الدرس 45

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى المطلب الثاني وهو أن حديث الرفع هل يشمل الترك أم لا هل يشمل الاضطرار إلى الترك أم لا؟ فلو اضطر المكلف إلى ترك السورة عند صلاته مع العامة فهل يمكن التمسك بقوله: «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه» لرفع جزئية السورة في هذا الفرض وتثبت بذلك صحة صلاته أم لا؟

فهنا ذكر وجهان لبيان أن الحديث الرفع لا يشمل فرض الاضطرار إلى الترك، وكلا هذين الوجهين مبنيان على المسلك الثالث في تحليل حديث الرفع، وهو رجوع الرفع إلى تنزيل ما في الخارج منزلة عدمه أي الرفع الادعائي لما في الخارج، وإلا إذا قلنا بالمسلك الثاني - وهو مسلك العراقي - من أن مفاد حديث الرفعِ الرفع التشريعي فهو رفع حقيقي وليس أدعائياً، إلا أنه رفع للعنوان في وعاء التشريع فإذا قال: «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه» فالمقصود أن ما اضطروا إليه ليس موضوعاً في عالم التشريع لأي أثر من الآثار، فبناء على هذا المسلك وهو الرفع التشريعي للعنوان يصح التمسك برفع ما اضطروا إليه سواء كان الاضطرار لفعل أو لترك، فسواء اضطر لزيادة في الصلاة كما لو سجد سجدة التلاوة مع العامة فإن رفع ما اضطروا إليه يشمله، أو اضطر لترك في الصلاة كما لو اضطر لترك السورة، فإن كليهما مضطر إليه والمضطر إليه ليس موضوعاً لأثر شرعي فيشمل حديث الرفع لكلا الفردين.

إنما الكلام كل الكلام بناء على المسلك الثالث ألا وهو أن مفاد حديث الرفعِ الرفع الادعائي لما في الخارج فمفاد قوله: «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه»، أن المضطر إليه مرفوع عن صفحة الخارج لكن رفعا ادعائيا، فبناء على هذا المسلك الذي ذهب إليه جمع منهم السيد الإمام «قدس سره» يقع الكلام في أن حديث الرفع هل يشمل الاضطرار إلى الترك أم لا؟

وهنا وجهان لعدم الشمول:

الوجه الأول: ما ذكره المحقق النائيني «قدس سره» وسبق عرضه من أن الرفع والوضع عنوانان متغايران، ومقتضى تغايرهما عدم شمول حديث الرفع لمورد يكون الرفع وضعاً، فكل مورد يترتب على شمول حديث الرفع له أن يكون الرفع مصداقا للوضع، يكون حديث الرفع قاصرا عن الشمول لهذا المورد، إذ ما دام المراد الجدي منه الرفع فكيف تكون نتيجة الرفع الوضع، فلأجل ذلك قال المحقق النائيني بأن حديث الرفع لا يشمل الاضطرار إلى الترك؛ لأنه إذا اضطر إلى ترك السورة فمعنى رفع السورة في حقه باعتبارها موجودة إذ رفع الموجود اعتبار لعدمه فرفع المعدوم اعتبار لوجوده؛ بمقتضى كونهما نقيضين لا يرتفعان معا، فمعنى رفع ترك السورة يعني اعتبار السورة موجودة واعتبار السورة موجودة وضع وليس وضعاً فحديث الرفع قاصر عن الشمول له ما دامت نتيجة الرفع أن يكون هذا الرفع مصداقا للوضع. هكذا أفاد النائيني «قدس سره» وهو شيخ المحققين.

لا ملازمة بين رفع كون الترك موضوعاً لأثر واعتبار الوضع موضوعاً لأثر لا ملازمة بين الأمرين لأنه الرفع في عالم التشريع يقول: ترك السورة ليس موضوعاً لأثر في عالم التشيع، هذا لا يعني أن فعل السورة موضوع ذو أثر، لا ملازمة بينهما مسألة اعتبارية الترك ليس موضوع أما الفعل موضوع لأثر أم لا؟ هذا لا يدل عليه حديث الرفع، بخلاف الرفع في عالم التكوين، لا معنى للرفع في عالم التكوين إلا ثبوت نقيضه، فإذا قال: ترك السورة ليس متحققا، يعني المتحقق وجودها، ففرق بين الرفع في عالم التكوين والرفع في عالم التشريع، الرفع في عالم التكوين يترتب عليه ثبوت نقيضه، بينما الرفع في عالم التشريع أمر اعتباري ولا ملازمة في مقام الاعتبار بين اعتبار شيء واعتبار نقيضه؛ ولذلك ذكروا في بحث الأصل المثبت أن رفع النقيض لا يثبت نقيضه ورفع الضد لا يثبت ضده لأن هذا أمر اعتباري وليس أمر خارجي حتى نقول: هذا يلزم ذلك قهراً، فرق بينهما.

ولكن يلحظ على المحقق النائيني «قدس سره» ملاحظتان:

الملاحظة الأولى: لو كان مصب الرفع هو عنوان الترك لورد هذا الإشكال بأن قال : رفع عن أمتي ما لا يعلمون وما تركوا وما... فإذا كان مصب الرفع نفس عنوان الترك، نعم، يقال: لا معنى لرفع الترك لأن رفعه يعني وضعه والحديث يدل على الرفع لا على الوضع، هذا كلام صحيح، لكن الرفع انصب على عنوان وجودي وهو عنوان المضطر إليه، وإنما الترك مصداق من مصاديق المضطر إليه، إلا أنه ليس مصبا للرفع، فبما أن مصب الرفع عنوان وجودي وهو عنوان مضطر إليه، فرفع المضطر إليه بما هو مضطر إليه لا يعني وضعه حتى يكون الرفع مصداق للرفع وإن كان بحسب مصداقه وضعاً إلا أن هذا ليس متعلقا للرفع فقولوا: فما هو متعلق الرفع ليس مصداقا للوضع، وما هو مصداق للوضع ليس متعلقا للرفع، إذن فلم يجتمع الرفع والوضع على مصب واحد كي يقال بعدم شمول حديث الرفع لمثله.

الملاحظة الثانية: سلمنا جدلا أن المرفوع هو الترك رفع عن أمتي ما تركوا، فدعوى أن الرفع هنا وضع وحديث الرفع لا يشمل ما كان وضعاً، محل تأمل؛ باعتبار أن المستنكر عرفا أن يكون الرفع وضعاً في جهة الرفع نفسه، لا في جهة أخرى، فإذا كان الرفع مستلزما للوضع في نفس جهته فيقول العرف: حينئذ لم نتخلص لم يتحقق رفع بل تحقق وضع، أما إذا كان الرفع من جهة مستلزما لوضع من جهة أخرى، فهذا مما لا يأباه حديث الرفع وأي مانع من ذلك فنقول في المقام: هل أن هذا الترك الذي حصل وهو ترك السورة - مانع من صحة الصلاة أم لا؟ فهنا يأتي مفاد حديث الرفع ليرفع الترك من هذه الجهة - جهة المانعية وعدمه - وأما بعد أن رفع الترك أو في رتبة - ليس بعدية زمانية بل بعدية رتبية - وفي رتبة متأخرة في رفع الترك أصبحت هذه الصلاة تامة لوجدانها للسورة وهذه جهة أخرى وليس نفس الجهة الأولى، فما هو المنظور إليه في الرفع هو رفع المانعية والضائرية، وما هو المنظور إليه في الوضع اعتبار هذه الصلاة تامة من حيث الاجزاء وأنها واجدة للسورة وليست فاقدة، فبالتالي هذا الإشكال أن مقتضى التباين بين الرفع والوضع عدم شمول حديث الرفع لمورد يكون الرفع وضعاً هذا محل تأمل ونظر.

نريد أن نقول: إن منشأ الاستنكار العرفي هو التناقض أو التقابل بين الرفع والوضع، فبما أن منشأ الاستهجان العرفي هو التناقض أو التقابل بين الرفع والوضع، إذن هذا الاستهجان يمنع شمول حديث الرفع لرفع يكون وضعاً في نفس جهة الرفع حتى يصير متقابلين، وأما هذا لا يمنع من شمول حديث الرفع لرفع سوف يترتب عليه أثر الوضع - طيب فليكن - لكن الملحوظ هو الرفع وإن ترتب عليه أثر الوضع وهذا لا مانع منه.

هذا هو الوجه الأول.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الإمام «قدس سره» قال: بأن حديث الرفع إنما يتعلق بما كان موضوعاً لأثر شرعي؛ إذ ما دام الرفع رفعا شرعياً أي صادرا من الشارع فلا بد أن يكون متعلق الرفع لما له أثر شرعي والترك ليس له أثر شرعي، فإن ترك السورة ليس له أثر شرعي؛ والسر في ذلك: أن فساد الصلاة بترك السورة أثر عقلي وليس أثر شرعياً بلحاظ أن من ترك السورة أدرك العقل أن ما أوتي به ليس مطابقا لما أمر به وبادراك العقل أن المأتي به ليس مطابقاً للمأمور به يدرك العقل أن الأمر ما زال باقيا، كل المسألة عقلية، لا أن الشارع توجه بخطاب جديد وهو قوله: اعد الصلاة، حتى يكون للترك أثر شرعي، بل غاية ما في المطلب أن من أدرك نقص الصلاة أدرك أن الأمر ما زال باقياً لعدم مطابقة المأتي للمأمور به، فليس للترك في نفسه أثر شرعي حتى يجر بلحاظه حديث الرفع، بينما الزيادة لها أثر شرعي لأن الزيادة بنفسها مانع من صحة الصلاة زيادة سجدة مانع من صحة الصلاة فالمانعية تترتب على نفس عنوان الزيادة، لذلك يصح رفع الزيادة بلحاظ أنها موضوع لأثر شرعي ولا يصح رفع الترك.

وقد يجاب عن ذلك - يعني عن هذا الإشكال - بوجوه:

الوجه الأول: أن يقال: إن المرفوع هو الجزئية لا الترك، والجزئية حكم شرعي، فلنفترض أن الترك ليس حكما شرعياً ولا موضوعاً لأثر شرعي لكن المرفوع بحديث الرفع جزئية المتروك، فإذا ترك السورة فقد شككنا في أن جزئية السورة ما زالت باقية شرعاً في حال ترك اضطرارا أم لا؟ فيرتفع بحديث الرفع جزئية السورة والجزئية حكم شرعي وضعي.

ولكن أورد على هذا الجواب: بأن هذا خروج عن محل الكلام، فإن المدعى أن ما يرفعه حديث الرفع هو ما اضطر إليه حيث قال: «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه»، فالمرفوع هو المضطر إليه والمضطر إليه ليس هو الجزئية حتى ترفع الجزئية بل المضطر إليه هو الترك، فلا بد أن يتعلق الرفع بما تعلق به الاضطرار، وحيث تعلق الاضطرار بالترك فلا بد أن ينصب الرفع على الترك نفسه، وبما أن الترك ليس موضوعاً لأثر شرعي، والجزئية ليست أثر من آثار الترك، إذن فبالنتيجة لا وجه رفع الجزئية مع الاضطرار إلى الترك فهو مضطر لترك الجزء لا أنه مضطر للجزئية.

هذا الجواب الأول.

الوجه الثاني: أن يقال بأن للترك أثراً شرعياً ألا وهو بقاء الأمر، فيقال: إن وجوب الإعادة وإن كان أثراً عقلياً لبقاء الأمر، إذ معنى وجوب الإعادة هو بقاء الأمر إلا أن بقاء الأمر أثراً للترك، فيقال: من آثار الترك بقاء الأمر وبما أن بقاء الأمر كحدوث الأمر أمر بيد الشارع ومما تناله يد الجعل، فبالجعل يحدث الأمر وبالجعل يبقى الأمر، إذن فبالنتيجة نشك أنه بهذا الترك جعل الشارع بقاء للأمر أم لا؟ فنرفع بقاءه بإجراء حديث الرفع في الترك الاضطراري.

ولكن الإشكال عليه واضح: وهو ما ذكر - طبعاً خلافاً لمبنى السيد الصدر - لدى الأعلام من أن بقاء الأمر متقيد عقلاً بعدم امتثاله وليس متقيدا شرعاً، فبقاء الأمر متقيد لبّاً بعدم امتثاله؛ إذ متى امتثل سقط الأمر فهذا تقيد عقلي وليس تقيداً شرعياً وبالتالي ليس للترك أثر شرعي وهو بقاء الأمر، بل أن الترك ليس عبارة إلا عن عدم الامتثال، ومقتضى عدم الامتثال عقلاً - وليس شرعاً - بقاء الأمر، ومقتضى بقاء الأمر هو وجوب الإعادة، فكل المسألة هي ملازمات عقلية وليس أثراً شرعياً.

الوجه الثالث: ما أشير إليه في كلامات العراقي «قدس سره» من أننا لو نظرنا لمسألة وجوب الإعادة وعدم وجوبها فالأمر كما قيل: إن هذا أثر عقلي، ولكن إذا نظرنا لوجوب القضاء حيث إن القضاء بأمر جديد فليس القضاء مترتباً على بقاء الأمر كي يكون هذا الترتب ترتبا عقلياً، بل القضاء بأمر جديد فانه متى ما انقضى الوقع فقد سقط الأمر الأدائي جزما، ولذلك يشك في ولادة أمر جديد بالقضاء وعدمها، فبما أن القضاء بأمر جديد فيقال: إذا شككنا في أن الشارع رفع الترك أم لا، فموطن الشك في أن الشارع هل رتب أمراً بالقضاء على الترك أم لا؟ فنقول: مقتضى رفع الترك بفقرة «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه» هو رفع وجوب القضاء فهذا رفع لموضوع لأثر شرعي.

ويلاحظ عليه: أن المتقرر في ما هو المستفاد من الروايات أن موضوع القضاء هو الفوت وليس موضوع القضاء هو الترك أو العدم والفوت عنوان انتزاعي منتزع عن عدم الصلاة مع تنجز وجوب الصلاة بتمام شروطها وشراشرها على المكلف، فإذا شككنا في أن هذا الترك له أثر أم لا، فهو شك في الفوت أي شك في موضوع وجوب القضاء والجاري حينئذ هو استصحاب عدم الفوت لا أن الجاري هو البراءة عن وجوب القضاء فوجوب القضاء فرع الفوت ونحن نشك في حدوث الفوت بهذا الترك الاضطراري فنستصحب عدم الفوت.

هذا الوجه الثالث.

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الإمام واختاره حيث قال: بل رفع الأثر العقلي برفع منشأه ممكن، فكأنه يقول: سلمنا بأن الأثر المترتب على الترك أثر عقي، لكن حديث الرفع يشمل الآثار العقلية؛ إذ لا مانع من شمول حديث الرفع للأثر العقلي إلا أن الأثر العقلي ليس بيد الشارع ولكنه في المقام بيد الشارع بلحاظ منشأه، فنحن نقر بأن وجوب الإعادة أثر عقلي، إلا أن هذا الأثر العقلي مما تناله يد الشارع بلحاظ منشأه ومنشأه بقاء الأمر، وبقاء الأمر بيد الشارع، فبلحاظ أن هذا الأثر العقلي له منشأ شرعي فيمكن رفعه برفع منشأه.

طبعا هو هنا أرسلها برقية فقط ولم يوضح قال: بل رفع الأثر العقلي برفع منشأه ممكن، لكنه في تهذيب الأصول تعرض لنفس المطلب، بيّن أن وجوب الإعادة أثر عقلي منشأه بقاء الأمر.

وهذا الجواب محل تأمل: والسر في ذلك أنه على مبناه «قدس سره» من أن الرفع في المقام رفع ادعائي أي رفع ما في الخارج ادعاء، فهذا هو المراد الاستعمالي طبعا، لا معنى لأن يكون هذا هو المراد الجدي، فرفع ما في الخارج ادعاء مراد استعمالي، والمراد الجدي بيان خلو صفحة التشريع عن هذا المرفوع فإذا افترضنا أن صفحة التشريع تقول: الترك من الأصل ليس موضوعاً لأي أثر في وعاء التشريع، فلا معنى لبيان ذلك بالرفع، إذن بما أن الرفع رفع ادعائي لما في الخارج هذا هو المراد الاستعمالي، والمراد الجدي من ذلك بيان خلو صفحة التشريع عن الأثر، فإذا كانت صفحة التشريع من الأول ليس فيها للترك أي أثر، فأي معنى لإبراز رفعه حينئذ، إذن فبالنتيجة فهذا التوسل والتحيل لا يجدي شيئا ما دام الترك من الأصل ليس له أثر في وعاء التشريع سواء كانت حالة اضطرار أم لا تكن، الترك ليس له أثر، فإذا كان الترك مما لا أثر له في وعاء التشريع أصلاً لا في حالة الاضطرار ولا في غيرها، فلا معنى لإبراز عدم الأثر إليه بفقرة «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه».

ومن الواضح - حتى في كلامه - أن بقاء الأمر ليس أثراً شرعياً للترك، وإلا لقلنا من الأول: إن المرفوع هو بقاء الأمر ب «رفع عن أمتي ما اضطروا إليه»، بل هو متقيد عقلاً بعدم الامتثال.

فإذن يبقى الوجه الذي ذكرناه من أول الأمر: وهو أن كل هذا الكلام والنقض والإبرام مبني على تعلق الرفع بعنوان الترك، ولكن الرفع لم يتعلق بعنوان الترك كي يقال: أن ما تعلق الرفع لا أثر له شرعاً، وإنما تعلق الرفع بعنوان المضطر إليه، والمضطر إليه لا محالة له أثر شرعي، فبما أن الرفع منصب على عنوان المضطر إليه فلا بد أن نبحث هل أن للمضطر إليه في رتبة سابقة على الرفع أثر شرعي أم ليس له أثر شرعي، لا أن ندور مدار أن الترك له أثر شرعي أم لا، فإن هذا مجرد مصداق من مصاديق المضطر إليه، والمفروض أن المضطر إليه في المقام ليس عنوان الترك، بل المضطر إليه في المقام هو الإخلال والإخلال بالصلاة وعدم امتثال الأمر، فبما أن المضطر إليه له أثر فبلحاظ ذلك يصح تعلق الرفع به.

ويأتي الكلام في بقية الكلام.

والحمد لله رب العالمين