي اكتسبه من عالم المادة هو الأعداد، طفل علمته أمه هذا العدد 2، هذا العدد 4، هذا العدد 8، هذا العدد 10، ذهن الإنسان بعد أن اكتسب الأعداد، بشكل ديناميكي وبحركة طبيعية هو الذي يقول: 2X2=4، 4X2=8، 8+2=10، فالإنسان اكتسب الأعداد، لكن الرابط بين الأعداد وتشكيل أعداد أخرى يتم لدى الإنسان بحركة ديناميكية طبيعية، وليست اكتسابية، فعالم المادة مثير، والإنسان يستجيب لهذا المثير، لكن الإنسان - في نفس الوقت - هو مؤثرٌ وفاعلٌ في عالم المادة، فعلاقة الإنسان بعالم المادة علاقة التبادل، وليست علاقة التأثر، وليس مجرد مادة خام فقط، «لا» هذا الاتجاه غير صحيح.

الملمح الثاني:

بعد أن تعرفنا على أن علاقة الإنسان بعالم المادة علاقة تبادل، نعرف ما هو السر في شخصية الإنسان؟ السر في شخصية الإنسان ”القدرة على التبادل“، الأخذ والعطاء هو ما يميزه عن الحيوان، والقدرة على الأخذ والعطاء الفكري، والقدرة على التغيير؛ هو ما يميز الإنسان عن سائر الموجودات.

إذن؛ ما يذكره ديكارت، سارتر، ماركس، كله حديثٌ عن ظواهر، هم لا يتحدثون عن السر، بل يتحدثون عن ظواهر، والسر وراء هذه الظواهر كلها، فقبل التفكير هناك سر، قبل الحرية هناك سر، قبل الإنتاج هناك سر، السر هو: القدرة على التغيير، قدرة الإنسان على التغيير هي سر إنسانيته، هي سر شخصيته، هذه القدرة على التغيير لو لم يمتلكها الإنسان لما استطاع أن يفكر، لو لم يمتلكها لما تحرر من القيود، لو لم يمتلكها لما استطاع أن ينتج، فالتفكير، والحرية، والإنتاج، مظاهر لسر الشخصية، وأما سر الشخصية فهو القدرة على التغيير والتبادل، وهذا السر ركز عليه القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[12] ، القدرة الموجودة عند الإنسان على التغيير هي سر إنسانيته، هي سر شخصيته، ويقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً[13] ، ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ[14] ، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ[15] ، قدرة الإنسان على التغيير هي سر إنسانيته، وهي سر شخصيته.

الملمح الثالث:

حركة التاريخ: ما هو المحرك لها؟ وما هو المحرك لعجلة التاريخ؟

هناك نظريات متعددة في علم الاجتماع:

1 - هناك من يرى أن المحرك هو فئة النوابغ، فكل زمن له نوابغ، وهؤلاء النوابغ هم المحركون لعجلة التاريخ[16] .

2 - نظرية أخرى: أن المحرك لعجلة التاريخ العامل الجغرافي، يقولون: المناطق المعتدلة في المناخ تخرج منها كفاءات، أما المناطق التي مناخها متعب، أو مناخ بارد جداً، أو مناخ حار جداً، فلا تتولد منها طاقات، المناطق المعتدلة مناخيا هي المناطق التي تبرز فيها القدرات، والطاقات، والعقول الخلاقة[17] .

3 - نظرية ماركس: العامل الاقتصادي؛ دائما التاريخ صراع، دائما التاريخ حركة معارضة، وحركة مستبدة، دائما العامل الذي يؤجج الصراع هو العامل الاقتصادي[18] .

ونحن بعد أن بينا سر شخصية الإنسان، عرفنا العامل المحرك للتاريخ، العامل المحرك لعجلة التاريخ هو هذه القدرة الفطرية الموجودة في الإنسان، قدرة الإنسان على التغيير هي العامل المحرك لعجلة التاريخ، فلا هو عامل اقتصادي، ولا هو عامل جغرافي، ولا هو عامل النوابغ، هذه كلها عوامل متفرعة طولية، فلولا قدرة الإنسان على التغيير لما أصبح نابغة، ولولا قدرة الإنسان على التغيير لما استفاد من العوامل الجغرافية، ولولا قدرة الإنسان على التغيير لما استطاع أن يستغل العامل الاقتصادي في تغيير حركة التاريخ.

إذن؛ كل النظريات عالجت المسألة معالجةً سطحيةً ولم تقف على الجذر المحرك للتاريخ، وهو هذه الشخصية الفطرية للإنسان، وقدرته على التغيير هي العامل المحرك لعجلة التاريخ، فقد يقود التاريخ أناسٌ غير عباقرة أصلاً، وأحياناً يقود الثورات أناسٌ غير عباقرة، وغير نوابغ أصلاً، كل ذلك ليس له ربط، فأحيانا يكون العامل المحرك لعجلة الثورة عامل ديني، وليس عاملاً اقتصادياً، وكثيرٌ ذلك، مثلاً: زوجة فرعون: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[19] ، سليمان وداوود لم يكونوا فقراء، كانوا أغنياء، ومع ذلك قادوا مشروعاً إصلاحياً تغيرياً، فليست الثورات والإصلاحات دائماً تنطلق من منطلق اقتصادي، «لا» قد تنطلق من منطلق ديني، وقد تنطلق من منطلق ثقافي، وقد تنطلق من منطلق اقتصادي، والذي يجمع هذه المنطلقات كلها هو القدرة الفطرية الموجودة لدى الإنسان، وهي قدرته على التغيير، التي تحدث عنها القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[20] .

المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل الشخصية الإنسانية:

عرفنا سر الشخصية الإنسانية قدرة الإنسان على التغيير، والآن نريد أن نصنف سلوك الإنسان، كيف نصنف سلوكه؟ على أي أساس؟ وعلى أي مقياس نصنف سلوك الإنسان؟

لدينا اتجاهان: اتجاه مادي، واتجاه إسلامي.

الاتجاه المادي:

علم النفس يصنف سلوك الإنسان إلى:

  1. سلوك سوي.
  2. سلوك شاذ[22] .

السلوك الشاذ ينقسم أيضا إلى: عصاب، وذهان، وشخصية سيكوباتية - كما يعبرون - [23] ، ما هو الفرق بين هذه الأصناف؟

الصنف الأول: السلوك الشاذ مرض، يعني - مثلاً - هذا الشخص دائماً كذاب، لا يصدق يوماً من الأيام، هذا مريضٌ بمرض الكذب، ذاك مصاب بسلوك شاذ ”التكبر“، آخر مصاب بسلوك شاذ ”ظلم الآخرين“، هذا السلوك الشاذ أحياناً يصبح عُصَاباً، ماذا يعني ”عُصاب“؟

قد يمارس الإنسان أحياناً السلوك الشاذ وهو يعي أنه سلوكٌ شاذٌّ، فيمارسه وهو متوترٌ مضطربٌ، كما ترى الإنسان يرتكب المعصية وهو يعلم أنها معصية، فيمارس المعصية وهو مضطربٌ ومتوترٌ، لأنه يعرف أنها معصية، ويعي مخاطرها، لكنه يمارسها لغلبةالنفس، ولغلبة الشهوة، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ[24] ، هذه الحالة تسمى ”عُصاباً“، أن تمارس الشيء وأنت تعي مخاطره[25] .

الصنف الثاني: الذُّهان: يصاب به من يمارس السلوك الشاذ وهو لا يعي مخاطره، ولا يعي آثاره، هناك بعض المتكبرين لا يعلم أنه متكبر، التكبر ما هو مبدؤه؟ ورد عن الإمام الصادق : ”مَا مِنْ رَجُلٍ تَكَبَّرَ أَوْ تَجَبَّرَ إِلَّا لِذِلَّةٍ وَجَدَهَا فِي نَفْسِه“ [26]  يعني المتكبر يعيش عقدة نقص، يغطي عقدة النقص بماذا؟ بالتعالي والتكبر على الآخرين، هذا المتكبر أحياناُ يعي، وأحياناً تطغى عليه عقدة النقص، فلا يبصر ولا يعي، ويعيش حياته متكبراً، هذا مصاب «بمرض الذُّهان» [27] .

الصنف الثالث: الشخصية السيكوباتية: وهي الشخصية المرتجلة التي لا تدرس المواقف، ولا تعيش حس المسؤولية، الإنسان الذي ليس عنده إحساس بالمسؤولية، دائما ينفعل ويرتجل، هذه شخصية سيكوباتية[28] .

هذا تصنيف السلوك الشاذ لدى علماء النفس.

الاتجاه الإسلامي:

علماء الإمامية عندهم إبداعات في هذا المجال، نحن نتعرض لذلك بشكل عام. علماء الإمامية يقولون: تصنيف السلوك لا ينحصر منطلقه في الأسس النفسية، علماء النفس صنفوا السلوك على أسس نفسية، هذا الإنسان طبعه - مثلاً - النقص، فيعيش التكبر، هذا الإنسان طبعه العجلة، فيعيش شخصية سيكوباتية، هذا الإنسان طبعه الاسترسال وراء شهوته، فيعيش مرضاً عُصاباً.

إذن؛ هم قسموا السلوك وصنفوه على أسس نفسية، لكن هذا التصنيف ليس صحيحاً.

يجب أن يكون التصنيف على أسس نفسية، وأسس فكرية أيضاً. الخلفية الثقافية التي يحملها الإنسان قد تؤثر على سلوكه، ليس دائماُ المنطلق لسلوكٍ ما منطلق نفسي، قد يكون المنطلق للسلوك منطلق فكري، وما دام السلوك قد ينطلق من منطلق نفسي، وقد ينطلق من منطلق فكري، فيجب أن يكون تصنيف السلوك مبنياً على كلا العنصرين: العنصر النفسي، والعنصر الفكري، لا خصوص العنصر النفسي.

من هنا نجد أن علماء الإمامية يقولون: التصنيف للسلوك يبتني على المزج بين العنصر الفكري، والعنصر النفسي، لاحظوا القرآن الكريم يعبر عن الانحراف أو الشذوذ الجنسي بأنه مرض: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض[29] ، الإنسان الذي لديه انهيارٌ جنسيٌّ يعيش مرضاً، وأحيانا القرآن يعبر عن النفاق بأنه مرض: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً[30] ، النفاق ليس مشكلةً نفسيةً، النفاق هو مشكلة فكرية، المنافق يعيش تذبذباً فكرياً بين خطين، بين تيارين، المنافق يعيش ازدواجية فكرية بين منهجين، لا يعيش مشكلة نفسية، فقد يكون هذا المنافق في نفسه إنساناً رضياً هادئاً، لكنه يعيش مشكلة فكرية ”تذبذب“، ومع ذلك عبر عنه القرآن بأنه مرض.

أيضاً عندما ترجع إلى ما ورد عن أمير المؤمنين علي : ”بُنِيَ الْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: الْفِسْقِ، والْغُلُوِّ، والشَّكِّ، والشُّبْهَةِ“ [31]  تأتي إلى الفسق: ”والْفِسْقُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الْجَفَاءِ، والْعَمَى، والْغَفْلَةِ، والْعُتُوِّ“ [32] ، فالإمام علي يمزج بين العناصر الفكرية، والعناصر النفسية، الفسق له منشأ نفسي: وهو الاسترسال وراء الشهوة، لكن من دوافع الفسق أن يكون لدى الإنسان وسوسة فكرية، يعني المنطلق للفسق أحياناً منطلق فكري، فالكفر نفسه الكفر، مع أنه مشكلة فكرية وليست مشكلة نفسية، لكن الإمام يجعل من دوافعه بعض الدوافع النفسية: الشك والشبهة.

إذن؛ نلاحظ أن الإمام علي في هذه المقالة مزج بين العناصر النفسية، والعناصر الفكرية، ليبين لنا أن التصنيف الصحيح لسلوك الإنسان ما يبتني على المزج بين هذين العنصرين[33] .

ولذلك على ممر التاريخ؛ ترى أناساً منطلقاتهم نفسية، وترى أناساً منطلقاتهم فكرية، أناس دخلوا الإسلام لأن الإسلام سوف يريحهم، وأناس دخلوا الإسلام لأن الإسلام طابق قناعتهم الفكرية، مثلاً: عمر ابن سعد انطلق من منطلق نفسي، استرسل وراء شهوته، ووراء غريزته، مع أنه يعلم خطأ الطريق، وخطأ المنهج، لكنه انطلق من منطلق نفسي، بينما الحر ابن يزيد الرياحي انطلق من منطلق فكري، لعلَّ الحر أحب أن يعيش وأن يبقى حياً، لكنه صارع حبه للحياة، وصارع رغبته في البقاء، وصارع شهوته، وانطلق من منطلق فكري محض، وهو قناعته بأن طريق الحسين هو طريق الفوز، هو طريق النجاح، هو طريق الآخرة، «ولكن أخير نفسي بين الجنة والنار والله لا أختار على الجنة شيئا أبدا» [34] .

إذن؛ هذا منطلق فكري، وذاك منطلق نفسي، وهكذا الحسين ، عندما تقرأ خطاباته تجدها كلها تتحدث عن منطلقات فكرية، وليس مسألة نفسية، فلا تجد عبارات ك: أحب أن أموت، وأحب أن أقتل، «لا» المسألة مسألة فكرية، المسألة مسألة منهج، المسألة مسألة مبادئ: «ألا وإن الدعيَّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: السلة، والذلة، وهيهات منا الذلة»، لماذا هيهات؟، «يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، ونفوس أبية، وأنوف حمية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام» [35] ، المسألة مسألة فكرية، وعندما عرضت عليه بيعة يزيد بن معاوية قال: «نحن أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ويزيد فاسق، شارب الخمر، وقاتل النفس، ومثلي لا يبايع لمثله» [36] ، بيعتي له إذلال للدين والله يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[37] .

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين،،

[1]  سورة العنكبوت، آية 43.
[2]  التدريب على التفكير الإبداعي، د. منصور القطري، ص41.
[3]  المصدر السابق، ص43.
[4]  الإبداع الجاد، إدوارد دي بونو، ص319 - 320.
[5]  فلسفتنا، السيد الشهيد محمد باقر الصدر «ره»، ص374.
[6]  المصدر السابق، ص375.
[7]  المصدر السابق، ص377.
[8]  فلسفة ديكارت ومنهجه، د. مهدي فضل الله، ص92.
[9]  الوجودية مذهب إنساني، سارتر، ص57 - 58.
[10]  اقتصادنا، السيد الشهيد محمد باقر الصدر «ره»، ص21 - 23.
[11]  فلسفتنا، السيد الشهيد محمد باقر الصدر «ره»، ص63.
[12]  سورة الرعد، آية 11.
[13]  سورة الإنسان، آية 3.
[14]  سورة الكهف، آية 29.
[15]  سورة البقرة، آية 256.
[16]  التغيير الاجتماعي، أ. د. محجوب عطية الفائدي، ص37.
[17]  المصدر السابق، ص65 - ص66. وكذلك يراجع: مقدمة ابن خلدون، الباب الأول، المقدمة الثالثة.
[18]  المصدر السابق، ص46 - ص49.
[19]  سورة التحريم، آية 11.
[20]  سورة الرعد، آية 11.
[21]  سورة يوسف، آية 53.
[22]  الإسلام وعلم النفس، الدكتورمحمود البستاني، ص102 - ص103، ويراجع: أصول علم النفس، د. أحمد عزت راجح، ص581 - 582.
[23]  هذا التقسيم حسب المعيار الباثولوجي، وهناك تقسيمات أخرى بمعايير مختلفة، يراجع: أصول علم النفس، د. أحمد عزت راجح، ص582.
[24]  سورة يوسف، آية 53.
[25]  أصول علم النفس، د. أحمد عزت راجح، ص583 - ص584.
[26]  الكافي، الشيخ الكليني، ج2، باب الكبر، ح17.
[27]  أصول علم النفس، د. أحمد عزت راجح، ص593 - ص596.
[28]  أصول علم النفس، د. أحمد عزت راجح، ص582.
[29]  سورة الأحزاب، آية 32.
[30]  سورة البقرة، آية 10.
[31]  الكافي، الشيخ الكليني، ج2، باب دعائم الكفر وشعبه.
[32]  الكافي، الشيخ الكليني، ج2، باب دعائم الكفر وشعبه.
[33]  الإسلام وعلم النفس، الدكتورمحمود البستاني، ص106.
[34]  الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص99.
[35]  مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص40.
[36]  مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص14.
[37]  سورة المنافقون، آية 8.