الدرس 40

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في حول ترجيح صحيح «لا تعاد» على موثق أبي بصير القائل: «من زاد في صلاته فعليه الإعادة»، بموافقة صحيح «لا تعاد» لحديث الرفع وهو قوله: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، حيث ذهب لذلك السيد الإمام «قدس سره» وذكرنا أن تمامية هذا المطلب تتوقف على عدة كبريات لابد من تنقيحها:

الكبرى الأولى: إن المراد بالسنة هي السنة النبوية ولو كانت ظنية وهذا ما سبق بحثه أمس، والكبرى الثانية هي شمول أدلة الترجيح للعامين من وجه، حيث إن بين صحيح «لا تعاد» وبين موثق أبي بصير عموما من وجه، فحتى يتم المطلب لابد أن نلتزم بأن أدلة الترجيح تشمل العامين من وجه فلا تختص بالمتباينين.

وسبق أن عارضنا مطلب النائيني «قدس سره» ومناقشتين له: أحداهما لسيدنا «قدس سره» والأخرى للسيد الإمام «قدس سره».

ونقول بعد ذلك  وتعميقا للمطلب  أن يقال: إن نقل الراوي لكلام الإمام متضمن لشاهدتين ايجابية وسلبية، فإذا نقل الراوي العموم كأن قال الإمام : كل شيء يطير فلا باس ببوله وخرئه، فالراوي يشهد أن ما تلفظ به الإمام هو هذا وهذه شهادة ايجابية، ويشهد أن الإمام لم يذكر قيدا لهذا العموم لا متصلا ولا منفصلا بلحاظ الراوي نفسه، وهذه شهادة سلبية، فنقل العمومي يتضمن شهادتين من قبل الراوي، فإذا جاءتنا رواية معارضة لهذه الرواية على نحو العموم من وجه، كأن ينقل لنا راو آخر أن الإمام قال: كل ما لا يؤكل لحمه فبوله وخرئه نجس، فهنا أيضاً الراوي الآخر له شهادتان: ايجابية بأن هذا ما ذكره الإمام، وسلبية بأن الإمام لم يذكر قيدا وراء ذلك، ولا تعارض بين الشهادتين الايجابيتين، وإنما مركز التعارض بين الشهادتين السلبيتين، لأن الأول يقول: لم يذكر الإمام قيدا للطير، أي لم يقل الإمام: إلا أن يكون الطير مما لا يؤكل، والثاني يقول: لم يذكر الإمام قيداً لما لا يؤكل، حيث لم يقل: إلا أن يكون طيراً، فببركة الشهادة السلبية أن الإمام لم يذكر قيدا للعموم تقع المعارضة بين الروايتين، وحينئذ بلحاظ هذه الشهادة السلبية يصدق عنوان الحديثان المختلفان، فيقال: إذا ورد عليكم  كما في رواية عبد الله بن عبد الله  حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فإنه يصدق على الشهادتين السلبيتين عنوان الحديثان المختلفان، فإذا كان لأحدهما مرجح صدوري كان يكون هو المشهور، أو كأن يكون الراوي أصدق أو أفقه وسائر المرجحات الصدورية، فمقتضى المرجح الصدوري، أن الشارع تعبدنا بصدور الشهادة السلبية الأولى، ولا يشمل دليل التعبد بالصدور للشهادة السلبية الثانية، والتفكيك حينئذ في الصدور مما لا يستنكره العرف بأن يقال: الشهادة السلبية للراوي الأول قد تعبدنا الشارع بصدورها، ولم يتعبدنا بالشهادة السلبية للراوي الثاني، فلأجل ذلك ما ذكره المحقق النائيني «قدس سره» من عدم شمول المرجح الصدوري في أدلة الترجيح للعامين من وجه، هذا غير تام.

ولكن السيد الشهيد «قدس سره» في مقابل هذه الكلمات ككلام السيد الإمام الذي نقلناه أمس بأن مرجع المرجح الصدوري إلى أن الراجح قد تعبدنا الشارع بصدوره على سبيل العموم، والآخر الفاقد المرجح، لم يتعبد الشارع بصدوره على سبيل العموم لا أن الشارع لم يتعبد بصدوره، لم يتعبد الشارع بصدوره على سبيل العموم، هذا الذي كان هذه المحاولة التي ذكرها.

أو ما ذكره سيدنا الخوئي «قدس سره» من أن الحجية موضوعها المدلول والمدلول قابل للتبعيض والانحلال فهذا الجزء من المدلول قد تعبدنا الشارع بصدوره، وهذا الجزء من المدلول لم يتعبدنا الشارع بصدوره ولا مانع من ذلك.

أو المحاولة الأخيرة التي ذكرناها وهي أن مجرى المرجح الصدوري الشهادة السلبية للراوي الأول مقابل الشهادة السلبية للراوي الثاني.

في مقابل هذه المحاولات العديدة أفاد السيد الشهيد: أن موضوع أدلة الترجيح هو الحديثان المختلفان حيث قال: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان، وبناء على ذلك فإذا كان لدى الحديث الأول مرجح صدوري، أو مضموني أو جهتي... جميع المرجحات فمقتضاه طرح الحديث الآخر، فإن هذا هو معنى المرجحية أنه إذا كان لأحدهما مرجح صدوري كالشهرة، مضموني كموافقة الكتاب، جهتي كمخالفة العامة، فمقتضى ترجيحه طرح الحديث الآخر، فإذا كان الحديث الآخر مختلفا مع الأول لا على سبيل التباين بل على سبيل العموم من وجه كما هو محل كلامنا فحينئذ إما أن يطرح الحديث الآخر رأساً أو يطرح موطن المعارضة وهو مورد الاجتماع، فإن طرح الحديث الآخر رأساً، فهذا يتنافى مع سياق أدلة الترجيح؛ لأن ظاهر سياق أدلة الترجيح كونها علاجا للتعارض والعلاج لا ينسجم مع طرح ما ليس محلا للتعارض فهذا ليس علاجا، فلو طرحنا الحديث الآخر من رأس لم يكن ذلك علاجا؛ لأن مورد الافتراق في الحدث الآخر ليس داخلا تحت المعارضة، وان طرحنا الحديث الآخر في خصوص مورد المعارضة لم يكن طرحا للحديث، بل كان طرحا لبعض الحديث وظاهر سياق أدلة الترجيح أن الحديث الراجح يؤخذ ويطرح الحديث الآخر لا أن يطرح بعض مدلوله أو بعض معناه، فإن هذا مما لا يشمله روايات الترجيح.

فتحصل من ذلك  يعني من كلام السيد الصدر  أن روايات الترجيح لا تشمل العامين من وجه بجميع المرجحات، لا خصوص ما ادعاه المحقق النائيني وهو المرجح الصدوري بل لا تشمل العامين من وجه بلحاظ جميع المرجحات.

ولكن يمكن أن يقال: إن الصحيح ما ذهب إليه جمع منهم السيد الإمام «قدس سره» من شمول روايات العلاج والترجيح للعامين من وجه كما ذكرنا ذلك في بحث التعارض؛ والسر في ذلك أن العرف يلغي خصوصية عنوان الحديثين بأن موضوع العلاج الحديثان المختلفان، فالعرف يستفيد من سياق روايات الترجيح أنها بصدد علاج الاختلاف بين الروايات سواء صدق على موطن الاختلاف عنوان الحديثين المختلفين، أو صدق عليه أنه اختلاف في الحديثين وان لم يكونا حدثين مختلفين، فظاهر سياق روايات العلاج أنها بصدد علاج هذا الاختلاف الموجود بين الروايات، سواء كان اختلافا في تمام المدلول أو كان اختلافا في بعض المدلول، وحينئذ لا موضوعية لعنوان الحدثين المختلفين كي يقال بأن هذا لا يصدق في مورد العامين من وجه، خصوصا  يعني يؤكد ذلك  خصوصا أن لازم هذا الكلام وهو اختصاص أدلة العلاج بالمتباينين أن يكون العامان من وجه أسوء حالا من المتباينين إذا لم نبني على روايات التخيير، والمشهور على ذلك فإنه إذا بنينا على أن الأصل في المتعارضين هو التساقط وليس الأصل هو التخيير وقلنا بأن روايات التخيير لا يستفاد منها التخيير الأصولي يعني التخيير بين المتعارضين، بل غاية ما يستفاد منها التخيير الفقهي يعني التخيير في مقام العمل، فحينئذ بالنسبة للمتباينين يوجد علاج لتعارضهما وهو تقديم الراجح منهما على غيره، بينما بالنسبة إلى العامين من وجه نرجع إلى مقتضى القاعدة وهو القول بالتساقط، فإن هذا لو عرض على المرتكز فإنه يأبى أن يقال بأن الشارع عالج تعارض المتباينين ولم يطرحهما بينما بالنسبة للعامين من وجه لا علاج لتعارضهما، بل لا بد من الرجوع إلى مقتضى القاعدة ألا وهو القول بالتساقط، فإن هذا منبه على أن لا خصوصية عرفا لعنوان الحديثين المختلفين، فلأجل ذلك تكون يقال بشمول أدلة الترجيح للمختلفين سواء كان الاختلاف على نحو التباين أم كان الاختلاف على نحو العموم من وجه.

الكبرى الثالثة: أن المرجح  كما ذكر «قدس سره»  موافقة صحيح «لا تعاد» للنبوي وهو حديث الرفع، ومن الواضح أن جعل حديث الرفع مرجحا يتوقف على دلالة حديث الرفع على صحة العمل؛ لأن محل التعارض هو صحة العمل، حيث إن مفاد صحيح زرارة أن الصلاة صحيحة مع الزيادة السهوية، ومفاد موثق أبي بصير أن الصلاة فاسدة مع الزيادة السهوية، فموطن التعارض هو الصحة وعدمها، فلكي يكون حديث الرفع مرجحا لأحدهما على الآخر لا بد وان يكون مفاد حديث الرفع هو صحة العمل بأن يكون مفاد قوله: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، أن الزيادة إذا شك بمانعيتها من الصحة فمقتضى حديث الرفع رفع مانعيتها وثبوت صحة العمل كي يكون حديث الرفع مرجحا لأحد المتعارضين على الآخر، وهذا ما وقع محل بحث في بحث حديث الرفع، هل أن حديث الرفع يدل على صحة العمل ام لا؟ والكلام في هذه الجهة مختصرا في مطلبين:

المطلب الأول: هل أن مفاد حديث الرفع الرفع الظاهري أو الرفع الواقعي، لأن بحثنا هنا في الصحة الواقعية لا الظاهرية فإن ظاهر صحيح «لا تعاد» بأن العمل صحيح واقعا ومفاد موثق أبي بصير أنه فاسد واقعا فلا بد أن يكون مفاد حديث الرفع الصحة الواقعية كي يكون مرجحا لأحدهما، وهذا يتوقف على دلالته على الرفع الواقعي لا الرفع الظاهري.

وهنا نظران:

النظر الأول: ما ذهب إليه مشهور الأصوليين ومنهم سيدنا «قدس سره» والسيد الصدر وأساتذتنا من أن مفاد حديث الرفع الرفع الظاهري؛ وذلك لقرينتين:

القرينة الأولى: أن موضوع الرفع الشك، فإن ظاهر قوله: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، أنه أن لم تعلم بالحكم فهو مرفوع عنك، وأي أثر يؤخذ في موضوعه عدم العلم فذلك قرينة على أن الأثر أثر ظاهر لا واقعي.

والقرينة الثانية: أن قوله: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، ظاهر في أنه  هذه القرينة ذكرها العراقي  ظاهر في أنه لولا هذا الرفع منه لكان مقتضى الأصل ثبوت الحكم فكان ظاهره أنه امتن على الأمة بهذا الرفع، وانه لولا امتنانه بهذا الرفع لكان الحكم ثابتا، وهذا إنما ينسجم مع الرفع الظاهري، وإلا لو كان الحكم مرتفعا واقعا بمعنى أن الحكم من الأصل لا يشمل حالة الجهل فلا معنى لأن يمتن على الأمة برفع ما لو لم يمتن لكان باقيا في حقها.

فهاتان قرينتان على أن مفاد حديث الرفع الرفع الظاهري، وبناء على ذلك لا يصح الاستدلال به من قبل السيد الإمام على الصحة؛ إذ غايته الرفع الظاهري والرفع الظاهري معناه عدم إيجاد الاحتياط، بمعنى أنه إذا شك في أن الزيادة في الصلاة مانع من صحة الصحة أم لا فلا يجب عليك الاحتياط بترك الزيادة، وأما أن الصلاة صحيحة واقعا أم لا مما لا دلالة للحديث عليه.

النظر الثاني: أن مفاد حديث الرفع الرفع الواقعي وهذا ما ذهب إليه جمع منهم: السيدان العلمان سيد المنتقى «قدس سره» والسيد الإمام «قدس سره» من أن مفاد حديث الرفع الرفع الواقعي، وبيان ذلك: من خلال قرينتين:

القرينة الأولى: هو السياق؛ فإن ظاهر بقية الفقرات هو الرفع الواقعي: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه والنسيان والخطأ والطيرة والحسد والوسوسة»، ومن الظاهر أن الرفع في تمام هذه الموارد رفع واقعي، فالحكم من الأول لا يشمل مورد الاضطرار والإكراه والخطأ والنسيان إلى غير ذلك، فمقتضى قرينية السياق ظهور الرفع في فقرة: ما لا يعلمون، في الرفع الواقعي.

والقرينة الثانية: أنه عندما قال: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون»، فإنه ظاهر الإسناد أن المرفوع نفس «ما لا يعلمون» وليس شيئا آخر، فكأنه قال: ما لم تعلمه هو نفسه مرفوع، ما لم تعلمه فهو مرفوع، فلو أريد به الرفع الظاهري ذكر أنه هناك تجوز أما في الرفع أو في الإسناد لأنه في حالة الرفع الظاهري لا يرتفع نفس الحكم الذي لم يعلم وإنما المرتفع وجوب الاحتياط من جهته لا أن نفس الحكم مرفوع، بينما ظاهر الحديث إسناد الرفع إلى نفس الحكم الذي لم يعلم، فإما أن يراد التجوز في الرفع وهذا خلاف الظاهر، أو التجوز في الإسناد بأن نقول: قصده: رفع ما لا يعلمون، أي رفع أثره في مرحلة الظاهر وكلاهما خلاف الظاهر، بينما إذا أريد الرفع الواقعي فكان مفاد قوله: ما لم تعلمه فهو مرفوع هو أن الحكم الذي لم يعلم لا يشمل من الأول موطن مورد الجهل، فهو من الأول قاصر الشمول عن فرض الجهل، وهذا لا يعني الدور وهو تقيد الحكم في مرحلة الجعل بالعمل به؛ لأن المرتفع في مرحلة الجعل هو فعليته وليس جعله؛ فلأجل ذلك يكون العلم مأخوذا في المجعول لا في الجعل نفسه، فلا دور في المقام، ورفع الفعلية رفع لنفس الحكم، لا كما ذكره السيد الصدر من أن رفع الفعلية أيضاً ليس رفعا للحكم، بل هو رفع للحكم؛ لأنه عندما يقول: بأن هذا الحكم مثلا وجوب الجهر الذي تسالم الأعلام على أنه لا يشمل فرض الجهل، أن وجوب الجهر لا امتداد له لحال الجهل، فمرجع رفع الفعلية إلى عدم شمول نفس الحكم لحالة الجهل فهو رفع لنفس الحكم وليس رفعا لمرتبة أو وصف أو شان من شؤون الحكم يعبر عنه بشان الفعلية كي يقال بأنه النتيجة واحدة كما ذكر السيد الصدر، يعني سواء اخترنا الرفع الواقعي أو اخترنا الرفع الظاهري فإن الرفع لم يرد على نفس الحكم بل ورد على شيء آخر، نقول: لا لو اخترنا الرفع الواقعي فمعنى الرفع الواقعي أن الحكم الواقعي من قاعه ومن حين جعله لا يمتد لفرض الجهل، وهذا ارتفاع لنفس الحكم لأنه قصور في شموله وليس رفعا لشان من شؤونه أو ثيب من ثيابه أو قلنسوة من قلنسواته.

وهذا هو الذي اخترناه في بحث حديث الرفع بأن قلنا: لو لم يكن حديث الرفع ظاهرا في الرفع الواقعي فعلى الأقل ليس ظاهرا في الرفع الظاهري، وقد سبق بحث ذلك مفصلا.

فالنتيجة: بناء على أن مفاد حديث الرفع هو الرفع الواقعي فحينئذ يصح الاستدلال به على صحة العمل واقعا دون ما إذا قلنا بأن مفاده هو الرفع الظاهري، ولكن تبقى المشكلة في المطلب الثاني وهي هل أن رفع الجزئية أو الشرطية أمر ببقية العمل كي يكون دليلا على الصحة أم لا فهذا بحث آخر فبمجرد أن نقول بأن الرفع واقعي لا يعني أننا وصلنا إلى النتيجة وهو صحة الصلاة المأتي بها في الزيادة بل لا بد أن نثبت أن رفع الزيادة لا يعني رفع الأمر بالمركب فالأمر بالمركب ما زال باقيا ونتيجة ذلك هو صحة العمل، هذا ما نبحثه إن شاء الله في الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين