في رحاب مناجاة الشاكين ج2

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن الإمام زين العابدين أنه قال: ”اللهم إني أشكو إليك نفسًا بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة ولسخطك متعرضة“

المرض الأول من الأمراض الوخيمة ألا وهو مرض النفس، ومرض النفس عبر عنه الإمام بقوله «أمارة» ”أشكو إليك نفسًا بالسوء أمارة“ القرآن الكريم عندما تناول النفس وصفها بعدة أوصاف:

  • النفس الزكية.
  • النفس المطمئنة.
  • النفس الأمارة.

1/النفس الزكية: هي النفس البريئة التي لم تتلوث بعد بالذنوب، فالنفس التي ما زالت لم تتلوث بالدنيا ولم تتدنس بأدران الدنيا وشوائب الدنيا يقال لها النفس الزكية، ﴿قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً كنفس الطفل في أوائل مراهقته وبلوغه نفسه نفس بريئة طاهرة وأرض خالية من الأشواك فنفسه نفس زكية.

2/وهناك نفس مطمئنة: حيث قال القرآن الكريم ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «27» ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً النفس المطمئنة هي النفس التي اقترنت بذكر الله ولم تفارق ذكر الله أبدًا، النفس إذا اقترنت بذكر الله في قيامها في قعودها في أكلها في شربها، دائمًا تستذكر الله ودائمًا تستحضر الله تبارك وتعالى، هذه نفس يعرض عليها الهدوء ويعمرها الاطمئنان وتعيش استقرارًا في حياتها واستقرارًا في ظروفها وتقلباتها، تكون هادئة مستقرة لأنها ارتبطت بذكر الله ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ هذه النفس المطمئنة من خواصها إذا جاء اليوم المهول يوم الموت ويوم اللقاء مع الله، الأنفس الأخرى تجزع تخاف من رهبة الموت، الموت شيء رهيب، عالم غريب، عالم مليء بالأشباح والأرواح، عالم مليء بالملائكة بمختلف أصنافهم، إذا الإنسان أغمض عينيه عن الدنيا وفتح عينيه على الآخرة رأى عالمًا غريبًا، تصيبه الرهبة، يصيبه الخوف، لأي عالم جئت؟ وإلى أين أسير؟ وكيف سأمضي؟ وكيف سأتعامل مع هؤلاء الأصناف من الملائكة ومن الأرواح؟ أما النفس المطمئنة فهي تسير في عالم الموت ثابتة مستقرة راضية بقضائها وبقدرها ومرضية عند ربها ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «27» ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً «28» فَادْخُلِي فِي عِبَادِي «29» وَادْخُلِي جَنَّتِي.

3/وهناك صنف ثالث: من النفس وهو نحن، النفس الأمارة، نفسي نفس أمارة، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ السوء هو الذنب والنفس أمارة بالذنب، ما هو هذا المرض الذي يتغلغل في النفس فيجعلها نفسَا أمارة، يجعلها نفسًا تصر على المعصية، تصر على الرذيلة؟

هذا المرض هو مرض الطغيان، كل بشر يمكن أن يصاب بهذا المرض مرض الطغيان، القرآن الكريم يقول: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى مرض الطغيان مرض قاتل، مرض الطغيان يعني أن النفس إذا استرسلت لم تقف عند حد، طبيعة النفس طبيعة متمردة، طبيعة طاغية، متى ما سمح لها الإنسان وأعطاها الفرصة تمردت وكسرت الحدود وتجاوزت القيود، النفس البشرية طاغية، نفسي طاغية.

لاحظ الإنسان إذا رغب في أكلة أو طعام معين إذا أعطى نفسه الفرصة فإنها تأكل بلا حد، ما لم يوقفها فإنها لا تقف بل تسترسل، لاحظ الإنسان إذا تعلق بالمال لا يقف عند حد، كلما جمع ثروة رأى أنه يتوق لثروة أخرى ويتوق لمال أكثر لا يشبع لا يقف عند حد النفس بطبيعتها الطغيان، ولذلك ورد عن النبي : ”مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفًا كان أبعد لها من الخروج“.

النفس بفطرتها بجلبتها تكره القيود تكره الحدود تكره أن يقال لها هذا حرام وهذا ممنوع وهذا محظور، تحب أن تتحرر، تحب أن تتمرد على كل قيد، ولأجل ذلك متى ما أعطيت الفرصة وحطمت القيود طغت النفس البشرية وتجاوزت وارتكبت المعاصي والرذائل والذنوب المختلفة، هذا المرض مرض الطغيان والتمرد هو الذي يشكو إليه ويشكو منه في هذا الدعاء، ”اللهم“ مناجاة الشاكين افتتحت بأول مرض وهو مرض النفس، ”اللهم إني إليك أشكو نفسًا بالسوء أمارة“ أنا مبتلى بمرض، مبتلى بمرض مؤذي مؤلم ألا وهو مرض الطغيان، مرض الاسترسال مع الشهوات، مع الغرائز، مع المعاصي.

لاحظوا كيف الإمام شخص لنا طبيعة النفس المريضة، الإنسان ما يحتاج أحد يساعده على المعصية هو كل شيء يرتبه: يخطط.. يبادر.. يتلذذ بالمعصية.. يصر على نتيجة المعصية، لاحظ الإنسان إذا وصل به الأمر أن استرسل مع نفسه واستجاب لها كيف يصبح.

1/أولا أقوم بالتخطيط للمعصية: نفس أمارة يعني تخطط للمعصية هذه مرحلة التخطيط، هي التي تخطط لا تحتاج إلى من يعينها وإلى من يساعدها، تقوم بتهيئة الفرص، لاحظ الإنسان إذا رغب في المعصية كيف يهيأ الفرصة لكي يعصي ربه، يخطط كيف أقوم بالمعصية؟ في أي مكان؟ في أي جو؟ مع من؟ بأي طريقة؟ جميع الظروف يهيئها حتى يصنع المعصية إذا هيأ الظروف هيأ المكان هيأ الجو هذا كله تخطيط من النفس وهذا معنى أن النفس أمارة، أمارة بإلحاح وبإصرار، تصر وتلح على إعداد الظروف لاقتراف المعصية لاقتراف الرذيلة ”بالسوء أمارة“ فهذه المرحلة الأولى مرحلة التخطيط.

2/المرحلة الثانية المبادرة: بعدما أخطط للمعصية أنا بنفسي أبادر إليها وأنا أعراف أنها معصية ”وإلى الخطيئة مبادرة“ انتقلت من مرحلة التخطيط والإصرار إلى مرحلة المبادرة والخطى السريعة ”وإلى الخطيئة مبادرة“ هناك فرق بين الخطأ والخطيئة، الخطأ هو العمل الفاسد الذي يصنعه الإنسان من دون عمد، ولكن الخطيئة هي الذنب الذي يصنعه الإنسان وهو يدري أنه ذنب، هذه خطيئة، أنا أعلم أنه ذنب ومع ذلك أبادر إليه، أنا أدري أنه معصية ومع ذلك أصر عليه، هذه خطيئة ”وإلى الخطيئة مبادرة“ أسعى بخطواتي برجلي بجسمي إلى المعصية ولا أدري أنني أسعى إلى النار، أضع رجلي على النار، هل وجدت عاقلا يضع رجله في النار؟! هل وجدت عاقلا يمسك النار بأنامله بأصابعه؟! أنا الآن وأنا أبادر للمعصية أضع رجلي في النار، أضع أناملي في النار وأتلبس بحرارة النار، ”وإلى الخطيئة مبادرة“.

3/والمرحلة الثالثة مرحلة التفاعل: لاحظ الإنسان إذا تناول طعامًا لذيذًا كيف يتعامل معه؟ هو يأكله وهو يلتذ به، هو يأكله وهو يلتذ بما يصنع، أيضًا الإنسان إذا خطط لمعصية ثم بادر إليها فإنه يصنعها بتلذذ، يصنعها بتفاعل ”وبمعاصيك مولعة“ ليست الجريمة فقط أنني خططت للمعصية، وليست الجريمة فقط أني بادرت وخطوت للمعصية، بل الجريمة العظمى والداهية الكبرى أنني أتلذذ بالمعصية وأنا أدري أنها معصية، أدري أنها رذيلة، ومع ذلك ألتذ بها، أفرح بها، أبتهج بها وأنا أدري أنها معصية، أستمع الأغنية المطربة وأنا أدري أنها حرام وألتذ بها، أقيم علاقة غير مشروعة مع فتاة من خلال النت، من خلال التلفون أتلذذ بصوتها، أتلذذ بالحديث معها، أتلذذ بالاقتراب منها وأنا أدري أن هذا معصية محرمة ”وبمعاصيك مولعة ولسخطك متعرضة“.

4/المرحلة الرابعة مرحلة النتائج: أصل إلى النتائج نتائج سخط الله ومع ذلك أقول لا بأس فلأعرض نفسي لغضب الله ولعقابه إن الله غفور رحيم، سيغفر لي يومًا من الأيام، سيتوب علي يومًا من الأيام، أسوف وأؤخر وأؤجل ”ولسخطك متعرضة“ وصلت إلى مرحلة من مراحل قلة الحياء من الله، وصلت إلى مرحلة من مراحل عدم المبالاة بالله، وصلت إلى مرحلة من المراحل عدم الاهتمام برقابة الله إلى حد أني عرضت نفسي إلى سخط الله وعقابه ولم أبالي بذلك.

ورد عن الصادق : ”خف الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت وإن كنت ترى أنه يراك“ مثلي أنا أرى أن الله يراني أدري أن الله يراقبني أدري أن الله يعلم بي ومع ذلك أصر وأصر وأصر على مزاولة المعصية ”وإن كنت ترى أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أعظم الناظرين إليك“ يعني أن أتحدى الله أتحدى رقابة الله، أنا لا أستطيع أن أتحدى الأسرة لأنني أخاف منها، أنا لا أستطيع أتحدى أصدقائي أخاف من السمعة السيئة، أنا لا أستطيع أن أتحدى المجتمع أخاف أن تسقط سمعتي لكنني أصر على تحدي الله، أصر على أن أتحدى الله وأتحدى رقابته وأتحدى إطلاعه علي، ”ولسخطك متعرضة“.

إذًا هناك مراحل لمعصية النفس ولطغيان النفس تخطط وتبادر وتتلذذ ولا تبالي ولا تهتم بنظر الله وبرقابته، ما أقبح هذه النفس؟! ما أقسى هذه النفس؟! ما أشنع هذه النفس التي قل حياؤها وكثرت أخطاؤها وكثرت غفلتها وكثرت تجاوزاتها؟! إلى متى نفسي تخطط وتبادر وتلتذ وتصر على تحدي الله عز وجل؟! إلى متى؟! إلى متى أن منغمس في المعصية منهمك في الرذيلة إلى متى؟! متى سأستيقظ؟! متى سألتفت؟! متى سأنتبه من غفلتي؟! متى أعود إلى رشدي؟! متى أكون من الذاكرين الصادقين؟!

نسأل الله تبارك وتعالى أن ينبهنا من نومة الغافلين وأن يجعلنا من الذاكرين وأن يوفقنا للتوبة والإنابة، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار وارحم أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات وإلى أرواح أموات الجميع بلغ ثواب الفاتحة تسبقها الصلوات.

اللهم صل على محمد وآل محمد