الدرس 39

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الكلام في المطلب الأخير أنه إذا استقر التعارض بين حديث «لا تعاد» وبين موثق أبي بصير القائل: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»، فقد أفاد السيد الإمام «قدس سره» أن حديث «لا تعاد» مقدم لموافقته للسنة، والمقصود بالسنة هو حديث الرفع الوارد عن النبي : «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، وقلنا بأن هذه المسألة تتوقف على عدة كبريات أصولية لابد من الإشارة إليها:

الكبرى الأولى: ما هو المقصود بالسنة التي تكون مرجحا لأحد المتعارضين على الآخر، فقد ذهب سيدنا الخوئي «قدس سره» إلى أن المراد بالسنة الخبر القطعي الصدور فكل خبر قطعي الصدور فهو سنة، وكأن مفاد هذه الروايات التي جعلت السنة مرجعا أو مرجحا أن الخبر القطعي هو المرجع والمرجح، فإذا تعارض الظنيان فالمرجح لأحدهما موافقته للخبر القطعي أو إذا تساقطا كان المرجع هو العموم القطعي، فكأن مفادها هو جعل المرجعية للقطع عند تعارض الضنون، والقول الآخر ما ذهب إليه السيد الإمام «قدس سره» أن المراد بالسنة سنة النبي وإن كان الخبر ظنيا فمتى ما كان المحكي هو قول النبي أو فعله أو تقريره فهذا هو سنة وإن كان الخبر الحاكي عن النبي ظنياً لا قطعياً، ولكن عند التأمل يمكن القول أن عنوان السنة وإن كان ظاهرا في نفسه ظهورا أوليا في أن المراد به ما حكي عن النبي ولكن في البين قرائن توجب الخروج عن هذا الظهور الأولي.

بيان ذلك: إننا إذا رجعنا لإخبار العرض، حيث إن الأخبار على قسمين: احدهما أخبار العرض، والآخر أخبار الترجيح، فإذا نظرنا لإخبار العرض كما في صحيحة أيوب بن الحر: «كل حديث مردود إلى الكتاب والسنة، وكل شيء لا يوافق كتاب الله فهو زخرف»، فهنا في أخبار العرض قد يقال: ظاهرها أن المراد بالسنة ما كان قطعي الحكاية، لا ما كان عن النبي ولو كان ظنياً، والوجه في ذلك أولا: جعله في عرض الكتاب وهو مرجع قطعي، فإن هذه العرضية ظاهرة في أن المراد بالسنة ما كان قطعي الصدور لا مطلقا.

وثانيا: بأنه لا يحتمل بحسب المرتكزات العرفية أنه لو تقابل خبران كلاهما ظني ولكنهما محرزان من حيث الصدور ومن حيث الجهة لأن لا تقية فيهما، فإذا تقابل الخبران المحرز صدورهما تعبدا، وكانا سليمين من حيث الجهة فمجرد أن احدهما يحكي عن النبي والآخر عن علي فإن هذا يوجب طرح ما كان عن علي، هذا غير محتمل بحسب المرتكز فانه بمجرد أن الأول حاكي عن النبي والآخر ليس حاكيا عنه فإن هذا يوجب طرحه مع أن كليهما ظني الصدور وكلاهما مورد لأصالة الجهة لكن بمجرد أن احدهما عن النبي والآخر ليس عنه فإن هذا موجب لطرح الآخر، هذا غير محتمل بحسب المرتكز فهو يشكل قرينة على ظهور لفظ السنة في أخبار العرض في ما كان قطعي الصدور، وبعد المفروغية عن ظهور السنة في أخبار العرض في قطعي الصدور نقول: بأن عنوان السنة في أخبار الترجيح أيضاً ما كان قطعي الصدور، حيث إن التعبير فيهما واحد، ففي أخبار العرض قال: كل حديث مردود إلى الكتاب والسنة، وفي أخبار الترجيح قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، التعبير واحد، فإذا كان المراد بالسنة في أخبار العرض قطعي الصدور كان المراد بالسنة في أخبار الترجيح قطعي الصدور، وبعد المفروغية عن ذلك نقول: صحيح أن عنوان السنة ظاهر ظهوراً أولياً في سنة النبي ، لكن العرف يلغي الخصوصية إلى كل خبر قطعي الصدور وقطعي الجهة، فهذه النكتة التي نضيفها على كلام السيد الخوئي حيث لم يضف نكتة قطعي الجهة، يتعدى إلى كل خبر قطعي الصدور وقطعي الجهة، والوجه في هذا التعدي: أن العرف عندما يتلقى أخبار العرض أو أخبار الترجيح يكتشف أن المدار في العرض على أن يكون هناك قاعدة أو مرجع لا ريب فيه وإلا لما عرض عليه غيره، وكذلك في أخبار الترجيح ما يفهمه العرف من أخبار الترجيح أن لا موضوعية للكتاب ولا موضوعية للسنة إلا من حيث كونهما دليلا قطعياً من حيث صدوره وجهته، فبما أن العرف لا يرى موضوعية للكتاب والسنة، وإنما يلحظ العنوانين على نحو الطريقية والكاشفية وأن المدار في العرض والترجيح دليل قطعي صدوراً وجهة، فلأجل ذلك يتعدى إلى كل خبر قطعي صدوراً وجهة ولو كان عن أحد المعصومين ، فما أفاده السيد الإمام «قدس سره» من ترجيح أحد المتعارضين هنا وهما صحيح «لا تعاد» وموثق أبي بصير بمجرد أن صحيح «لا تعاد» موافق لحديث الرفع مع أن حديث الرفع ظني لا قطعي، مجرد موافقة أحدهما لخبر ظني ألا وهو حديث الرفع هذا غير كاف في ترجيحه على معارضه ما دامت السنة المحكية وإن كانت سنة النبي لكنها ظنية فهي كالخبرين المتعارضين تماما من هذه الجهة.

الكبرى الثانية التي يبتني عليها البحث هي: هل أن أخبار العلاج والترجيح كترجيح أحد المتعارضين بموافقة الكتاب أو موافقة السنة أو مخالفة العامة، هل أن أخبار الترجيح تختص بالمتباينين أم تشمل العامين من وجه في مورد الاجتماع حيث إن مسألتنا من قبيل الثاني لأنه يوجد تباين بين موثق أبي بصير القائل: من زاد في صلاته فعليه الإعادة، وصحيح «لا تعاد» القائل: «لا تعاد الصلاة إلا من خمس»، حيث يجتمعان في الزيادة السهوية، هل أن العامين من وجه في مورد الاجتماع يكونان موضوعا لأخبار الترجيح والعلاج أن موضوع أخبار الترجيح والعلاج خصوص المتباينين؟

فربما يقال بأن أخبار الترجيح شاملة للعامين من وجه؛ والسر في ذلك أن مفاد أخبار الترجيح تقديم ما كان واجدا للمرجح على ما هو مخالف له، وهذا الظهور يعني طرح الخبر الآخر في موطن الاختلاف، لا طرح الخبر الآخر رأسا؛ لأن ترجيح الأول عليه من حيث كونه مخالفا له، فبما أن الترجيح من حيث المخالفة فمقتضى ذلك أن الخبر الآخر مطروح في موطن المخالفة، فيبقى الخبر الآخر حجة في مورد الافتراق وإن كان في مورد الاجتماع ليس بحجة لترجيح مقابله عليه.

ولكن المحقق النائيني «قدس سره» قال بأن المرجحات على ثلاثة أقسام: مرجح صدوري كالشهرة، ومرجح مضموني كموافقة الكتاب، ومرجح جهتي كمخالفة العامة، وما ذكر وهو أن الترجيح يقتضي طرح الخبر الآخر في مورد الاختلاف لأنه هو موطن المعارضة، ويبقى حجة في مورد الافتراق إنما يتم في المرجح المضموني والجهتي لا في المرجح الصدوري.

وبيان ذلك: إن مرجع المرجح الصدوري إلى طرح الآخر صدورا، لا إلى طرح الآخر مضمونا أو جهة، بل إلى طرحه صدورا، فمعنى المرجح الصدوري هو أن سند الآخر لا يشمله دليل الحجية وإنما يشمل سند الخبر الراجح، فسند الآخر وطريقه مطروح، وحينئذ إذا كان مؤدى الخبر  يعني مؤدى أخبار الترجيح  في المرجح الصدوري طرح سند الآخر أو طرح صدوره، فإما أن يطرح سند الآخر وصدوره رأساً وهذا يقتضي طرح حديث في مورد الافتراق بلا موجب؛ إذ ليس معارضا للأول في مورد الافتراق حتى يلزم طرحه، وإذا كان المقصود طرح صدور الآخر أو سنده في مورد الاجتماع فهذا تبعيض في الصدور والسند وهو غير عرفي، فإن العرف يستبشع أن يقال: هذا الخبر صادر في مورد الافتراق دون مورد الاجتماع، أو أن هذا السند والطريق متعبد به في مورد الافتراق دون مورد الاجتماع، فهذا التبعيض والتجزئة إنما يتصور إذا كان المرجح جهتياً أو مضمونياً، فيقال: هذا المدلول في بعضه ليس بحجة مضمونا لكنه في البعض الآخر حجة، أو حجة جهة دون بعض آخر، إما نفس الصدور ونفس السند يتبعض فهذا مستنكر ومستبشع عرفا، وهذا الاستنكار العرفي من أن لازم تقديم المرجح الصدوري إما طرح الآخر رأساً وهو بلا موجب أو التبعيض في صدوره وهو مستنكر، هذا بنفسه قرينة أوجبت انصراف أخبار الترجيح عن العامين من وجه، فلا شمول في أخبار الترجيح من حيث المرجح الصدوري من عامين من وجه.

ولكن سيدنا الخوئي «قدس سره» تنظر في كلام أستاذه الميرزا فقال بأن مؤدى أخبار الترجيح ليس هو التفكيك من حيث الصدور كي يقال: بعدم عرفيته، وإنما التفكيك من حيث الحجية وهذا أمر عرفي، بيان ذلك: أن حجية الكلام من أحكام وعوارض المدلول فيقال: مدلول هذا الكلام حجة أم ليس بحجة، وليس الدال فإن اللفظ نفسه ليس موضوعا للحجية أم عدمها وإنما المدلول هو الموضوع للحجية فيقال: مدلول هذا الخبر حجة لأن له مرجح، ومدلول هذا الخبر ليس بحجة لأنه لا مرجح له، فبما أن مصب الحجية  أي حجية الكلام  هي المدلول والمدلول قابل للانحلال والتبعيض عرفا، فلا فرق بين المرجحات من هذه الجهة فنقول بأن مدلول مثلا موثق أبي بصير في مورد الاجتماع ليس بحجة وهو حجة في مورد الافتراق، فلا فرق بين المرجحات من هذه الجهة، وإنما استنكر النائيني ما استنكر لأنه فهم من روايات الترجيح التفكيك من حيث الصدور ولكنه ليس مفادها كذلك.

وهذا الذي أفاده «قدس سره» غير وارد على كلام أستاذه الميرزا؛ والسر في ذلك: لو كان بين أيدينا كلامان فرغ عن صدورهما وأردنا الترجيح بينهما لصح أن يقال بأن مصب الحجية حينئذ المدلول، والمدلول قابل للتبعيض والانحلال، ولكن بين أيدينا نقلا عن الإمام، فهذا  يعني أبو بصير  ينقل أنه صدر عن الإمام كذلك، وذاك ينقل أنه صدر عن الإمام ما هو مخالف له، فالتباين بين النقلين، ومدلول النقلين هو الصدور، وليس مدلول النقلين الكلام المنقول، فالراوي يتحدث عن صدور الكلام من الإمام لا عن نفس الكلام؛ لأجل ذلك فمصب الترجيح والحجية الصدور؛ لأن مدلول النقل هو الصدور، لا أن مدلول النقل المنقول  يعني نفس الكلام في حد نفسه وفي حد ذاته، فبما أن مدلول النقل هو الصدور فإذا تعارضا في الصدور، فقال أحدهما: ما صدر الذي صدر عن الإمام هو هذا الذي يتنافى لفظا مع ذاك ولو في مورد الاجتماع، فحينئذ مرجع المرجح الصدوري إلى أن هذا النقل صادر دون هذا النقل، وحيث إن الصدور لا يقبل التبعيض والتجزئة  رجع لا يقبل يعني ليس عقلا رجع يعني عرفا  رجعنا إلى الإشكال مرة أخرى.

فبما أن مفاد هذين الحديثين متباينيان ونتيجة تباينهما أن دليل الصدور دليل التعبد بالصدور لا يشملهما معا؛ لأن شمول دليل التعبد بالصدور للمتعارضين قبيح أو غير معقول، إذن سرى التعارض بالصدور فإذا سرى التعارض بالصدور فالمرجح الصدوري ماذا يقول؟ يقول: هذا صادر وذاك غير صادر، مرجح الصدور يقول: أحضر الدليل وجرّه إلى هذا دون ذاك.

الآن فرغتم عن الشمول للعامين من وجه فقلتم في بعضه دون البعض، وهذا نزاع هذا أول الكلام أنه يشمل العامين من وجه أم لا؟ انتم كأنما فرغتم عن ذاك فلذلك قلتم يشمل من هذه الجهة دون هذه الجهة، نحن الآن كلامنا في أصل الشمول، إذن المرجح الصدوري يلغي صدور الآخر، وإذا لغى صدور الآخر يأتي النائيني يقول: لو كانا عامين من وجه هل يلغي صدور الآخر مطلقا، أو يلغي صدوره في مورد الاجتماع، هو يتساءل بعد الفراغ عن أنه يلغي الصدور، إذا قلتم: يلغي الصدور رأساً، يقول: بلا موجب، واذا قلتم: يلغي صدوره في مورد الاجتماع، يقول: هذا تبعيض عرفي وليس له معنى عرفا أن يقال: هذا الخبر صادر في مورد الافتراق وليس بصادر في مورد الاجتماع.

هذا بالنسبة إلى كلام السيد الخوئي «قدس سره».

وهنا كلام للسيد الإمام في كتابه الرسائل حول هذه النقطة.

قال: وكيف كان  بعد أن ذكر كلام النائيني  فالدعوى المذكورة  يعني دعوى النائيني  ممنوعة جدا؛ فإن عدم الإمكان  يعني لا يمكن التبعيض في الصدور  لا يجوز أن يكون عقليا؛ ضرورة أن التعبد بذلك  يعني التعبد ببعض الصدور دن بعض  بمكان من الإمكان، بل لابد وان يكون عرفيا للنائيني طرح أي العرف لأجل استبعاد ذلك لا يفهم من أخبار الترجيح التعبد بصدور خبر من جهة دون جهة  هذا هو كلام النائيني  وفيه: أن ما يستبعده العرف إنما هو التعبد بصور رواية وعدم صدورها  يعني التعبد بالمتناقضين تقول: هذه الرواية صدرت وما صدرت، نعم هذا يستبعده العرف  وأما التعبد بأن الرواية صدرت بهذا المضمون لا بذاك فلا يستبعده بوجه  يعني أي مانع بأن يقول العرف: هذه الرواية وهي موثقة أبي بصير القائلة: من زاد في صلاته فعليه الإعادة، لا مانع من أن يقول العرف: هذه الرواية وهي الموثقة، صدرت لا على نحو العموم والإطلاق، وإنما صدرت على نحو التقييد ألا وهو ما سوى الزيادة السهوية، وهذا لا يستبعده العرف، مثلا إذا ورد: أكرم العلماء، وورد لا تكرم الفساق، فتعارضا في العالم الفاسق، وورد في دليل ثالث: خذ بما يقول أصدقهما في الحديث، يعني مرجح صدوري لأن المرجح صدوري، خذ بما يقول أصدقهما في الحديث، يفهم العرف أن الأصدق في الحديث كما أنه ابعد من الكذب في أصل الحديث فهو ابعد من التصرف فيه يعني كما لا يكذب لا يتصرف، فهو ابعد عن التصرف فيه بما يتغير به المعنى بإلقاء، يعني بإلغاء قيد أو زيادته، إذن معناه أن صحيح «لا تعاد» كما هو صادق أيضاً لا تصرف فيه بزيادة أو نقيصة بينما الآخر لا أنه ليس بصادق معنى المرجح الصدور أنه صدر لكن مع تصرف، ففي المثال المتقدم يحتمل أن يكون أحد الخبرين صادرا مع قيد لم ينقله المحدث أو الواسطة عمدا أو سهوا على أية حال وهذا الاحتمال  وهو أن الواسطة والمحدث لم ينقل القيد  لا يعتني به العقلاء في خبر الثقة، هذا صحيح بمقتضى أصالة الضبط وعدم الخطأ، لكن إذا ورد التعبد بالأخذ بما روى أصدقهما حديثا لا يأبون عن الأخذ بقوله في مورد الاجتماع، يأخذون بقول أصدق في مورد الاجتماع وترك قول غيره فيه، والتفكيك بهذا المعنى الذي ذكرنا أي أن هذا صادر على نحو الإطلاق وهذا لم يصدر على نحو الإطلاق، لا أنه لم يصدر، لم يصدر على نحو الإطلاق، بل لعل هناك قيداً أغفله المحدث أو الواسطة ولم ينقله، والتفكيك بهذا المعنى غير مستبعد بل ليس هذا تفكيكا بل تعبد بصدور حديث أوثق والأصدق بجميع قيوده دون غيره، وهذا أمر ممكن عقلا وعرفا، فدعوى عدم الإمكان ممنوعة، فرفع اليد عن ظاهر أدلة العلاج غير جائز  يعني النائيني يرفع اليد عن ظاهر أخبار العلاج في المرجح الصدوري هذا الرفع غير جائز إلى آخر كلامه يأتي إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين