الدرس 37

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

لا زال الكلام في وجوه الجمع بين حديث «لا تعاد» وبين موثق أبي بصير وهو قوله: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة».

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الإمام قد سره: أن حديث «لا تعاد» أظهر من الموثق في مورد الاجتماع، وبيان ذلك: أن حديث «لا تعاد» مصحوب بقرينتين داخليتين تعطيه أقوائية في الشمول:

القرينة الأولى: الحصر فإن قوله: «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة» يفيد عموم المستثنى منه حيث إن الاستثناء دال على عموم المستثنى منه لما ليس من المستثنى.

والقرينة الثانية: التعليل المذكور في الذيل، وهو قوله: لا تنقض السنة الفريضة، فإن هذا التعليل مقتضاه أقوائية الظهور في العموم، والنتيجة: أن مورد الاجتماع بين موثق أبي بصير وبين حديث «لا تعاد» ألا وهو فرض الإخلال بالزيادة، يكون حديث «لا تعاد» أظهر بالشمول نتيجة اقترانه بهاتين القرينتين.

ثم إن السيد «قدس سره» هو ناقش في هذا الوجه وقال: بأن الأظهرية ليست بحد يقدم على معارضه في مقام التعارض، فكأنه يريد أن يقول: إن هذه الأظهرية لم تصل إلى مستوى قرينة حديث «لا تعاد» على موثق أبي بصير.

ويمكن القول بأن الأظهرية أصلا غير محرزة، والوجه في ذلك: أن شمول موثق أبي بصير لمورد الزيادة عمدية أو سهوية أقوى من شمول «لا تعاد» لمورد الزيادة وإن كان محتفا بالتعليل والحصر ألا أن مورد الاجتماع هو الزيادة والمفروض أن موثق أبي بصير موضوعه الزيادة، فهو بالنسبة لهذا المورد أظهر في الشمول من حديث «لا تعاد»، فالأظهرية ممنوعة في نفسها لا أنها موجودة ولكن لم تصل إلى حد القرينية.

الوجه الأخير: أن يقال: إن حديث «لا تعاد» نص في سقوط الأمر، بينما موثق أبي بصير في قوله : «فعليه الإعادة» ظاهر في بقاء الأمر، ومقتضى قرينية النص على الظاهر، حمل مفاد موثق أبي بصير على الرجحان، وان الإعادة أمر راجح.

ولكن أشكل عليه هو والإشكال في محله: أن هذا لو كان موثق أبي بصير بصدد بيان حكم تكليفي، وأما إذا كان بصدد بيان حكم وضعي وهو البطلان، فإن قوله في حدث «لا تعاد» لا تعاد الصلاة كناية عن الصحة، وقوله في موثق أبي بصير: «فعليه الإعادة»، كناية عن البطلان، فكلاهما ناظر إلى الحكم الوضعي، وليس ناظر إلى حكم تكليفي كي يحمل على الرجحان، فهذا الحمل منتف بانتفاء موضوعه.

فتحصل من خلال استعراض وجوه الجمع بين الروايتين أن الصحيح هو الوجه الأول وهو ما ذكره الشيخ الأعظم ومن تبعه وهو الحكومة، أي حكومة «لا تعاد» على موثق أبي بصير كحكومته على سائر الأدلة الأولية.

المطلب الرابع: ثم أفاد «قدس سره» في كتاب الخلل أنه على أية حال سواء كان هناك جمع عرفي بين الروايتين أم لم يكن، قد يقال: التعارض مستقر، والوجه في ذلك: أن نتيجة الجموع العرفية التي ذكرناها اختصاص موثق أبي بصير بفرض العمد، لأن فرض الزيادة السهوية والزيادة عن جهل بالحكم قد خرجت بحديث «لا تعاد» فبقي تحت موثق أبي بصير الزيادة العمدية، وحمل هذا العموم وهو قوله: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»، على الزيادة العمدية حمل على الفرد النادر؛ لأن المكلف في مقام الامتثال لا يقصد التعمد بالزيادة، فكونه في مقام الامتثال لا يجتمع مع تعمده في الزيادة فلا محال يكون فرض الزيادة العمدية فرضا نادرا وحمل العام عليه مستهجن، ونتيجة هذا الاستهجان بقاء التعارض بين الطائفتين.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن يقال: إن موثق أبي بصير ليس قضية خارجية بحيث يكون نظرها للأفراد، وإنما مفاده قضية حقيقية، فلو كان مفاده قضية خارجية لكان حمله على فرد نادر أمراً مستهجناً، كأن يقول في دليل: أكرم كل عالم في زمانك، ثم يقول: لا تكرم غير الأعلم، فإن هذا يوجب حمل العام الوارد على نحو القضية الخارجية على الفرد النادر وهو مستهجن، وأما إذا قال: العالم من شأنه أن يكرم، على نحو القضية الحقيقية، وقال في حديث آخر: لا تكرم غير الأعلم، أو ليس عليك إكرام غير الأعلم لم يكن أمراً مستهجناً لأنه وارد على نحو القضية الحقيقية ليس لهذا نظر للأفراد الخارجية، وفي المقام في قوله في موثق أبي بصير: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»، في مقام بيان قضية حقيقية وهي أن الزيادة مانع من صحة الصلاة، وليس ناظرا لعالم الخارج أصلا كي يقال: بأن حمله على فرض العمدي مستهجن، فانه ناظر فقد لتشرع هذه القضية وهي أن الزيادة مانع من صحة الصلاة.

ولكن يلاحظ على هذا الوجه: أنه لا فرق في الاستهجان بين أن تكون القضية حقيقية أو خارجية، فإن السر في الاستهجان هو عدم تناسب مقام الإثبات مع مقام الثبوت، فإذا كان مقام الإثبات عاما بينما مقام الثبوت نادر أو معدوم لم يكن انسجام بين عالم الإثبات وعالم الثبوت أي عالم الحاكي وعالم المحكي وهذا هو سر الاستهجان من دون فرق أن تكون القضية حقيقية أو خارجية، وفي المقام: مقتضى الجمع بين حديث «لا تعاد» وموثق أبي بصير اختصاص موثق أبي بصير بفرض العمد، حتى لو كان مفاده على نحو القضية الحقيقية فإن نتيجة الجمع أن تكون الزيادة المبطلة في صورة العمد، فإذا كانت الزيادة المبطلة في خصوص صورة العمد بمقتضى الجمع فلماذا بينه على نحو العموم، فالنتيجة هي عدم الانسجام بين الحاكي والمحكي، وهذا هو منشأ الاستهجان، فجعل القضية حقيقية لا يغير من الإشكال شيئا ولا يدفعه ما زال الإشكال باقيا وهو أن حمله على الفرد النادر مستهجن.

وفي بعض الكلمات أن هناك فرقا بين التخصيص وبين الحكومة فالمستهجن هو تخصيص الأكثر، وأما الحكومة كما لو قال: أكرم العالم، وقال في دليل آخر: ليس غير الأعلم بعالم، أو قال: إنما العالم الأعلم، فهو اخرج أكثر أفراد العالم بحيث لم يبق تحته إلا الأعلم وهو الفرد النادر، فإن هذا ليس مستهجن، إنما المستهجن التخصيص بالأكثر، وأما كون الدليل الآخر حكومة فإن هذا ليس أمراً مستهجناً.

ويلاحظ على ذلك: أنه تارة تكون الحكومة تفسيرية بمعنى أن الدليل الثاني مجرد بيان للمقصود بالدليل الأول، كما لو قال: أكرم العالم، ثم قال: مقصودي هو الأعلم، فواضح أن هذا ليس مستهجناً؛ لأن الدليل الثاني مجرد شارح لا مخرج، وأما لو افترضنا أن الحكومة تنزيلية أو مضمونية كما بيناه فيما سبق، فلا فرق بين الحكومة والتخصيص إلا بحسب اللسان، فإن الحكومة روحها هو التخصيص؛ لأن مرجع الحكومة والتخصيص إلى أمر واحد وهو الاعتراف بالموضوع والإخراج الحكمي، غاية ما في الأمر أن التخصيص إخراج حكمي بلسان المعارضة، والحكومة إخراج حكمي بلسان المسالمة، وإلا كلاهما إخراج حكمي، وإشكال الاستهجان ليس إشكالا مرتبطا بخصوصية اللسان كي يفرق فيه بين لسان المسالمة ولسان المعارضة، وإنما إشكال الاستهجان هو في عدم التناسب بين الحاكي والمحكي، وهذا الإشكال باق حتى مع الكومة إذا استلتزمت خروج الأكثر.

الوجه الثاني: ما ذكره سيدنا «قدس سره» في المستند ومحصله أن موثق أبي بصير «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»، عام في نفسه في الزيادة العمدية والسهوية والزيادة عن جهل سواء كان الجهل قصورياً أو تقصيرياً، ثم جاء «لا تعاد» فاخرج الزيادة السهوية والزيادة عن جهل قصوري، وبقي الزيادة العمدية والزيادة عن جهل تقصيري تحت موثق أبي بصير، والنتيجة: موثق أبي بصير لم يختص بفرض العمد كي يقال بأن ذلك يوجب استهجانه، بل يشمل الزيادة العمدية والزيادة عن جهل تقصيري، والزيادة عن جهل تقصيري ليس أمراً نادرا، فأساس الإشكال وهو أن تقديم «لا تعاد» على موثق أبي بصير بأي وجه من وجوه التقديم مستلزم للحمل على الفرد النادر منتفي موضوعه؛ لأن ما يبقى تحته ليس نادرا.

ولكن هذا الكلام إنما يتم لو افترضنا أن حديث «لا تعاد» محتف بمرتكز متشرعي قطعي أن المقصر كالعامد في الآثار التكليفية والوضعية، فإذا كان لدينا ارتكاز هكذا من الأول «لا تعاد» لا يشمل المقصر، فيبقى المقصر تحت موثق أبي بصير، ولكن المفروض أن هذا الارتكاز غير مسلم، إذ ما هو الموجود بإجماع الفقهاء أو بارتكاز المتشرعة أن المقصر كالعامد من حيث العقوبة، وأما أن المقصر كالعامد في تمام الآثار التكليفية والوضعية، بحيث لو بطلت صلاة العامد بطلت صلاة المقصر فلا يوجد ارتكاز كذلك، والنتيجة أن حديث «لا تعاد» مطلق، «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة» أي أن من اخل بالسنة لا عن عمد لم يكن إخلاله ناقضا للفريضة وإن كان إخلاله عن جهل تقصيري، كما التزم به شيخنا الأستاذ «قدس سره» أنه حتى الجاهل المقصر صلاته صحيحة بمقتضى عموم «لا تعاد».

فالنتيجة: أن المقصر مشمول لحديث «لا تعاد» فلازم الجمع اختصاص الموثق بالعامد وهو نادر.

الوجه الثالث: ما ذكره السيد الإمام قد سره في كتاب الخلل من أن المستهجن هو الحمل على الفرد النادر في رتبة قبل الخطاب، لا الحمل على الفرد النادر في طول الخطاب فإن هذا ليس مستهجناً، وبيان ذلك: أنه لولا هذه الرواية وهي: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»، لكان المتشرعة يزيدون في صلاتهم قربة إلى الله تعالى، فليس من النادر  مع غض النضر عن هذه الرواية  أن يكون المتشرع في مقام الامتثال متصديا للزيادة، لاعتقاده أن زيادة الركوع والسجود مما يزيده قربا من الله فجاءت الرواية لردع المتشرعة عن الزيادة ونتيجة ورود الرواية الرادعة أصبحت الزيادة أمراً نادرا، فالندرة في طول الخطاب وليس الندرة في رتبة سابقة على الخطاب، وما هو المستهجن هو حمل العام على فرد نادر في نفسه وأما حمله على فرد نادر ببركة الخطاب نفسه فهذا ليس أمراً مستهجناً عرفا، وما ذكره «قدس سره» متين وهو حل للإشكال.

فالنتيجة أنه مع فرض الجمع بين الدليلين بالحكومة أو غيرها لا يكون التعارض باقيا بلحاظ إشكال الحمل على الفرد النادر.

المطلب الأخير الذي تعرض له: أنه على فرض استقرار التعارض بين حديث «لا تعاد» وبين الموثق، فما هو المرجح لأحدهما على الآخر، فقد أفاد «قدس سره» أن المرجح أو المميز للحجة على اللاحجة هو الشهرة، حيث اشتهر العمل لحديث «لا تعاد» دون الموثق.

نقرأ عبارته: ولو أغمضنا النظر عن ذلك  يعني عن جواباته السابقة  أو زيفناه ووصلت النوبة إلى المعارضة فالترجيح لحديث «لا تعاد» للشهرة على عدم إبطال الزيادة السهوية التي هي الفرد الشائع من الزيادة لمضمون الرواية، فكأنه ذهب «قدس سره»، بل هو ذهب إلى ذلك في أصوله أيضاً إلى أن الشهرة الفتوائية مرجح لأحد المتعارضين على الآخر وهذا ما يأتي بحثه أن شاء الله في اليوم القادم.

والحمد لله رب العالمين