تفسير سورة الفاتحة 11

تحرير المحاضرات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

صدق الله العليّ العظيم

كلامنا حول حقيقة العبادة، والحديث حول مفهوم العبادة من خلال عدّة نقاط:

النقطة الأولى: الحديث حول مفهوم العبادة.

العبادة بحسب المصطلح الفقهي تختلف عن مفهومها بحسب المصطلح العرفاني، العبادة مفهومها لدى الفقهاء يختلف عن مفهومها لدى علماء العرفان.

1 - العبادة بحسب المصطلح الفقهي:

تحدّثنا عنه أمس مفصّلاً، وذكرنا أنّ العبادة هي عبارة عن ربط العمل بالله وإضافة العمل إلى الله تبارك وتعالى، فالفقهاء يقسّمون الأعمال إلى:

1. أعمالٍ توصّليّة.

2. وأعمال تعبّديّةٍ.

العمل التوصّلي هو العمل الذي يتحقق الغرضُ منه بمجرّد فعله، مثلاً: دفن الميّت الغرض منه ستر عورته والحفاظ على كرامته، هذا الغرض يتحقق بمجرّد الدّفن، سواءً جيء بالدفن تعبّدًا لله عزّ وجلّ، أو جيء بالدّفن بدوافعَ إنسانيّةٍ، أو جيء بالدّفن لأنّ القانون يأمر بالدّفن، الدّفن عملٌ توصّليٌ يتحقق الهدف منه بمجرّد فعله من دون حاجةٍ إلى قصد التقرّب لله تبارك وتعالى، فالدّفن عملٌ توصّليٌ.

بينما الصّلاة مثلاً، أو الصّيام مثلاً، هذا عملٌ تعبّديٌ، معنى أنّه عملٌ تعبّديٌ يعني أنّ الهدف من الصّلاة والهدف من الصّوم لا يتحقق إذا جيء به بأيّ كيفيةٍ كانت، الهدف من الصّلاة والهدف من الصّوم لا يتحقق إلا إذا جيء بالصّوم مضافًا إلى الله تبارك وتعالى، إلا إذا ربط الإنسانُ صومَه بالله، عملية الرّبط القلبي أنْ يربط الإنسانُ صومَه بالله، أنْ يربط الإنسانُ صيامَه بالله، من دون هذه العملية القلبيّة لا يتحقق الهدف من الصّوم أو الهدف من الصّلاة، إذن الصّلاة والصّوم عملٌ تعبّديٌ، عملٌ عباديٌ.

فالعبادة هي عبارة عن ربط العمل وإضافة العمل لله عزّ وجلّ، هذا هو المصطلح الفقهي.

2 - أمّا المصطلح العرفاني:

علماء العرفان يقولون: العبادة هي عبارة عن التسليم والخضوع المطلق، التسليم والخضوع المطلق هو العبادة، مثلاً: نحن عندما نقرأ قول الإمام الحسين عليه السّلام كما ورد عنه: ”النّاسُ عبيدُ الدّنيا، والدّين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الدّيّانون“، النّاسُ عبيدُ الدّنيا ”ما معنى عبيد الدّنيا؟ يعني: مسلمون لها، خاضعون لها، العبادة هنا بمعنى التسليم والخضوع، استرسال الإنسان مع الدّنيا كيفما تريد، استرسال الإنسان مع الشّهوات ومع الغرائز كيفما توجّهه، استرسال الإنسان مع النوازع الشّيطانيّة التي تسيطر عليه وتتحّكم في سلوكه، استرسال الإنسان واستسلامه لنفسه هذا الاستسلام عبادة للدّنيا، الناس عبيد الدّنيا والدّين مجرّد أذكار ومجرّد كلمات يردّدونها في محاريبهم أو يردّدونها في كلماتهم،“ والدّين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم" فالعبادة هي الاسترسال والاستسلام.

ولذلك ورد في الحديث الشّريف: ”مَنْ أصغى إلى ناطق فقد عبده“ يعني: إذا استسلمت إلى نطق، إذا استسلمت إلى فكرٍ معيّنٍ فأنت قد عبدته، ”مَنْ أصغى إلى ناطق فقد عبده“ الاسترسال والاستسلام لهذا الفكر المعيّن أو لهذه المقالة المعيّنة أو لهذا المنهج المعيّن عبادة، ”مَنْ أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإنْ كان يدعو إلى الله فهو يعبد الله، وإنْ كان يدعو إلى الشّيطان فهو ممّن يعبد الشّيطان“ إذن العبادة بحسب المصطلح العرفاني هي عبارة عن الاستسلام والخضوع المطلق لجهة المعبود، هذه هي النقطة الأولى من حديثنا.

النقطة الثانية: الحاجة إلى العبادة.

نحن عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ الله تبارك وتعالى يذكر في هذه الآية أنّ الهدف والغرض من إيجاد المخلوقين العاقلين من الجنّ والإنس هي العبادة.

ربّما هنا يطرح سؤالٌ: الفاعل عندما يقوم بفعلٍ لغرضٍ معيّنٍ فهو محتاجٌ لهذا الغرض، لولا أنّه محتاجٌ لهذا الغرض لما قام بالفعل، الإنسان عندما يقوم بأيّ فعلٍ لأيّ غرضٍ فهو محتاجٌ لذلك الغرض، يتزوّج بغرض أنْ يشبع مشاعره وعواطفه وبغرض أنْ يكمل شخصيته، لولا حاجته لهذا الغرض لما تزوّج، لولا حاجة الإنسان للغذاء لما تناول الغذاء، لولا حاجة الإنسان إلى الرّزق لما صار مندرجًا في عملٍ أو وظيفةٍ أو تجارةٍ أو أيّ حرفةٍ أخرى، الفعل الذي يصدر لأجل غرضٍ معيّنٍ يقتضي أنّ الفاعل محتاجٌ لذلك الغرض، فالغرض مظهرٌ للحاجة، وإذا كان مظهرًا للحاجة فكيف نوفق بين ذلك وبين قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ؟ غرضي من خلق الجنّ والإنس عبادتي، إذن معناه أنّه محتاجٌ لعبادته، مادام الفعل معلّلاً لغرضٍ إذن فالفاعل محتاجٌ لذلك الغرض، كيف نوفق بين ذلك وبين قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ؟ هل يعني هذا أنّه تبارك وتعالى محتاجٌ لغرض العبادة ومحتاجٌ لهدف العبادة ولأجل ذلك جعل العبادة غرضًا وهدفًا لخلقه «لفعله» وهو إفاضة الوجود على الجنّ والإنس؟! هذا هو السّؤال.

الجواب عن ذلك: الغرض مظهرٌ للحكمة وليس مظهرًا للحاجة، لكي أشرح ذلك: كلّ فعلٍ ليس له هدفٌ وغرضٌ عقلائيٌ فهذا الفعل لغوٌ وعبثٌ وليس فعلاً حكيمًا، ترى إنسانًا مثلاً يقفز في الشّارع، تقول له: ما هو غرضك من القفز؟ يقول لك: هكذا وليس لي غرضٌ أبدًا! أقفز وخلاص! لا غرض لي أبدًا! هذا فعلٌ عبث، هذا فعل لغو، كلّ فعلٍ ليس له غرضٌ عقلائيٌ فهو فعلٌ ليس حكيمًا، فهو فعلٌ لغوٌ، لذلك كلّ عاقلٍ لابدّ وأنْ يكون فعله ممّا له غرضٌ عقلائيٌ، إذ لولا الغرض العقلائي لم يكن الفعل حكيمًا ولم يكن الفاعل حكيمًا، إذن فالغرض مظهرٌ للحكمة، وجود الغرض مظهرٌ للحكمة.

الله تبارك وتعالى جعل خلقه للجنّ والإنس منوطًا بغرضٍ معيّنٍ، لماذا؟ لا لأنّه محتاجٌ لهذا الغرض، بل لكي يكون هذا الغرض مظهرًا لحكمته تبارك وتعالى ولكي يخرج الفعل - وهو إيجاد الجنّ والإنس - عن اللغويّة، بيّن لنا الغرض من ذلك من أجل أنْ يكون الفعلُ على طبق الحكمة وعلى مقتضى الحكمة، وأمّا الغرض ليس مظهرًا للحاجة، الغرض مظهرٌ للحكمة، إذ لولاه لكان الفعل لغوًا، وليس مظهرًا للحاجة، لِمَ؟

لأنّ الفاعل على قسمين، هذا ذكرته أنا في بعض المحاضرات، أذكره الآن لربطه بالمطلب، الفاعل على قسمين:

1/ فاعلٌ ناقصٌ.

2/ وفاعلٌ كاملٌ.

الفاعل الناقص مستكملٌ بأغراضه، الإنسان فاعلٌ ناقصٌ، يتزوّج لأجل أنْ يكمّل نفسه، يتغذى لأجل أنْ يكمّل جسمه، مثلاً ينام لأجل أنْ يكمّل راحته، وهكذا.. بما أنّ الإنسان فاعلٌ ناقصٌ إذن هو دائمًا في حالة تكامل، يعني: دائمًا يطلب أغراضًا ويطلب أهدافًا من أجل أنْ يستكمل بها، من أجل أنْ يعوّض بها نقصه.

أمّا الفاعل الكامل فهو غير مستكملٍ بغرضه، هو كاملٌ لا يحتاج إلى شيءٍ، ليس مستكملاً بغرضه، وإنّما غرضه ذاته، ما معنى هذا الكلام؟

هذا عبارة فلسفيّة، مثلاً: الكريم، الإنسان الكريم، إنسانٌ كريمٌ بطبعه يقول له أخوه: أعطني مبلغًا، فيعطيه، يقول له جاره مثلاً: اقضِ حاجتي، يقضي حاجته، يرى إنسانًا محتاجًا إلى شيءٍ فيسعفه، طبعه هو هكذا، طبعه كريمٌ، هذا الإنسان الكريم لو قيل له: ما هو هدفك من الكرم؟ أنت مصدرٌ للكرم فما هو هدفك وما هو غرضك من الكرم؟ يقول: أنا كريمٌ بطبعي فلا أحتاج أنْ أتكامل، يعني: ما أحتاج أنْ أفعل هذه الأعمال حتى أكمّل كرمي، هو كرمي متكاملٌ، أنا إنسانٌ كريمٌ متكاملٌ في كرمي، فأنا لا أحتاج أنْ أقوم بهذه الأعمال لكي أستكمل بها كرمي، كرمي متكاملٌ، إنّما مقتضى طبعي هو الكرم، يعني: ذاتي تفرض عليّ هذا، لأنّ ذاتي كريمة تفرض عليّ الكرم، مقتضى كرم ذاتي كرم فعلي، الكريم في ذاته يفيض الكرمُ من ذاته على أفعاله، فليس لي غرضٌ أستكمل به، غرضي ليس إلا هو ذاتي، يعني: ذاتي كريمة والكريم يفيض الكرمَ، فليس لي غرضٌ وراءَ طبع ذاتي ووراء ما تقتضيه ذاتي ووراءَ ما تدفعني إليه ذاتي، ذاتي هي كرمٌ، ومقتضى الكرم إفاضة الكرم، إذن الفاعل الكامل غرضه ذاته وغير مستكملٍ بأغراضه.

الله تبارك وتعالى غنيٌ مطلقٌ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، الغني المطلق ليس بحاجةٍ إلى أنْ يخلقنا ولا أنْ يرزقنا وليس بحاجةٍ إلى عبادتنا، إذن لماذا خلقنا ولماذا رزقنا ولماذا منحنا هذا الهدف ألا وهو هدف العبادة؟ كلّ ذلك لا لأجل أنْ يستكمل بهذا الغرض، بل لأنّ ذاته تبارك وتعالى هي عين الكمال، الله ذاته هي الكمال، فمقتضى كمال ذاته إفاضة الكمال، بما أنّ ذاته عين الكمال ومحض الكمال فمقتضى كمال ذاته إفاضة الكمال، إفاضة الوجود إفاضة للكمال لأنّ الوجود كمالٌ، إفاضة الهداية إفاضة للكمال لأنّ الهداية كمالٌ، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، أيضًا تحديد هذا الهدف «خلقتُ الخلقَ للعبادة» تحديد هذا الهدف لماذا؟ لأنّ العبادة كمالٌ، كمالٌ روحيٌ، فإفاضة الوجود وإفاضة الهداية وجعل الهدف من الوجود هو العبادة كلّ ذلك يصبّ في إطارٍ واحدٍ وهو إفاضة الكمال وإعطاء الكمال، وإفاضة الكمال لأنّ ذاته تقتضي إفاضة الكمال، لا لأنّه محتاجٌ إلى هذه الإفاضة تبارك وتعالى.

إذن الإنسان محتاجٌ إلى العبادة لأنّه محتاجٌ إلى الكمال، لأنّه محتاجٌ إلى الكمال الرّوحي فهو محتاجٌ إلى العبادة حاجة ماسّة، الإنسان محتاجٌ إلى الأمن، الأمن النفسي، الاستقرار النفسي، الاستقرار النفسي كمالٌ، أنت لا تستطيع أنْ تبدع، مستحيل، لا تستطيع أنْ تبدع في مجال العلم، لا تستطيع أنْ تبدع في مجال التكنولوجيا، لا تستطيع أنْ تبدع في أيّ مجالٍ آخر إلا إذا حصلت على الأمن النفسي والاطمئنان النفسي والاستقرار النفسي، فالأمن والاطمئنان والاستقرار النفسي كمالٌ، هذا الكمال يحصل عليه الإنسانُ عبر العبادة، كيف يحصل عليه الإنسانُ عبر العبادة؟

﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.

﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لا يعيشون قلقًا، لا يعيشون اضطرابًا، لا يعيشون هلعًا، يعيشون استقرارًا واطمئنانًا.

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً.

العبادة تزرع الاطمئنان، العبادة تزرع الاستقرار في النفس، لاحظ بالوجدان: أنت إذا دخلت في الصّلاة بمجرّد أنْ تكبّر تبدأ في الفاتحة يذهب فكرك يمينًا وشمالاً، صح لو لا؟! تسافر، وتذهب، وتذهب إلى السّوق، وتشتري الأغراض، وتلتقي مع فلان، وتناقش فلانًا، وتجادل فلانًا، و... إذا قال الإمام: السلام عليكم ورحمة الله، رجعتَ من السّفر وقضيتَ كلّ الأغراض وكلّ الحاجات، هذا دليلٌ على ماذا؟

علماء النفس يركّزون على هذه النقطة، يقولون: النفس إذا شعرت بالرّاحة والاطمئنان تسافر، طبيعة النفس هكذا، النفس متى شعرت بأجواء الرّاحة، متى أحسّت بأجواء الاطمئنان، متى ما أحسّت بأجواء الأمن فإنّها تعرج، فإنّها تحلق، فإنّها تنطلق يمينًا وشمالاً، طبيعة النفس البشريّة إذا أحسّت بأجواء الرّاحة والاستقرار بدأتَ تحلق وتسافر وتعرج يمينًا وشمالاً، هذه الحالة التي تنتابك في الصّلاة هي مؤشّرٌ على أنّك بمجرّد أنْ تتلبّس بأجواء العبادة يعني: تندرج تحت أجواء الاطمئنان، تحت أجواء الأمن الإلهي، تحت أجواء الاستقرار الإلهي، ولذلك فالنفس تسافر وتحلق وتغرّد يمينًا وشمالاً لأنّها أحسّت بالرّاحة والاستقرار ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.

الإنسان محتاجٌ إلى الأمن النفسي، والعبادة توفر له هذه الحاجة، ولذلك فالإنسان محتاجٌ إلى العبادة حاجة فطريّة داخليّة ذاتيّة لا يستطيع أنْ ينفكّ عنها ولا يستطيع أنْ يتخلص منها، لذلك تلاحظ الآية القرآنيّة ما قالت: ما خلقتُ الجنّ والإنس إلا لأُعْبَد، ما جعلت الأمر بالنسبة لذاته، جعلت الأمر بالنسبة للمخلوقين ﴿مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلا لعبادتهم لأنّهم محتاجون إلى ذلك لا لأنْ أُعْبَد لأنّني محتاجٌ إلى العبادة، نسب العبادة إلى الخلق ولم ينسبها إلى الخالق، ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ولم يقل: إلا لأُعْبَد، أو: إلا لأكون معبودًا، نسب العبادة للخلق لا لذاته لكي يشير إلى أنّ محور الحاجة ومركز الحاجة هم الخلق وليس الخالق تبارك وتعالى.

النقطة الثالثة:

علماء العرفان يقولون: العبادة الحقيقيّة، العبادة التي ليست صوريّة وليست شكليّة، العبادة الملكوتيّة وليست العبادة الملكيّة، العبادة التي يتناغم فيها القلبُ والعقلُ، العبادة التي يتعاطف فيها العقلُ والقلبُ واللسانُ، العبادة الحقيقيّة لها عدّة عناصر لابدّ أنْ نلتفت إليها:

العنصر الأوّل: عنصر الحصر.

أنّ العابد يعيش انحصار العبادة في الله عزّ وجلّ، كيف؟ ما معنى هذا؟ يقولون: مقتضى المالكيّة المطلقة المملوكيّة المطلقة، دعني شرح لك هذا المعنى، يعني الآن الملكيّة الاعتباريّة قابلة للتبعيض وقابلة للشّركة، كيف قابلة للتبعيض وقابلة للشّركة؟

مثلاً لنفترض هذه الأرض مثلاً، أو نفترض العبد بناءً على.. ترى مازال وجود رقيق في الدّنيا، ظاهرة الرّق ما راحت، ظاهرة الرّق مازالت موجودة في بعض الدّول وفي بعض المجتمعات، رقيق: شخصٌ مملوكٌ لشخصٍ آخر، هذا الشّخص المملوك للشّخص الآخر ماذا يملك منه الشّخصُ الآخر؟ ماذا يملك منه؟ يملك منه تصرّفاته الاختياريّة، يعني: بيعه، شراؤه، عمله، حرفته.. يملكها، يملك منه أفعاله، ولا يملك منه غير ذلك، يعني: هل يملك منه نسبه «أنّه ابن فلان» هل يملكها؟! هل يملك منه يوم ولادته؟! هل يملك منه يوم وفاته؟! هل يملك منه مقدار ذكائه؟! هل يملك منه مقدار قوّته؟! كلّ هذه الأمور لا يملكها، يملك منه أفعاله فقط، أمّا أوصافه: كونه ابن فلان، كونه وُلِدَ في اليوم الفلاني، كونه توفي في اليوم الفلاني، كونه يملك درجة معيّنة من الذكاء، كونه يملك درجة معيّنة من القوّة.. هذه الأوصاف لا يملكها، إنّما يملك أفعاله، إذن الملكيّة الاعتباريّة ملكيّة مبعّضة وليست ملكيّة خالصة، يعني: المالك يملك بعضَ المملوك، يملك بعضَ العبد ولا يملك تمام العبد، يملك أفعاله ولا يملك أوصافه، فالملكيّة ملكيّة مبعّضة وليست ملكيّة خالصة.

كما أنّ الملكيّة الاعتباريّة قابلة للشّركة، تلاحظ هذا المملوك قد يكون مشتركًا بين شخصين، اثنان يملكان شخصًا واحدًا، أو ثلاثة، الآن مثلاً إذا مات شخصٌ، مات وعنده عبدٌ يملكه، ينتقل العبدُ إلى أين؟! إلى ورثته، كان يملكه واحدٌ صار يملكه عشرة! إذن ملكيّة العبد ملكيّة قابلة للشّركة، قابلة للتبعيض وقابلة للشّركة.

أمّا الملكيّة الحقيقيّة الحقة لله عزّ وجلّ فهل هي قابلة للتبعيض؟! وهل هي قابلة للشّركة؟! الله يملك العبدَ وأفعالَه وأوصافه وألوانَه وجميعَ شؤونه ومتعلقاته، ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ليس فقط خلقكم، كلّ شيءٍ هو تحت يديه، ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ فمملوكيّة العبد لربه مملوكيّة مطلقة، ليست قابلة للتبعيض وليست قابلة للشّركة، إذن مالكيّة الله مالكيّة مطلقة، مقتضى المالكيّة المطلقة المملوكيّة المطلقة، بما أنّه يملكني ملكًا طلقًا فأنا لابدّ أنْ أسلم نفسي إليه تسليمًا مطلقًا، بما أنّه يملكني ملكًا طلقًا فلابدّ أنْ أرجع نفسي إليه إرجاعًا مطلقًا، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ مقتضى مالكيّته المطلقة أنْ أظهر المملوكيّة المطلقة، ومعنى إظهار المملوكيّة المطلقة يعني أنْ أجعل نفسي صرفًا سلمًا طوعًا له تبارك وتعالى دون غيره، وهذا معنى حصر العبادة والتوجّه والانقطاع فيه تبارك وتعالى.

ولذلك نلاحظ في الآية القرآنيّة الحصر: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ، ما قالت: نعبدك، قالت: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ، تقديم المفعول على الفعل لأجل الدّلالة على الحصر وأنّ العبادة منحصرة فيه، قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ ولم نقل: نعبدك، لكي يدلّ على العنصر الأوّل من عناصر العبادة.

العنصر الثاني من عناصر العبادة: عنصر الحضور.

عبادة بدون حضور مجرّد شكلٍ، صورة، العبادة متقوّمة بالحضور، ما معنى ذلك؟

يقول الفلاسفة: كلّ شيءٍ له دلالة نفسيّة وله دلالة غيريّة إلا المخلوق فإنّ دلالته دلالة غيريّة بالنسبة لخالقه، مثلاً: أنت الآن ترى سيّارة في الشّارع، هذه السّيارة له مدلولان: تارة تنظر إلى السّيّارة من حيث أنّها سيّارة مثلاً كابرس أو مازدة أو فلان، تارة تنظر إلى السّيّارة من أيّ شركةٍ، بأيّ شكلٍ، بأيّ مواصفات، هذه يسمّوها دلالة نفسيّة، نظرتَ إلى نفس السّيّارة، وتارة تنظر إلى السّيّارة بما هي مملوكة لزيد بن أرقم، إذا نظرتَ إلى السّيّارة.. زيد بن أرقم ما ملك سّيّارة، ما عاش في زمن السّيّارات، ولكن من باب المثال، وتارة تنظر إليها بما هي مملوكة لزيدٍ، هذه يسمّوها دلالة غيريّة، يعني: نظرتَ إلى السّيّارة منتسبة لزيدٍ ومضافة لزيد، هذه دلالة غيريّة وليست دلالة نفسيّة.

أمّا المخلوقات فكلّ دلالتها دلالة غيريّة، أي مخلوق تضع إصبعك عليه ترى أنّه ملكٌ محضٌ وفقرٌ محضٌ وربطٌ محضٌ بمن؟ بخالقه عزّ وجلّ، أي مخلوقٍ تضع إصبعك عليه تسأل: في هذا المخلوق حياة، وفيه قدرة، وفيه علمٌ، من أين الحياة؟ ومن أين العلم؟ ومن أين القدرة؟ مِنْ مصدر الحياة والإفاضة والقدرة، إذن أيّ مخلوقٍ تضع يدك عليه فليس له إلا دلالة غيريّة وهي الانتساب إلى خالقه، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

إذن فليس في المخلوقات إلا الدّلالة الغيريّة، إذن هناك حضورٌ مطلقٌ، الله حاضرٌ، حاضرٌ في كلّ شيءٍ، هناك حضورٌ مطلقٌ لله عزّ وجلّ، إذا كان المعبود حاضرًا فليكن العبد حاضرًا، مقتضى حضورِ المعبود حضورُ العابد، مقتضى كون المعبود حاضرًا أنْ يكون العابد حاضرًا أيضًا، فالعبادة متقوّمة بالحضور، كيف يعني متقوّمة بالحضور؟

متقوّمة بأنْ يستشعر القلبُ أنّك أمام الله، أنّك واقفٌ أمامَ الله، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، ما معنى الخشوع؟ الخشوع يعني أنْ يحضر قلبك لأنّ معبودك حاضرٌ، إذا التفتَ إلى أنّ معبودك حاضرٌ يراقبك، يراقب حركاتك، يراقب أذكارك، يراقب أقوالك، بل يراقب نياتك، بل يراقب خواطرك، بل يراقب جميع ما يعتلج ببالك، يراقبك مراقبة تامّة، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، إذا التفتَ إلى أنّ معبودك حاضرٌ إذن لابدّ أنْ يكون قلبك حاضرًا أيضًا، تستشعر حضورَه، أنْ تستشعر رقابته، أنْ تتحسّس حضورَه تبارك وتعالى، وهذا هو الخشوع.

نظر الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه إلى رجلٍ في المسجد يعبث في لحيته فقال: ”لو خشع قلبه لخشعت جوارحه“ لو أنّ القلب يعيش الشّعور بالرّقابة الإلهيّة لرأيتَ هذا الإنسان منحني الرّأس مسبلاً يديه واقفًا وقفة الذليل الخاشع، لأنّ قلبه يعيش الحضور فجوارحه أيضًا تعيش الحضور، ”لو خشع قلبه لخشعت جوارحه“.

إذن لابدّ من الحضور، هذا هو العنصر الثاني في العبادة، ولأجل هذا العنصر رأينا الآيات المباركات في سورة الفاتحة انطلقت من أسلوب الغيبة إلى أسلوب الحضور: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هذا أسلوب غيبة، يعني: يتكلم عن شخصٍ آخر، ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ أسلوب غيبة، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أسلوب غيبة، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أسلوب غيبة، لمّا وصل إلى مرحلة العبادة غيّر الأسلوب من أسلوب الغيبة إلى أسلوب الحضور: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، تغيير الأسلوب من أسلوب الحديث عن شخصٍ آخر إلى أسلوب المخاطبة، تغيير الأسلوب ضمن سورة الفاتحة يسمّى في البلاغة بالالتفات، الالتفات منبّهٌ على العنصر الثاني من عناصر العبادة ألا وهو عنصر الحضور، أنّ العبادة متقوّمة بعنصر الحضور.

العنصر الثالث: إذابة الإنيّة.

بأيّ مقدارٍ يعيش الإنسانُ الأنا؟! بأيّ مقدارٍ؟! بعض الناس تقعد معهم نصف ساعة، كلّ ساعة وقال: أنا! طيّب وإلى متى يعني؟! كلّ ساعةٍ واحدةٍ قال: أنا، أنا رأيي، وأنا اعتقادي، وأنا تصوّري، وأنا قلتُ، وأنا فعلتُ...! إلى متى هذه الأنا؟! الإنسان دائمًا يعيش في الأنا، يعيش في نطاق الأنا، يعيش في أسر الأنا، يعيش في سجن الأنا، يعيش في بيت النفس، علماء العرفان يسمّوه: بيت النفس، بيت النفس سجنٌ، بيت النفس سجنٌ مظلمٌ وقيودٌ ثقيلة وأغلالٌ باهظة، بيت النفس هو بيت الأنا، الإنسان مُسْتَعْبَدٌ ورقٌ محاصَرٌ ببيت الأنا، لماذا آكل؟ لأجل أنا! لماذا أتزوّج؟ لأجل أنا! لماذا أنجب أولادًا؟ لأجل أنا! لماذا أتاجر؟ لأجل أنا! لماذا أتعلم؟ لأجل أنا! إذن أنا أعيش في الأنا منذ طفولتي وإلى أنْ أدخل قبري، أنا أعيش في نطاق الأنا، أنا أعيش في بيت النفس، أنا أعيش في هذا السّجن المظلم وهذا القعر الأسود، فمتى أتحرّر من الأنا؟! متى أنطلق إلى عالم آخر وأقول: أنت، أنت، أنت، ولستُ أنا؟! أنت، متى يكون خطابي مفعمًا ب «أنت» ومتى يكون خطابي مزينًا ب «أنت» فلا أرى إلا أنت ولا أرى أنا؟! متى أنطلق إلى الخطاب إلى أنت؟

بالعبادة، العبادة أنْ تخرج من الإنيّة إلى الإلهيّة، أنْ تخرج من عالم الناسوت إلى عالم اللاهوت، أنْ تخرج من عالم الملك إلى عالم الملكوت، أنْ تخرج إلى أنت، لذلك العبادة متقوّمة بإذابة الإنيّة، أنا ماذا؟! أنا لستُ شيئًا، أنا أحتاج إلى رحمتك وعطفك وحنانك وجميع عفوك وتفضّلك على خلقك، لستُ شيئًا تجاهك، أنت مصدر الرّحمة والعطاء والتفضّل، ولذلك القرآن الكريم يعتبر «أنا» استكبارًا: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، وفي آيةٍ أخرى يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ، ﴿ادْعُونِي يعني: انزع أنت وخاطبني أنا، انزع من نفسك كلمة «أنا» ودَعْ مكانها أنت، ﴿ادْعُونِي يعني: انطلق وتحرّر من الأنا إلى أنت، ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ يعني: إنّ الذين يحافظون على الأنا هم مستكبرون، القرآن يعتبر الأنا استكبارًا، ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ يعني: إنّ الذين يتقوقعون في الأنا هم مستكبرون، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ.

لاحظ الآية المباركة ماذا قالت؟ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ ولم أقل: إياك أعبد، لأنّها لو قالت: إياك أعبد، لكان فيها إشعارًا بالإنيّة، لكان فيها إشعارًا بالنفسيّة، «إياك أعبد» هذا إشعارٌ بالأنا، إشعارٌ بالنفسيّة، إشعارٌ بأنّ له وجودًا كما أنّ لله وجودًا، ولكنّ الآية من أجل إذابة الإنيّة ومن أجل إذابة الاستكبار حوّلت الضّمير إلى ضمير جمع، يعني: أنا في ضمن المليارات التي تعبدك، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ ولستُ أنا ممّن لي فضلٌ أو ممّن لي جهدٌ أو ممّن لي خدمة، لا، أنا ليس لي شيءٌ، لا خدمة ولا جهد ولا فضل، أنا من بين المليارات التي تعبدك، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ليس فقط أنا، جميع المخلوقات من أصغر ذرّة إلى أعظم مجرّة تعبدك وأنا معهم، فلستُ أنا شيئًا منفصلاً عنهم، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

العنصر الرّابع والأخير الذي أردنا بيانه من عناصر العبادة الحقيقيّة ألا وهو عنصر الرّبط الجمعي.

ما معنى الرّبط الجمعي؟ ذكرنا في العنصر الثاني أنّ المُعْتَبَرُ والملاك في العبادة الحقيقيّة عنصر الحضور، عنصر الحضور ماذا يعني؟ عنصر الحضور أنْ تحضر جميع وجودك لا جزء دون جزء، أنْ تُحْضِر قلبك، لسانك، عقلك، جوارحك، جوانحك، جميع قواك، الحضور معناه أنْ تُحْضِرَ جميعَ قواك لله عزّ وجلّ، وكما يعبّر العرفاء: أنْ تحضر قواك الملكيّة وقواك الملكوتيّة، لا يوجد شيء إلا ويحضر، عقلي يفكّر في الله، قلبي يخاف من الله، عيني تنظر إلى رحمة الله، لساني مشغولٌ بذكر الله، مشاعري وأحاسيسي وعواطفي كلها تشتغل بذكر الله عزّ وجلّ، أنا في صلاتي وأنا في عبادتي تعيش جميعُ جوارحي وجميع جوانحي الحضور والاستشعار لرقابة الله عزّ وجلّ، هناك ربط جمعيٌ، ليس فقط أربط لساني بالله، أربط قلبي بالله، أربط عقلي بالله، أربط جوانحي بالله، أربط أحاسيسي بالله، أربط عواطفي بالله، أربط جميع قواي وجميع شؤوني الملكيّة والملكوتيّة أربطها بالله، فتحصل حالة من الرّبط الجمعي، وهذه الحالة من الرّبط الجمعي تعدّ عبادة ليس من لساني بل من قلبي وعقلي وفكري، إذن فأنا حقيقٌ بأنْ أقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ أنا وحدي عالَمٌ لا أحتاج إلى عالَم آخر، أنا بنفسي عالَمٌ.

أتحسب أنّك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

أنا بنفسي عالمٌ، قلبي يعبد، عقلي يعبد، لساني يعبد، جوارحي تعبد، جوانحي تعبد، جميع ذرّات وجودي، جميع مشاعري، جميع أحاسيسي، كلها تشترك في ذكرٍ واحدٍ، كلها تشترك في دعاءٍ واحدٍ، كلها تشترك في ابتهالٍ واحدٍ، جميع أركان وجودي تعبد الله، إذن أنا لستُ واحدًا حتى أقول: إياك أعبد، أنا عالَمٌ فأقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ التعبير بضمير الجمع إشارة إلى أنّ الإنسان عالَمٌ زاخرٌ بالقوى وزاخرٌ بالملكات وزاخرٌ بالعواطف وزاخرٌ بالأحاسيس، وجميع هذه القوى، وجميع هذه الملكات، تعبد الله عزّ وجلّ، إذن ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ بجميع قوانا الظاهريّة والباطنيّة والصّوريّة والواقعيّة.

فإذا توفرت هذه العناصر الأربع: عنصر الحصر، وعنصر - كما ذكرنا - الحضور، وعنصر إذابة الإنيّة «محو الإنيّة»، وعنصر الرّبط الجمعي، إذا اجتمعت هذه العناصر في عبادة الإنسان كانت عبادة حقيقيّة وكانت مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ هذه هي الصّلاة الحقيقيّة، هذه هي الصّلاة التي عبّر عنها تبارك وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، لكي أكون حاضرًا عندك في كلّ ذرّات وجودك وفي كلّ شؤونك ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، إذن ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ.

بقيت مطالب كثيرة في العبادة لا يسع الوقت لبيانها، أقسام العبادة ودوافع هذه الأقسام، فلسفة هذه الأقسام، إذا وَسِعَ الوقتُ في الأيام القادمة أتعرّض لها، إذن الآية المباركة تقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ نسأل الله أنْ نكون من الخاشعين.