الدرس 110

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كما لو صلّى بقصد القربة بقصد استحقاق الأجرة، فإنّ هذا غير ضائر بصّحة صلاته بلحاظ أنّ النية غير القربية وهي قصد استحقاق الأجرة ليس داعيا مباشرا وإنما هو داعي على الداعي، ولكن هل هذا ياتي في الرياء أم لا؟ كما لو فرضنا أنّ المكلف حوزوي ملتفت إلى أنّ العلم يشترط في صحته قصد القربة وهو ملتفت إلى مبغوضية الرياء، فاتى بالصلاة بقصد القربة والمجموع منهما بقصد الرياء، فالرياء بنحو الداعي على الداعي، فهو لم يأتي بالصلاة رياء كي تكون مبطلة لا نحو الاستقلالية لا على نحو التبعية لا على نحو العرضية، ولكن أتى بالصلاة بقصد القربة وهذا العمل القربي بقصد الرياء، كما ذكرنا أنّه لو أتى بالعمل بالقربي بقصد استحقاق الأجرة، أو أتى بالعمل القربي بقصد التعليم، صلى صلاة قربية بقصد استحقاق الجائزة، أيضا صلى صلاة قربية بقصد الرياء

والصحيح: أنّ ما دل على مانعية الرياء ومبطليته وهو قوله: وادخل فيه رضا أحد من الناس يشمل ما لو كان الرياء بنحو الداعي على الداعي ولا يختص الرياء بما كان على نحو الداعي المباشر، والنتيجة: بطلان صلاته في مثل هذا الفرض، انتهى البحث حول اعتبار قصد القربة في العبادة بالصلاة بما يترتب عليه من فروع. الآن نأتي إلى مطلب ِآخر يتعلّق بنية الصلاة: وهو اعتبار استمرار النية في الصلاة من اولها إلى آخرها

هناك فرق في المركبات الاعتبارية فبعض المركبات الاعتبارية يكون الآن جزءاً منها، وبعض المركبات الاعتبارية لا يكون الآن جزءاً منها، والسرّ في الفرق بينهما: أنّه ما كانت عبادته فاعلية فالآن جزء منه، وما كانت عبادته فعلية فالآن ليس جزءا منها.

مثلاً: الوقوف بعرفة من الزوال إلى الغروب عبادة فاعلية لا فعلية، لكونها متقومة بالقصد فقط لا بفعل خارجي، فحتى لو فرضنا أنّ المكلف نام من اول الزوال إلى الغروب ولكنه حين نومه قصد الوقوف بعرفة، فقد تحقق منه الوقوف فعبادية الوقوف ليست متقومة بفعل خارجي، وإنّما عبادية الوقوف متقومة بقصد في أفق نفس الفاعل، فلذلك يُقال عبادية الوقوف فاعلية لا فعلية، كذلك عبادية الصوم، فإنّ عبادية الصوم من طلوع الفجر فغروب الشمس ليست متقومة بفعل صادر من الصائم وِإنّما هي متقومة بقصد قربي في افق نفس الصائم فعبادية الصوم فاعلية لا فعلية، ومقتضى هذا السنخ من العبادية: أنّ كل آن من آنات النهار فهو جزء من الصوم؛ إذ يُعتبر أن يقع تمام هذا الزمان عن قصد قربي، فلأجل ذلك يُعد كل آن آن من الزوال إلى الغروب في وقوف عرفة من الفجر إلى الغروب في صوم اليوم جزءا من الصوم متقوما به.

بينما عبادية الوضوء وعبادية السعي عبادية لا فاعلية، أي أنّها متقومة بصدور عمل، فالآنات المتخللة بين أشواط السعي ليست من السعي؛ لأنّ عبادية السعي فعلية أي متقومة بصدور فعل خارجي وليست فاعلية، فالآن المتخلل بين الأشواط ليس من السعي في شيء، كذلك الوضوء عبادته فعلية لا فاعلية فالآنات المتخللة بين أجزاء الوضوء ليست من الوضوء، وبالتالي: مقتضى القاعدة، يعني أنّ عبادية الوضوء لا فاعلية، مقتضى هذه القاعدة أنّه لا يُعتبر قصد القربة في الآنات، فلو أنّ المتوضأ بعد انقضاءه من غسل الوجه وقبل شروعه في غسل اليد اليمنى حصل منه رياء او قصد محرم، ولكنه رجع عن قصده عندما شرع في غسل اليد اليمنى فإنّ وضوءه صحيح على طبق القاعدة؛ لأنّ ما رآئى فيه وهو الآن ليس جزءا من الوضوء، وما هو جزء من الوضوء لم يرائي فيه، فعبادية الوضوء فعلية ومقتضاها عدم اعتبار شرائط الوضوء ومنها قصد القربة في آناته، فهل الصلاة من قبيل الوضوء أو من قبيل الصيام، أي هل يُعتبر في آنات الصلاة كل آن آن قصد القربة أم لا؟ فلو افترضنا أن شخصا بين الركوع وبين السجود قصد الرياء أو قصد محرم أو عفط او فحط أو رقص وما اشبه ذلك فهل ما قام به في الآن المتخلل بين الفعلين ضائر بصحة صلاته أم لا؟ فهل أن شرائط الصلاة ومنها قصد القربة معتبرٌ في الآن أم لا؟ والبحث في هذه المسألة له صور تعرّض لها سيّدنا الخوئي «قده» صفحه 50 من الجزء 14 من الموسوعة.

الصورة الأولى: ما إذا نوى القطع أو القاطع في اثناء الصلاة فعلا او بعد ذلك ثم عاد إلى نيته الاولى قبل أن ياتي بشيء، كما لو نوى أن يقطع الصلاة الآن وهو بين الركوع والسجود أو قال ساقطع الصلاة بعد السجود لكنه تراجع عن نيته قبل أن يتلبس بفعل من الافعال كالسجود مثلاً، فهل أنّ صلاته صحيحة أم باطلة؟ اُستدل للمشهور القائلين بالبطلان: قالوا متى ما نوى القطع انتهى، سواء نوى القطع فعلا او نوى القطع بعد ذلك وإن كان تراجع عن نيته ولكن بطلت صلاته، اُستدل للمشهور القائلين بالبطلان بما هو مؤلف من مقدمتين:

المقدمة الأولى: ما دل على أنّ بعض الاحداث تقطع الصلاة مثل موثق سماعة، «أمّا التبسم فلا يقطع الصلاة وأمّا القهقهة فهي تقطع الصلاة، هذا يدل على أنّ للصلاة هيئة اتصالية تنقطع بالقهقهة، فإن التعبير وأمّا القهقهة فهي تقطع الصلاة دال بالدلالة الالتزامية على أنّ للصلاة هيئة لابد من اتصالها والتحفظ على استمرارها فلو نوى القطع في الاثناء فقد خرج عن اتصال هذه الهيئة، كذلك ما ورد في معتبرة القداح «تحريمها التكبير وتحلليها التسليم» دال على أنّه بمجرد أن يكبر فهو صلاته حتّى يُسلّم أي أنّ ما بينهما صلاة، فإنّ قوله «تحريمها التكبير تحليلها التسليم» دال على أنّ ما بينهما صلاة، فمتى ما نوى القطع في الاثناء فقد خرج من الصلاة، هذه المقدمة الاولى.

المقدمة الثانية: كما أنّ الأجزاء من الأفعال والأذكار من الصلاة فكذلك الأكوان المتخللة والآنات المتخللة بينها، فكما أنّ الإخلال بسائر الشروط كالاستدبار، لو استدبر في الآن او تكلم يوجب بطلان الصلاة، مع أنّه في الآن الذي بين الركوع والسجود استدبر أو احدث أو تكلم أو قهقه، فلا إشكال تبطل صلاته، فكذلك لو اخل بالنية في آن من الآنات، فإنّه في هذه القطعة وقعت بغير نية، وبعبارة أخرى يقول سيّدنا «قده»: نية القطع إمّا أن تُخرج من الصلاة أو لا تُخرج، فإن أخرجت من الصلاة فهو المطلوب الآن ليس في الصلاة هو، وإن لم تُخرج من الصلاة إذاً فهذا الآن مرّ بلا نية، وحيث إنّ هذا الكون عاري عن النية اختلت استدامت النية في الصلاة بالضرورة فوجب البطلان من أجل فقدان الشرط قهرا، هذا هو وجه استدلال المشهور على بطلان الصلاة بنية القطع في الآنات.

وقد أجاب سيّدنا «قده» عن هذا الاستدلال بوجوه:

أولا: قال نختار الشق الثاني وهو أليس قال «نية القطع إما ان تخرج من الصلاة أو لا تخرج»، نقول لا تخرج من الصلاة، نختار الشق الثاني، وأنّ مجرد نية القطع أو القاطع لا توجب الخروج من الصلاة، وأمّا قولكم فليزم من ذلك الإخلال باستمرار النية، قلنا لا دليل على اعتبار استمرار النية في ما عداء الاجزاء؛ إذ لا دليل على اعتبار استمرارها، فانتم تستدلون على بطلان الصلاة أنّه اخل باستمرار النية وهذا تعتبرونه دليلا على اعتبار، فهو مصادرة، هذا اولا.

ثانيا: إنّ الاستشهاد بأدلة القواطع، يعني وأمّا القهقهة فهي تقطع الصلاة، وبحديث التحليل والتحريم، فيدفعه أنّ غاية ما يثبت بهذه الروايات أنّ المصلي بمجرد أن يُكبر ما لم يأتي بالمنافي السهوي لم يخرج من الصلاة لا أنّ الآن من الصلاة، فغاية ما تفيده هذه الروايات أنّه ما بين التكبير والتسليم لا يخرج المكلف عن الصلاة ما لم يأتي بالمنافي السهوي لا أنّ كل آن مرّ عليه فهو من الصلاة، وفرق بين كون الآن من الصلاة وبين عدم خروج المكلف من الصلاة، فرق بين القضية السلبية والقضية الايجابية، ولهذا يقول «وكم فرق» بين عدم خروجه من الصلاة وبين أن يكون الشيء من الصلاة، والمستفاد من الادلة إنّما هو الأول دون الثاني كما هو ظاهره.

ثالثا: إنّ المستفاد من صحيحة حماد «ما أقبح بالرجل أن يبلغ الستين أو السبعين وهو لا يُحسن الصلاة» ثم صلّى الإمام لغرض بيان كيفية الصلاة وما يُعتبر فيها جزءا وشرطا، بل إنّ المستفاد من صحيحة حماد الواردة في بيان كيفية الصلاة وما لها من الأجزاء عدم كون الأكوان والانات المتخللة من الصلاة، لعدم التعرّض إليها مع كونه في مقام البيان، فلا دليل على لزوم مراعاة النية في الأكوان المتخللة حتى تكون نية القطع او القاطع مع التراجع عنها موجبة لبطلان الصلاة.

لكنّ في هذا الاستدلال تأملا حيث إنّ ظاهر الرواية إن الإمام كان في مقام بيان الاجزاء الفعلية من الصلاة ولا ظهور فيها في كونه في مقام بيان تمام الشرائط المعتبر في صحة الصلاة، بينما هو في مقام بيان ما هو جزء فعلي لها، فلا يُستفاد من مجرد صلاته أنّ الاكوان المتخللة يُعتبر فيها شرائط الصلاة ومنها استدامة النية أم لا يُعتبر؟

رابعا: السيّد الخوئي يقول حتّى مع التنزل والشك في اعتبار النية في الأكوان وعدم اعتبارها، فمجرى الأصل العملي هو البراءة باعتبار أنّ المورد من موارد الأقل والأكثر الارتباطيين، فتجري البراءة عن اعتبار الاستدامة، هذا تمام الكلام في الصورة الأولى، وهي ما لو نوى القطع ثم رجع قبل أن يشرع بفعل.

الصورة الثانية: ما لو نوى القطع او القاطع فعلا او مستقبلا وأتى ببعض أفعال الصلاة، وإنما تراجع بعد أن أتى بفعل من أفعال الصلاة، ولهذه الصورة فروض:

الفرض الأوّل: أن ينوي القطع فعلاً، وبعد أن نوى القطع فعلا أتى بالتشهد بالصلاة، يعني نوى القطع فعلا واتى بالتشهد على أنّه من الصلاة وبعد أن أتى بالتشهد رجع، الآن ما هو حكم صلاته؟ البحث في هذا الفرض من جهتين، هل أنّ الفرض ممكن ومعقول أو غير معقول؟ وعلى فرض أنّه معقول هل هو مبطل للصلاة أم لا؟

نأتي إلى الجهة الأولى: ذكر سيّدنا «قده» قال: إنّ المنافاة بين القطع المساوقة لرفع اليد عن الصلاة، وبين الإتمام بعنوان الصلاة ظاهرة، فلا يجتمعان، انوي القطع بالفعل ومع ذلك أتى بالتشهد بعنوان انه من الصلاة، لا يجتمعان، إنّ المنافاة بين نية القطع وبين الإتمام بعنوان الصلاة ظاهرة لما بينهما من المضادة، ويمتنع القصد جدا للمتضادين، فلابد من فرض كلامه في ما إذا كان الإتمام لا بعنوان الصلاة، كعنوان التعليم ونحوه، أو بينة الاستئناف، كما لو نوى القطع ثم قال أريد أن استأنف الصلاة من جديد، فبنى على استئناف العمل وإن لم يقطعها خارجا، وإلّا الجمع بين نية القطع والإتيان بالتشهد بعنوان أنّه من الصلاة لا يجتمعان، هل هذا الكلام صحيح؟ فهل هذا الفرض ممكن أم لا؟ يقول ممكن في صورة التشريع، بأن يقول المكلف يمكن الجمع بين نية القطع وكون التشهد من الصلاة تشريعا، أنا اُشرع أنّ الصلاة حتى مع نية قطعها يمكن الإتيان بجزء من أجزاءها بقصد كونها منها، فهذان الأمران لا يجتمعان شرعا لكن يمكن أن يجتمعا تشريعا.

بناء على أنّ التشريع ممكن هذه الصورة هل يمكن الجمع بين نية الصلاة ونية القطع وجدانا أم لا؟ الصحيح ما ذكره سيّدنا الخوئي «قده» من أنّه لا يمكنه الجمع وجدانا بين نية القطع ونية الاستمرار، ومن الواضح أن الإتيان بالتشهد بعنوان أنّه جزء من هذه الصلاة التي نوى قطعها لا يجتمعان، فافهم واغتنم وتأمل!.

والحمد لله رب العالمين