الدرس 109

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام في الضميمة المحرمة بتفاصليها ووصل الكلام إلى الضميمة إلى الضميمة غير المحرمة، سواء كانت مباحة أو راجحة، كما إذا صلى بقصد القربة وبقصد تعليم الصلاة، فإنّها ضميمة راجحة، أو صلّى بقصد القربة وبقصد أن يطمئن عياله بأنّه موجود في المكان، فإنّها ضميمة مباحة، وهنا قد أفاد الأعلام ومنهم سيّدنا «قده»، صورا أربع:

الصورة الأولى: أن تكون الضميمة تبعيةً، والداعي المستقل هو داعي القربة، ولا إشكال حينئذ في الصحة لعدم قادحية مثل هذه الضميمة التبعية بعد أن لم تكن مخلّة بقصد القربة.

الصورة الثانية: عكس المسألة، وهي أن يكون الداعي القربي تبعيا، والداعي الأصيل هو الضميمة، ولا إشكال حينئذ في البطلان لعدم كفاية قصد القربة في المحركية.

الصورة الثالثة: ما إذا كان الداعيان منظمين بحيث لولا انضمامهما واجتماعهما لما صلّى المكلف، وهذه الصورة أيضا محكومة بالبطلان لعدم كفاية الداعي القربي في المحركية.

الصورة الرابعة: ما إذا كان كل واحد منهما مستقلاً في الداعوية وكافيا في المحركية لو انعزل عن الآخر، وإن كان صدور العمل فعلا مستندا لمجموعهما؛ لاستحالة صدور المسبب عن سببين مستقلين فلا محالة يكون وجود الصلاة مستندا إلى مجموع الداعيين في المقام، إلّا أنّ كلا منهما لو خُلي ونفسه لكان كافيا في الداعوية، فهنا فصّل المشهور في هذه الصورة، كما ذكره سيّدنا في بحث الوضوء، أنّه إن كانت الضميمة راجحة كما لو صلى بقصد القربة وبقصد تعليم الصلاة، أو صلى بقصد القربة وبقصد تدريب الناس على الخشوع والخضوع، فحينئذ لا تكون الضميمة ضائرة بقصد القربة، وأمّا إذا كانت الضميمة مباحة، كما لو صلى بقصد القربة وبقصد الرياضة، فقد قال المشهور هنا إذا كان قصد الرياضة داعيا مستقلا في نفسه بحيث لو لم يقصد التقرب لقصد الرياضة فهذا ضائر بقصد القربة.

واستدلوا على ذلك بأحد وجهين: الوجه الأوّل: دعوى المرتكز العقلائي على أنّ العبودية منوطة بالتمّحض، فما لم يكن هناك تمحض فلا عبودية، فلو أنّ العبد أطاع مولاه بقصد احترام مولاه، وبقصد أنّ في إطاعته لمولاه جائزة يحصل عليها من إنسان معيّن قال له: إن أطعتك مولاك فلك جائزة، بحيث لو لم يكن محترما لمولاه لأتى بالعمل أيضا بقصد الجائزة، فقصد الجائزة كاف في المحركية، فإنّ عمله لا يُعد بنظر المرتكز العقلائي عبودية، لعدم تمحضه في الداعي القربي، فكذلك الأمر في المقام.

وقد أشكل سيّدنا «قده» على هذا الوجه: بأنّها دعوى غير مبرهنة، فإنّا نجد أنّ المرتكز العقلائي يقول بأنّ هذا العبد قد أطاع؛ لأنّ قصده احترام المولى موجود في أفق نفسه وهو كاف في المحركية ولو لم يكن له داع آخر، فالمرتكز العقلائي لا يُنيط العبودية بعدم الداعي الآخر أو قل بالتمحض.

الوجه الثاني: ما دل على اعتبار الخلوص نحو قوله عزّ وجل ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فإن الخلوص عبارة تجرّد الداعي القربي عن أي داع آخر.

وأيضا ما في بعض الروايات المعتبرة باب 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث 9، معتبرة علي بن سالم، قال: «سمعت أبا عبد الله يقول: قال الله عزّ وجل أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمله لم اقبله إلّا ما كان لي خالصاً».

ووجه استدلال المشهور بمثل هذه الروايات: أنّ مفاد هذه الروايات أنّه لا يقع العمل مقربا للمولى عزّ وجل إلّا بشرط الخلوص، فإن كانت الضميمة راجعة في نفسها كما لو صلى بقصد القربة وبقصد تعليم الصلاة، لم تكن منافية للخلوص لأنّها في حدّ نفسها راجعة شرعا، وأمّا إذا لم تكن الضميمة راجحة بل كانت مباحة كقصد الرياضة فإنّ هذا مناف للخلوص.

وقد أجاب سيّدنا «قده» عن هذا الاستدلال بجوابين: الأوّل: إنّ المنساق من هذه الروايات حيث عبرّت بالشرك أنّ المراد بالخلوص الخلوص من ضميمة لغير الله، سواء كانت رياء سمعة تزلفا، المهم ضميمة لغير الله، لا أنّ الخلوص يُراد به التجرد من مختلف الدواعي ولو كان الداعي أمرا مباحا لا يتنافى مع التقرّب لله تبارك وتعالى.

الثاني: وهو مؤلف من مقدمتين: الأولى: إنّ المتعارف بين المتشرعة انضمام الضمائم المباحة، فيذهب للمسجد لأنّ الصلاة خلف فلان أخف واسهل، أو أنّه مثلاً يُصلي في أوّل الوقت لأنّ أخر الوقت يزداد الحر مثلاً، او يصوم في هذا اليوم لأنّ في الصوم مثلاً علاجا لمرضه، وأمثال ذلك: بل لا يكاد إلّا الاوحدي من الناس أن يكون داعيه إلى العبادة محض قصد القربة، هذه المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية: مقتضي الإطلاق المقامي لأدلة اعتبار قصد القربة هو كفاية وجود قصد القربة على نحو الداعي المستقل وإن انضم معه داعي آخر؛ إذ لو كان انضمام الداعي الآخر مع كونه حالة متعارفة لا تخفى مُضراً لوقع التنبيه عليه في أدلة اعتبار قصد القربة، فمقتضى الإطلاق المقامي عدم اعتباره، او فقل: لمّا كان المتعارف بين المتشرعة أعزهم الله انضمام الضمائم المباحة لقصد القربة فلو كان ضائرا لنبّه الشارع عليه، فعدم الردع كاشف عن الإمضاء وعدم الضائرية، أو فقل:

نكتة ثالثة: لو كان لبان، فإنّه إذا كان انضمام الضمائم المباحة أمراً متعارفا ومسألة ابتلائية حيث لا تخلوا عبادة منها، فلو كان هذا الانضمام ضائرا لبان ولو في رواية، فحيث لم يبن مع كثرة الابتلاء به وتعارفه كان عدم تبينه موجبا للاطمئنان بعدم الضائرية، فافهم واغتنم وتأمل!

بقيت في المقام تنبيهات:

التنبيه الأوّل: إن تعليق قصد الامتثال على أمر غير متحقق مانع من المقربية لدى المرتكز العقلائي، فلو قال: المكلف أنا لا امتثل الأمر بالصلاة إلّا إذا كان هذا المكان مسجداً، وإلّا فلست قاصدا للامتثال، فعلّق قصد الامتثال لأمر ربه بالصلاة على كون المكان مسجدا والمكان ليس بمسجد، فإنّه عند العقلاء ليس متقربّاً، نظير ما لو علّق الولد قصد إطاعته لأمر أبيه على أمر، فقال: أنا لست قاصدا بهذا العمل وهو مثلاً، أن اتي بكأس الماء إلى ابي، لست قاصدا به امتثال أمره إلّا إذا كان في البين جائزة أو مدح ولم يكن ذلك في البين فإنه لا يُعد متقربا، فتعليّق قصد الامتثال على أمر غير حاصل حال الامتثال ضائر، خلافا لسيّدنا «قده»، وسيأتي بحث هذا مستقل في بعض الفروع الآتية.

التنبيه الثاني: إنّ الداعي تارة يتعلّق بنفس العمل كما لو أتى بالصلاة بقصد الرياضة، فقصد الرياضة داع لنفس الصلاة، وتارة يتعلّق بالعمل عن داع وهذا ما يُعبر عنه في الكلمات ب «الداعي على الداعي» كما لو أتى بالعمل بقصد القربة بقصد التعليم، فقصد التعليم لم يتعلّق بذات الصلاة وإنما تعلّق بالصلاة عن داعي القربة، فهو المعبر عنه في كلماتهم ب «الداعي على الداعي» وقد ذكر سيّدنا «قده» بأنّ الشائع المتعارف لدى المتشرعة هو ذلك؛ إذ لا ينفكون عن داع غير قربي لكن على نحو الداعي على الداعي، ولذلك صححوا الإجارة على العبادات بهذا الباب وهو من باب الداعي على الداعي، فقالوا: من اتى بالصلاة بقصد استحقاق الأجرة فإنّ صلاته صحيحة؛ لأنّه أتى بالصلاة بقصد القربة والمجموع بقصد استحقاق الأجرة، فاستحقاق الأجرة من باب الداعي على الداعي لا أنّه داعي متعلّق بنفس الصلاة كي يكون منافيا لقصد القربة.

لكنّ المحقق الايرواني، ويوجد هذا الكلام في كلمات السيّد الإمام «قدهما» المنع من ذلك، أي المنع من هذا التخريج، وهو تخريج الداعي على الداعي، لوجهين:

أحدهما: إنّ الداعي إنّما يتعلّق بالأفعال الاختيارية فيُقال هذا الفعل صدر بداعي كذا او بداعي كذا، فلا يُعقل تعلّق الدواعي بغير الأفعال فضلا عن الأفعال غير الاختيارية، فإنّ الداعي لا يتعلّق بشروق الشمس وغروبها ولا يتعلّق بحركة الأمعاء في بطن الإنسان، إنّما يتعلّق الداعي بفعل الإنسان إذا كان فعلاً اختياريا، والداعوية نفسها - داعوية أي داعي من الدواعي - ليست فعلا اختياريا للإنسان كي يتعلّق بها الداعي فيُقال: الداعي على الداعي، فإنّ الداعوية لا تتعلق بها داعوية لأنّ الداعوية ليست فعلا اختياريا للإنسان كي تتعلق بها داعوية أخرى، فلا وجه محصّل لفكرة الداعي على الداعي.

ثانيا: إنّ الداعي هو الغرض الأقصى، فالمحرك للعمل حقيقة ووجدانا الغرض الأقصى من العمل، فلو قبلنا فكرة الداعي على الداعي فيسأل كل شخص ما هو غرض النهائي، ما هو غرضك النهائي؟ ما هو غرضك الأقصى من العمل؟ فإذا كان الغرض الأقصى من العمل استحقاق الأجرة كان هو الداعي نحو العمل فكان منافيا لقصد القربة.

نعم لو انضم إليه قصد الهي كطلب الثواب من الله أو الفرار من عقوبته أو طلب الرزق منه فهذا لا يتنافى مع داعوية قصد القربة.

ويُلاحظ على ما أفيد: بأنّه الداعي لم يتعلّق بنفس الداعي كي يُقال بأنه ممتنع، إنّما تعلّق الداعي الطولي بالعمل عن داع لا بنفس الداعي كي يُقال بامتناع تعلّق الداعي بالداعي، هذا أولا.

وأمّا بالنسبة للإشكال الثاني: وهو أنّه إنّ المحرك هو الغرض الأقصى فهذا يبتني على ما مر من أنّه إن قلنا باعتبار الخلوص فهو كذلك، وأمّا إذا لم نقل باعتبار الخلوص وانه يكفي في صحة العمل ومقربيته أن يكون الداعي القربي مستقلا، فهذا كاف في صحة العمل وإن انضم معه داع آخر على نحو الطولية ألا وهو داعي استحقاق الأجرة، يأتي الكلام في التنبيه الثالث.

والحمد لله رب العالمين