الدرس 46

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أنه هل يجري حديث الرفع في فرض الاضطرار إلى الترك أم لا؟ وذكرنا خمسة وجوه ليبان شمول حديث الرفع لفرض الاضطرار إلى الترك، سواء كان ترك جزء أو ترك شرط، وكان المتحصل من الوجه الخامس أن الإشكال إنما يرد لو كان متعلق الرفع نفس الترك وأما لو كان متعلق الرفع عنوان المضطر إليه فالإشكال غير وارد، وهذا مما يحتاج إلى بيان، وبيان ذلك بذكر مقدمتين:

المقدمة الأولى: أن يقال: أن التناقض بين الرفع والوضع حيث إنه بين واضح لدى المرتكز العرفي فمقتضى ارتكازيته تشكل دلالة التزامية لحديث الرفع، فبما أن المدلول المطابقي لحديث الرفع هو رفع المضطر إليه عن صفحة الخارج ادعاء، فلا محالة لهذا المدلول المطابقي مدلول التزامي وهو تنزيل وجود المضطر منزلة عدمه، فكأنه اعتبر عدمه، فإذا افترضنا مثلا أن المكلف قد اضطر للزيادة، كما إذا اضطر لزيادة سجدة، فمفاد حديث الرفع ليس مجرد الرفع، أي رفع الزيادة عن صفحة الخارج ادعاء، بل مدلوله الالتزامي اعتبار أن الصلاة وجدت من دون زيادة، فالمدلول الالتزامي تنزيل المضطر منزلة عدمه.

هذا ما يرتبط بالمقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: لا يعتبر في جريان حديث الرفع أن يكون المرفوع ذا أثر شرعي في رتبة سابقة على الرفع، بل يتحقق الرفع الشرعي سواء برفع أثر المضطر إليه أو بأن يكون في رفع المضطر إليه أثر شرعي، فإن الموجب لاشتراط الأثر الشرعي هو انتساب الرفع إلى الشارع، حيث إن هذا الرفع صادر من الشارع، فمقتضى صدور الرفع من الشارع أن يكون هناك أثر شرعي تحت يد الشارع والا لم ينتسب الأثر إليه بما هو شارع، لكن هذا الأثر الشرعي لا يشترط أن يكون في رتبة سابقة على الرفع، بحيث نقول: إن كان المضطر إليه أو المكره عليه أو الخطأ أو النسيان أثر في رتبة سابقة رفع ذلك الأثر بحديث الرفع بل يكفي في انتساب الرفع إلى الشارع المقدس أن يكون في الرفع أثر شرعي فإنه إن كان في الرفع أثراً شرعيا صح انتسابه إلى الشارع.

فبناء على هاتين المقدمتين نقول: إن كان متعلق الرفع هو الترك بعنوانه كما لو فرضنا أن اللفظ الوارد في الحديث رفع عن أمتي ما تركوا مثلا فهنا لا يكون الرفع رفعا شرعيا؛ وذلك لأن الترك هو العدم المستند إلى المكلف لا العدم في نفسه، فلو فرضنا أن المكلف ترك السورة فحينئذ يصدق الترك وعدم السورة اعم فبما أن متعلق الرفع هو الرفع أي العدم المستند إلى المكلف فليس هناك أثر شرعي لا للمرفوع ولا للرفع، لا للمرفوع لأن العدم المستند إلى المكلف ليس موضوعا لأثر فموضوع الأثر وهو البطلان هو العدم نفسه لا العدم المستند إلى المكلف فإن الموجب للإعادة أو القضاء عدم السورة لا العدم بما هو مستند إلى المكلف، إذن فالترك وهو العدم المستند إلى المكلف ليس موضوعا لأثر، وإن أردنا أثراً بالرفع نفسه أيضاً لا يوجد أثر لرفع الترك؛ لأن رفع الترك راجع إلى تنزيله  كما ذكرنا في المقدمة الأولى  منزلة عدمه فكان مفاد الحديث أن المكلف لم يصدر منه ترك، لكن عدم صدور ترك منه اعم من صدور فعل، فتنزيل الترك منزلة عدمه لا يعني اعتبار وجود الفعل، فلو فرضنا أن المكلف ترك سورة لاج تقية فتنزيل تركه للسورة منزلة عدمه لا يعني أن الشارع اعتبر السورة موجودة، فإذن لا أثر للمرفوع وهو الترك ولا أثر في رفعه بخلاف ما لو قلنا:  كما هو ظاهر اللفظ  إن الرفع متعلق بعنوان المضطر إليه، أي أن نفس المضطر إليه مرفوع سواء كان مصداقه الخارجي هو الفعل أو كان مصداقه الخارجي هو الترك، فحينئذ يقال: بما أن المرفوع هو المضطر إليه فما هو المضطر إليه في هذا الفرض فإن المضطر إليه في هذا الفرض هو عدم تحقيق الجزئية أو عدم تحقيق الشرطية حيث إنه إما ترك السورة أو ترك الاطمئنان أو ما أشبه ذلك لاضطرار، فما هو مضطر إليه هو عدم تحقيق الجزئية أو عدم تحقيق الشرطية، وهذا العدم وان لم يكن له أثر شرعي  لأن أثره عقلي وهو بطلان الصلاة  في رتبة سابقة على الرفع إلا أن في رفعه أثراً شرعيا والوجه في ذلك: أن رفعه بمعنى تنزيله منزلة عدمه، وتنزيل عدم الجزء منزلة عدمه يعني اعتباره موجودا، فإن تنزيل عدم السورة منزلة عدمها يعني اعتبار السورة موجودة واعتبارها موجودة أثره الشرعي هو الإجزاء أو الصحة الذي هو نريد ترتيبه بحديث الرفع.

فظهر بذلك أنه لما كان الرفع الادعائي لما في الصفحة التكويني عبارة عن التنزيل منزلة العدم واعتبر في الرفع أثر شرعي وانه يكفي في هذا الأثر أن يكون أثر للرفع وان لم يكن للمرفوع فكان في تنزيل المضطر إليه منزلة عدمه أثر شرعي ألا وهو الإجزاء جرى حديث الرفع وإن كان المضطر إليه هو الترك.

هذا تمام الكلام في التمسك بحديث الرفع لنفي المانعية أو نفي الإخلال بالجزئية أو الشرطية.

ثم نأتي إلى الدليل الثاني: ألا وهو الاستدلال بحديث لا تعاد، فهل يصح الاستدلال بحديث لا تعاد لرفع المضطر إليه كما لو افترضنا أن المكلف اضطر لسجدة زائدة أو اضطر لترك السورة أو اضطرت المرأة لكشف شيء من شعرها وأشباه ذلك، فهل يمكن تصحيح الصلاة بهذا الفرض بحديث لا تعاد أم لا؟

فذهب السيد الأستاذ «دام ظله» كما ذهب ذلك جمع منهم السيد الإمام «قدس سره» أنه يمكن تصحيح الصلاة في هذا الفرض بحديث لا تعاد؛ والوجه في ذلك  كما هو بيان السيد الأستاذ  أن ظاهر حديث لا تعاد أنه مسوق مساق المعذرية، ومقتضى ظهور السياق في المعذرية هو أن المنصرف عرفا في ذيله الذي هو بيان للكبرى أن من أخل بالسنة عن عذر فإن إخلاله بالسنة لا يوجب انتقاض الفريضة، فمعنى لا تنقذ السنة الفريضة هو أن من أخل بالسنة عن عذر فإن هذا لا يوجب انتقاض الفريضة، وبما أن الاضطرار عذر عقلائي فمن اضطر لترك السورة أو زيادة سجدة أو الإخلال بستر العورة وأمثال ذلك فإن الاضطرار عذر عقلائي، فبما أنه عذر عقلائي يشمله الذيل أن من أخل بالسنة كزيادة سجدة فإنه من السنن أو ترك السورة فإن السورة من السنن وأمثال ذلك فإن إخلاله بالسنة لا يوجب إخلاله بالفريضة فإن صلاته صحيحة بلا تعاد.

ولكن قد يورد على هذا الاستدلال بإيرادين:

الإيراد الأول: ما هو مذكور في كلامات سيدنا «قدس سره» والذي اعتبره وجها لانصراف لا تعاد عن موارد العمد ولو كان العمد عمداً اضطرارياً، أن لسان لا تعاد حيث قال: لا تعاد الصلاة إلا من خمس، ظاهر فيمن التفت للخلل بعد وقوعه لا من التفت للخلل أثناء وقوعه، حيث إن من التفت للخلل بعد وقوعه كما لو ترك السورة ثم ركع فالتفت إلى أنه ترك السورة أو زاد سجدة ثم التفت إلى أنه زاد سجدة فهنا يُترقب في حقه خطاب الإعادة فيقال له: أعد لأنك زدت سجدة أو تركت سورة، فحيث يُترقب في حقه خطاب الإعادة جاء خطاب لا تعاد لنفي هذا الخطاب المترقب فقال: لا تعاد الصلاة إلا من خمسة، أما من كان ملتفا للخلل أثناء وقوعه فهو يصلي خلف إمام العامة وهو ملتفت إلى أنهم سيسجدون لقراءة سورة العزيمة فسجد ملتفتا إلى أن هذا خلل أو صلى خلفهم وهو يعلم انههم لا يقراون السورة الكاملة وهو ترك الصورة التامة اضطرار وأشباه ذلك أو هذه المرأة التي تبين لها انكشاف شيء من شعره فالتفت لذلك فأرادت أن تستره، فإن هذه اللحظة لحظة الستر الخلل فيها عمدي ملتفت إليه، إذن ففي فرض أن يكون الخلل ملتفا إليه فهذا المكلف لا يخاطب بالإعادة فالخطاب المترقب في حقه ليس هو خطاب الإعادة بل هو خطاب المترقب امتثل الأمر الأول لأنك لا زلت في صراط امتثاله، فبما أنه لا يُترقب في حقه خطاب بالإعادة فلا يشمله حديث لا تعاد فإن لا تعاد الصلاة إنما هو نفي لترقب خطاب بالإعادة وهذا لا يصدق على من كان ملتفا للخلل أثناء وقوعه.

لكن هذا الإيراد أجيب عنه بأن التعبير بلا تعاد كالتعبير بأعاد ما هو إلا إرشاد إلى إرشاد إلى الصحة وعدمه، فإذا قيل: من زاد في صلاته فعليه الإعادة فهو إرشاد إلى الفساد، وإذا قيل: لا تعاد الصلاة إلا من خمسة، فهو إرشاد إلى الصحة ولا موضوعية للتعبير ب «لا تعاد» و«أعاد» كي ندور مدار حرفيتها كي نقول: إنما يصح الخطاب ب «لا تعاد» عندما يصح الخطاب ب «أعاد» ولا يصح الخطاب ب «أعاد» إلا فيمن التفت للخلل بعد وقوعه دون من التفت للخلل حين وقوعه، فإنه ما دام الخطاب إرشاديا فلا موضوعية له نظير أن يقول الشارع: يكفيك من التراب عشرة سنين فإنه لا موضوعية لعشرة سنين وهل هناك تراب يكفي عشر سنين إنما هو إرشاد إلى طهورة التراب ليس إلا، فلا خصوصية أو فلا موضوعية للسان عرفا إذا كان في مقام الإرشاد، والكبرى - هذا جواب آخر - وعلى فرض أن ظاهر الصدر وهو حديث لا تعاد أنه ناظر لمن يصح خطابه بأعاد إلا أن الكبرى المعول عليها هي ما ورد في الذيل وما ورد في الصدر ما هو إلا تطبيق من تطبيقاتها وصغرى من صغرياته:

كان صغرى وكبرى من فقاقعها حصباء در على ارض من الذهب

فحينئذ يقال بأنه بما أن الكبرى هي الموجودة في الذيل فإنما في الذيل هو عبارة عن من أخل بالسنة عن عذر لم يكن إخلاله موجبا لنقض الفريضة وهذا المفاد عام لمن التفت للخلل بعد وقوعه ومن التفت إليه إثناء وقوعه.

الإيراد الثاني: أن يقال بأنه لو اضطر لترك السورة أو زيادة السجدة أو... فإما أن يكون الاضطرار غير مستوعب، أو أنه اضطرار مستوعب، فإن لم يكن مستوعباً كما جاء طفل فاخذ ما يصح السجود من بين يديه وهرب فهل هنا يقال عرفا أن هذا مضطر لأن يسجد على الزل أو يقال: لا، ما دام مخاطباً بطبيعي الصلاة عن سجود على ما يصح السجود عليه وهو قادر على امتثاله بأن يذهب ويأت بما يصح السجود عليه، فلا يراه المرتكز العرفي معذورا أصلاً، أو نظير ما إذا جاء صغير وسحب الحجاب من المرأة فبقيت بلا ساتر فهل يقول المرتكز العرفي: معذورة أن تصلي بلا ساتر، إشكاله أن المرتكز العرفي يقول: إنه ما دامت مخاطبة بالطبيعي وهي قادرة على أن تمتثل هذا الطبيعي إلا وهو طبيعي الصلاة عن ساتر وليست معذورة، أو كان الشخص يصلي بساتر للعورة فسقط ساتر العورة فهل يقال بأن هذا المكلف مضطر ومعذور بأن يصل عاريا، كان المرتكز العرفي لا يراه معذورا ولأقل من الشك في معذوريته فحتى لو سلمنا مع من يقول بهذا المبنى وهو أن مفاد الذيل أن من أخل بالسنة عن عذر لم يكن إخلاله بالسنة عن عذر لم يكن إخلاله بالسنة عن عذر موجبا لنقض الفريضة فإن صدق العذر على هذه الموارد من موارد الاضطرار غير المستوعب غير معلوم وإن كان الاضطرار مستوعباً كما لو افترضا أن هذا الشخص أصلاً لا يتمكن من أن يصل بساتر فإذا كان غير متمكن طيلة الوقت أن يصلي بساتر فالأمر أصلاً بالصلاة عن ساتر للعورة سقط؛ لعدم القدرة على امتثاله أو لأجل الاضطرار لترك امتثاله وهو مرفوع عنه وإذا سقط الأمر بالمركب فليس هناك فريضة كي يقال أن الإخلال بالسنة لا يوجب نقضها، فإنه إنما يكون الإخلال بالسنة غير ناقض بالفريضة لو كان هذا المكلف مأموراً بالفريضة، وأما لو سقط أصل الأمر بالمركب فلا يوجد فريضة كي يبحث أن الإخلال بالسنة ناقض لها أم ليس بناقض لها، فالنتيجة أن التمسك بلا تعاد لا يصح لا في فرض كون الاضطرار غير مستوعب ولا في كون الاضطرار مستوعباً، بل لا بد من البحث عن دليل آخر.

الدليل الثالث: ما تشبث به السيد الإمام وأصر عليه وهو التمسك بأدلة التقية حيث قال بأن مفاد أدلة التقية تصحيح العمل أي كان سواء كان مضطر للفعل، مضطر للترك، سواء كان في واجب استقلالي في واجب ضمني لمحرم بواجب إلى آخره، وابتدأ بصحيحة الفضلاء وهو قوله: التقية في كل شيء يضطره ابن ادم فقد أحله الله له، وقد تمسك بهذه الصحيحة وما شابهها في التعبيرات، على أن من اضطر لترك السورة فهو حلال أي صحيحة. ومن اضطر لترك الصيام كما لو اضطر لأن يأكل مع العامة قبل الغروب الشرعي فإن صلاته حلال بمعنى صحيح فهل صحيح هذا الاستدلال أم لا؟

يأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى

والحمد لله رب العالمين