في رحاب مناجاة التائبين جـ9

تحرير المحاضرات

«إلهي إن كان قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، إلهي ما أنا بأول من عصاك فتبت عليه، وتعرض لمعروفك فجدت عليه، يامجيب المضطر، ياكاشف الضر، ياعظيم البر، ياعليم بما في السر، ياجميل الستر استشفعت بجودك وكرمك لديك، وتوسلت بحنانك وترحمك إليك، فتقبل فستجب دعائي ولاتخيب فيك رجائي وأقبل توبتي وكفر عني خطيئتي بمنك ورحمتك يا آرحم الراحمين»

في هذه الفقرات الشريفة يبين لنا كيفية المنجاة وآدب الحديث مع المحبوب الأول والأتم آلا وهو الباري تبارك وتعالى.

الفقرة الأولى:

يركز على الوصف بما يليق بالذات «إلهي إن كان قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك». متعلق الشرط صدور الذنب القبيح كأنه قال إلهي إن صدر القبيح مني فأنت مصدر العفو ومصدر التجاوز، كما يقولون هناك مسانخة بين العلة والمعلول كل علة تفيض معلولاً من سنخها ومن جنسها، النار تفيض الحرارة لأن الحرارة من سنخ النار، والبذرة تفيض الثمرة لأن الثمرة من سنخ البذرة، كل علة تعطي معلولاً مسانخاً لها، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

فماذا يليق بي وماذا يليق بك؟

يليق بي الذنب القبيح لأنني بنيت نفسي على النوايا القبيحة وبنيت شخصيتي على التصورات القبيحة والنزعات الشيطانية القبيحة وحين إذاً لايصدر مني إلا الذنب القبيح، وأما أنتَ فذاتك هي عين الخير، فذاتك ياإلهيّ هي محض الخير ومحظ الجوذ ومحظ الكرم، لذلك يليق بك أن يصدر منك ماهو مسانخ لذاتك وماهو مسانخ لمجدك، يصدر منك حسن العفو وحسن التجاوز فمني مايليق بلئمي ومنك مايليق بكرمك.

«إن كان قبح الذنب» من عبدك فإن عبدك قبيح، يصدر منه القبيح ولكن أنت الحسن فيليق أن يصدر منك الحسن، فليحسن العفو من عندك ياكريم. وكان الإمام الحسن الزكي ”سلام الله عليه“ إذا وقف على باب المسجد، وقف وقفة الذليل وقال: «يامحسن قد أتاك المسيء» أنت المحسن وأنا المسيء فتجاوز من قبيح ماعندي بجميل ماعندك ياكريم.

الفقرة الثانية:

التوسل إلى الله تبارك وتعالى بأحب صفتين من صفاته إليه:

1 - صفة الرحمة.

2 - صفة الكرم.

صفة الرحمة: «إلهي ما أنا بأول من عصاك فتبت عليه» أنت مصدر الرحمة وقد سبق العصاة منذ يوم آدم إلى يوماً هذا، ملايين العصاة تجرأو عليك وتجاسروا على مقامك وتمردوا ربوبيتك وآوامرك لكنك لم تتعامل معهم إلا بلغة الرحمة والرأفة، فهل تضرك أن تسعني رحمتك كما وسعتهم رحمتك، رحمتك هذا البحر الفياض الذي وسع المذنبين صغاراً وكباراً لن يضر بهذا البحر أن يسعني برشحة منك ولن يؤثر على رحمتك أن تسع مثلي كما وسعت من قبلي وأن تحتضنني كما إحتضنت من قبلي ما أنا بأول من عصاك فتبت عليه.

صفة الكرم: «وتعرض لمعروفك فجدت عليه»، هناك كثيراً من البشر وقفوا إليك في ضلام الليل وما أجمل الوقوف في ضلام الليل وما ألذ الوقوف أمام الله في ضلام الليل، وقفة الليل هي وقفة إستمطار الرحمة والكرم، وقفة الليل وقفتاً هي إستجلاب للكرم وللجود.

الذين يقفون الليل أمامه تعالى هم مواطن كرمه وموضع جوده، إلهي هناك الكثير ممن هم قبلي وممن هم بعدي من أوليائك ومن أصفيائك ومن أحبائك من وقفوا واستمطروا كرمك فأغدقت عليهم جودك وكرمك، طهرت أرواحهم وأنرتها بنورك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاهديتهم وغمرتهم بنورك فحسبني منهم وإن كنت أقل شئناً وإن كنت شخصاً ملوثاً بالمعاصي لكنني وفدت على الكريم، والكريم يغدق كرمه حتى على من هو مسيء إليه.

مراحل القرب من الله:

القرب من الله له درجات والقرب من الله له مراحل، أهل السلوك إلى الله يضعون مراحل للسلوك إلى الله، مرحلة التخلية، ومرحلة التحلية، ومرحلة التجلية هناك مراحل يسلكها أهل المعرفة وأهل العشق والتعلق بالله تبارك وتعالى:

المرحلة الأولى:

مرحلة التخلية، أنا مضطر أنا الآن أعيش إضطراراً أن تزحزح عني الذنب، الذنب صخرة ثقيلة على صدري وأريد أن تزحزح هذا الذنب، الذنب قطعاً من النار تلسعني وتلذع جوارحي، كل ذنب فهو قطعاً من النار وكل ذنباً فهو حجرة ملتهبتاً نارا، الذنوب أبهضتني والذنوب أحرقتني وأريد أن تزحزح هذة الحجارة الحارة عن صدري، حجارة الذنوب أنا أعيش إضطراراً لزحزة الذنوب، وهذة هي المرحلة الأولى مرحلة التخلية التي قال عنها «يامجيب المضطر» أستصرخك وأستنجدك وأصرخ إليك من عمق إضطراري أن تزحزح الذنب عني فأنقذني يا إلهي «يامجيب المضطر».

المرحلة الثانية:

«ياكاشف الضر» إذا زحزحت الذنب عن صدري فالأضرار التي تأثر بها صدري تحتاج إلى إصلاح، أنت زحزحت الحجارة الحارة عن صدري وعن جسمي ولكن آثارها مازالت على جسمي، رفعت عنيّ الذنوب وأزلت عني الرذائل بقبولك لتوبتي لكن آثار الرذائل وآثار الذنوب مازالت في قلبي، فقدت الأهلية ولجودك وكرمك وثوابك وعطائك لجوار الصالحين من عبادك، فقدان الأهلية أثراً خطير من آثار الذنوب فهذا الضرر أيضاً أن أحتاج أن تكشفه عنيّ.

المرحلة الثالثة:

مرحلة التحلية والتجلية، زحزحت الذنب عني وأزلت آثار الذنوب من قلبي ومن روحي والآن أريد أن تتكرم عليَّ بأن تلحقني من الصالحين من عبادك فؤلائك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قال تعالى: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً، أريد المرحلة الثالثة وأريد أن أكون من أهل التجلية وأريد أن أكون من أهل التحلية، متحلي بالفضائل ومجلى لأنوراك، أنوراك الساطعة والمتساطعة، إجعل قلبي مجلاً لها، هل نحن نصلي صلاة الليل؟

صلاة الليل مجلى الأنوار المتساطعة، الأنسان العبد في صلاة الليل إذا صلى بخشوعاً وخضوع يرى نفسة يزداد نوراً قرباً بعد قرب ونوراً بعد نور وهداية بعد هداية، إجلعني مجلاً لأنوارك كما جعلت الصالحين من عبادك وأحيني حياة محمد وآل محمد وأمتني مماتهم «ياعظيم البر»، أعظم بر أنت تهب ليّ رفقة محمد وآل محمد.

ينتقل علية السلام إلى بيان الحاجة إلى الستر لأجل طغيان الذات فيقول: «ياعليماً بما في السر، ياجميل الستر» لماذا تركز الأدعية على السر وعلى النية؟ قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، يا عليم بما في السر.

يقول أهل العرفان: «طغيان النية أشد من طغيان العمل» نية المعصية أخطر من المعصية، هذة النية التي تلوث النفس وتوسخ القلب أشد خطراً من المعصية نفسها، لماذا؟

لأن هذة النية تجعلك تعود للمعصية مرة آخرى، تارة أفعل المعصية لغلبة الشهوة وغلبة الغريزة، وتارة أفعل المعصية بقصد وعمد وهذا القصد آمراً خطير على النفس، لأن المعصية موجود وصغير ومؤقت ينتهي، المعصية تأخد دقيقة واحدة قد تأخد مني خمس دقائق وقد تأخد مني عشر دقائق لكن قصد المعصية آمراً يبقى في النفس، يبقى حنين إلى المعصية ويبقى ميول نحو المعصية، هذا القصد يتحول إلى أفكار ويتحول إلى خيال ويتحول إلى صور المعصية، وهذة الصور تعود وتعود إلى ذهني، وهذا الخيال يتكرر مرة بعد آخرى ويعطيني حنيناً وميولاً نحو المعصية، فقصد المعصية أشد خطراً من المعصية نفسها.

ولذلك سئل الصادق ”“: لماذا يخلد الكفار في النار؟ ويخلد المؤمنون في الجنة؟ لماذ؟ الكافر ارتكب ذنباً مؤقتاً خمسين سنة في الكفر، سبعين سنة في الكفر، لكن لماذا يجازى بجزاء غير مؤقت؟ الكفر مؤقت فلماذا يكون جزاء الكفر جزاءً غير مؤقت لانهاية له؟ «يا أهل النار خلود ويا أهل الجنة خلود»، فقال ”“: لأن الكافر عزم في نفسة أن لو أبقاه الله إلى الأبد لبقي كافراً، والمؤمن عزم في نفسه لو أن أبقاه الله إلى الأبد بقي مؤمناً.

ذنب الكفر بسيط ومؤقت لكن قصد الكفر كان قصداً دائماً لذلك أن قصد المعصية أشد خطراً من المعصية «ياعليماً بما في السر» أنت تعرف أن قلبي تلوث بقصد المعصية اللذي هو آخطر من المعصية لكننني متوسل بك ومتضرع إليك أن تزيل عني حتى هذا القصد وأن تزيل من قلبي آثار هذا القصد وأن تستر عليّ ستراً حقيقياً، تستر جوارحي وتستر عورتي وتستر حتى مقاصدي ونوايايّ «ياعليماً بما في السر، ياجميل الستر» سترك الجميل الفضفاض يصونني ويصون جوارحي ويصون جوانحي.

«استشفعت بجودك وكرمك لديك، وتوسلت بحنانك وترحمك إليك» أهل العرفان يقولون: تودد بأي شخصاً بما هو أحب إليه، إذا توسلت إلية بما هو أحب إليه ربما يقبل وسيلته، إذا استشفت إليه بما هو أحب إليه ربما يقبل شفاعتك، وأنا يا إلهي أتوسل إليك بأحب الأشياء إليك وأستشفع إليك بأحب الأشياء إليك، أحب الأشياء إليك أنت، أنت جميل وتحب الجمال والجمال ذاتك، وأنت كامل تحب الكمال والكمال ذاتك، وأنت جليل تحب الجلال والجلال ذاتك، أنا استشفعك وأتوسل إليك بأحب شيئاً إليك ألا وهو ذاتك، وذاتك وما يترتب على ذاتك من كرم وجود وحنان ورحمة.

«إلهي استشفعت بكرمك وجودك إليك» لأن كرمك وجودك مظهراً لذاتك وذاتك أحب الأشياء إليك، «وتوسلت بحنانك وترحمك لديك» فأن حناك ورحمتك مظهر ذاتك وذاتك أحب الأشياء إليك فأستجب دعائي.

هذه المنجاة اللتي قرآناها على مدى أيام مناجاة التائبين إستجبها منا «فستجب دعائي ولاتخيب فيك رجائي» مهما صنعت من الذنوب مازلت واثقاً بأنك ستغفر لي ذنبي ومهما إرتكبت من الخطايا مازلت أحسن الظن بأنك ستمحوها مني.

وقد ورد عنه جل جلاله في الحديث القدسي: «أنا عند حسن ظن عبديَّ المؤمن، ماظن بي خيراً إلا كنت كما ظن» وأنا أحسن بك الظن يا إلهيّ، «فستجب دعائي ولا تخيب فيك رجائي وأقبل توبتي» وأقبل توبتي المشفوعة بالألم والمشفوعة بالآهات والحسرات، إقبلها توبتي توبة بكاء وحسرة وآلم وخضوع وخشوع توبتاً كلها رقة وتعلق بك فأقبلها مني، وإذا قبلت توبتي واحتضنتني فكفر عني خطيئتي، هذة الأوساخ ملئت روحي فطهرني منها.

كيف أدخل الجنة؟ هذا المكان الطاهر وأنا ملوث بالأوساخ فأذا قبلت توبتي فكفر خطيئتي أي أزل الأوساخ مني لأكون طاهراً فأستحق الدخول إلى موقع الطاهرين «وأقبل توبتي وكفر عني خطيئتي، بمنك ورحمتك يا آرحم الراحمين».

والحمدلله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين