الدرس 111

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في شرطية استدامة النية في الصلاة، وذكرنا انّه يتفرّع على هذا الشرط صورٌ وصل الكلام إلى الصورة الثانية وهي ما إذا نوى القطع أو القاطع فعلاً، وذكرنا أنّ هذه الصورة لها فروض أيضا، مضى الكلام في الفرض الأوّل.

الفرض الثاني من هذه الصورة: ما إذا نوى القطع مستقبلا لا فعلاً، فهو مثلاً حال الركوع نوى أن يقطع صلاته لكن ليس الآن وإنما سيقطعها حال التشهد، فهل يمكن أن يُقال بأنّ صلاته صحيحة فعلا إلى أن يقطع؛ إذ أنّه لم ينوي القطع بالفعل، وإنما نوى أن يقطع الصلاة إذا وصل الى التشهد لا فعلاً، فهل يمكن مع ذلك البناء على صحة صلاته ِإلى أن يحصل القطع أم لا؟

فهنا ذكر سيّدنا «قده» في الجزء 14 من الموسوعة صفحة 45 أنّه بمجرد أن ينوي القطع مستقبلا تبطل صلاته. والسرّ في ذلك: بما أنّه المركب ارتباطي حيث إنّ المأمور به في الصلاة ليس هو امتثال الأمر بالركوع في نفسه أو امتثال الأمر بالسجود في نفسه؛ إذ ليس السجود والركوع استقلاليين، إنّما السجود والركوع جزءان من مركب ارتباطي، فمقتضى الارتباطية أن لا يحصل امتثال في الركوع إلّا إذا قصد بالركوع امتثال الأمر بالمركب، فإذا أتى بالركوع بقصد امتثال الأمر بالمركب الصلاتي فحينئذ يكون قد امتثل في الركوع، وإذا أتى بالسجود بقصد امتثال الأمر بالمركب الصلاتي فقد حصل الامتثال في السجود، وهذا لا يجتمع مع نية القطع ولو مستقبلا، فإنّه إذا نوى أن يقطع الصلاة حال التشهد، فبمجرد أنّه نوى ذلك إذاً فلم ينوي امتثال المركب الصلاتي؛ إذ لا يجتمع نيته لقطع الصلاة حال التشهد مع عزمه على امتثال الأمر بالمركب الصلاتي، فالنتيجة: أنّه ما أتى به من ركوع أو سجود مع نية القطع لم يأتي به بقصد امتثال الأمر بالمركب الصلاتي، وإنّما أتى به كأنما مستقلاً عن الأمر بالمركب، وإلّا فمع عزمه على قطع هذا المركب فليس هو بصدد امتثال الأمر بالمركب الصلاتي، وإذا لم يكن عازما على امتثال الأمر بالمركب الصلاتي فكيف يقصد بالسجود أو الركوع امتثال الأمر به، بالنتيجة: ما وقع منه من سجود أو ركوع بعد نية القطع وقع باطلاً، وبحسب تعبير التقرير فلم تقع تلك الأجزاء - أي الركوع والسجود بعد نية القطع - مصداقا للمأمور به - يعني المأمور به هو واحد وهو المركب الصلاتي -، وحيث إنّه يأتي بها بقصد الجزئية كما هو المفروض فلا ينفعه التدارك بعد ذلك؛ لاستلزامه اتصاف هذه الأفعال بالزيادة العمدية المبطلة.

يعني يقول السيّد أنّه بين خيارين الآن، بعد أن نوى القطع واتى بالركوع بقصد الجزئية الآن هو بين خيارين؛ إما أن يتدارك الركوع فتتحقق الزيادة العمدية المبطلة، بمعنى أن يتصف الركوع الأول الذي أتى به بقصد الجزئية مقترنا بالقطع، أي مقترنا بنية القطع بالزيادة العمدية، أو لا يتداركه فتبطل الصلاة من جهة النقيصة، حيث إنّ الركوع المأمور به في هذه الصلاة لم ينطبق على ما أتى به.

إذاً بالنتيجة: من نوى القطع مستقبلا لم ينوي الإتيان بالركوع المسبوق والملحوق ببقية الأجزاء، وإنما نوى ركوعا غير ملحوق ببقية الأجزاء، والركوع غير الملحوق ليس مصداقا للمأمور به، فإن تداركه حصلت زيادة عمدية وإن لم يتداركه حصلت النقيصة.

فهنا أفاد سيّدنا «قده» أنّه إذا نوى القاطع ومع ذلك استمر في العمل فإمّا أن ينويه فعلاً، يعني أنا الآن أريد أن أتكلم بالفعل كلاما ادميا عمديا، او نواه فيما بعد ذلك، فعلى الأول يعني ما إذا نوى القاطع فعلا ومع ذلك ما أتى بالقاطع، نوى أن يتكلم لكن ما تكلم واستمر في الصلاة، فيقول سيّدنا «قده» فالظاهر صحة عمله، ضرورة أنّ الاستمرار في العمل لا يجتمع مع نية القاطع، فلا يمكن الجمع بين أن يقصد القاطع بالفعل وبين أن يستمر في الصلاة، فإنّهما متضادان للتضاد بين التكلم العمدي وبين الصلاة المقيدة بعدم التكلم، فلا يجتمعان، فمقتضى العزم على القاطع بالفعل رفع اليد عن الصلاة، ولكنه المفروض استمر في الصلاة، إذاً بالنتيجة: فلا يمكن تصحيح هذا الفرض إلّا بالعدول عن النية إلى نية الاستمرار، بمعنى أنّه نوى أن يتكلم بالفعل ثم تراجع واستمر في الصلاة، وقد ذكرنا سابقا أنّ من نوى القطع او القاطع ثم رجع عن نيته قبل أن يتلبس بأي عمل صلاتي، فإنّ هذا غير ضائر بصحة صلاته، فلا يمكن تصحيح الفرض إلّا بالعدول إلى النية الأولى قبل الأخذ في الاستمرار وقبل أن يأتي بشيء من الأفعال فيرجع حكم هذا الفرع إلى الفرع الاول الذي ذكرناه، هذا الذي ذكره سيّدنا «قده» لابد من تقييده، بأنّه من نوى القاطع ملتفتا إلى أنّه قاطع، وإلّا لو نوى القاطع غير ملتفت إلى أنه غير قاطع يجتمع مع الاستمرار في الصلاة، فالذي لا يجتمع مع الاستمرار في الصلاة أن ينوي القاطع ملتفتا إلى كونه قاطعا، فإذا نوى التكلم العمدي ملتفتا إلى أنّه قاطع فهذا لا يجتمع مع استمراره في الصلاة، فلو استمر كشف ذلك عن عدوله وتراجعه، أمّا من نوى القاطع غير ملتفت إلى كونه قاطعا فهذا ممّا يجتمع مع نية الاستمرار، هذا إذا نوى القاطع فعلا.

أمّا إذا نوى القاطع فيما بعد، وهذه حالة موجودة عند كثير من الناس، كما إذا هو يصلي في البيت ويتوقع أنه احد يضرب الجرس، فيقول إذا احدهم ضرب الجرس اقطع الصلاة وأجيبه، أنا أصلي ولكن احتمل انه احد يدق الجرس، فإذا كان ما نواه من القاطع معلقا على أمر فهذا لا يتنافى مع العزم على الاستمرار في الصلاة، حيث يقول أنا مستمر في صلاتي عازم على البقاء فيها، إلّا إذا اتى قاطع، وأمّا إذا كان القاطع أو القطع المنوي منجزا ولو مستقبلا فإنه يأتي فيه نفس الكلام الذي ذكرناه في الفرض الثاني، وهو أنّه لا يجتمع نية القطع مستقبلا مع كون الركوع المأتي به بعد نية القطع بقصد امتثال الامر بالمركب الصلاتي، فتخلص من ذلك: أنّه يُشترط استدامة النية في الصلاة لكن لو نوى القطع أو القاطع فعلا أو بعد ذلك ثم رجع قبل أن يتلبس بعمل فإنّ هذا لا يضر بصحة صلاته.

هذا تمام الكلام في بحث استدامة النية وقد ذكرنا عند الشروع في البحث أنّ النية لها عناصر ثلاثة: القصد إلى الفعل، والتقرّب، والتعيين، وبحثنا في أصل القصد وفروعه ثم بحثنا في أصل التقرّب وفروعه، الآن نأتي إلى:

العنصر الثالث: ألّا وهو التعيين، يعين ظهر، عصر، صوم، صلاة، اداء، قضاء، وصلنا إلى العنصر الثالث ألّا وهو عنصر التعيين وما يتفرع عليه من خلل في الصلاة، فهنا أفاد صاحب العروة «قده» في صفحة 11 من جزء 14 من موسوعته الشريفة الانيقة، أنّ صاحب العروة قال: يجب تعيين العمل - غير قصد القربة غير اصل القصد في التعيين - إذا كان ما عليه فعلا متعددا، أي تارة يكون مخاطبا في تكليف واحد وتارة يكون مخاطبا بعدة تكاليف، فإن كان مخاطبا بتكليف واحد كما في الصوم في نهار شهر رمضان بناء على الاجماع القائم أنّه لا يصح فيه صوم غيره ففي نهار شهر رمضان لم يُخاطب إلا بخطاب واحد وهو الصوم القربي وليس الصوم بعنوان «شهر رمضان»، فالمخاطب به في نهار «شهر مضان» تكليف واحد وهو الصوم القربي، فلو فرضنا أن انسانا نوى الصوم القربي في نهار رمضان غافلا بالمرة عن كونه في رمضان، وغافلا عن أي نية أخرى، فإنّ صومه صحيح؛ إذ لم يُخاطب إلّا بالصوم القربي في رمضان، وقد اتى بالصوم القربي في رمضان، نظير ما ذكره سيّدنا الخوئي «قده» في غسل الجمعة، حيث قال بأن غُسل الجمعة عنوان انطباقي وليس عنوان قصدي، أي أنّ ما خُوطب به المكلف يوم الجمعة الغسل القربي فقط وليس الغسل القربي بعنوان الجمعة، بحيث لو اعتقد اليوم خميس، وأتى بالغسل رجاء وقع غُسل جمعة؛ لأنّه غُسل قربي يوم الجمعة، فهنا أفاد صاحب العروة أنّه إذا كان المخاطب به أمرا واحدا فلا حاجة للتعيين.

وأمّا إذا كان التكليف الذي خُوطب به متعددا، كما في صلاتي الظهر والعصر، فقد خُوطب بخطابين ظهر وعصر، فهنا لابد من التعيين، فلو اتى بأربع ركعات قربية غافلا عن كل مقصد آخر لم تقع ظهرا ولا عصراً.

إلّا أن سيّدنا «قده» اضاف إلى كلام العروة قيد، قال: هذا غير كاف، فما ذكره صاحب العروة في فرض الوحدة أي إذا كان التكليف واحدا كلامه صحيح وتام، ولكن ما ذكره في فرض التعدد ناقص، فقال: - ص13 - إنّ العبرة في لزوم التعيين بتعدد الواجب وأن يكون لكل منهما عنوان يمتاز به عن الآخر، لا يكفي أن التكليف متعدد لابد أن يكون لكل من العملين عنوان يمتاز به عن الآخر، فلو لم يكن تعدد أو كان ولم يكن لكل منهما عنوان خاص لم يلزمه التعيين، كما لو كان عليه قضاء يومين من شهر رمضان، فهنا تكليفان لكن يجب عليه أن يعين أنّ الأوّل عن اليوم الأول والثاني عن اليوم الثاني، هذا لا يحتاج، يكفي أن ينويه قضاء عن رمضان، او استدان من زيد دينان وكان الدينان متساويان فلا يحتاج إلى أن يقصد في الأداء الأول أنّه اداء عن دين يوم الخميس وفي الأداء الثاني أنّه أداء عن دين يوم الجمعة، هذا لا يحتاج إليه بل يكفي أن يقصد ابراء ذمته، فمجرد تعدد التكليف غير كاف في لزوم التعيين بل لابد أن يكون لكل منهما عنوان يمتاز به عن الآخر، إنما الكلام كل الكلام في بعض الصغريات التي ذكرها سيّدنا الخوئي «قده».

الصغرى الأولى: مسألة الظهر والعصر، حيث ذكر سيّدنا «قده» أن للظهر والعصر عنوان تعدد الامر أو لم يتعدد، فإنّ المأمور به ليس الاربع القربية بل الأربع بعنوان خاص ثم الأربع بعنوان خاص، وقد استفاد ذلك من هذه الرواية، وهي باب 4 من أبواب المواقيت حديث 5، صحيحة عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد الله عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعا إلّا أن هذه قبل هذه، ثم أنت في وقت منهما جميعا حتّى تغيب الشمس».

قال: لو كان مقصوده «إلّا أنّ هذه قبل هذه» مجرد التقدم أن تقع أربع قبل أربع فإن هذا لا يحتاج إلى البيان فإن كل من صلى ثمان ركعات فقد وقعت الاربعة الاولى قبل الاربع الثانية ف «إلّا أنّ هذه قبل هذه» امر لا يحتاج إلى بيان إذا كان المراد مطلق التقدم، إذاً فقوله: «إلّا أن هذه قبل هذه» يكشف عن وجود تغاير واقعي بين هذه وهذه، فلذلك قال: «هذه» التي هي مغايرة واقعا عن هذه لابد أن تكون هي الأولى وتلك هي الثانية، فلو لم يكن تغاير بينهما في رتبة سابقة لما اشترط الترتيب بينهما؛ لأنهما لو لم يكونا متغايرين أصلاَ لكان الترتيب قهريا، سوف تقع أربع قبل اربع، فاشتراط الترتيب شرعا يدل على أنهما متغايران في انفسهما ويمكن أن يختلفا فيتقدم ويتأخر هذا، لذلك اشترط الترتيب بينهما، فنفس اشتراط الترتيب دليل على التغاير، وإلّا لولا التغاير لكان الترتيب قهريا، فهل أنّ هذا الكلام من سيّدنا «قده» يتوافق أو يتنافى مع رواية أخرى نقرأها الآن، هذه الرواية وهي باب 63 من ابواب المواقيت حديث 1، وهي صحيحة زرارة، قال: «إذا نسيت الظهر حتّى صليت العصر فذكرتها وانت في الصلاة او بعد فراغك فانوها الاولى - أي حولّها إلى الظهر وأتي ثم صلِّ العصر - فإنما هي اربع مكان اربع» فهل قوله «فإنما هي اربع مكان اربع» يدل على أنّه ليس بينهما تمايز ذاتي وتغاير ذاتي، أم أنّه لا دلالة فيها على ذلك فلا تكون مصادمة لقوله «إلّا أن هذه قبل هذه» الدالة على أنّ بينهما تغاير؟ يأتي الكلام عن ذلك.

والحمد لله رب العالمين