الموازين العلمية والفقه الاسلامي

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث عن:

علاقة الفقه الإسلامي بالمقاييس العلمية:

هناك فكرة يطرحها كثير من الباحثين أن الفقة الإسلامي لايُعنى ولايهتم بالمقاييس العلمية، فهناك عدة أمثلة ركز عليها الفقهاء تتنافى وتختلف مع الموازين والمقاييس العلمية، مثلا: عندما يقوم القضاء، باب القضاء الذي هو من أخطر الأبواب تترتب عليه أموالا وأعراض ودماء، عندما يقوم هذا الباب الخطير على طرق تقليدية، شهادة رجلين عدلين او يمين كما ورد عن النبي محمد ”إنما أقضي بينكم بالبينات والايماء فمن أقططعت قطعة من اخيه فقد أقططعت له قطعة من النار“، ميزان القضاء إما بينة شهادة رجلين عدلين أو يمين، هذا الإرتكاز يعني ارتكاز باب القضاء وهو بابٌ خطير وموؤسسة خطيرة يقوم عليها كيان الآمن الإجتماعي، هذه الموؤسسة الخطيرة إذا اعتمدت فقط على شهادة رجلين عدلين أو على يمين ولم تعتمد على المقاييس العلمية، فهذا مفتاح لخطرٍ كبير.

أمثلة:

المثال الأول: اعتماد البصمة الوراثية، هذه البصمة تعتبر دليلاً على اكتشاف الجريمة وتحديد المجرم.

المثال الثاني: فحص الحامض النووي كطريق للتحديد النسب وارتباط هذا بهذا، هذه المقاييس العلمية مُغفلة وغير مقبولة بحسب قواعد الفقه الإسلامي، وبالتالي إغفال هذه المقايسس العلمية والإرتكاز على الطرق التقليدية فقط في مثل هذه القضايا الخطيرة مفتاح لمفاسد ومحاذير كثيرة.

المثال الثالث: تجد أن الفقهاء يقولون صدور المني يوجب الغُسل، على من صدر منه المني رجلٌ كان أم امرأةً، وهذا موجود في سائر الكتب الفقهية، بينما الميزان العلمي يقول لا يمكن ولا يعقل صدور هذه المادة المنوية عن المرأة، هذا شئ غير معقول، لا معنى لتعميم الحكم، فيقال رجلاً أو امرأة، مع أن الموازين العلمية ترفض هذه الفكرة صدور المادة المنوية من المرأة، هذا غير ممكن.

المثال الرابع: باب الشهر الشرعي، متى يثبت الشهر الشرعي؟ يثبت الشهر الشرعي في تحديد الهلال وتشخيصه، مازال الفقه الإسلامي يعتمد الطرق التقليدية في تحديد دخول الشهر، شهادة رجلين عدليين أو رؤية أو شياع مفيد للاطمئنان، مع أن الفلكيين بإمكانهم بشكل دقيقٍ جداً أن يحددوا مبدأ دخول الشهر من قبل ذلك بأشهر بل من قبله بسنين، والدقة التي يتحراها الفلكي في تحديد الهلال أكثر بكثير من الدقة في الرؤية بالعين المجردة وأكثر بكثير من الدقة في شهادة رجلين عدليين أو في الشياع وما أشبه ذلك من الطرق التقليدية.

إذن لماذا يُغفل الفقه هذه الموازين العلمية ولا يعتمد عليها مع أن في إغفالها وإهمالها وعدم الإعتماد عليها مفاسد كثيرة لاتعدُ ولاتحصى؟ هذه هي الفكرة. نحن في مقام المناقشة أو التأمل في هذه الفكرة، نذكر أن هناك قواعد ثلاث اعتمد عليها الفقهاء، أصل البحث الفقهي يعتمد على أصل مثلِ هذه القواعد الثلاث:

القاعدة الأولى: أن المرجع والحجية للعرف العربي العام، العرف العربي العام هو من يرجع اليه في تحديد العناوين وفي تحديد المفاهيم الواردة في النصوص الشرعية، كيف يعني؟ مثلاً: قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ، من يحدد لنا الدم؟ العرف العربي، من يحدد لنا لحم الخنزير؟ العرف العربي، عندما يقول تبارك وتعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا، من يحدد لنا الصعيد؟ ماهو الصعيد؟ يحدده العرف العربي، لماذا نرجع الى العرف العربي في تحديد المفاهيم وفي تحديد مداليل العناوين؟ لأن هذه الآيات وهذه الروايات جاءت تخاطب العرف العربي، هذه الآيات التي نزلت على النبي محمد ما جاءت تخاطب فئة معينة من المجتمع، ولا جاءت تخاطب طبقة معينة من المجتمع، الأيات والروايات بما فيها من أحكام وتشريعات، جاءت تخاطب العرف العربي بتمام طبقاته وبتمام فئاته، الاطباء وغير الاطباء والمثقفين وغير المثقفين العلماء والجُهال، لم تكن هذه الخطابات موجة للفئة ولا الى جماعة ولا طبقة معينة.

إذن بما أن الخطابات القرآنية والنبوية ماجاءت تخاطب فئة أو طبقة معينة، فلنرجع في تحديد عناوينها ومفاهيمها للعرف العربي العام، بما فيه من جُهال وبما فيه من أُناس بسطاء، هذا العرف العربي العام هو الذي يُرجع اليه وهو الحجة في تحديد المفاهيم والمداليل، لذلك هناك أمور ثلاثة:

الأمر الأول:

العرف العربي مرجع في تحديد المفهوم، يعني إذا فقيه فارسي أو غير عربي هو يرجع الى كتب اللغة العربية أو يرجع الى ما يفهمه أبناء المجتمع العربي من هذا اللفظ ومن هذا العنوان الوارد في الآية أوالوارد في الرواية، المرجع على مايفهمه العرف العربي من هذا الخطاب لأن الخطاب أُلقي اليه ولم يُلقى لغيره، العرف العربي مرجع في تحديد المفهوم، كيف يعني مرجع في تحديد المفهوم؟

مثلاً: في الرواية المعتبرة أبو بصير يسأل الإمام الصادق : مامعنى قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قال: قول الزور هو الغناء، إذاً من يحدد لنا مفهوم الغناء؟ يحدد لنا الغناء العرف العربي، نرجع الى العرف العربي لنسأله ماهو تعريف الغناء؟ حتى نعمل بهذه الرواية المباركة العرف العربي يقول أن الغناء ترجيع الصوت بنحوٍ مطرب، هذا هو الغناء، إذً رجعنا للعرف العربي في تحديد هذا العنوان الوارد في النص الذي قال الغناء، من هنا نأتي الى مسألة المني، مني المرأة؟ ماذا يعني مسألة مني المرأة؟

عندما جاءتنا الروايات ومنها الرواية المعتبرة: أحد أصحاب الإمام الصادق يسأله قال ”قبلت جاريتي فأمذيت أنا وهي أمنت“ أنا صدر مني المذي وهي صدر منها المني، فقال : إن أنزلت عن شهوةٍ فعليها الغسل، إذا جئنا الى الرواية نقول أنه صحيح طبياً أن المني لا يصدر من المرأة، المادة المنوية علمياُ لا تصدرمن المرأة ولا تخرج منها، هذا شئ علميٌ ثابت، لكن الرواية لم تتحدث عن المني الواقعي، تحدثت عما يسمى بالمني لدى العرف العربي، الرواية ليس لها علاقة بالمني الواقعي، ولذلك الإمام لم يعبر بالمني وإنما عبر بالإنزال، لم يقل الإمام أمنت وإنما السائل قال أمنت، الإمام لم يعبر بالإمناء وإنما قال إن أنزلت عن شهوة فعليها الغسل، يعني ليس العبرة بالمني حتى نقول أن المني لا يصدر من المرأة، العبرة أن المرأة عند اشتداد الشهوة تشعر برطوبة تنزل من الرحم قد تخرج الى الخارج وقد لا تخرج، هذه الرطوبة التي تشعر بها المرأة عند اشتداد الشهوة موجبة للغسل سواُ سميناها مني أم لم نسميها، ليس المهم التسمية، ليس الكلام في تسميتها وليس الكلام في عنوانها، المهم أن هذا أمر واقعي وهو أن المرأة عند اشتداد الشهوة تشعر بهذا النوع من الرطوبة وهذا سببٌ موجبٌ للغسل.

إذن بالنتيجة الفقه الإسلامي لا يقول بأن المني يصدر من المرأة كي يقال بأن هذا يتنافى مع المبادئ والموازين العلمية، بل يقول هناك حالة تحصل للمرأة سميتموها مني أم لم تسموها، هناك حالة تحصل للمرأة، هذه الحالة الواقعية توجب للغسل، وليس المهم البحث في العناوين والأسماء، هذا بنظر العرف العربي مني فيترتب عليه الأحكام، وإن لم يكن بنظر الموازين العلمية والطبية منياً، إذاً العرف العربي مرجع في تحديد المفهوم.

الأمر الثاني:

العرف العربي مرجع في تحديد المصداق إذا كان المفهوم غير واضح مجمل سعةً وضيقا. ً

مثلاً: نحن نعرف أن الدم نجس، يعني قطرة من الدم تقع في الكأس لا يجوز شرب هذا الكأس لانه تنجس بهذه القطرة، ماهو الدم النجس؟ الدم المجهري أو الدم الواقعي أو الدم العرفي، الدم العرفي هو الدم النجس، كيف؟ يعني لو أمامي كأس وأراه بعيني المجردة، لا أرى فيه شئ كأس نظيف، لكن هذا الكأس إذا وُضِع تحت المجهر يرى فيه الخبير نقطة دم لا تُرى إلا بالمجهر ولا تُرى إلا بهذه الأداة، بغيرها لا تُرى، هنا هل يجوز شرب هذا الماء؟ نعم يجوز شرب الماء، لماذا؟ لأننا لا نمشي على الدم الواقعي، نحن نقول أن الآيات حرمت عليكم الميتة والدم، الدم يعني بنظر العرف العربي وليس الدم الواقعي، الدم الواقعي موجود في هذا الكأس، ولذلك تراه بالمجهر نقطة دم موجودة، ولكن بحسب الرؤية العرفية أن هذا الكأس صافي وليس فيه دم، مادمت الرؤية العرفية ترى ذلك، هذا الكاس لا يحرم شربه ولا يعتبر متنجساً ولا تترتب عليه آثار الدم إطلاقاً، إذاً هنا رجعنا للعرف العربي في تحديدي المفهوم وايضا رجعنا الى العرف العربي في تحديد المصداق، درجة من الدم تترتب عليه الآثار وهي الدرجة العرفية ليس كل دم.

الأمر الثالث:

هل يتغير الحكم إذا تغير العرف؟ افترض العرف العربي تغير، هل يتغير الحكم؟ إذا كان الحكم الشرعي منوطاً بالعرف العربي، افترض العرف العربي تغير وطبعاً لا يبقى العرف العربي على مفاهيم معينة، العوامل الثقافية والعوامل الحضارية تُغير المفاهيم وتغير الانطباعات وتغير الافهام؟ لو فرضنا أن العرف العربي تغير، هل يمكن أن يتغير هذا الحكم تبعاً لتغير العرف العربي أم لا؟ نعم، إذا تغير العرف والحكم منوطٌ بالعرف يتغير الحكم، قد يسأل واحد يقول كيف الاحكام الشرعية تتغير؟! هذا مستحيل، ورد عن النبي محمد : ”حلال محمدٍ حلالٌ الى يوم القيامة وحرام محمدً حرامٌ الى يوم القيامة“ الحكم الشرعي لا يتغيرإلا إذا نُسِخ والنسخ انتهى بعد زمان النبي ، إذاً ماهو معنى أن الحكم يتغير؟ الحكم يتغير إذا تغير موضوعه، إذا تغير موضوعه تغيرالحكم، الحكم تابعٌ لموضوعه وهذا لايعني أن الشريعة نُسِخت، الحكم الذي لا يتغير هو الحكم الذي لا يتغير موضوعه، أما إذا تغير الموضوع يتغير الحكم.

مثلا: الإنسان إذا كان في بلده حكمه أن يصلي تماماً، أما إذا تغير الموضوع وصار مسافر حكمه أن يصلي قصراً، الحكم يتغير بتغير الموضوع.

هناك أمثلة فقهية حيوية:

المثال الأول: على رأي بعض الفقهاء كرأي الإمام الخميني ”قدس سره“ هو يقول الشطرنج ليس حرام مطلقاً إنما حرام لأنه أداة قمار، بما هو أداة قمار فهو حرام، افترض تغير وصار الشطرنج أداة لتنشيط العقل، أداة لتحريك العقل فالحكم يتغير ويصير حلال، بمعنى أن العرف العالمي صار يلعب الشطرنج في مجال تنشيط الذهن وما يلعبه في مجال أداة القمار، فتغير عنوانه من أداة قمارالى أداة آخرى فالحكم يتغير لا مانع من ذلك.

المثال الثاني: مسألة الدم، قبل مائتين سنة كان فقهاءنا يقولون يحرم بيع الدم، لماذا؟ لأن قبل مائتين سنة لم يكونوا ملتفتين إلى أهمية الدم أن الدم من أثمن الأموال ومن أهم الأموال، قبل مائتين سنه لم يكن العرف ملتفتاُ الى ما يترتب على هذا الدم، بعد مائتين سنه التفت العرف إلى أن هذا الدم ينقذ أنفساً محترمة فيترتب عليه فوائد خطيرة جمة فصار الدم مال مثله مثل بقية الأموال، مثل ما تبيع سيارة ومثل ما تبيع أي جهازتعتبره مالٌ يُباع، فالدم مالٌ يُباع، صاربيع الدم جائزاً ومشروعاً ونافذا، لماذا؟ لأن الحكم تغير بتغير الموضوع وتغير الموضوع قد يرجع لتغير ثقافة وقد يرجع لتغير العوامل الحضارية التي تكتنف بيئة العرف العربي، مع ذلك يتغير الحكم بتغير الموضوع.

لذلك من هنا نأتي إلى مسألة الموت، هذه مسألة مثارة قانونياً وفقهياً، هل الموت موت الدماغ أو موت القلب؟ يعني متى يعتبر ميت فيترتب عليه أحكام الموت؟ تبيين زوجته، تُقسم ترِكته، يتبرع ببعض أعضائه إذا أوصى وقال إذا أنا مت تبرعوا ببعض أعضائي إلى الجهة الفلانية. متى يُؤخذ منه الأعضاء ويتبرع بها؟ إذا مات، متى يموت؟ هل المناط في الموت على موت الدماغ؟ إذا ماتت خلايا دماغه حتى لوكان القلب ينبض يعتبر ميت أو لا يعتبر ميتاً حتى يتوقف القلب عن النبض؟ مازال أغلب فقهائنا الإمامية يقولون الموت موت القلب، مالم يتوقف القلب عن النبض، هذا ليس ميت حتى لو مات موتا سريري، حتى لو قال الأطباء أن هذا مات وانتهى ومات موتاً سريرياً، مع ذلك لا تترتب عليه آثار الموت، لماذا؟ لأنه لم يتوقف قلبه عن النبض.

الآن بعض فقهائنا من داخل الحوزة العلمية يقولون الموت هو فقدان الحياة، الإسلام والشرع لم يحددوا الموت، ولم يقولوا أن الموت يساوي كذا، وإنما قالوا إذا مات بانت زوجته وقُسِمت ترِكته، لم يجددنا لنا معنى الموت، إذا رجعنا الى العرف العربي وهو المرجع في تحديد معنى الموت، يقول الموت هو فقدان الحياة، ماهي علامة فقدان الحياة؟ في الزمن السابق لما كان العرف العربي غير ملتفت إلى أهمية الدماغ ولم يكن عنده ثقافة طبية، كان يرى أن العلامة على فقدان الحياة هي موت القلب، إذا توقف القلب عن النبض يعني فقد الحياة، ولكن العرف العربي تطور واكتسب مفاهيم ثقافية آخرى، الآن العرف العربي يقول القلب مجرد مضخة دم وهي مضخة صناعية تقدر تبدلها وليس شيئًا أساسياً وإنما الأساس هو الدماغ، إذا توقف الدماغ ماتت خلاياه فهذه هي العلامة الفاصلة والحاسمة على فقدان الحياة، إذاً العرف العربي تغير، الآن يرى أن الموت فقدان الحياة وعلامة فقدان الحياة موت الدماغ، إذاً متى مات الدماغ تترتب عليه آثار الموت وإن كان قلبه مازال ينبض ومازال يتحرك.

إذاً نقصد بهذا أن في الفقه ليس فيه أي مشكلة مع الموازين العلمية، يمكن أن يتغير الحكم الشرعي إذا تغير موضوعه، قد يتغير الموضوع نتيجة لتغير العرف العربي، وتغير العرف العربي قد ينشئ من عوامل ثقافية وعوامل حضارية معينة، تتغير الرؤية ويتغير الموضوع فيتغير الحكم تبعاً له.

القاعدة الثانية التي يعتمدها الفقهاء:

الرجوع إلى أهل الخبرة، أهل الخبرة في كل فن، الخبرة يقسمها فقهائنا إلى خبرة حسية والخبرة الحدسية، ماهو الفرق بينهما؟ يعني ماهو الفرق بين الموظف في المختبر وبين الطبيب؟ كلاهما صاحب خبرة لكن موظف المختبر خبرته حسية والطبيب خبرته حدسية، كيف؟ الموظف في المختبر يعتمد على حواسه ولا يعتمد على حركة عقلية، يأُتى بهذه المادة وتوضع تحت المجهر، ينظر إلى هذه المادة، هل المادة مشتملة مثلاً على ديدان أو حيوانات منوية متحركة وهكذا، طبيب المختبر ودكتور المختبر صاحب خبرة ولكن خبرة حسية تعتمد على أدوات حسية، أما الطبيب فهو صاحب خبرة حدسية، الطبيب يقرأ الأعراض، إنسان مريض يؤتى به، يقرأ أعراضه، من خلال الأعراض يستنتج مرضاً معيناً، فهو يعتمد على استنتاجه وتأمله العقلي، لذلك يعتبر الطبيب صاحب خبرة حدسية. نحن نقول الخبرة سواً كانت حسية أو حدسية الخبير كلامه حجة، إذا شهد الخبير يُؤخذ بكلامه، المجتمع العقلائي يؤخذ بهذا سواً كانت خبرته حسية أو حدسية.

إذن أين المشكلة؟ إذا وقع الخلط بين الحسي والحدسي، يعني شهد بأمر حسي عن طريقٍ حدسي، إذا شهد بأمر حسي عن طريقٍ حسي فهذا واضح، وإذا شهد بأمر حدسي عن طريقٍ حدسي فهو واضح أيضاً، أما إذا خلط بين أمرين، شهد بأمر حسي عن طريق حدسيٍ، هل هذا كلامه يؤخذ به؟ هل هذا كلامه حُجة أم لا؟

مثلاً: كلام الفلكي في الهلال، كيف يعني؟ الهلال مسألة حسية يعني خروج القمر من تحت المحاق بدرجةٍ يمكن رؤيته أمرٌ حسي، الفلكي عندما يشهد يقول نعم القمر خرج من تحت المحاق بدرجةٍ يمكن رؤيته، هل شهد عن طريقٍ حسي أو عن طريقٍ حدسي؟ طبعا هو شهد عن طريقِ حدسي، فهو توصل إلى أمرٍ حسي بطريقٍ حدسي، لم يتوصل إلى أمرٍ حسيٍ ٍبطريق حسي، طبعاً إذا توصل الى أمرٍ حسي بطريقٍ حسي لا يوجد أي إشكال كمن يرى الهلال ويقول رأيته، أما إذا توصل إلى أمرٍ حسي لكن عن طريقٍ حدسي، يقول أنا مارأيت ولكن بحسب الحسابات الفلكية الدقيقة القمر خرج من تحت المحاق بدرجةٍ يمكن رؤيته، بما أنه توصل الى أمرٍ حسي بطريقٍ حدسي، هذا صار محل كلام بين الفقهاء، هل يقبل أو لا يقبل؟ أغلب الفقهاء يقولون لا يقبل لأنه توصل الى أمرً حسي بغير طريقه بطريق حدسي والا نحن ما عندنا مشكلة مع كلام الفلكي، نحن نقبل كلام الفلكي إذا أوجب الإطمئنان، لو أن الفلكيين اتفقوا على أن هلال شهر شوال بحسب الأفق المعينة مثلا يكون ليلة الأربعاء، وأنا لما عرفت كلام الفلكيين حصل عندي الإطمئنان، فيكون حجة وهذا الإطمئنان حجة شرعية لأنه نشأ عن منشئ عقلائي وهو اتفاق الفلكيين، لا يوجد عندنا مشكلة مع كلام الفلكيين، كذلك قد تُردُ الشهادة إذا كانت معارضة لكلام الفلكيين.

مثلاً: لو أن الفلكيين قالوا أن هذا الهلال يستحيل رؤيته ليلة الأربعاء بحسب أُفق بريطانيا فجاءنا شهود وقالوا أننا رأينا الهلال فتطرح الشهادة ة ولا يؤخذ بها، لماذا؟ لأن شهادتهم محل ريبة، الشهادة التي تتعارض مع الإمارات العقلائية شهادة محل ريبة لا يُؤخذ بها ولايعتمد عليها، إذاً لا يوجد مشكلة مع الفلكيين، نقبل شهادتهم إذا أوجبت الإطمئنان ونطرح الشهادة إذا خالفت كلام الفلكيين، إنما نحن نقول شئٌ واحد وهو أن الفلكي لو شهد رؤية الهلال ولم يحصل عندنا الإطمئنان بكلامه، هل شهادته حجة أم لا؟ ليس بحجة لأنه توصل إلى أمرٍ حسي عن طريق حدسي، والوصول إلى الأمر الحسي عن طريق حدسي هذا محل تأمل وإشكال لدى أغلب فقهائنا.

القاعدة الثالثة:

كل ما يُوجب العلم فهو حجة، ونحن لا نناقش في ذلك ولا نعارضه، إذا الموازين العلمية أوجبت العلم فهي حجة ويُؤخذ بها. مثلا البصمة، لو استطعنا أن نكتشف الجريمة عن طريق البصمات ولكن حصل لنا العلم نتيجة قراءة العارفون بالمجال والتدقيق في هذه البصمة حصل لنا العلم بأن المجرم فلان، إذا حصل العلم يُعول عليه ويُؤخذ به لدى كثير من فقهائنا، لاحظوا الآية المباركة: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ «3» بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ كثير من المفسرين يقولوا لماذا قال بنانه؟ لماذا ما قال بلا قادرين على أن نسوي إصبعه أو يده؟ إشارة الى أهمية الإصبع ودلالاتها العلمية، كثير من الفقهاء يقول قراءة البصمة والتدقيق فيها إذا أوجب العلم يؤخذ به حتى في باب القضاء، باب القضاء لا يعدل عن الموازين التي تفيد العلم، وما ورد عن النبي محمد ”إنما أقضي بينكم بالبينات والأيماء“ البينة كما يطرح كثير من الفقهاء منهم السيد الشهيد الصدر ”قدس سره“ في بحوثه على العروة، يقول: البينة ليس المراد منها شهادة رجلين عادلين، البينة مايوجب البيان، كل شئ يوجب العلم فهو بينة، البينة لا تنحصر في شهادة رجلين عادلين، ما يوجب البيان يعني ما يوجب العلم وما يوجب وضوح الرؤية ووضوح الموقف فهو بينة يؤخذ به ويعتمد عليه. البصمة بينه لأنها توجب البيان وتوجب العلم، إذا أوجبت العلم فهي بينة يُعتمد عليها حتى في باب القضاء.

أمثله:

مثلاً: من خلال فحص الحامض النووي، نحن نميز أن هذا ابن فلان أو هذا أخ فلان، هذا إذا أوجب العلم يُعتمد عليه في ذلك، إذاً بالنتيجة ليس الفقه الإسلامي مجانباً ومعارضا للموازين العلمية، الموازين التي توجب العلم أو توجب الوضوح والإطمئنان يؤخذُ بها ويُعولُ عليها، وهذا الأمر من قديم الزمان.

مثلاً: قصة منقولة يذكرها أغلب المؤرخين عن الإمام أمير المؤمنين ، الإمام علي اعتمد على موازين علمية في باب القضاء ولم يعتمد فقط على البينة واليمن، امرأتان تنازعتا في ولد، كل امرأة تقول الولد لي، الإمام علي قال: يؤخذ من حليب كل من المرأتين مقدار متساوي ويوضعان في طرفين متساويين بحسب الوزن، يوضعان على الميزان، ذات الحليب الأثقل وزناً هي أم الولد دون الأخرى، هذا اعتماد على موازين علمية والإمام علي اعتمد على ميزان علمي في مسألة باب القضاء.

علم الفراسة، هذا علم كان من قديم الزمان، مثلاً: تمييز الأعراق، قبيلة فلان ماذا فيها من صفات؟ ماذا فيها من شمائل؟ هذا علم كان قائماً، قراءة الصفات الوراثية عن طريق الوجه، عن طريق العمل، عن طريق قراءة قبيلته وقراءة عائلته، هذا علم الفراسة كان علماً موجوداً، ولا نقول أنه حجة شرعاً بتمام أموره، ولكن إذا أوجب العلم كان حجة من باب أنه يُولِد ويوجب العلم.

وقد اعتمد أهل البيت على هذا في كثير من أمورهم، الإمام أمير المؤمنين يقول لأخيه عقيل، أخي عقيل اخطب لي امرأةً ولدتها الفحول من العرب ”عقيل ابن أبي طالب كان معروفا ً وعالماً بعلم الفراسة، رجع اليه الإمام علي وقال بما أنك عالم بأنساب العرب عن طريق الفراسة والتأمل في الأعراق، أنا أوكلت اليك هذه المهمة“ اخطب لي امرأةً ولدتها الفحول من العرب كي تلد لي ولداً بطلاً ينصر ولدي الحسين بكربلاء" هذه قصة مشهورة ومعروفة، قال أينك عن فاطمة بنت حزام التي لُقِبت بعد ذلك بأم البنين الأربعة، الإمام علي خطب فاطمة وتزوج هذه المرأة الجليلة العظيمة المباركة التي كانت مخلصةً ووفيةً لسيدة الزهراء «سلام الله عليهما» وكانت وفية لأهل البيت، كانت للحسنين بمثابة الأم الحنون الرؤوف، وكانت تغدق العطف والحنان عليهما إخلاصاَ ووفاءً للزهراء «سلام الله عليها».

وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين