قراءة في إجابة سماحة السيد منير الخباز

الأستاذ فوزي اليحيى *

قرأت كما قرأ الكثير غيري جواب سماحة السيد منير الخباز حفظه الله على السؤال الموجه له حول مهرجان واحتنا فرحانة. وقد لاحظت خلالها أن سماحته كان حريصا على عدم بخس الفكرة حقها من المدح والإشادة ولكنه في نفس الوقت طالب بضرورة مراعاة الضوابط الشرعية وقام بتوضيحها بشكل مختصر وواضح. وكان المنتظر من إجابة بهذا الوصف وكونها خالية من أي تشخيص لموضوع السؤال أن تظل بعيدة كل البعد عن أي انتقاد لاذع. ولكن كل تلك المواصفات للأسف لم تنقذها من الوقوع فريسة لجملة من الانتقادات لمجرد أن البعض قد رأوا فيها ما لا يريدون وربما ما لم يتوقعون. وقد حاول بعض منظمي ومؤيدي المهرجان تصويرها على أنها بيان للتنديد بما جرى في المهرجان وتبنٍّ للاعتراضات والانتقادات التي انهالت على المهرجان بسبب فقرة الرقص على وجه الخصوص أو أن فيها حكما مسبقا أو متعجلا. ولو رجعنا لهذه الإجابة وأعدنا قراءتها فسوف نرى عدة شواهد تدل على خلوها من أي تشخيص واقتصارها على بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالمهرجان والمطالبة بتطبيقها تطبيقا صحيحا وبكل حرص مع شيء من التوجيه والإرشاد الديني، ومن تلك الشواهد مثلا:

1 - ابتدأ سماحته بمقدمة امتدح فيها الأعمال التي تبرز تراث المجتمع حيث قال ”إن من الأمور الاجتماعية الحسنة إقامة المهرجانات التي تبرز التراث الحضاري للمنطقة، وتساهم في بناء مجتمع متعاون على البر والتقوى“ ولا شك أن هذه المقدمة تصب في صالح القائمين على المهرجان والمؤيدين له، وتعبر عن عدم معارضة سماحته لإقامة هذه المهرجانات بل وتعبر عن ترحيبه بها ولكن بشرط أساسي وهو مراعاة الضوابط الشرعية. وهذا بالتأكيد شيء طبيعي وليس خاص بالمهرجان فكل أمورنا يجب أن تتم بمراعاة الضوابط الشرعية.

2 - قد يعترض أحدهم قائلا طالما أن هذه المراعاة هي من الأمور اللازمة في جميع أمورنا فهي إذن من البديهيات التي لا ينبغي ذكرها لأن ذكرها مع بديهيتها يلمح لمخالفات شرعية سوف تقع ويلمح أيضا لعدم الثقة في القائمين على المهرجان.

وللرد على هذا الإشكال نقول أن التذكير بضوابط أي عمل والتحذير من نتائج الإخلال بها لا يعني اتهام القائمين عليه أو التشكيك في قدراتهم أو التزامهم بل هو على ما جرت عليه العادة عند شروع أي أحد من خواصنا وأعزائنا في القيام بأي عمل يحتاج إلى دقة وحذر باعتبار أن الخطأ فيه مكلف وخطير أو باعتبار اشتماله على أجواء تهيئ لوقوع المخالفات الشرعية عند عدم أخذ الاحتياطات لها. بل أن التذكير والنصح والإرشاد والوصايا ديدن الأنبياء والأوصياء والعلماء ولو تصفحنا التاريخ لوجدناه زاخرا بالوصايا التي لم يحملها أحد على التشكيك بل حتى الباري سبحانه وتعالى يوصي المؤمنين بالتقوى والصبر وعمل الخير وتأدية الأمانات والحكم بالعدل وعدم الخروج عن حدوده جل وعلا وغير ذلك بل يوصي حتى الأنبياء. يقول تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فالتذكير بضرورة مراعاة الضوابط الشرعية لا يعني بأي حال أي اتهام أو تشكيك.

3 - قام سماحته ببيان مختصر لتلك الضوابط الشرعية وفي نقاط محددة وهي بالتأكيد مأخوذة من آراء مراجعنا حفظهم الله تعالى وسوف يتضح ذلك بالتدريج خلال هذه الأسطر المتواضعة.

4 - الضابط الأول الذي ذكره سماحته هو ”عدم الاختلاط بين الجنسين بما يؤدي عادة لتجاوزات شرعية“ وهذا يعني أن سماحته قصد نوعا معينا من الاختلاط وهو الاختلاط الذي يؤدي عادة لتجاوزات شرعية وليس أي اختلاط. وهذا ما يذكره المراجع في فتاواهم ومثالا على ذلك تلك الفتوى الواردة في موقع سماحة السيد السيستاني حفظه الله والتي تجيب على حكم اختلاط الرجال بالنساء في مجال العمل والدراسة فجاءت الإجابة: ”لا يجوز إذا كان يؤدي إلى الإخلال بشيء مما هو وظيفة المرأة تجاه الرجل الأجنبي من جهة رعاية التستر والعفاف وغيرهما“. فإذا كان هذا في العمل والدراسة فما هو الحال في الرحلات والمهرجانات؟ فهذا الضابط إذن ضابط شرعي وضروري ولابد من التذكير به والحث على الالتزام به وهو لا يعدو عن كونه حكما شرعيا بعيدا عن أي تشخيص ومطابقا لرأي المراجع حفظهم الله.

5 - الضابط الثاني جاء في قوله: ”ومنها أنه يحرم على الرجل وعلى الفتاة البالغة الاشتراك في ما هو المتعارف في مجالس اللهو من الرقص أمام الرجال، أو مع الرجال، سواءً كان رقصاً مثيراً، أم استعراضياً، وضم الموسيقى اللهوية له محرم آخر أيضاً.“ وكما هو واضح في هذه النقطة فإن سماحته قد اقتصر على ذكر الحكم دون أي تشخيص فلم يقل أن ما حدث كان موافقا أو مخالفا للضوابط الشرعية ولم يقل أن الفتيات المشاركات كن صغيرات أو مكلفات.

ومن الجميل في هذه النقطة أن سماحته حرص على بيان أن الرقص محرم سواء كان مثيرا أم استعراضيا ليسد الباب على من يريد أن يخفف الأمر باستبدال كلمة «رقص» ب «حركات استعراضية» أو فلكلورية أو ما شابه ذلك وبيان أن كل ذلك حرام.

6 - في النقطة الثالثة من الضوابط قال سماحته ”كما يحرم على البالغين رجالًا أو نساءً، من الآباء، أو المسؤولين في المهرجان، تحقيق وتفعيل رقص الفتيات البالغات سن التمييز مثل سن السادسة، وإن لم يبلغن سن التكليف، فإن رقص الفتاة المميزة أمام الرجال، أو مع الرجال، بأي نوع من الرقص مبغوض شرعاً، فيحرم تحقيقه على من بيده القرار فيه“.

وهذه النقطة من أهم النقاط التي أوردها سماحته لأنها لفتت النظر إلى أن الشرع قد أعطى الطفل المميز أحكاما لها خصوصيتها بوصفه يعيش مرحلة بين مرحلتين إن صح التعبير فكونه غير مكلف لا يعني جواز التعامل معه بدون أي ضوابط شرعية والسماح له بفعل كل شيء بحجة أنه لم يبلغ سن التكليف ومن ذلك حرمة تمكين الفتاة المميزة من الرقص أمام الرجال بحجة أنها لم تبلغ تسع سنين وغير مكلفة. كما بين سماحته أن التحريم هنا متعلق بالبالغين رجالا ونساء، آباء ومسؤولين أي على من بيده القرار. فهم المسؤولون والمحاسبون إن قاموا بتمكين البنات المميزات من الرقص والاستعراض أمام الرجال مما يعني أن المخالفة الشرعية ستكون موجودة في المهرجان إن لم تكن على الأطفال فهي على من بيدهم القرار. وهذا إن وقع فعلا فهو بالتأكيد يكفي ليكون سببا لانتقاد ورفض هذا المهرجان.

ولتقريب المعنى في مسألة تمكين القاصر من عمل القبيح والمحرَّم دعونا نسأل أنفسنا هل يجوز لنا نحن الآباء أن نمكن أطفالنا القصر من فعل كل ما هو محرَّم كالسرقة مثلا بحجة أنهم غير مكلفين؟ لماذا لا نقول أن الطفل القاصر بما أنه غير مكلف فلا بأس بأن نعلمه وندربه على السرقة ونتركه يمارسها ثم إذا بلغ سن التكليف نأمره بالترك؟ فالأمر نفسه بالنسبة للرقص. فالمسألة إذن متعلقة بتربية وإعداد الأطفال إعدادا تربويا سليما متوافقا مع ما يريده الشرع منذ نعومة أظافرهم وأما تركهم يمارسون المخالفات حتى سن البلوغ فهذه نظرة تربوية خاطئة جدا ومخالفة للشرع الشريف.

7 - في هذه النقطة نشير إلى مسألة مهمة وهي أن عدم بلوغ سن التكليف لا يعني بالضرورة الإعفاء من أداء الحقوق ولا يعني الإعفاء من الالتزام بما يقرره الشرع من أمر ونهي. فنحن جميعا نقرأ هذه الرواية عن النبي «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر» كما ويفتي السيد السيستاني دام ظله بهذه الفتوى ”الظاهر عدم اشتراط البلوغ والعقل في ثبوت الخمس في جميع ما يتعلق به الخمس من أرباح المكاسب والكنز، والغوص، والمعدن، والحلال المختلط بالحرام فيجب على الولي إخراجه من مال الصبي والمجنون، وإن لم يخرج فيجب عليهما الإخراج بعد البلوغ والإفاقة“ فعدم البلوغ هنا لم يلغ وجوب إخراج الخمس. فلا داع إذن أن نردد بأن البنات إذا لم يبلغن سن التكليف فلا بأس بأن يرقصن أمام الرجال وأن مراجعنا قد حددوا سن تكليف البنت بتسع سنوات ونتمسك بها كحجة بالغة لتبرير ما تم من رقص وغناء.

8 - بعد أن ذكر سماحته تلك الضوابط تطرق إلى أمور مهمة تتعلق بواجب الآباء والمجتمع في تربية الأطفال تربية بعيدة عن الشبهات وتتفق مع سيرة المتشرعة ومع القيم السامية للمجتمع ما يجعله في مأمن من الانزلاق في المخاطر. حيث أبدى خشيته من تحول التجاوزات التي نسمح بممارستها الآن ونتسامح فيها إلى مفتاح لتجاوزات شرعية أكبر في المستقبل. وقد يظن البعض أن سماحة السيد استند في كلامه هذا إلى قاعدة «سد الذرائع» التي يعارضها ويرفضها فقهاؤنا وهذا الظن ليس في محله البتة لأن قاعدة سد الذرائع تتعلق بأمور قد أباحها الشرع فنأتي نحن لننهى عنها ونحرمها خوفا من الوقوع في المحرمات والمفاسد التي قد تتبعها. فهي إذن بحسب ما يعبر عنها البعض «منع ما يجوز لمنع وقوع ما لا يجوز» أو «منع وتحريم المباح لمنع وقوع المحرم المتوقع ترتبه عليه».

وما قام به سماحة السيد مختلف تماما عن هذا المعنى فهو لم ينه عن المباح ولم يحرمه خوفا من الوقوع في الحرام أو في أي مفسدة، وإنما نهى عن أمور قد نهى الشرع عنها فعلا وهذا واضح في الضوابط التي ذكرها فكلها أحكام نص عليها الفقهاء في فتاواهم ومن ثم حذر من النتائج الفاسدة التي سوف تترتب على عدم الالتزام بتلك الضوابط. ومن المفيد هنا التذكير بما هو مشهور لدى العلماء وغير العلماء من أن الأحكام الشرعية إنما وضعها الشرع تبعا للمصالح والمفاسد ولم يضعها هكذا اعتباطا. وبناء على ذلك فإن من الطبيعي التحذير من المحرمات ومن الشبهات وحتى المكروهات لمنع الوقوع في المفاسد التي تتبعها وليس في ذلك أي ارتباط بقاعدة سد الذرائع.

وقد يكون من المفيد أيضا أن نذكر إحدى الفتاوى المنسوبة للسيد السيستاني دام ظله في أحد المواقع والتي كانت تجيب على سؤال يتعلق بعمل الرجل في مكان توجد به كثيرٌ من النساء السافرات المتبرجات اللاتي لا يرتدين اللباس المحتشم فجاءت الفتوى كما يلي ”لا يجوز البقاء في هذا المكان إذا كان يستلزم الحرام كالنظر بتلذذ أو المضاحكة معهن فضلاً عن الابتلاء بأكثر من ذلك ثم أضاف سماحته بل لا يجوز مع احتمال الانجرار إلى الحرام“ فلنتأمل الجزء الأخير من الفتوى ونسأل هل سماحة المرجع دام ظله اعتمد هنا على قاعدة سد الذرائع حينما ربط عدم الجواز باحتمال الوقوع في الحرام والانجرار إليه؟ ما أردت قوله هو أننا لا نستطيع القول بأننا إذا قمنا بربط التحريم باحتمال حدوث المفاسد يعني بالضرورة أننا عملنا بقاعدة سد الذرائع فهذا غير صحيح وفتوى السيد السيستاني حفظه الله خير دليل على ذلك لأنه قطعا لم يعتمد في فتواه على هذه القاعدة.

لقد كانت إجابة سماحة السيد منير حفظه الله إجابة جامعة أوضح فيها الحكم الشرعي لكثير من الأمور المتعلقة بالمهرجان وحذر من الوقوع في الحرام وحذر من نتائجه ولم يغفل عن الإشادة بإقامة المهرجانات التي تبرز التراث الحضاري للمنطقة طالما التزمت بالضوابط الشرعية مع بيانها بشكل مختصر ومفيد وبعيدا عن أي تشخيص ذاتي فلماذا يحاول البعض توجيهها إلى اتجاه آخر؟

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ابو علي
[ الفطيف ]: 21 / 10 / 2014م - 12:31 م
بوركتم استاذ فوزي على هذا المقال الجميل