الدرس 38

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكر السيد الإمام «قدس سره» أنه على فرض التعارض بين صحيح «لا تعاد» وموثق أبي بصير «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» فإن الترجيح لصحيح «لا تعاد» من باب الترجيح للشهرة حيث إن المشهور ذهب إلى أن الزيادة السهوية ليس مبطلة وهذا هو الموافق لصحيح لا تعاد، ثم أفاد «قدس سره»: بل إن المشهور لم يعمل بموثق أبي بصير أصلا، فإن الزيادة إما في الأركان أو في غيرها، فأما الزيادة في الأركان، فقد ذهب المشهور لمبطليتها عملا بنفس «لا تعاد» في المستثنى حيث قال: «إلا في الخمسة»، وأما الزيادة في غير الأركان، فإن قام دليل خاص على مبطليتها كما ادعي في تكبيرة الإحرام حيث ذهب جمع على أن زيادتها مبطلة إما للإجماع أو للرواية، فمن الواضح أن الفتوى بالبطلان استنادا للدليل الخاص، وإن لم يقم دليل خاص على المبطلية فالزيادة إما سهوية وإما جهلية، فإن كانت زيادة سهوية، فلم يفت المشهور بالموثق الدال على البطلان، بل أفتى بعدم البطلان، وإن كانت زيادة جهلية أي صادرة عن جهل بالحكم، فحتى لو أفتى المشهور بالبطلان فليست فتواهم بالبطلان استنادا لموثق أبي بصير من زاد في صلاته فعليه الإعادة، بل استناد لوجه عقلي وهو الدور أو عدم معقولية التصويب؛ لأنه إذا قلنا بأن مانعية الزيادة ترتفع حال الجهل فمقتضى ذلك اختصاص مانعية الزيادة بحال العلم، واختصاص الحكم بحال العلم دور أو مستلزم للتصويب، فذهاب المشهور للفتوى بأن الزيادة مبطلة وإن كانت عن جهل لا لأجل موثق أبي بصير، بل لأجل الاستناد إلى هذا الوجه العقلي، والنتيجة أن المشهور لم يعمل بموثق أبي بصير البتة.

ثم أفاد: بل يكفينا في الترجيح أن المشهور في الفرد المتعارف للزيادة وهو الزيادة السهوية أفتى المشهور بالصحة، مع أن موثق أبي بصير دال على البطلان، ففتوى المشهور بالصحة كاشف عن خلل في موثق أبي بصير بحيث لا شمل الزيادة السهوية، إما لأن موثق أبي بصير خاص بزيادة الركعة ولا يشمل كل زيادة، أو لأن موثق أبي بصير خاص بالزيادة العمدية، فعلى كل حال عدم عمل المشهور به في الفرد المتعارف للزيادة وهو الزيادة السهوية كاشف عن قصور فيه، ومع قصور فيه عن الشمول لمحل الكلام فليس معارضا لصحيح لا تعاد.

هذا تمام كلامه «زيد في علو مقامه».

ولكن هنا ملاحظات:

الملاحظة الأولى هي الملاحظة الكبروية: وهي هل أن الشهرة الفتوائية من المرجحات أم لا؟ والكلام فعلا في مدلول مقبولة عمر بن حنظل التي استند إليها قدس سره: ينظران إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكم به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور بين أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، ومشكل يرد أمره إلى الله قال رسول الله : «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن توقف في الشبهات نجا من المحرمات...» إلى آخر الرواية.

ثم وقع الكلام هل أن المراد بالشهرة هنا الشهرة الفتوائية أو الروائية أو الجامع بينهما أو أن المراد بها الشهرة الروائية المساوقة للشهرة العملية كما اخترناه في محله، فقد يقال: المراد بالشهرة الشهرة الرواية وهو ما ذهب إليه سيدنا الخوئي «قدس سره» حيث إن المقبولة أفادت: ينظران ما كان من روايتهم عنا. ثم قالت: «فيترك الشاذ الذي ليس بمشهور» وظاهر السياق المشهور الروائي، وإذا قيل: الرواية مشهورة، فظاهر الإسناد أن الرواية بنفسها هي المشهورة لا أن المشهور العمل بها أو الفتوى بها، فإن هذا خارج عن إسناد الشيء بما هو له.

وهناك قرينة أخرى أيضاً أن عمر بن حنظلة بعد أن ذكر له الإمام قال: «فإن كان الخبران مشهورين قد رواهما الثقات عنكم» فافترض عمر بن حنظلة الشهرة الروائية في كلا الطرفين، فما هو المرجح؟ فقال : «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك الآخر»، فإن ما افترضه عمر بن حنظلة كاشف أن ما فهمه من كلام الإمام الشهرة الروائية فلذلك افترضها في الطرفين، فكأنه يقوله: فلو كان هذا المرجح الذي ذكرته موجودا في الطرفين معا فما العمل؟

القول الثاني: إن المراد بالشهرة بالمقبولة الجامع يعني تطبيعي الشهرة سواء كانت شهرة روائية أو شهرة فتوائية من دون استناد إلى الرواية أو شهرة عملية بأن كانت الفتوى مستندة إلى الرواية. ولكن هذا الوجه كما ترى؛ إذ لا يوجد جامع عرفي بين شهرة نفس الرواية وشهرة الفتوى بها من دون استناد إليها.

الوجه الثالث: أن المراد بالشهرة بالمقبولة الشهرة الروائية المساوقة للشهرة العملية، وهو ما ذهب إليه صاحب الدرر المحقق الحائري «قدس سره» وهو الصحيح وذلك لقرائن:

القرينة الأولى: أن قوله: فإن المجمع عليه لا ريب فيه، لا يصدق على الرواية أنه لا ريب فيها بقول مطلق بمجرد الشهرة الروائية؛ إذ قد تشتهر الرواية بسبب النقل ولكن المشهور اعرض عنها، فلا يصدق عليها أنها مما لا ريب فيه، أو قد تشتهر الرواية نقلا لكنها صادرة على سبيل التقية، أو مشوبة بما يمنع من جريان أصالة الجهة فيها فلا يصدق عليها أنها مما لا ريب فيه، إذن فالشهرة الروائية وان بلغت حد الوثوق كما يقول السيد الخوئي، غايته أنها مما لا ريب فيها صدورا، لا أنها مما لا ريب فيها بقول مطلق كما هو ظاهر الرواية، وبالتالي فإنما يصدق هذا العنوان أن هذه الرواية مما لا ريب فيها إذا كانت مشهورة عملا، فحينئذ يصدق هذا العنوان عرفا أنها مما لا ريب فيها لشهرتها بين الفقهاء عملا.

والقرينة الثانية: أن الإمام طبق التثليث على مورد الكلام فقال: وإنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده، وأمر بين غيه، وأمر مشكل، وظاهر التطبيق أنه يريد إدخال المشهور تحت عنوان بين الرشد، لا أن الغرض من التطبيق هو إدخال الشاذ تحت قوله: مشكل، وإن لم يدخل المشهور، تحت قوله: بين، بل ظاهر التطبيق أن المراد إدخال المشهور تحت «بين الرشد» ومن الواضح أن مجرد الشهرة الروائية لا توجب كون الرواية بينة الرشد لمجرد أنها مشتهرة بحسب الرواية، وذلك لأن المرتكز العقلائي لا يرى أن مجرد الشهرة الروائية كاشف عقلائي عن موافقة المضمون للواقع، فحينئذ إنما يصدق عنوان بين الرشد على ما كانت مشهورة عملا، حيث يقال بأن اشتهارها عملا كاشف عقلائي عن موافقتها للواقع فهي مصداق مما بان رشده.

والقرينة الثالثة: أن هذه الرواية وهي مقبولة عمر بن حنظلة صدرت في محيط  حسب تعبير السيد الأستاذ  لم تكن الشهرة الروائية فردا متعارفا، فانه في زمان المعصومين يعني الفرد المتعارف أن الناقل واحد أو إذا يزيد اثنان أو ثلاثة، أما أن يكون الناقل المباشر عن الإمام مشهورا شهرة تصل إلى حد الوثوق فهذا كان فرداً نادراً، إذن كان المتعرف من المشهور في زمن المعصومين هو شهرة العمل، بمعنى أن الناقل واحداً كان أم متعدداً، لكن الأصحاب تلقوا الرواية بالقبول فنشروها ودونوها الذي هو مساوق لعملهم بها، فالفرد المتعارف في زمن النص الشهرة العملية المقارنة للشهرة الروائية، وبالتالي مقتضى هذه القرائن انصراف هذا اللفظ وهو قوله: فإن المجمع عليه لا ريب فيه، أو: ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور بين أصحابك، إلى هذا الفرد من الشهرة، ألا وهو الشهرة العملية المتضمنة للشهرة الروائية أو بالعكس.

وأما ما ذكره سيدنا «قدس سره» من أن قول عمر بن حنظلة: «فإن كان الخبران مشهورين قد رواهما الثقات عنكم»، ظاهر في أن ما فهمه من كلام الإمام هو الشهرة الروائية، ففيه أنه لو كان ظاهر السياق أن عمر بن حنظلة يفترض وجود المرجح في كلا الطرفين لتم ما ذكره، ولكن قد قال: ظاهر السياق أن ما يفترضه عمر بن حنظلة عدم وجود المرجح في كلا الطرفين لا وجود المرجح في كلا الطرفين، حيث إن المرجح الذي ذكره الإمام أن يكون احدهما مشهورا والآخر شاذا فأراد أن يقول عمر بن حنظلة بأن هذا المرجح غير موجود لا أن كليهما مشهور، لا أن احدهما مشهور والآخر شاذ كي يكون المرجح متحققا، فما أراد بيانه عمر بن حنظلة ليس هو وجود المرجح في كليهما كي نستفيد منه أن المرجح هو الشهرة الروائية، وان ما أراد بيانه هو أن المرجح الذي ذكرت وهو أن يكون احدهما مشهورا والآخر شاذا ليس موجودا لأن كليهما مشهور، وحينئذ لا يستفاد من كلامه أن المرجح السابق هو الشهرة الروائية، لأنه إنما افترض شهرة كليهما رواية لبيان انتفاء المرجح لا لبيان وجوده، ويكفينا احتمال ذلك في منع القرينة التي استند إليها سيدنا «قدس سره» لإثبات أن المراد من الشهرة في المقبولة هي الشهرة الروائية.

فتلخص: أن دعوى أن المرجح هو الشهرة الفتوائية مما لا قرينة عليه  يعني أن مبنى السيد الإمام هو اضعف المسالك  فإننا لو تنزلنا عن الشهرة العملية لقلنا بالشهرة الروائية، وأما الذهاب إلى أن المرجح هو الشهرة الفتوائية أو الجامع بينهما فهذا مما لا قرينة عليه، إلا أن يكون منظوره «قدس سره» أنه يتعدى من المرجحات المنصوصة إلى غيرها، بمعنى أن المستفاد من المقبولة  كما ذهب إليه الشيخ الأعظم في الرسائل  أن المناط أقربية احد الخبرين إلى الواقع، فالترجيح بالشهرة أو بموافقة الكتاب أو بمخالفة العامة عاملان موضوعية، بل لأنها مناط لإحراز الاقربية، فبما أن ظاهر سياق المقبولة أن المهم أن يكون في احد المتعارضين مناط موجب للاقربية فيتعدى إلى غير ذلك فيتعدى إلى الشهرة الفتوائية بلحاظ أنها مناط للاقربية.

الملاحظة الثانية: أنه أفاد أن المشهور لم يعمل بموثقة أبي بصير: أن من زاد في صلاته فعليه الإعادة، وهذا كاف، فالملاحظة أن عدم عمل المشهور إما أن يلحظ على نحو الموضوعية أو على نحو المشيرية، فإن لوحظ على نحو الموضوعية بمعنى أن نفس عدم عمل المشهور هو في حد ذاته ذو اثر، فهذا إنما يتم بناء على أن ملاك الحجية في الخبر الوثوق، فبمجرد أن لا يعمل المشهور به لا يتحقق الوثوق به، أو نقول بأن ملاك حجية الخبر خبر الثقة الذي لم يقم منشأ عقلائية على خلافه كما هو المختار، وعدم عمل المشهور بخبر مع كونه بمرأى ومسمع منهم منشأ عقلائي على الخلاف، وأما إذا قلنا بأن ملاك الحجية هو وثاقة المخبر فعدم عمل المشهور بالخبر لا اثر له في منع الحجية ولا في ترجيح احد المتعارضين على الآخر، وأما إذا كان مقصوده قدس سره الشريف أن عدم عمل المشهور بالخبر مشير بأمر آخر وهو إما الإعراض وإما عمل المشهور بمعارضه، فإن كان مشيرا إلى الإعراض بمعنى أن مدعاه «قدس سره» أن عدم عمل المشهور بموثق أبي بصير محقق للإعراض عنه والإعراض موهن للحجية، فمن الواضح أن عدم العمل اعم من الإعراض، فلعل عدم المشهور به لترجيح غيره عليه، لا لأن المشهور اكتشف فيه خللا اوجب الإعراض عنه، وإن كان ما ذكره مشيرا إلى العكس أي أن عدم عمل المشهور بموثق أبي بصير يعني عمل المشهور بمعارضه ألا وهو صحيح لا تعاد فيرجع إلى الترجيح بالشهرة نفسها إلى عدم العمل، فأيضاً بحسب ما ذكره هو أن عدم عمل المشهور قد يكون استنادا لدليل خاص وقد يكون استنادا لوجه عقلي، فمجرد عدم عمل المشهور لا يعني عمل المشهور بمعارضه.

الملاحظة الثالثة: ما ذكره أخيراً حيث قال: يكفينا أن المشهور لم يعمل في الفرد المتعارف للزيادة ألا وهو الزيادة السهوية بموثق أبي بصير فهذا كاف، كاف بماذا؟ قال: للكشف عن قصور فيه، ومن الواضح أن عدم عمل المشهور بخبر إنما يكشف عن قصور فيه إذا كان عدم عمل بالقدر المتيقن منه، فما هو القدر المتيقن من رواية إذا لم يعمل بها المشهور مع أنها القدر المتيقن من الرواية؟ فهذا قد يكشف عن قصور فيها، وأما إذا لم يعمل المشهور لا بما هو القدر المتيقن منه بل بفرد من أفراده، فبما أن القدر المتيقن من موثق أبي بصير الزيادة العمدية لا الزيادة السهوية، فعدم عمل المشهور به في الزيادة السهوية لا يعني وجود قصور فيه، إما لأنه خاص بزيادة الركعة كما أفاد، أو لاختصاصه بالزيادة العمدية، فلعله لجهة أخرى اقتضت أن لا يعمل به المشهور في الزيادة السهوية وهو ترجيح لا تعاد في مقام المعارضة عليه.

فتلخص بذلك أن ما أفيد من الترجيح في المقام بالشهرة غير تام.

المطلب السادس: أفاد قدس سره أنه على فرض استقرار التعارض بين صحيح لا تعاد وموثق أبي بصير فيقدم صحيح لا تعاد لموافقته للسنة والسنة هي حديث الرفع: رفع عن أمتي ما لا يعلمون أو رفع عن أمتي النسيان، وسيأتي الكلام في ذلك لأن في هذا الكلام فيه كبريات كثيرة هل أن المراد بالسنة سنة النبي أو الخبر القطعي، وهل يكفي في سنة النبي أن يكون الخبر ظنيا كما هو مسلكه أم لا؟ وهل أن هذه المرجحات تشمل الخبرين المختلفين على نحو العامين من وجه، أم تختص بالخبرين الذين بينهما تباين؟ وهل أن مفاد حديث الرفع هو تصحيح العمل حتى يكون مرجعا عند تعارض هذين الخبرين أم لا؟ هذه بحور يأتي الكلام عنها أن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين