بحث في مسائل القدر جـ4

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ «2» لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ «3» تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ «4» سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ

الكلام فعلاً في عنونة هذه الليلة المباركة التي تتكرر في كل عام في شهر رمضان المبارك بليلة القدر، ماهو السر في تسميتها بليلة القدر؟

السر في تسميتها بليلة القدر وجوهٌ ثلاثة:

الوجه الأول: أن القدر مأخوذ من الضيق وعدم السعة، كما يقال فلان تكلم بحد بقدره «يعني بحد ما يستطيع»، ليلة القدر مأخوذة من ليلة تضيق فيها الأرض بملائكة الرحمة، نتيجة كثرة الملائكة الذين ينزلون في ليلة القدر من الملائكة الكروبيين والروحانيين والمسبحين وكل شيء.. كملائكة المطر والرياح والحياة والموت، جميع أصناف وأنواع وألوان الملائكة تنزل في هذه الليلة «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ» أي من كل صنف وكل عالم وشأن ولون.

الوجه الثاني: سميت بليلة القدر لأنها ذات قدرٍ وشأنٍ عظيم عند الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى في آية أخرى «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ».

الوجه الثالث: أن سر تسميتها بليلة القدر مأخوذ من التقدير «أي أنها ليلة التقدير»، هذه الليلة ليلة تقدير الأمور كلها، الآية الأخرى، قوله تعالى: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ»، ويفرق فيها كل أمراً حكيم، ما معنى يفرق فيها كل أمراً حكيم؟

ذكرنا سابقاً، أن كل موجود «هذا لا يختص بموجود دون أخر» مادياً يمر بمرحلتين في وجوده «مرحلة الإجمال» وَ «مرحلة التفصيل»، ذكرنا أن البذرة كيف تتحول إلى شجرة، الشجرة كانت موجودة في البذرة، هذه الشجرة العمالقة بأغصانها وأزهارها وثمرها كانت موجودة هذه الشجرة!! لكن كانت موجودة وجود إجمالي «ضمن البذرة»، ما معنى وجود إجمالي «يعني وجود لا حدود له» وجودٌ مبهم!! ثم تحول هذا الوجود المبهم إلى وجود تفصيلي فصارت شجرة.

هذا الإنسان كان موجود في نطفة صغيرة، الإنسان العملاق الذي غزا الفضاء وأنجز وأبدع وبنى الحضارات كان موجود ضمن نطفة صغيرة، حقيرة.

ما بال من أوله نطفة وجيفة آخره يفخر ما لابن آدم والفخر

وإنما أوله نطفة وآخره جيفه أوله نطفة قدرة وآخره جيفة مذرة وهو ما بينهما يحمل العذرة.

هذا الإنسان كان موجوداً، الإنسان الكبير العظيم بوجوداً إجمالي لا محدود ضمن تلك النطفة الحقيرة، إذن الإنسان مر بمرحلتين «مرحلة وجود إجمالي وَ مرحلة وجود تفصيلي».

أيضاً أنا الآن، كل ما عندي قبل أن يظهر كان موجود عندي، أنا الآن أتي إلى المسجد، أصلي وأقراء الدعاء أتكلم مع صديقي.. كل هذه وجودات، فكانت موجودة في شخصيتي قبل أن تبرز لكن كانت موجودة وجود إجمالي لا محدود أصبحت موجودة بوجودٍ تفصيلي محدود وله قيود معينة، كل الموجودات هكذا.

أنا الآن أصبحت طبيب مسيرتي هذه في الطب كانت موجودة في نفسي، كل مسيرتي كانت موجودة، مسيرتي في دراسة الطب وهذه المعلومات التي تحصلت عليها عبر دراستي، كانت موجودة عندي وجود إجمالياً لا محدود بعوامل ومثيرات معينة تحولت إلى وجود تفصيلي وبارز ومتعين، إذن كل موجود يمر بمرحلتين «هذا يعني إحكام التفصيل»، كان محكماً صار مفصلاً، أنا كنت موجود وجود محكم «وجود مجمل» وأصبحت وجود مفصل.

فانتقلت من مرحلة الإحكام إلى مرحلة التفصيل وهذا ما قصدته الآية المباركة «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» هو كان حكيم «يعني محكم» صار مفرق «يعني يفصل ويقدر»، «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ».

حتى القرآن الكريم كما ذكرنا في الأبحاث السابقة هو موجود من الموجودات ومر بمرحلتين «مرحلة إجمال ومرحلة تفصيل»، ولذلك قال تبارك وتعالى: «كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ «يعني كانت موجودة وجود مجمل» ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ»، فإذن، هذه الموجودات التي ستحصل أثناء السنة!! من ليلة القدر هذه إلى ليلة القدر الآتية موجودات كانت مجملة، الله تبارك وتعالى يفصلها، يفرقها، يجعل لها حدود وقيود من هذه الليلة إلى ليلة القدر الآتية، لذلك سميت بليلة القدر، وهذا ما تشير إليه عدت آيات قرآنية.

مثلاً: قوله تعالى «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ» كان مخزون «يعني كان موجود وجود إجمالي» في الخزانة كان «خرج من الخزانة ووضعنا له حدود وأقدار»، «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ» كان مختزنا عندنا وموجوداً في خزائن الغيب «هي مفاتح الغيب» الآية التي نقرأها في صلاة الغفيله «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ»، ليش المقصود بمفاتح الغيب هي المفاتيح لا... المفاتح هي الخزائن، مفاتح جمع مفتح، «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ»، جميع الموجودات من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة «إنسان، حيوان، نبات....» فكانت كلها موجودة في مخازن الغيب وجوداً إجمالياً «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ».

هذه الخزائن تحولت إلى وجودات مادية مفصلة، «وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ» كلها تحولت إلى ألوان وأشكال «إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ»، إذن قال تعالى: «وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ» وقال تبارك وتعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ» ووضعنا له حدود، لا ينتقل من عالم إلى عالم إلا ضمن هذه الحدود.

هنا ينتقل بنا الكلام إلى الكلام والبحث حول التقدير حول القضاء والقدر الذي ترتبط به مسيرة الإنسان وحياته، في عدة أبحاث

البحث الأول: أن الملاحظ للآيات القرآنية قد يتوهم أن الآيات آيات متعارضة، متهافتة، أي أن بعض الآيات تشل إرادة الإنسان في ظاهرها أن لا دخل لإرادة الإنسان.

أنا أمشي على طبق قانون هيئ وأعد قبل خلقي «يعني هناك خارطة» وليس بيدي تغييرها وتبديلها، فبعد وجودي أمشي على تلك الخارطة بعينها من دون قدرة عندي على التبديل أو التغيير أو التحويل، ظاهر بعض الآيات أن إرادة الإنسان لا دخل لها، المسألة انحسمت من قبل وجودك، كيف؟؟

مثلاً: قوله تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا» قبل أن توجد المصيبة هذه كانت موجودة، أمرٌ محسوم، وقال تبارك وتعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»، «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ»، الأمور تعينت، هذا ظاهر بعض الآيات.

ظاهر بعض الآيات الأخرى أن الأمر بيد الإنسان «فليس هناك خارطة قبل وجودنا» نحن نصنع الخارطة وقدرنا ومسيرتنا، فالأمر منوط بإرادتنا، كل قضائنا وقدرنا فهو بإرادتنا، أنا الذي أحدد أن أكون طبيباً أو فقيهاً أو ابتلى بالمرض الفلاني نتيجة لتقصيري وأنا الذي أحدد قدري أن أموت في السن الفلاني، مثلاً: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، الأمر بيدك أنت لا يتغير أو يتغير.

إذا الشعب أراد يوما الحياة فلابد أن يستجيب iiالقدر

ولا بد لليل أن iiينجلي ولابد للقيد أن iiينكسر

ومن لم يعانقه شوق iiالحياة تبخر في جوها iiواندثر

وقال تبارك وتعالى: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» وفي آية أخرى: «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وفي آية رابعة: «مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً، كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً» الجميع يأخذ من العطاء لأنه يريد أن يأخذ من العطاء ومن أراد العاجلة والدنيا نعطيه الدنيا ونهيئ له وسائل الدنيا، ومن أراد الآخرة أيضا نهيئ له وسائل الآخرة، الأمر بإرادته هو، حياته مسيرته منوطه بإرادته، فكيف نجمع بين هذين الصنفين من الآيات؟

الآيات ظاهرها أن لا دخل لها في إرادة الإنسان، وآيات ظاهرها أن المسيرة والقضاء والقدر بإرادة الإنسان، فكيف نجمع بين هذه الآيات؟

وُجد في التاريخ الإسلامي، القدرية والأشاعرة من جهة، والمعتزلة من جهة أخرى، وبدء الخلاف الشاسع بين الفريقين في تفسير هذه الآيات.

وانقسموا إلى فريقين، فريق يقول بالجبر المطلق وَ فريق يقول بالاختيار المطلق، أنا مجبور لا دخل لإرادتي، أنا امشي على خارطة جاهزة، وفريق يقول إرادتي هي التي تتحكم في الأمور كلها.

المجبرة القدرية: يقولون هذه الحادثة، أي حادثة نضع يدنا عليها لنفترض «فلان في الشارع الفلاني دهسته سيارة معينة فمات أو انكسر بدنه» إما تعلق بها مشيئة الله أو لم تتعلق، إذا تعلقت بها مشيئة الله حتماً تحصل «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»، وإن لم تتعلق مشيئة الله فلن تحدث، إذن أين هي إرادة الإنسان؟؟ فالإرادة والاختيار ليس بيد الإنسان.

المعتزلة: أصحاب الإرادة الحرة، الآن كثير من الكتاب الحداثين يقول بمقالة المعتزلة، الإنسان صاحب الإرادة الحرة «الأمر كله بإرادته»، قدره وقضائه ومسيرة حياته بإرادته... يقول هذا الإنسان التي تقول انه تعلقت المشيئة أو لم تتعلق، من الذي دعاه أن يذهب إلى المكان الفلاني فيصيبه الحادث؟!! إرادته «إذن هو الذي اختار» لم يجبره أحد، هو خرج مختاراً مريداً ووصل إلى المكان باختياره فأصابه الحادث، إذن هو الذي صنع موته بإرادته!!

هذا الشخص لأنه أراد أن يوجد في هذا المكان في هذه الساعة بهذا النحو، لأنه أراد ذلك صار قدره ومنيته ذلك فصار هو الذي أراد منيته وصنع موته «الأمر راجع إلى إرادته واختياره»، إذا هذا يرجع لاختياره «إذا الذي يوجد في بطن أمه مريضاً» هل هذا بإختياره؟!! خرج من بطن أمه مصاب بالسكلسل الحاد، بإختياره أيضا؟!! ما هو الحل؟

أما نحن معاشر الإمامية نقول: لا جبر ولا تفويض، ليس عندنا جبر مطلق وليس عندنا اختيارٌ مطلق.

لا نقول بأن الإنسان يمشي على خارطة جاهزة، ولا نقول بأنه صاحب الإرادة الحرة المطلقة، ولكن أمر من أمرين، كيف نحل هذه المسألة؟

عالم الوجود، ينقسم إلى نوعين:

1/ وجود مجرد.

2/ وجود مادي.

الوجود المجرد: كالأرواح والملائكة «التي لا يحده الزمن والمكان» وجوداً خارج عن إطار الزمن والمكان، فالزمان والمكان غطاء ونحن نعيش في غطاء ونحن لا نشعر، كيف هذا الإنسان الذي يدخل ضمن مركبة معينة ويتصرف فيها، هو يضن نفسه ماذا؟ أنه يكتشف هذه المركبة وأدواتها وطريقة عملها، لكن الذي في الخارج ماذا يقول؟ هذا مسجون!! لا يبصر ما وراء الغطاء، محصور في هذه المركبة.

أما أنا الخارج عن هذه المركبة طليق، كل إنسان مادام في عالم المادة فهو في غطاء محصور بحاصرين «حاصر الزمن والمكان» هو يعيش في مكان وزمان.

لأني في عالم الزمن لا أستطيع أن اطلع على ما وراء الزمن لا معرفة لي ما سيحدث بعد ساعة، مثلاً: أنا الآن بس الساعة الثانية والثالثة، أنا محدود، هذا غطاء فأنا محدود بهذا الحد بهذا الزمان لذلك لا أستطيع أن أبصر ما وراء الساعة الثالثة.

وأنا الآن محدود بهذا المكان، بهذا الكرسي، لا أدري ما وراء هذا الجدار، أنا محدود بحدين الزمان والمكان فأنا في غطاء، وإذا جاء ملك الموت إنكشف الغطاء، ذلك اليوم تلك الساعة، لابد أن تأتي هذه الساعة حتماً، يوم من الأيام تأتي تلك اللحظة، تنفصل هذه الروح عن هذا البدن فينكشف الغطاء «فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، «لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا»، في أول لحظة يغمض عينيه من الدنيا يفتح عينيه على الآخرة ينكشف الغطاء، يبصر شيء ما رآه أبداً، مليارات من الأرواح والملائكة والأشباح تسبح في هذا الوجود الذي لا نهاية له، ما هذا العالم الغريب «لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، فصرت تبصر ما وراء الزمن والمكان وما وراء عالم المادة.

لماذا قالت الآية: «لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا» هل يدري حتى صار غافل أو لا يدري؟ بل يدري، الإنسان قبل ما يأتي لهذا الوجود، أين كان؟

كان في وجود إجمالي، هذا الوجود أين كان؟ كل إنسان كان له مقام قبل أن يأتي إلى هذا الوجود يعيش فيه وجود نوري، كان موجودا قبل أن يتصل ببدنه «هي روح» تتصل بالروح فترة وتفارقه هذه الروح كانت موجودة وظيفتها التسبيح والتهليل.

في تلك الفترة، فترة ما قبل البدن خضعت هذه الروح إلى امتحان، كل روح قبل أن تنزل لعالم المادة والدنيا تخضع لإمتحان.

وهناك روحٌ تأخذ 90 درجة، هناك روح تأخذ 100 درجة، هناك روح تأخذ 20 درجة، هناك روح تأخذ درجة واحدة، كلا بحسب طاقتها تبدع في الامتحان أو ترسب في الامتحان، وهناك أرواح بلغوا أعلى درجة من درجات الامتحان ن تقرأ في زيارة فاطمة الزهراء : «يا ممتحنة امتحنك الله، قبل أن يخلقكِ فوجدك لما امتحنك صابرة وزعمنا أن لك أولياء» هذه المرآة خضعت إلى امتحان ولكنها وصلت إلى أعلى درجة من درجات الامتحان، فجاءت إلى الدنيا إلى مسيرة حددتها بنجاحها في ذلك الامتحان قبل هذا الوجود.

هذا الإنسان ن وكل إنسان يخضع إلى امتحان، أنا خضعت إلى امتحان، وعند خضوعي للامتحان وصلت وعرفت درجتي مثلاً 20%، إذا أنزل لعالم المادة والوجود احتمال أن يصير كذا وكذا....

أنا الآن أعيش في مقام مرتاح أهلل وأسبح لا مشاكل ولا مصائب، صحيح خضعت لإمتحان وأخذت هذه الدرجة، فإذا جاء اليوم الموعود، أنزل لعالم الدنيا وتتعلق روحك بالبدن وتنتسب إلى فلان وتعرف فلان وفلان، مثلاً واحد نقول له ادخُل السجن!! يدخل؟؟ لا يدخل، ويقول إذا باختياري لا أدخل، ماذا تكون أحوالي داخل الزنزانة!!

لكن ليس باختياري أن انزل إلى عالم الدنيا، أنت روح تنزل إلى عالم الدنيا بحدود معينة حدك أبوك فلان، أمك فلانة، عمرك فلان، هذه حدودك في هذا العالم.

فينزل، ويبكي هذا الإنسان مرتين «عندما يخرج من بطن أمه»، أول ما يخرج من بطن أمه يتذكر العالم الذي كان فيه، أنه كان في مقام تسبيح وتهليل ومقام الراحة والاطمئنان والهدوء، الآن جاء إلى هذا العالم عالم الصراع والتزاحم والبلاء والامتحان «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً» فيبكي، هذا هو البكاء الأول.

الأطباء يقولون هذا البكاء من الحنجرة يدخلها الهواء، هذا بكاء حقيقي، الروايات تقول هذا يبكي لأنه يتذكر عالمه الأول، نعم ربما بطريقة مادية الله يختار طريقة بكائه بعوامل مادية معينة لإثارة الدمعة، لكن وراء هذه الدمعة تذكار «أين كنت انا وأين أتيت» ويعيش في عالم الدنيا غافلاً عن عالمه الأول.

بمرور الوقت غفل عما كان فيه من ذلك العالم ويظل يمشي ويمشي «إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ» ستصل إلى النقطة التي تلتقي فيها بالله «رحم الله عبداً عرف من أين وفي أين وإلى أين»، إلى أن يأتي ذلك اليوم، روحي اتصلت الآن تريد أن تنفصل.

بمجرد أن تنفصل الروح عن عالم البدن ويفتح عينيه، أول ما يراه المكان والمقام الذي كان فيه قبل هذا الدنيا، انظر هذا المكان الذي كنت فيه مسبحاً مهللاً مطمئناً، الآن خسرت هذا المكان، أنت امتحنت وحصلت على 20 ولكن لما دخلت الدار الحقيقية أخفقت 0 لم تحصل، أنت خسرت حتى ذلك المكان الذي كنت فيه ن قبل النزول إلى عالم الدنيا، «لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ».

إذن فالنتيجة التي نريد أن نصل إليها:

1/ أن هناك عالم مجردات وهو عالم الأرواح والأشباح.

2/ أن هناك عالم الحدود والتقادير.

أما عالم الأرواح عالم المجردات فالقضاء فيه حتمي. لماذا؟ لأن الأرواح لا تخضع لأسباب، السبب المباشر لها هو الله، عالم المجردات ليس له أسباب ومسببات، عالم المجردات السبب المؤثر المباشر فيه الله تبارك وتعالى «إِنَّمَا أَمْرُهُ» أمره إشارة إلى عالم الأمر، عالم الأمر هو عالم المجردات «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» سبب مباشر. لا يوجد فيه بداء ولا قضاء غير حتمي ولا تغير لأن السبب المباشر له هو الله تبارك وتعالى.

فيوجد هذا الملك لا يتغير كما خلقه الله، وجوده وشكله وحياته كلها حتمية، هذه الروح في ذلك العالم غير العالم المادي «في العالم المادي تصبح متغيرة» هذه الروح أيضا حتمية، وجودها، شكلها طريقتها حتمية لا تتغير.

إذن بحسب عالم المجردات القضاء حتمي المسمى بعالم الأمر لا تغير ولا تبدل ولا بداء لأن السبب المباشر له هو الله.

أما عالم الماديات الذي نحن فيه نتحدث عنه تفصيلاً في البحث القادم إن شاء الله تعالى.

والحمدلله رب العالمين