الدرس 50

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا فيما سبق أن محل البحث الاضطرار غير المستوعب مع عدم الالتفات لانقضاء الاضطرار أثناء الوقت بحيث إن المكلف استصحب بقاء الاضطرار إلى آخر الوقت على نحو الاستصحاب الاستقبالي، وذكرنا أن البحث في جهات:

الجهة الأولى: في أن العبادة التي صدرت من المكلف ثم التفت لانقضاء الاضطرار أثناء الوقت هل يمكن تصحيحها بأدلة الاضطرار أم لا؟ وذكرنا أن المنصرف من أدلة الاضطرار الاضطرارُ المستوعب ما لم يكن هناك دليل خاص في بعض الموارد كأدلة التقية المداراتية مثلا الواردة في الصلاة مع العامة.

والجهة الثانية: في تمامية جريان الاستصحاب الاستقبالي في هذا المورد وهو مورد العذر فهل يجري استصحاب بقاء العذر إلى آخر الوقت أم لا؟ مثلا من كان فاقدا للماء فعلا أو كان عاجزا عن استخدام الماء فعلا وشك في تجدد القدرة له أثناء الوقت أم لا فهل يجري استصحاب العجز وعدم القدرة إلى آخر الوقت لينقح بذلك أنه موضوع للأمر بالتيمم أم لا؟

أو مثلا من كان عاجزا عن القيام في الصلاة في أول الوقت فهل يستصحب عجزه عن القيام إلى آخر الوقت فيكون بذلك مصداقا لقوله: المريض يصلي جالسا وأمثال ذلك.

فالمعروف بينهم خصوصا في كلمات سيدنا «قدس سره» هو جريان الاستصحاب الاستقبالي فمقتضى استصحاب بقاء العجز إلى آخر الوقت أن هذا المكلف مصداق لقوله: المريض يصلي جالسا، وهكذا تشبث سيدنا كثيرا في موارد الأعذار بالاستصحاب الاستقبالي.

ولكن المحقق العراقي «قدس سره» في روائع الامالي في فروع العلم الإجمالي استشكل في جريان الاستصحاب الاستقبالي في هذه الموارد أي موارد الأعذار، والوجه في إشكاله أن موضوع الأمر الاختياري القدرة على صرف الوجود، ومقتضى ذلك أن يكون موضوع الأمر الاضطراري عدم القدرة على صرف الوجود، وعدم القدرة على صرف الوجود لا يمكن إثباته بالاستصحاب أي استصحاب العجز في أول الوقت أو استصحاب عدم القدرة في أول الوقت إلا بنحو الأصل المثبت.

وبيان ذلك: أنه لا ملازمة عرفا بين العجز في بعض من الوقت وعدم صدق القدرة إذا كان قادرا ولو في آن من الآنات مثلا من الفت ليلا إلى أنه غدا قادر على شراء اللحم ولو في خمس دقائق من اليوم كله، فلا يقال لهذا الشخص إنه عاجز عن صرف شراء اللحم لأنه عاجز ليلا وعاجز في تمام النهار ما سوى خمس دقائق منه بل يقال: إنه قادر، فمع أنه بالنظر إلى وضعه الفعلي وهو كونه في الليل أو بالنظر إلى مجموع نهاره هو عاجز عن شراء أو صرف وجود الشراء لكن حيث إنه قادر على هذا الصرف فيقول العرف: إنه قادر ولا يقول بأنه عاجز، مما يكشف عن أنه لا ملازمة عرفا بين العجز في بعض من الوقت وبين انتفاء العنوان عرفا، بل بالعكس، بل يراه العرف مصداقا للقادر وإن كان عاجزا في اغلب الوقت ما كان قادرا على صرف الوجود، فلأجل ذلك إذا شك المكلف وهو في أول الوقت أنه هل هو قادر على صرف الصلاة قائما أم ليس قادرا على ذلك فهو بلحاظ وضعه الفعلي هو عاجز فإنه في أول الوقت مريض ومرة لنفترض ثلثا الوقت ومع ذلك هو مريض وما زال شاكا في أنه بنظر العرف هل هو من القادر أم من العاجز لأنه لو كان قادرا على صرف وجود الصلاة قائما ولو في خمس دقائق فهو بنظر العرف قادر وليس بعاجز فإذا شك في ذلك فعدم القدرة على صرف الوجود لم تحرز له حالة سابقة بل هو شاك من الاول في أنه مصداق للعاجز أو مصداق للقادر لا أن لعدم القدرة حالة سابقة كي يجري الاستصحاب بلحاظها فليس عنده يقين سابق بعدم القدرة على صرف الوجود كي يستصحب هذا العدم بل هو من أول الأمر ومن حين دخول الوقت هو شاك في أنه مصداق للقادر أم مصداق للعاجز، فكيف يجري استصحاب عدم القدرة لإثبات عدم القدرة على صرف الوجود الذي هو موضوع الأمر الاضطراري؟!

فإن قلت: حيث إن المحقق العراقي «قدس سره» بنفسه في نهاية الأفكار ناقش ولم يرتض هذا الكلام الذي ذكره في روائعه فذكر في نهاية الأفكار أنه ما دام المكلف في أول الوقت عاجزا عن الصلاة في أول الوقت وعاجزا عن الأفراد المستقبلية للصلاة أيضاً في أول الوقت فإن من كان في الدقيقة الأولى من الوقت كما هو عاجزا عن الأفراد العرضية للصلاة إذا كان مريضا فهو عاجزا عن الأفراد الطولية لأنه لم يأت وقتها بعد فكل فرد طولي من الصلاة له حصة وقطعة من الزمن فالمكلف في أول الوقت يصدق عليه أنه عاجز عن الصلاة في أول الوقت، وعاجز عن تمام الأفراد الطولية للصلاة إلى آخر الوقت وعاجز عن صرف الوجود فإنه في أول الوقت إذا كان مريضا كان عاجزا عن صرف وجود الصلاة فيستصحب عجزه الثابت بالفعل إلى آخر الوقت ليثبت بذلك أنه مصداق لمن ليس قادرا على الصلاة قائما في تمام الوقت، وإذا لم يثبت - يقول العراقي «قدس سره» في نهاية الأفكار هذا الكلام - وإذا لم يحرز باستصحاب عدم القدرة إلى آخر الوقت موضوع الأمر الاضطراري افترضنا أنه ما أحرز نفس الموضوع للأمر الاضطراري فلا اقل من أن الملازمة بين عدم القدرة على جميع أفراد الصلاة وعدم القدرة على صرف وجود الصلاة ملازمة عرفية وليست ملازمة عقلية فإثبات عدم القدرة على تمام أفراد الصلاة ملازم عرفا لثبوت عدم القدرة على صرف وجود الصلاة وحيث إن الملازمة بينهما عرفية إذن فإثبات هذا بهذا ليس من الأصل المثبت بلحاظ أن الواسطة بينهما خفية نتيجة الملازمة العرفية الواضحة بينهما.

إذن فلا مورد للإشكال على - الذي هو إشكاله - جريان استصحاب عدم القدرة أو استصحاب العجز إلى آخر الوقت.

ولا ندي هل كتب هو روائع الامالي متأخراً أو لأن نهاية الأفكار تقرير لبحثه ولكن الروائع كتبها بقلمه ولا ندري أيهما المتقدم وعلى كل حال.

والصحيح ما ذكره من الإشكال في كتابه الروائع لا ما دفع به الإشكال في نهاية الأفكار؛ والسر في ذلك: أن المكلف متى ما كان قادرا على الصلاة قائما ولو في جزء من الوقت تحقق الموضوع الأمر الاختياري فإن موضوع الأمر الاختياري كون الصلاة قائماً - يعني هذا الطبيعي بما هو طبيعي - مقدورا فموضوع الأمر الاختياري هو هذا العنوان كون الصلاة قائماً امرأ مقدوراً، فبما أن هذا موضوع الأمر الاختياري فلا محالة موضوع الأمر الاضطراري عدم ذلك وليس شيئا آخر عدم كون الصلاة قائما أمراً مقدوراً فعدم ذلك هو موضوع الأمر الاضطراري وليس موضوع الأمر الاضطراري العجز عن الصلاة في أول الوقت فإن هذا عجز عن حصة من الصلاة وليس موضوع الأمر الاضطراري العجز عن تمام أفراد الصلاة، لا، فإن هذا أيضاً ليس موضوعا للأمر الاضطراري كي نثبته بالاستصحاب، بل موضوع الأمر الاضطراري عدم القدرة على الصلاة قائما يعني على هذا الطبيعي ألا وهو طبيعي الصلاة قائما عدم القدرة عليه وبالتالي ما يراد استصحابه في أول الوقت هل هو عجز المكلف عن تمام الأفراد العرضية والطولية في أول الوقت أو ما يراد استصحابه عجزه عن صرف الوجود، أو ما يراد استصحابه عجزه عن الحصة، فإن كان ما يراد استصحابه عجزه عن الحصة فقد ذكرنا أن عدم القدرة على الحصة ليس موضعا لأثر أصلاً، وإن كان ما يراد استصحابه أن المكلف أول الوقت عاجز تمام الأفراد العرضية للصلاة لأجل مرضه وعاجز عن تمام الأفراد الطولية للصلاة لا لأجل مرضه بل لأجل عدم مجيء وقتها فإن الأفراد الطولية لم يأت وقتها فلذلك هو أول الوقت عاجز عن تمام الأفراد العرضية لمرضه عاجز عن تمام الأفراد الطولية لعدم مجيء وقتها إلا أن هذا لا يثبت عجزه عن صرف الوجود فإن عجزه عن تمام الأفراد لا لأجل مرضه وعدم قدرته بل لأجل عدم حضور وقتها والتلازم بينهما تلازم عقلي وليس تلازم شرعيا، وأما إذا كان ما يراد استصحابه هو عجزه عن صرف الوجود فيقال بأن المكلف في أول الوقت عاجز عن صرف وجود الصلاة فبهذا اللحاظ نستصحب عجزه عن صرف وجود الصلاة إلى آخر الوقت فيتنقح موضوع الأمر الاضطراري لكن هذا غير صحيح لأن عجز المكلف عن صرف وجود الصلاة أول الوقت يجتمع مع قدرته على صرف وجود الصلاة أثناء الوقت فإنه لو كان في علم الله قادرا على الصلاة قائما ولو خمس دقائق من الوقت لم يكن عاجزا عن صرف وجود الصلاة بين الحدين إذن فبالنتيجة ما هو موضوع الأمر الاضطراري وهو عدم القدرة على الصرف عدم القدرة على الطبيعي وهو عدم الطبيعي وهو طبيعي الصلاة قائما مما ليس له حالة سابقة فهو من أول الأمر يشك أصلا، لا أنه تيقن به فيجري استصحابه؛ فهو من أول الأمر يشك أن عدم القدرة على الطبيعي بين الحدين هل هو ثابت في حقه أم غير ثابت، فالشك شك في الحدوث وليس شكا في البقاء ولأجل ذلك لا يجدي استصحاب عجزه عن تمام الأفراد إلى آخر الوقت لإثبات عدم قدرته على صرف الوجود بدعوى أن الملازمة بينهما عرفية، والسر في ذلك: إنما يتعدى ويقفز من مورد الاستصحاب إلى لازمه العرفي إذا كان موطن الاستصحاب نفسه مجرى لأثر شرعي فإذا افترضنا أن موطن الاستصحاب مجرى لأثر شرعي وله لازم شرعي لكن بواسطة غير شرعية فيقال: إذا كان ذلك اللازم من اللازم البين بالمعنى الأخص بحيث تخفى الواسطة على العرف فيراه العرف لازما لنفس مجرى الاستصحاب فيثبت به أما إذا كان نفس مجرى الاستصحاب مما ليس له اثر شرعي ويريد أن نقفز منه إلى ما له اثر شرعي لنثبت بحجة الملازمة العرفية فإن هذا ليس من مواطن الاستثناء من الأصل المثبت فإن مواطن الاستثناء من الأصل المثبت المعبر عنه بخفاء الواسطة - طبعا على فرض التسليم به والسيد الخوئي لا يسلم به - وهو أن ينتقل إلى اللازم البين بالمعنى الأخص الذي تخفى الواسطة بينه وبين مجرى الاستصحاب ما إذا كان مجرى الاستصحاب في نفسه ذا اثر شرعي وأما في محل كلامنا فالعجز عن تمام الأفراد العرضية والطولية ليس موطنا للأثر حتى يقال: يجري الاستصحاب فيه فيثبت به الآثار الشرعية المترتبة على لازمه.

فتحصل بذلك أن ما أفاده المحقق العراقي وما ذكره «قدس سره» من الإشكال في جريان الاستصحاب الاستقبالي وهو استصحاب العذر مع كون موضوع الأمر الاضطراري عدم القدرة على صرف الوجود ما ذكره من الإشكال تام وقد تبنى هذا الإشكال السيد الصدر «قدس سره» والسيد الأستاذ «دام ظله» وأما ما ذكر من الدفاعات في نهاية الأفكار فلعله متقدم على بحثه في روائع في بحث العلم الإجمالي أو على أية حال.

هذا ما يتعلق بالجهة الثانية من بحثنا.

الجهة الثالثة: قلنا: إذا كان الدليل الأمر الاضطراري لا يشمل الاضطرار غير المستوعب كما لو صلى المريض جالسا ثم تجددت له القدرة وأصبح قادا على القيام أثناء الوقت فدليل الأمر الاضطراري وهو قوله المريض يصلي جالسا لا يشمل هذه الصلاة وإذا لم يشمل هذه الصلاة فإذن فلا مصحح لها وإذا لم يكن لها مصحح فمقتضى ذلك امتثال الأمر الأولي في حقه.

أما إذا افترضنا كما ذهب إليه السيد الإمام وغيره أن الأمر الاضطراري مطلق يشمل الاضطرار المستوعب والاضطرار غير المستوعب فحينئذ لا بد أن نبحث في هذه الجهة - الثالثة - هل أن الأمر الاختياري مطلق أيضاً لمن صلى صلاته اضطرارية ثم تجددت قدرته أم ليس مطلقا. فإن قلنا بأن الأمر الاختياري وهو قوله: إذا قوي فليقم، ليس مطلقا، كما لو افترضنا أن الدليل هو الإجماع أو أن التعبير ظاهر فيمن كان يقوى في كل الوقت على القيام إذن فمقتضى القاعدة أن صلاة من صلى جالسا صحيحة لأن الأمر الاضطراري شملها والأمر الاختياري لم يشملها فمقتضى ذلك صحتها، أما إذا افترضنا أن الأمر الاختياري أيضاً مطلق فمقتضى الأمر الاضطراري صحة صلاته لأن الصلاة وقعت عن أمر ومقتضى الأمر الاختياري أن من تجددت له القدرة أثناء الوقت شمله إذا قوي فليقم، فهل يتعارض إطلاق الأمر الاضطراري مع إطلاق الأمر الاختيار أم يقدم احدهما على الآخر.

فذهب جمع من الأعلام منهم السيد الخوئي والمحقق العراقي إلى حكومة الأمر الاضطراري على الأمر الاختياري فالأمر الاضطراري حاكم على إطلاق الأمر الاختياري ومقتضى هذه الحكومة هو صحة صلاته، وتعبيرنا بالحكومة كعنوان جامع وإلا بعضهم يعبر بالتقييد ولم يعبر بالحكومة، وذكروا لذلك عدة وجوه:

الوجه الأول: ما ذكر في عدة من الكلمات منهم سيد المستمسك «قدس سره» أن مقتضى الإطلاق المقامي للأمر الاضطراري هو صحة صلاته فإن قوله: المريض يصلي جالسا مع الالتفات إلى أنه يشمل من كان مريضا جزءا من الوقت ينعقد له إطلاق مقامي وهو عدم وجوب الإعادة عليه وان تجددت قدرته إذ لو كان يجب عليه الإعادة لنبه على ذلك مع كونه في مقام البيان فحيث لم ينبه على ذلك فمقتضى الإطلاق المقامي له يعني لهذا الدليل هو الخروج عن إطلاق الأمر الاختياري وتصحيح صلاته.

ولكن هذا الكلام موطن تأمل:

أولاً: هل أن هذا فرد متعارف بأن يكون مثلا مريضا مضطرا ثم تتجدد قدرته أثناء الوقت بحيث يكون تعارف الفرد موجبا لترقب خطاب بالإعادة وعدمها فينفى الخطاب المترقب بالإطلاق المقامي أم لا؟ حيث ذكرنا سابقا أن الأمر الاضطراري في الاضطرار المستوعب له هذا الإطلاق المقامي لأن تجدد القدرة بعد الوقت فرد كثير ومتعارف أن المريض يشفى بعد أيام فهذا أمر متعارف لأجل أنه أمر متعارف يستفاد من الإطلاق المقامي والسكوت عن التنبيه أن صلاته صحيحة، أما ارتفاع الاضطرار أثناء الوقت هل هذا فرد متعارف لينعقد الإطلاق المقامي يكفينا الشك في ذلك حيث إنه شك في انعقاد الإطلاق المقامي في نفسه ولأجل ذلك التشبث بالإطلاق المقامي لإثبات صحة صلاته والخروج بهذا الإطلاق المقامي عن إطلاق الاختياري غير واضح.

وثانياً: من عبر بالتقييد في المقام تعبيره غير صحيح باعتبار أن النسبة بين الأمر الاضطراري والأمر الاختياري هو العموم من وجه وليس اخص مطلقا بلحاظ أن الأمر الاختياري يشمل من لم يكن مريضا أصلاً ومن تجددت له القدرة والأمر الاضطراري يشمل من تجددت قدرته ومن استمر مرضه إلى آخر الوقت فبينهما عموما من وجه فلأجل ذلك لا يصلح أن يكون إطلاق المقامي للأمر الاضطراري مقيدا لإطلاق الأمر الاختياري فلابد أن نذهب لدعوى الحكومة لا لدعوى التقييد وهذا ما يأتي في كلام العراقي فهو متوسع في هذا البحث جدا في نهاية الأفكار فلذلك نتابع كلامه هنا.

والحمد لله رب العالمين