تفسير سورة الفاتحة 3

تحرير المحاضرات

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

وصل بنا البحث في آية البسملة - وهي قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - إلى البحث حول مدلوليّ هذين الوصفين، وهما: الرّحمن الرّحيم، بقيت عدّة نقاطٍ لابدّ من البحث فيها في وصفيّ الرّحمن الرّحيم:

النقطة الأولى: ما هو الوجه وما هو السّرّ في تقديم كلمة الرّحمن على كلمة الرّحيم؟

لماذا لم تكن الآية: «بسم الله الرّحيم الرّحمن»؟ لماذا قدّم وصفُ الرّحمن على وصف الرّحيم؟

هنا وجوه ثلاثة لبيان السّرّ في تقديم كلمة الرّحمن على الرّحيم:

الوجه الأوّل: ما ذكره السّيّد الإمام الخميني قدّس سرّه في كتابه «الآداب المعنويّة للصّلاة» من أنّ الوجه في تقديم الرّحمن على الرّحيم بيان تقدّم الرّحمة المحيطة بالرّحمة المحاطة.

1/ الرّحمة الرّحمانيّة «وهي مدلول كلمة الرّحمن»:

الرّحمة الرّحمانيّة هي عبارة عن إفاضة الوجود على جميع هذا الكون، فجميع هذا الكون من أصغر ذرّة إلى أعظم مجرّة هو مظاهر للرّحمة الرّحمانيّة، فالرّحمة الرّحمانيّة محيطة بهذا الوجود كله لأنّها عبارة عن الإفاضة والعطاء الشّامل لهذا الكون ولهذا الوجود بأسره.

2/ أمّا الرّحمة الرّحيميّة «التي هي مدلول قوله تعالى: ﴿الرَّحِيمِ»:

الرّحمة الرّحيميّة هي عبارة عن الهداية التي خصّ اللهُ بها المؤمنين والمتعطشين لرحمته تبارك وتعالى، والذين قال فيهم تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [2] ، فإذن الرّحمة الرّحيميّة رحمة خاصّة وعناية خاصّة بالمؤمنين المتطلعين والمتعطشين والظامئين إلى رحمته تبارك وتعالى وفيضه وعطائه.

فالرّحمة الأولى تشمل جميع الوجود، والرّحمة الثانية عناية وامتنانٌ ورشحاتٌ خاصّة بالمؤمنين، إذن الرّحمة الأولى محيطة بالرّحمة الثانية، الرّحمة الثانية مستندة للرّحمة الأولى ومستمدّة من الرّحمة الأولى ومستقاة من الرّحمة الأولى، لذلك الرّحمة الأولى محيطة بتمام أنواع الرّحمة، ومنها رحمة الهداية، والرّحمة الثانية محاطة ومستمدَّة من الرّحمة الأولى، فلأجل بيان أنّ هذه الرّحمة هي المحيط وتلك الرّحمة هي المحاط قدّم وصف الرّحمن على الرّحيم، هذا هو الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: يمكن لنا أنْ نقول بأنّ آية ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تعني مراتب التجلي لله تبارك وتعالى، ذكر علماء العرفان أنّ لله تبارك وتعالى تجلياتٍ أربعة:

1 - تجلي ذاته لذاته: هذا التجلي لا ينكشف لأحدٍ من مخلوقاته، لا نبي ولا رسول ولا وصيّ ولا ولي، تجلي ذاته لذاته هذا التجلي يختصّ به تبارك وتعالى.

2 - التجلي الآخر: تجليه في عالم الأسماء والصّفات.

تجليه بالعالم القادر الحي القيّوم العليم الحكيم السّميع البصير الرّحيم.. إلى آخر أسمائه وصفاته، التجلي في عالم الأسماء والصّفات هذه المرتبة الثانية من مراتب التجلي.

3 - المرتبة الثالثة: تجليه بالوجود.

بما أنّه أفاض الوجودَ كانت إفاضته للوجود تجليًا من تجلياته وظهورًا من ظهوراته تبارك وتعالى، وهذا هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض [3]  إشارة إلى المرتبة الثالثة، وهي التجلي بإفاضة الوجود.

4 - التجلي الرّابع: تجليه لقلوب المؤمنين.

المرتبة الرّابعة تجليه تبارك وتعالى في قلوب المؤمنين، وظهوره تبارك وتعالى في قلوب المؤمنين، قالوا لأمير المؤمنين عليه السّلام: هل رأيتَ ربّك؟ قال: بلى وكيف أعبد ربًا لم أره؟! ثم استدرك كيلا يُتَوَهَّمُ أنّه رآه رؤية بصريّة، قال: ”لم تره الأبصار بالعيان وإنّما رأته القلوب بحقائق الإيمان“، المرتبة الرّابعة من التجلي تجليه في قلوب المؤمنين كما قال تبارك وتعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ - هذا التجلي الرّابع - وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [4] .

إذن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تشير إلى مراتب التجلي، ﴿بِسْمِ اللَّهِ تشير إلى المرتبتين الأوليين: تجلي ذاته لذاته، وتجليه بأسمائه وصفاته، وكلمة ﴿الرَّحْمَنِ تشير إلى التجلي الثالث، وهو تجليه بالرّحمة الرّحمانيّة التي هي إفاضته للوجود وإعطاؤه نورَ الوجود تبارك وتعالى، و﴿الرَّحِيمِ إشارة إلى المرتبة الرّابعة من مراتب التجلي، وهي تجليه في قلوب المؤمنين كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [5] .

الوجه الثالث في تقديم الرّحمن على الرّحيم: إشارة إلى أنّ الإنسان في مقام قراءة البسملة هو في مقام الدّعاء أيضًا، توضيح ذلك: هنا مطلبان لابدّ من الالتفات إليهما:

المطلب الأوّل:

أنّ الإنسان عندما يقول: ﴿بِسْمِ اللَّهِ يقصد أيّ اسم؟ الله له أسماء متعدّدة، ﴿بِسْمِ اللَّهِ أنا أبتدئ باسم الله أو أستعين باسم الله أو أقرأ القرآن باسم الله، أيّ اسم؟ الله تبارك وتعالى له تسعة وتسعون اسمًا، بأيّ اسم؟ قال: أنا لا أقصد أيّ اسم، أقصد: الرّحمن الرّحيم، باسم الله الذي هو الرّحمن الرّحيم، فكلمة الرّحمن الرّحيم صفة للاسم وليست صفة لله عزّ وجلّ، يعني: أنا أريد أنْ أتسعين وأنْ أبتدئ باسم معيّن من أسماء الله ألا وهو كلمة الرّحمن الرّحيم، ﴿بِسْمِ اللَّهِ - الذي هو، «الذي هو» يعني: الاسم - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لماذا؟

لأنّ الفلاسفة يقولون: «الرّحمن الرّحيم جمع أسماءه كلها على نحو الكثرة في عين الوحدة»، ما معنى ذلك؟

أنا لا يمكن لي أنْ أصل إلى اسم العالم أو اسم القادر أو اسم الحي أو اسم القيّوم، هذه الأسماء أنا لا يمكنني أنْ أصل إليها، أنا لا يمكنني كمخلوق إلا أنْ أصل إلى كلمة الرّحمن الرّحيم، جميع أسمائه تبارك وتعالى ما ظهرت لي إلا من خلال كلمة الرّحمن الرّحيم، علمه ما ظهر لي إلا برحمته، قدرته ما ظهرت لي إلا برحمته، حياته ما ظهرت لي إلا برحمته، جميع أسمائه تبارك وتعالى وصفاته لم تظهر للعبد إلا من خلال الرّحمة، وإلا نحن كيف نتعرّف على علمه تبارك وتعالى؟! لو أردنا أنْ نتعرّف على علمه أو قدرته أو حياته أو قيمومته أو سمعه أو بصره أو حكمته أو أيّ اسم من أسمائه كيف نتعرّف على ذلك؟! لا يوجد أمامنا طريقٌ للتعرّف على أسمائه غير رحمته تبارك وتعالى، رحمته ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [6]  رحمته التي وسعت كلّ شيء أوجدت الوجودَ، أوجدت النظامَ الكوني، أوجدت هذا النظام المعقد المغلق، أوجدت الإنسانَ هذا المخلوق المعقد المغلق، رحمته التي وسعت كلّ شيءٍ هي مظهرٌ لعلمه، هي مظهرٌ لقدرته، هي مظهرٌ لحياته، هي مظهرٌ لسمعه، لبصره، لحكمته.. إذن رحمته اسمٌ جامعٌ لسائر الأسماء، كلمة الرّحمن الرّحيم اسمٌ جامعٌ لكلّ الأسماء ووصفٌ جامعٌ لكلّ الصّفات، جميع أسمائه وصفاته مُنْطوِيَة ومُسْتَبْطَنَة في كلمة الرّحمن الرّحيم، لولا هذا الوصف لما تعرّف الإنسانُ على باقي أسمائه وصفاته، وهذا ما يذكره الفلاسفة: «أسماؤه في رحمته على سبيل الكثرة في عين الوحدة»، جميع أسمائه منطوية في قوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لذلك إذا ابتدأ الإنسانُ البسملة يقول: ﴿بِسْمِ اللَّهِ - لا أيّ اسم - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لأنّ هذا الاسم هو مظهر أسمائه وهو مظهر صفاته، هذا المطلب الأوّل.

المطلب الثاني:

﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هي قراءة قرآن وهي دعاءٌ أيضًا، يعني: أنا في قراءتي للبسملة أحقّق أمرين:

1/ قراءة البسملة.

2/ والدّعاء لله عزّ وجلّ.

الدّعاء الأوّل: بأنْ يجعلني مصداقًا من مصاديق رحمته الرّحمانيّة، كيف أنا أكون مصداقًا من مصاديق رحمته الرّحمانيّة؟ دعني أوضّح لك: ﴿الرَّحْمَنِ يعني اجعلني مظهرًا لرحمانيّتك، اجعلي مصداقًا لرحمانيّتك، كيف يكون العبد مظهرًا ومصداقًا لرحمانيّة الله تبارك وتعالى؟

ذكرنا فيما سبق: الرّحمن إفاضة الوجود، المقصود بالرّحمن هو المفيض للوجود، اجعلني مصدرَ وجودٍ، مصدرَ حياةٍ، اجعلني مصدرًا لإفاضة الوجود والحياة، كيف يكون المخلوق مصدرًا لإفاضة الوجود والحياة؟ كيف أكون أنا العبد سببًا من أسباب الوجود وسببًا من أسباب الحياة؟

لاحظوا هذا الأب سببٌ من أسباب وجود أولاده، ولكنّ المقصود بالوجود هنا الوجود الأتمّ الأكمل، هذا المعلم الذي يربّي الطلبة في المدرسة هو سببٌ من أسباب الوجود لأنّه يفيض العلمَ والمعرفة، والعلمُ والمعرفة من أبرز مصاديق الحياة، حياة العلم والمعرفة أنفس وأغلى من حياة الأبدان وحياة الأشكال وحياة الجمادات، أنا عندما أعطي العلمَ والمعرفة فأنا أعطي حياة، أقدّم حياة، أنا أفيض حياة على هؤلاء الذين يتعطشون ويظمؤون لنور الحياة وومضات الحياة، إذن المعلم في المدرسة سببٌ من أسباب الوجود لأنّه واسطة في إفاضة الحياة العلميّة والمعرفيّة، هذا الطبيب سببٌ من أسباب الوجود لأنّه واسطة في إفاضة الصّحة والبركة والاستمرار بالنسبة للآخرين، إذن «اجعلني مصداقًا لحرمانيّتك» يعني: اجعلني سببًا من أسباب الوجود والعطاء، هذا التاجر بأمواله يفيض العطاءَ على المجتمع، وهذا العالم بعلمه يفيض الحياة على المجتمع، وهذا العابد بعبادته يفيض الحياة الرّوحيّة على المجتمع، وكلٌ من جهةٍ ومن موقعه ومن مقامه يكون سببًا من أسباب الوجود وسببًا من أسباب العطاء، فاجعلني مظهرًا ومصداقًا لرحمانيّتك تباركت وتعاليت.

وأمّا كلمة الرّحيم: اجعلني مظهرًا لرحمتك الرّحيميّة، الرّحمة الرّحيميّة هي الرّحمة المتعلقة بالمؤمنين، اجعلني مظهرًا لرحمتك الخاصّة بالمؤمنين، كيف أكون مظهرًا لرحمتك الخاصّة بالمؤمنين؟

المؤمنون يحتاجون إلى الحنان، يحتاجون إلى الرّأفة، يحتاجون إلى الرّحمة، المؤمن بطبعه ككل إنسان آخر، كلّ إنسان آخر هو في معرض المعصية، هو في معرض الزلل، هو في معرض الخطأ ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [7] ، وكما ورد في الحديث الشّريف: ”المؤمن مُفْتِنٌ توّابٌ“، المؤمن في معرض الزلل، في معرض المعصية، في معرض الخطأ، فإذا زلّ وغلبته نفسه وغلبته شهوته وأخطأ كان هذا المؤمن كي يرجع إلى درب الهداية وكي يرجع إلى أفق النور وكي يرجع إلى ساحة القدس يحتاج إلى الحنان، يحتاج إلى اللطف، يحتاج إلى الرّحمة، إذن وظيفتي أنا كأبٍ، وظيفتي أنا كأخ، وظيفتي أنا كزوج، وظيفتي أنا كداعيةٍ، وظيفتي أنا كمدرّس، وظيفتي أنا كصديق، وظيفتي أنا كجار، وظيفة كلّ شخص من موقعه ومن مقامه أنْ يحنّ على المؤمنين وأنْ يسبغ عليهم رحمته وحنانه ليجذبهم إلى حظيرة الطاعة، ليجذبهم إلى درب الهداية، ليعيدهم إلى أفق الإشعاع وأفق النور الإلهي، إذن «اجعلني مظهرًا من مظاهر رحمتك الرّحيميّة» يعني: اجعل قلبي مفعمًا بالحنان ومملوءًا بطاقة العطف وطاقة الرّحمة على المؤمنين، واجعلني متأسيًا برسولك المصطفى ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [8] .

النقطة الثانية: لماذا اُفْتُتِحَ القرآنُ بوصف الرّحمة؟

أوّل آيةٍ من آيات القرآن: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أوّل آيةٍ من آيات القرآن اُفْتُتِحَت بالرّحمة، لماذا افتتح اللهُ كتابَه وقرآنه بالرّحمة؟ لماذا؟ هذا السّؤال نجيب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل: ما ذكره سيّدنا الخوئي قدّس سرّه في كتابه «البيان في تفسير القرآن»، قال: إنّما افتتح القرآن بالرّحمة ليتحقّق الانسجامُ بين المُفْتَتَح والمُفْتَتَح به، المُفْتَتَح هو كتابُ الرّحمة، القرآن كتاب رحمةٍ، بما أنّ القرآن كتاب رحمةٍ فالمناسب افتتاحه بماذا؟ بوصف الرّحمة؛ كي تتحقّق المناسبة بين المُفْتَتَح والمُفْتَتَح به، لاحظوا مجموعة من الآيات تشير إلى أنّ القرآن كتاب رحمةٍ فكان من المناسب افتتاح القرآن به:

1] ﴿هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [9] .

2] وقال تعالى: ﴿وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [10] .

3] وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ [11] .

4] وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [12] ، إلى غير ذلك من الآيات.

الوجه الثاني الذي يمكن لنا ذكره في المقام أنْ نقول: افتتاح قراءة القرآن بالرّحمة للإشارة إلى أنّ نفس قراءة القرآن هي مصداقٌ من مصاديق الرّحمة، نفس قراءتي للقرآن هي رحمة منه تبارك وتعالى، لولا فيضه عليّ لما وُفقتُ لقراءة القرآن، لولا توفيقه لي لما وفقت لقراءة القرآن، نفس قراءتي للقرآن هي رحمة من رحماته عزّ وجلّ وهي فيضٌ من فيوضاته عزّ وجلّ.

كما ورد أنّ الله تبارك وتعالى قال للنبي موسى عليه وعلى نبينا محمّدٍ وآله السّلام: ”يا موسى اشكرني حقّ شكري - أريدك أنْ تشكرني بمستواي - اشكرني حقّ شكري“، قال: ”كيف أشكرك حقّ شكرك وكلما وصلتُ إلى شكر علمتُ أنّه نعمة منك تستحقّ الشّكر؟! - نفس شكري هو نعمة فيستحقّ الشّكر، أشكرك أيضًا نفس شكري هو نعمة تستحقّ الشّكر - كيف أشكرك حقّ شكرك وكلما وصلتُ إلى شكر علمتُ أنّه نعمة منك تستحقّ الشّكر؟!“ قال: ”الآن شكرتني حقّ شكري حيث علمتَ أنّ ذلك مني“.

إذن ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قراءتي للبسملة وللقرآن هي بنفسها رحمة من الله تبارك وتعالى، وأنا أقرأ القرآن تظللني ملائكة الرّحمة، وأنا أقرأ القرآنَ يرتفع صوتي مع أصوات الملائكة المسبّحين، وأنا أقرأ القرآن - خصوصًا في شهر رمضان - يصل إلى الملائكة صوتي من بين أصوات الأنبياء وأصوات الأولياء وأصوات الأوصياء وأصوات المسبّحين وأصوات العابدين، نفس قراءتي للقرآن تُدْخِلُنِي في أجواء الملائكة والأنبياء والعابدين والمسبّحين، فقراءتي للقرآن هي بنفسها مظهرٌ من مظاهر الرّحمة الإلهيّة.

النقطة الثالثة:

هناك رواية عن الإمام الرضا سلام الله عليه سئل: ما معنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال عليه السّلام: ”معناها: أسِمُ على نفسي بسمةٍ من سمات الله ألا وهي العبادة“ هذه الرّواية تحتاج إلى شرح، الإنسان عندما يريد أنْ يدخل إلى الصّلاة، الإنسان عندما يريد أنْ يدخل إلى العبادة، الصّلاة أو قراءة القرآن، قراءة القرآن أيضًا عبادة، عندما يريد أنْ يدخل إلى العبادة طبيعي نحن ملوّثون بالمعاصي، الإنسان مادام مشغولاً بالدّنيا، مشغولاً بسوقه، مشغولاً بأولاده، مشغولاً بزوجته، مشغولاً بدنياه، مشغولاً بهذه الآفاق الماديّة المترفة، مادام الإنسان مشغولاً بهذه الآفاق فهو من حيث يريد أو لا يريد ملوّثٌ بالمعصية، ملوّثٌ بالأخطاء، ملوّث بالأدران، ملوّث بالرّذائل، فإذا أراد أنْ يعرج - العبادة عروجٌ، العبادة عروجٌ روحيٌ، ”الصّلاة معراج المؤمن“، ”الصّلاة قربان كلّ تقي“ - إذا أراد أنْ يعرج إلى ربّه، إذا أراد أنْ يعرج إلى أفق العبادة، كيف ينتقل من نفس ملوّثةٍ مظلمةٍ سوداءَ إلى نفس مشرقةٍ مضيئةٍ مشعّةٍ؟ هل يمكنه الانتقال على نحو الطفرة «حالاً ينتقل من نفس ملوّثةٍ إلى نفس مشرقةٍ مشعّةٍ»؟!

مستحيلٌ أنْ يطفر الإنسانُ من عالم لعالم مغايِر، إذن لابدّ من التدرّج، لابدّ أنْ ينتقل الإنسانُ من عالم النفس الملوّثة إلى عالم النفس المشرقة بالتدرّج حتى يتخلص شيئًا فشيئًا من رذائل المعصية ويتحلى شيئًا فشيئًا بومضات الطاعة، ينتقل من مرتبة التخلي إلى مرتبة التحلي ثم ينتقل إلى مرتبة العروج إلى ربّه تبارك وتعالى، وحينئذٍ فلابدّ من التدرّج، وكيف يحصل التدرّج؟

إنّما يحصل التدرّج بأنْ يَسِم نفسه بسمات الله، قبل أنْ يدخل إلى العبادة، قبل أنْ يدخل إلى قراءة القرآن أسِمُ نفسي بسمات الله، يعني: أهيّئ نفسي لِأنْ أدخل أجواءَ العبادة، ليست التسمية مجرّد لفظيّة «أقول: بسم الله، وأنا لا أدري ماذا قلتُ»! لا، أسِم نفسي بسمات الله سمة شعوريّة، سمة وجدانيّة، بمعنى أنّني أوقظ وجداني وأنبّه مشاعري وأنبّه فكري وأنبّه عقلي إلى أنْ التفت فأنا سوف أنتقل من التخلي عن الرّذائل إلى التحلي بفضائل العبادة، يا قلبي فلتسم نفسك بسمة العبادة قبل أنْ تنتقل إلى أجواء العبادة.

ولذلك يستحبّ للإنسان قبل البسملة الاستعاذة، لماذا؟

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم لأنّ الاستعاذة تفصله عن عالم التلوّث وتنقله إلى الأفق الصّحّيّ المشرق «أفق العبادة»، إذن الاستعاذة والبسملة هي عبارة عن وسم النفس بسمة العبادة، يعني: إيقاظ النفس، إشعار النفس، تحسيس النفس بأنّكِ وقفتِ موقفَ العبادة والتقوى، كان الحسن الزكيّ سلام الله عليه إذا وقف على باب المسجد اصفرّ لونه وارتدعت فرائصه، وقيل: ما أصابك يا أبا محمّد؟ قال: أتدرون إنّني سأقف بين يدي جبّار الجبابرة وملك الملوك؟! فلابدّ أنْ أعدّ نفسي لهذا الموقف ولابدّ أنْ أهيّئ نفسي لهذه الأجواء.

إذن فبالنتيجة: معنى الرّواية «أسم نفسي بسمات العبادة» يعني: أهيّئ نفسي لكي تنتقل من عالم الرّذيلة إلى عالم الفضيلة، من عالم التلوّث إلى عالم الطاعة والعبادة.

بقي بحثٌ فقهيٌ يتعلق بالبسملة أنا لا أدخل فيه اليوم لأنّ الوقت مضى، وهو: هل البسملة جزءٌ من كلّ سورةٍ «كما ذهب إليه المشهور من علماء الشّيعة ومنهم سيّدنا الخوئي قدّس سرّه» أو ليست جزءًا «كما ذهب إليه المشهور من علماء المسلمين غير الشّيعة وذهب إليه بعضُ علماء الشّيعة أيضًا ومنهم السّيّد الأستاذ السّيّد السّيستاني دام ظله»؟ هذا بحثٌ فقهيٌ له آثار فقهيّة أتحدّث عنها في اليوم القادم إنْ وسع الوقتُ إنْ شاء الله.

اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم، بحقّ الزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسّرّ المستودع فيها يا ربّ العالمين، اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين، أيّد واحرس مراجعنا وعلماءنا، خصوصًا مراجعنا الأعلام في النجف الأشرف، اللهم احرسهم بعينك التي لا تنام، وأيّدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك يا ربّ العالمين، وارحم أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات، وإلى أرواح الجميع بلغ ثوابَ الفاتحة تسبقها الصّلوات.

اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ

[1]  سورة الفاتحة: 1 - 7.
[2]  العنكبوت: 69.
[3]  النور: 35.
[4]  فصلت: 53.
[5]  الأحزاب: 43.
[6]  الأعراف: 156.
[7]  يوسف: 53.
[8]  التوبة: 128.
[9]  الأعراف: 203.
[10]  يونس: 57.
[11]  النحل: 89.
[12]  الإسراء: 82.